عرض مشاركة واحدة
قديم 02-17-17, 01:34 PM   #2
NORAH

الصورة الرمزية NORAH

آخر زيارة »  12-25-18 (09:25 AM)
المكان »  المدينة المنورة
الهوايه »  ابحث عن الكلمة التي لم تكتب بعد
لا ترض على نفسك عدم الاحترام ..
ولا عدم التقدير لوجودك ..

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



ولم يشعروا بعد بالمصاب، يقابلونه بحب، ويبتسمون له بود، ويسألونه سؤال الفارغ للقاء من يحب، الغافل عن مصابه: يا شيخ ممكن نصور معك؟ فترتسم على وجهه ابتسامة المجاهدة، ويقول: تفضلوا، وأنا في حال من الإندهاش؛ فنحن في شأنٍ وهم في شأنٍ آخر، ولكن الشيخ يعلم أن هؤلاء سألوا بعفوية المحب، وأنه لا يمكن أن يعتذر منهم مهما كان مصابه، ولا أحصي عدد الذي استوقفوه فيقف لهم بأناة، ويبتسم لهم بود، ويصور معهم من غير أن يَشعر أيٌّ منهم بحقيقة حاله أو يحس بمعاناته، حتى إذا دخلنا قاعة المغادرة لقيه شاب وسأل كما سأل غيره أن يصور معه فاستجاب له الشيخ بذات الود والحفاوة، فلما رأى الشاب إقبال الشيخ عليه وتلطفه به قال: يا شيخ والدي قدم الآن من ألمانيا وهو هناك وأرجو أن تذهب معي لتسلم عليه فهو يحبك، وأجاب الشيخ بدون أدنى تردد: هيا، هيا بناإليه، ومضينا إلى والده فإذا هو شيخ يتكئ على عصاه،فلما رأى الشيخ مقبلاً قام فسلم عليه الشيخ واحتفى به وقال له مؤانساً: الآن رأيناك بهذه العصا، ولكن أريد أن أراك المرة الأخرى وقد ألقيتها وعدت شاباً، يالله أما زال في قلبه متسع أن يلاطف هذا الأب، ويدفن حزنه وفجيعته ليستخرج ابتسامة فرح من هذا الشيخ، يالله أي صلابة في هذه النفس، وأي إيثار بالسعادة للغير، هذا ما لا يمكن تكلفه ولا التظاهر به ما لم تدفع إليه نفس سوية زكية، فلما جلسنا في قاعة الإنتظار أتانا هذا الشاب ملتاعاً يعتذر إلى الشيخ ويقول: الآن علمت بخبر الأهل من الواتس، أعذرني يا شيخ لم أكن أعلم، فجعل الشيخ يؤانسه ويلاطفه ويهون الأمر عليه، فمضى عنا ذاهلاً مما رأى وما سمع، وقد كان ذلك والله مذهلاً.
فلما ركبنا الطائرة جلسنا في مقعدين متجاورين ولكن الشيخ فزع إلى الصلاة فتركته مع صلاته ففيها راحته وسلوته ومناجاته، وكانت سبحاً طويلاً وصلاة مستغرقة وكنت خلفه أغفو وأفيق وهو في سبح طويل، وكنت كلما أفقت تعود إليَّ حالة الإنكار وأقول لعل ما سمعته كان حلماً، فإذا رأيت الشيخ في صلاته علمت أن الحلم هو ما أحاوله.
وصلنا إلى الرياض فجراً وفي المطار كان أصدقاء الصدق وأبناء الود خالد القفاري وعبدالرحمن النصيان وسليمان أبا الخيل في استقبالنا في المطار، انطلقنا من المطار فوراً إلى المستشفى لنرى المصابين.
دخلنا على عبد الرحمن فإذا هو في غيبوبة عميقة،ومضينا إلى لدن الطفلة الصغيرة التي أبقاها الله له لتكون السلوى في هذه الفجيعة، والأنيس في هذا المصاب، كانت نائمة فنحن في الساعة السادسة صباحاً، فجعل الشيخ يهدهد رأسها بكفيه، ويوقظها حتى فتحت عينيها، ومدت إليه يديها كأنما تحضن بكفها الصغيرة قلبه الكبير، وتداوي بنأماتها وكلماتها فجيعته، وكأنما استرد بلقياها وحديثها بعض نفسه وقطعة قلبه، وكأنما حيوية هذه الطفلة أعادت له الحياة، فأدنى وجهه إلى وجهها، وطوق بيديه رأسها، وأختلطت أنفاسهما في مشهد وداد، وعاطفة أبوة معبرة،وتفاعل وجداني مؤثر، ومهما صورت المشهد فلن أستطيع رواية تلك المشاعر.
ذهبنا إلى شقراء ضحى، استقبلنا وقدم علينا أهل الحب والوداد الذين أتوا من القصيم والرياض والزلفي ونواحي المملكة ليشهدوا الصلاة مع الشيخ وليقفوا معه عند الصدمة الأولى وقبيل صلاة العصر دُعي الشيخ ليودع ابنه هشام بعد أن سجي وغسل، وذهب الشيخ وكشف له الوجهالمسجى، في تلك اللحظة طفح تأثر الشيخ وسمح لفطرته أن تعبر عن نفسها ولطبيعته أن تنطلق على سجيتها، ففاضحزنه، وتفجرت الرحمة دموعاً تسح من عينيه، وغطى وجهه وأجهش في بكاء مكتوم تحسه ولا تسمعه، تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا هشام لمحزونون، وكانت هذه هي اللحظة الأولى التي رأينافيها الدموع تذرف من النفس القوية المتماسكة، والقلب الصابر المحتسب، إنها رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكان مشهداً لتمازج القوة والرقة، والمصابرة والمرحمة.
ثم صحب الشيخ بنيه ليودع أمهم أم البراء بنظرات الوداع الأخيرة يتزود فيها ذكرى تغطي مسيرة حب، ورحلة عمر، رباه أهي النظرة الأخيرة قبل الفراق الطويل، نظرة تطوي صفحة صحبة طويلة وشراكة حياة، متاع قليل من حبيب مفارق.
دخل مغسلة النساء وأبناؤه معه، وقف هناك ودعا ما شاء الله أن يدعو، وتلقيناه خارجاً ومعه أبناؤه تسح العبرات من عيونهم، وهو يفيض عليهم من سكينته وصبره، ويدع لمشاعرهم الإنطلاق لتنفس عن فجيعتهم بهذه الدموعالذارفة على الوجوه الطرية الغضة، تقدم الشيخ وصلى على الجنازة وأمامه ثلاث نعوش أم البراء وهشام وأسماء الشعلان ابنة أخت أم البراء .
وفي المقبرة وقف الشيخ على القبور الثلاثة، ودعونا جميعاً: اللهم اجعل هذه الليلة أسعد ليلة مرت عليهم، اللهم أكرم وفادتهم عليك، وأحسن منقلبهم إليك، اللهم بشرهم بروح وريحان ورب راض غير غضبان، اللهم ثبتهم على قولك الثابت وكان الجميع يدعو بخير أو يؤمن على الدعاء بخير .
كان الجمع حاشداً، واللهج بالثناء والدعاء عظيماً، ولا نحسب أن الله جمع لهيا الساري هذه الحشود إلا ليقبل شفاعتهم فيشفعهم فيها،
ولا
أطلق الألسنة بالثناء عليها بخير إلا وقد أراد الخير بها، ولا استنطق عباده بالدعاء إلا قد أراد القبول لها.
عاد الشيخ من المقبرة بعد أن ترك فيها زوجته وابنه وابنة خالتهم، عاد بعد ملحمة صبر ورضا وتسليم، ومشهد عظيم من مشاهد العبودية لله عز وجل في تلقي قضائه وقدره.
لقد رأينا شيخنا سلمان العودة في هذا الحال؛ فإذا هو مدرسة في الصبر والثبات واليقين، يسير بصبره الجميل في أثر أعرف الخلق بالله أنبيائه ورسله: إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب.


 
مواضيع : NORAH


التعديل الأخير تم بواسطة NORAH ; 02-17-17 الساعة 01:54 PM