كم من الوقت مضى؟ .. كم ساعةٍ مرت؟ .. هل عبرَ "ريكس" عند غرفة العمليات ينتظرني؟
ما حالي؟ .. ما حال "ريكس"؟!
فتحتُ عيناي بتثاقلٍ شديد ، و كل تلك التساؤلات تبادرت في رأسي .. أشعر ببعض التعب أيضاً ، أشعر بأعياءٍ شديد .
حركت رأسي المثقل بصعوبة ، جلت ببصري أبحثُ عن أحدٍ حولي ، حتى وقعت عيناي على أخي و "سارة"! .. فقط!
من أبحثُ عنه ليسَ هنا ..!
أقتربَ الإثنان مني ، قالا
- حمداً لله على سلامتك .
نطقتُ بصعوبة
- شكراً لكما .
قال "ألفريد" الذي بدت عليه سيماء الراحة
- كان الطبيبُ هنا منذُ قليل ، أخبرنا أن العملية نجحت بامتياز .. لكنكِ تحتاجين لبعض الوقت لتمارسي الحياة بشكلٍ طبيعي ، ستكونين بخيرٍ تماماً .
- جيد ، هل .. هل رأيتما "ريكس"؟ .. أحاول مكالمته منذ البارحة حتى الصباح ، لكنه لا يجيب!
تبادل "ألفريد" و "سارة" النظرات ، ثم قالت "سارة" وهي تنظرني
- كنتُ في المستشفى هذا الصباح و لكن لم أكن بالقرب من عيادته ، و لم أراه .
أعطني هاتفي إذاً .
قال "ألفريد" بصرامة
- يجبُ أن ترتاحي يا عزيزتي ، إنسي أمرَ "ريكس" الآن!
غرورقت عيناي و أنا أنظر إليه بقهر
كيفَ أنسى أمره؟! .. كيفْ؟ ، و هو الذي اهتم بأمري مذ أنْ علمَ بمرضي! .. اهتم بكل شيء كما لو أن الأمر أمرهُ لا أمري! .. لم ينثني عن مساعدتي للحظة ، كان واقفاً بجانبي دائماً ، يحييني كلما قاربتُ على الفناء!
لاحظ "ألفريد" دموعي ، فهمس
- "آماندا"!
أغمضت عيناي لتنحدرَ دموعي على وجنتي ، أشحتُ بوجهي عنه أبكي في صمت .. لا أعرفُ ما الذي أصابني! ، بتُّ كالطفلة عندما تتعلق بمن تحب! .. لن أهدأ و أرضى قبل أن أراهُ أو أسمعَ صوته!
أقتربت "سارة" مني أكثر و قالت و هي تمسحُ على رأسي
- إهدئي يا عزيزتي ، أرجوكِ لا تزعجي نفسك .. سأنظر أين يمكن أن يكون ، سأتصل به لأجلك .
- أرجوكِ "سارة" ، بسرعة .
- حسناً .
قالت ذلك و أخرجت هاتفها .. و أسرعت مغادرة إلى الخارج لتجري المكالمة .
لحقَ بها "ألفريد" ، و بقيت وحدي في الغرفة قلقة .. لما يختفي "ريكس" الآن؟! .. كلماته في رسالته تخيفني! .. "ريكس" كن بخير و اظهر قبالتي أرجوك .
بعد مضي دقائق ، فتحَ باب الغرفة .. وجهتُ نظري نحوه أترقب الداخل .. كانت أنفاسي متلاحقة ، و قلبي يدق بعنفٍ بين أضلعي .. أرجوكَ "ريكس" كن أنتَ خلفَ هذا الباب!
خاب ظني ، لأن من كان خلف الباب هو الطبيب و ليس "ريكس" ، حتى هذه اللحظة لم تأتي يا "ريكس" ، مالذي يمنعكَ عني!
أقترب الطبيب مني و الهدوء يكتسيه ، وقف ينظر إلي قائلاً
- كيف حالكِ الآن يا "آماندا"؟ ، بما تشعرين؟
نظرتُ إليه بحزنٍ شديد ، و أجبته بصوتٍ منخفض أقرب إلى الهمس
- أشعر بالتعب و الإعياء .
- لا بأس ، لم تمضي سوى ساعاتٍ فقط على العملية ، ستحتاجين لبعض الوقت لتتحسني .
لزمت الصمت ، لا رغبة لي في التكلم ، عقلي مشوش .. أفكاري ليست معي بل مع "ريكس"!
تذكرت فجأةً أنّ هذا الطبيب زميل "ريكس"! ، فرفعتُ رأسي إليه قائلة
- هل رأيتَ الطبيب "ريكس" هذا اليوم ؟ ، أحاول الوصول إليه لكنه لا يجيب على هاتفه!
سكنت تقاسيم وجه الطبيب و هو ينظر في عيني ، شعرت بالارتباك حينها و القلق .. لكنه سرعان ما قال
- غادر "ريكس" البارحة البلدة على عجل ، و لا أعرف إلى أين ذهب .
أدهشني ما سمعته!
"ريكس" غادر دونَ مقدماتٍ هكذا؟! .. لم يمضي أسبوعينٍ بعدُ على عمله هنا في ذاك المستشفى! .. لماذا يغادر؟!
قطبتُ جبيني و قلت
- حسناً .. لماذا غادر؟ ، و لماذا لا يجيبني على هاتفه؟
- لستُ أعلم!
سألته بعد تردد
- أنتَ واثقٌ من ذلك؟ .. لماذا لم يخبركَ ألى أين هو ذاهب؟
قال و قد علت نبرة صوته
- لم يقل شيئاً! ، ثم لا داعي للتفكيرِ به ، فكري بنفسكِ يا "آماندا"! ، لا تقلقي و لا تحزني .. لا تفكري و لا تغضبي ، فكري في تعافيكِ فقط .. حتى تتعافي سريعاً .
اكتسى الحزن ملامحي ، لما تريدون مني تجاهل "ريكس"؟! ، كيف يمكنني تجاهلهُ و هو أنفاسي التي أشهقها و أزفرها و أشهقها من جديد!؟ .. "ريكس" أين أنت؟!
أربكتني برسالةِ البارحة و غادرت تاركاً وراءكَ إمرأةً لاهثة ، تتوق إليك .. متعطشة لسماعكَ و النظر في عينيك ، أتشتاقُ الإختباء كما فعلتَ في الماضي؟! .. أتريد أن تعيدَ تلكَ الأيام و لذتها؟! ، قلبي لا يقوى يا "ريكس" .. لا يحتمل الكثير من الصدعات و النزف ، لا تبكيني بغيابك .. أرجوك .
~’~’~’~
حاولت كثيراً الوصول لـ "ريكس" في الأيام التالية ، و لكن لم أستطيع ، هاتفه مغلق و لا أعرف كيف أصل إليه!
سألتْ "سارة" عنهُ زملائه الأطباء .. و الجميع لا يعرفُ عنه شيئاً!
صار القلقُ يتملكني ، و التفكير فيه لا يفارقني ! .. كيف يمكن أن يختفي بهذه الطريقة!؟
و لماذا اختفى؟! ، و رسالته الأخيرة تلك! .. كان عليه الظهور بعدها ، لأخبره أني سامحته ، لأخبره أني كنتُ أتمناه كل تلكَ السنين! ، أنه لم يغادرني ، و كان ينبض بقلبي كلّ حين!
مضى شهران على إجراء العملية ، صرتُ أحسن حالاً مع الإلتزام بجرعات الدواء و التقيد بأوامر الطبيب ، عدا أن أنفاسي تضيق عندما أجهد بعض الشيء .. و أيضاً ، كلما خفقَ قلبي قلقاً و شوقاً لـ "ريكس"!
في يومٍ ما في الصباح ، كنتُ ذاهبةً و "سارة" لزيارةِ العيادة ، كان لي موعداً مع الطبيب للمتابعة و الإطمئنان على وضعي بعد العملية .. ذهبنا و دخلنا إلى العيادة ، و بعد إجراء الفحوصات و الإطمئنان على حالي ، قال الطبيب أني في تحسنٍ ملحوظ .. و طلب مني معاودة زيارته بعد شهر للمتابعة .
هممنا بالمغادرة ، و لكن سرعان ما توقفتُ مفكرة .. ثم نظرتُ للطبيب قائلة بهدوء
- لو سمحت ، ألم تسمع خبراً أو أي شيءٍ عن الطبيب "ريكس"!؟
نظرت إلي "سارة" بحزن .. نظرتُ إليها ، ثم عدتُ بنظري إلى الطبيب ، الذي ظل يحدق في وجهي للحظاتٍ بحيرة و صمت .. ثم قال أخيراً بهدوء
- لدي شيءٌ لكِ .. عثرنا عليه في جيب "ريكس" .
خفق قلبي خوفاً و قلقاً .. و قلت بوجلٍ استبد بي
- ماذا تعني بعثرنا عليه؟!
أطرقَ الطبيب برأسه ، ثم أخرجَ و رقةً مطويةً من درج مكتبه و مدها إلي .
نظرت إلى الورقة .. كانت متهالكة قليلاً! ، نظرتُ إلى الطبيب بخوف قبل أن ألتقطها بيدي المرتجفة
كان قلبي يدق بعنف .. سألته بصعوبة و كأن لساني عقد
- ما بها؟! .. و ما علاقتها بـ "ريكس"؟؟
أجابني الطبيب بصعوبة
- إفتحيها و اقرأي ما كتبَ فيها .
أحسستُ بضيقٍ شديدٍ و اعتصار ، في ما يحدث ما يريب .. و هذه الورقة ، لما هي متهالكة هكذا!؟
هل حصل مكروهٌ لـ "ريكس"!؟
لاحظت "سارة" ارتباكي الشديد ، فاقتربت مني و أمسكت بي قائلة
- هللا جلستي أولاً .
نظرتُ في عيني "سارة" و الربكة ترعدني ، همستْ قائلة
- اجلسي يا عزيزتي ، هيا!
جلستُ في مقعدي ، و حدقتُ في الورقةِ بإمعان .. كان عليها قليلٌ من التصبغات البنية اللون!
أغمضتُ عيني الهلعتين ، و أخذتُ نفساً محاولةً تمالك نفسي ، لكن هيهات!
كان قلبي يدق بعنفٍ بين أضلعي!
فتحتهما من جديد ، و فتحت الورقة بصعوبةٍ و بأنفاسٍ متلاحقة منهكة .
مررتُ عيناي بين السطور لأقرأ ما كتب .. و كلمةُ الطبيب تتردد في رأسي ( عثرنا عليه في جيب ِ "ريكس" )
و قرأتْ ..
( هذهِ وصيتي
إن عثرتم على هذا الجسد دون روح
فهذا قلبي ، أهبهُ لـ "آماندا"
في مستشفى ...
غداً ستجري عمليةً لزراعة القلب
خذوا قلبي لها
ليظل قطعةً بين جنبيها )
هذه الكلمات و قعت على رأسي كالصاعقة!
وصية؟! .. جسدٌ دون روح؟! .. خذوا قلبي لها؟! .. أهبهُ لـ ...!!؟
اغرورقت عيناي بالدموع و أنا أحدق في الكلمات ، شفتاي ترتجفان .. و قلبي ينتفض خوفاً بين أضلعي المرتعدة .
رفعتُ بصري نحو الطبيب ، ازدردتُ ريقي و سألتهُ بصعوبة
- ماذا تعني هذهِ الورقة؟!
و أضفتُ قائلةً بصوتٍ ضعيفٍ باكٍ
- أين "ريكس"؟
تنحنح الطبيب و قال و هو يتجنبُ النظر إلي
- الرسالةُ واضحة يا "آماندا" ، "ريكس" كتبَ هذه الورقة ، يبدو أنه تعمدَ قتلَ نفسهِ في حادثٍ مروري حتى يتبرعَ بقلبهِ لأجلك .. و لقد قمنا بتنفيذ الوصيةِ كما يريد .
انحدرت دموعي بغزارةٍ على وجنتي ، نظرتُ إلى "سارة" بعينينٍ ترتجيان .
قولي أنه كذب! ، قولي أنه كابوس .. قولي أي شيءٍ ينفي ما سمعت و ما قرأت!
لكن "سارة" لم تنفي ذلك .. بل وضعت يدها على شفتيها و عينيها اغرورقتا بالدموع .
ما كان مني إلى البكاء و النحيب ، ما كان مني إلى أن أعزي نفسي لفقده .. و أي فقد؟!
فقد "ريكس" الحبيب بالطريقة الصعبة!
لماذا "ريكس"؟! ، لما تهبني قلبك و ترحل؟!
أما تدري أن "آماندا" لا تحسن التنفس دون أنفاسك؟! .. لا تجيد الإبتسامةَ إلا في حضرتك؟
لا تعشق الحياة و هي خاويةٌ منك ، فاقدة لصوتك!
أيتها الحياة لم تعودي ربيعاً مزهراً و لا صيفاً دافئاً ، غادركِ "ريكس" العزيز و سرقَ الحلاوة منكِ ، كل ما فيكِ مثلج .. كل ما فيكِ سقيم ، فانٍ و هو يتنفس !
بل أن الأنفاس خبت حتى أعلن كل مافيكِ الموت !
غادرتُ غرفةَ الطبيب و الدموع لا تزال تنهمر من عيني ، غادرتها بصمتٍ في الظاهر و عصفٌ في الداخل .. كل ما حوته ذاكرتي لـ "ريكس" عادت به إلي ، شغبه .. ضحكاته .. اهتمامه .. لطفه و حبه ، و ابتسامته!
تذكرتُ ابتسامته الحزينة في تلك الليلة ، تذكرتهُ و هو يحتضن يدي بكفيهِ الدافئتين ، تذكرتهُ و هو يتحدث بهدوءٍ مريب
( أعتذر يا "آماندا" ، لن أستطيع أن أكونَ هنا غداً صباحاً )
كان يعرفُ أنه اللقاء الأخير ، كان يدركُ تماماً لما رسالتهُ تلك الرسالةَ الأخيرة! .. كان ينوي المغادرة
بل عزم الرحيل .. عزم على ترك قلبهِ ينبض بين جنبي باسمهِ ليزيد من لوعتي ، ليزيد من سقمي و ألمي!
"ريكس" ، إن وهبتني قلبكَ تكفيراً عن ذنبكَ فلقد ظلمتني ، بل أوجعتني و آلمتني
لا ذنبَ يحتمل هذه التضحية! ، بل لم يكن هناك ذنب! .. فلقد عفوت .. عفوت يا "ريكس"! أتريدني أن أعاني ذنب فقدك؟! .. أن ألوم نفسي فأجلدني تأنيباً و غضباً!؟ .. أتريد امتحاني في العيش دون ظلك؟
غادرتني يا "ريكس" لتجعلني أعاني فقدك .. غادرتني ..
و قررتَ أن تكونَ جزءً مني .. أن تكونَ نبضي ، الأكسجين الذي تحيا به العروق و الروح .. أنتَ بداخلي .. قلبٌ تسكنني ، تنبض كلما شهقت .. كلما صحوت .. كلما تقلبت أصغي إليكَ مع دقات قلبي .
أحبكَ "ريكس" .. أحبكَ حتى آخرَ أنفاسي ، حتى آخر نبضٍ ينبضه قلبكَ بي ، أنتَ و أنا .. نعانق جسداً واحداً .. جسدي سيظل يحتضنك حتى يبلى ، حتى يرتمى للثرى .. حتى تغادرني روحي إليك .
انتهت