المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكاية العهد الجديد... قصة متسلسلة


عطاء دائم
07-27-20, 07:14 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصة حاجّة


https://g.top4top.io/p_16694jg651.jpg

المقدمة:
دارت عجلة الأيام لتعود إلى حيث كانت لي الذكرى، وهطل من الماضي يتدفق حتى كأنه الأمس القريب، والمشاعر ما زالت كما هي، كل يوم تتجدد شوقاً وأملاً لنيل ذلك الفضل العظيم من جديد ..

كنت في مثل هذه الأيام أستعد للانضمام إلى ركب الحجيج وزيارة البيت العتيق، من بعد سنين الأشواق واللهفة، كل عام كان يمر علي ذو الحجة، والقلب يهتف متى يا رب تكتب رحلة العمر ويولد القلب من جديد؟

ولما تيسرت بعد طول الترقب وأيام الدعاء، لم تكد تتسع فرحتي سماء السعادة وحلقت روحي مع نسمات السرور..

وبدأت أخطط و أستعد، فعكفت أدرس أعمال الحج وأبحث وراء المقاصد والمعاني وأجمع تجارب الأهل والأصدقاء، وهم يحملون لي الأماني ودعوات القبول..

يتبع

عطاء دائم
07-27-20, 07:17 AM
https://h.top4top.io/p_1669x9zeh1.jpg

(١/١٠)

ليلة السفر

حان موعد انطلاق الرحلة إلى الله، حيث نقطع علائق الدنيا، أعمالها وهمومها، ونولي وجوهنا إلى الله، بإخلاص وإيمان واحتساب، نحمل الصبر معنا رفيقا..
رحلة تعلم واختبار، فهل ترانا سنفهم الدروس ونفوز في الاختبار؟ أم ستكون خسارتنا هي الأعظم؟


بدأت إجراءات الاستعداد للسفر، تأكدت من قائمة الاحتياجات، أقفلت الحقائب، رتبت المنزل،أقفلتُ جميع النوافذ عدا نافذة غرفة النوم، لم يعمل قفلها، استودعت ربي إياها، وانطلقنا إلى منزل أهلنا، والذي يبعد عن مدينتنا مسافة طويلة، حيث سنبيت عندهم ليلة السفر قريباً من المطار..

قضينا ذلك اليوم بالأنس بالأهل، وزيارة مرضاهم، وتوديعهم، فلما أحكم الليل عتمته وحان موعد الراحة والنوم لليوم المرتقب، وجدنا أننا قد نُسِّينا جوازات السفر..! فهل يمنعنا هذا الأمر من الحج ؟!

ورغم ثقل المعضلة، إلا أننا قابلناها باطمئنان تام، ويقين بالله عز وجل وتيسيره، وبإذن الله سنحج هذا العام مهما كلفنا ذلك من جهد، فالحج جهاد، وهو فرصة العمر..

استيقظنا فجراً، وقبل طلوع خيوط الشمس ودعنا الأهل ظناً منهم أننا متوجهان إلى المطار، ونحن نكتم سرنا أننا سنعود إلى منزلنا مسافة سفر لنحضر جوازاتنا ومنه ننطلق إلى المطار..

ولم تكن مسافة الدرب بالنسبة لنا موضوعاً مشكلاً مثل ما كان عدم العثور على مفتاح المنزل بعد وصولنا مصدر القلق، لقد تبين لنا أننا بعد قطع كل تلك المسافة، لا نحمل مفاتيحنا معنا…!

كان ذلك الموقف، رغم التوتر الذي فيه، يستدعي أن نتأمل أن وراء هذا القدر حكمة يريد رب العالمين منا أن نتدبرها، وأن نتدبر أسماءه وصفاته.
قال زوجي :

ماذا عسانا أن نفعل الآن؟

قلت: لا سبيل إلا أن تدخل من النافذة (وهي النافذة الوحيدة التي لم أتمكن من قفلها).

ولكننا سنحتاج إلى سلم، ومن أين لنا السلم؟

لم نستغرق الكثير من الوقت في البحث والتفكير فقد وجدنا سلماً عند البيت لا ندري من وضعه، ولكننا ندري أنه لطف من رب العالمين.

يتبع

عطاء دائم
07-29-20, 08:43 AM
https://c.top4top.io/p_16713t79l1.jpg



حكاية_العهد_الجديد

(٢/١٠)

توجهنا إلى المطار وكان ذلك كما الحلم، وقلوبنا تشكر المولى على هذا المن العظيم.
صعدنا الطائرة وجلسنا على الكرسي الأخير و كان عن يسارنا زوجان فرّق بينهما بالمقاعد.لفتت انتباهي السيدة، وشعرت بالأسى لوحدتها..


أحرمنا في الطائرة للحج متمتعين، وبعد وصولنا للمطار، توجهنا للوضوء والصلاة، ثم جلسنا على مقاعد الانتظار ننتظر وصول حافلات الحملة، اختلست نظرة إلى من تجلس بجواري فوجدتها تلك السيدة رفيقة الطائرة، فلما وصلت الحافلات وصعدت الحافلة، وكنت آخر من تركب، وجدت تلك السيدة تجلس بجواري مجدداً ..

مضت الدقائق وطالت ونحن ننتظر تحرك الحافلة، و سرحت في وقت الانتظار بالتفكير بما هو آت، وخصوصاً المرحلة القادمة من هذه الرحلة. كان يشغل تفكيري في هذه الأثناء، من سيكون معي في الغرفة؟ هذه هي المرة الأولى التي سأحتك فيها مع غرباء بل سأشاركهم المأكل والمبيت!، لكم أتمنى أن يكونوا بسطاء، لطفاء، متعاونين و صدورهم واسعة، غير متذمرين، و لا يقفون على الأمور الصغيرة..

بسبب طول الانتظار جلوساً قامت سيدة تبدو بعمر أمي تمدد ظهرها فقد أتعبها طول الجلوس.
قلت في نفسي: أظنني سأكون سعيدة لو كانت هذه المرأة معي في الغرفة.

وأخيراً تحركت الحافلة، وبعد صمت طويل بدأت جارتي في المقعد التي تكرر جلوسي قربها تتحدثُ مع جارتها، كانت نبرة صوتها واللهجة مألوفة لدي، فكأنها ممن أعرفهم وعشت معهم سنيناً ..
دخلت معهما في الحديث، ثم سألتها عن اسمها وأبديت لها ما شعرت به تجاهها..
قالت فاطمة: من مدينتكم ليس لدي أقارب ولا أعرف أحداً، غير فلانة زوجة أخي.
قلت: سبحان الله، أعرفها..

وصلنا الفندق بعد العشاء، واشتد الزحام عند الباب، كل يريد معرفة غرفته..
وصلت الغرفة، وفي داخلي خجل ممن سألاقي ولكني أواريه و أتصنع الثقة. لم أجد في الغرفة أحدا، دخلت بهدوء وحجزت سريراً قريباً من النافذة، ووجهت نظري إلى الباب في ترقب وصول الرفيقات.

دخلت فاطمة، تبسمت وأنا في ذهول، تقول: عهد!
وبعد دقائق وصلت السيدة مريم التي كانت تمدد ظهرها في الحافلة، ومعها ابنتها رهف..

يتبع

عطاء دائم
07-30-20, 08:55 AM
https://c.top4top.io/p_16720n0991.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٣/١٠)

عمرة الحج

في الفندق طلبوا منا تناول وجبة العشاء والاستراحة لمدة ساعتين قبل الانطلاق لأداء العمرة، لم تكن لي رغبة بالأكل، خشيت أن ترهقني معدتي أثناء الطواف، ولم تراودني رغبة بالنوم بسبب الخجل وتغيير المكان، وندمت لاحقاً على هذا..

ركبنا الحافلة نحو محطة الباصات، ومنها ركبنا حافلة أخرى تقلنا إلى الحرم.. لقد وقفنا ننتظرها طويلاً حتى تورمت أقدامنا، وجلسنا على الرصيف، ومن حولنا جموع الحجيج من مختلف البلدان، ينتظرون معنا، ويركبون قبلنا، كان هذا أول موقف لنا نلتمس فيه دروس الحج، هنا موقف يشعرك بفقرك، يعلمك التواضع، يقول لك هنا في الحج كل المسلمون سواسية، فقراء كانوا أم أغنياء.

وصلنا الحرم في منتصف الليل، العين ترقب المكان في ذهول، والقلب يهتف يا لسعادة الوصول، أخيراً أرى الكعبة بعد طول حنين وأعيش أجواء الحج الروحانية!
أتأمل المكان أحاول تسجيل اللحظات في ذاكرتي. لم تكن هذه أول عمرة لي، لكنها عمرة الحج..

بدأنا الطواف في الصحن، وما أن بدأنا حتى شعرت بشدة الزحام، وكثرة التدافع، فطلبت من زوجي أن نصعد لنطوف في المطاف العلوي، فخشوع القلب في هذه اللحظة أولى من أن نطوف في قطر صغير..

بدأت دعائي لمولاي في طوافي بالحمد الكثير والثناء والشكر وتلعثمت فيما دون ذلك..
أنهينا الطواف، وانتهت معه طاقتنا..وحاولنا قدر الإمكان أن نتقوى بماء زمزم، ونستعين بالله على استكمال السعي..

سعينا حتى الشوط الثالث، ثم صرنا نسحب قدما ونجر الأخرى وكأننا نقطع الصفا والمروة مسيرة مئة عام في الشوط الواحد،
لم يمر علي في حياتي قط أصعب من هذا المشي، وصرت أناشد نفسي: ايه نفسي، مالك؟ قد مشيت سابقاً في إحدى السفرات فوق جبل في طريق غير معبد مسافة التسع كيلومترات، ولكنكِ الآن عن هذه الخطوات تعجزين؟..
اضطررنا لأخذ استراحة و أغمضنا أعيننا دقائق معدودة ..غفا زوجي وسرحت أنا في عالمي..

“نعم لقد مشيت فوق الجبل في تلك الرحلة تسع كيلومترات مرغمة، لأنني علقت في المكان وكان حتماً علي أن أمشي كي أعود!
وأنا اليوم أمشي ما يجبرني على ذلك غير أن أكمل العمرة، لا لكي أسلك طريق عودة أو طمع في شيء من الدنيا..”

رباه، تربينا على الإخلاص و على ابتغاء وجهك الكريم..على أن نتحمل ما نلاقي لأجلك وحدك، لا لمتعة دنيا ولا لطلب راحة، إلا الراحة التي سنجدها من نعمتك في الجنة.

فتحت عيناي وأيقظت زوجي.. هيا بنا نكمل.
لا أستطيع وصف فرحتنا عند وصولنا المروة في آخر شوط، ولا أستطيع أن أصف حجم إحباطنا ونحن نتذكر أننا الآن يجب أن نمشي نحو محطة الحافلات، وهي ليست بالقريبة..

وصلنا المحطة وهنالك كان الزحام شديداً، ولم يكن عدد الحافلات يكفي الحجاج، والناس ينتظرون وصول حافلة ثم يتزاحمون على بابها تنافساً من يصعد ومن يبقى ينتظر.. أما نحن فلم نكن من المتنافسين، وبقينا ننتظر الفرج بهدوء عسى أن يكون لنا نصيب بالركوب، غفوت من غير أن أشعر ولم أستيقظ إلا على صوت زوجي وهو يقول:
-هل لك طاقة على المشي؟

-نعم نمشي..

مشينا في ممر تحت نفق، كانت الجاليات الآسيوية الفقيرة تسير ذهاباً وإياباً تمشي من فنادقها نحو الحرم سيراً على الأقدام.. كانت أرضية الممر متهالكة، والحاجز الحديدي الذي يفصل بين الممر والشارع مكسورة بعض أجزائه وبارزة لدرجة تكفي أن تخترق جسد من لم ينتبه لها. كنت أمشي بعيداً عن الرجال على الطرف قريباً من الحديد، حيث الحفر، والحديد المكسور ومن التعب ومع غطاء الوجه، كان سهلاً جداً أن يخترق الحديد بطني بغفلة صغيرة، ثم لفت نظري أن بعضاً من أجزاء الحديد المكسور لُبّست بعلب بلاستيكية حتى لا يؤذي الطرف الحاد جسم أحدٍ إذا لم ينتبه..

عمل تطوعي بسيط جداً، ولكنه خفض نسبة الخطر بشكل كبير.. فكم لاقى فاعل الخير الذي صنع هذا من الأجر؟

مشينا حتى وصلنا إلى أحد الفنادق، وسألنا عن كيفية الوصول إلى فندقنا. لقد ذهلوا منا، وشعروا بالشقفة على حالنا، ففندقنا بعيد لا نصله سيراً ولا مجال للوصول إلا من خلال محطة الحافلات..

ساعدونا بأن أوصلونا إلى شارع عام، وهنالك التمسنا لطف الله بنا فسرعان ما مرت بنا سيارة أجرة كانت هي الوحيدة التي تسير في الشارع فنقلتنا إلى فندقنا..
لقد كانت هذه المرحلة أول إشارة لنا نلتمس خلالها أن ما قدمنا إليه أمر عظيم لا يقبل إلا الإخلاص، وأن نيل مطلبنا من القبول والتطهر من الذنوب لن يكون مع طلب الراحة، والرفاهية التي اعتدنا عليها..

يتبع

عطاء دائم
07-30-20, 08:58 AM
https://e.top4top.io/p_16722xxce1.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٤/١٠)

يوم التروية

“الله يعينكم على حج الصيف”
أذكر أنني زمانا منذ أن بدأت تخالط وجداني رغبة الحج، كنت أتمنى الحج شتاءً! وكنت أقول لابد أن أحج قبل أن يصادف الحج فصل الصيف..

ولكن كتاب رب العالمين سابق، والله أراد لي الحج صيفاً وحتما له في ذلك حكمة..
لم يقلقني أبداً موضوع حرارة الجو، فرب العالمين الذي كتب ذلك لنا رحيم بنا..

كنت أقول لمن حولي ألا تلاحظون أنه في كل عام يصادف هطول المطر في موسم الحج؟ أنا على يقين أن رب العالمين سيهون علينا الجو..

كنت حقا في قرارة نفسي أتمنى وأدعو أن يظللنا الغمام وأن تهطل علينا الأمطار، فكم لذلك من روعة وروحانية وسكينة..

ضحى يوم التروية، وهو اليوم الذي انتظرناه بكامل الشوق لنبدأ مناسك الحج حقاً ونعيش أجواء منى، أحرمنا من مكاننا ثم انتظرنا التفويج، ولكنهم أبلغونا أننا سنتأخر.

عصراً، سمعت هتاف الرفيقات وهن ينظرن من النافذة: انظرن سحابة شديدة السواد قادمة نحو مكة! لقد استبشرنا خيراً وتلمست استجابة الدعاء ..

صلينا المغرب وانتظرنا أن يحين موعد تفويجنا.. لقد مللنا الانتظار في الفندق وعمرت منى بالحجيج ونحن ما زلنا هنا!

خرجت فاطمة والخالة مريم لتناول وجبة العشاء في مطعم الفندق وبقيت أنا ورهف في الغرفة نجلس على الأرض نتناول مما لدينا من الطعام الخفيف

رهف: هل تعلمين يا عهد، أنا لا أصدق كيف تيسرت أموري للحج وتفضل المولى علي أن أكون ضمن الحجيج و قد تعرضت لظرف كاد أن يلغي كل شيء، ولكن رحمة الله سبقت.

أنا: الله لطيف بعباده، أنا أيضا لا أتخيل نفسي كم كنت أتمنى الحج سنيناً ولم يكتب لي أن أحج إلا بعد أن مررت بتغيرات في حياتي وظروف ومحن لعلها كانت السبب في زيادة إيماني لأحج وإيماني بالله أكبر مما كان.

تغير وجه رهف فجأة وانصب عليها الخوف صباً..
أنا: ماذا بك؟
أشارت إلى النافذة، “برق قوي”.
أنا: مطر!
لقد شعرت بسعادة كبيرة رغم أن المنظر كان يستدعي الخوف أكثر من السعادة..

لم نكن نرى المطر، كانت ريحا شديدة تكاد تخلع الشجر، وغبار..
وبدأت رسائل الواتس أب تصل، مطر على المشاعر،
وكان على المشاعر فقط!

تصل التعليمات إلى الحملة بتأجيل التفويج حتى استقرار حالة الطقس..وأخبار بلدنا تطمئن أهالينا أننا بخير ولم نتعرض للخطر..

لم نكن نعلم وقتها ماذا يجري في منى وحالة الذعر التي عاشها الحجاج هنالك حتى قالت لي صديقة سبقتنا بالوصول: لقد كان مشهد يذكرنا بالقيامة، والكل نفسي نفسي..

وصلنا خيمتنا في منى و استعددنا للمبيت، هنالك شعرت أن عائلتي في الحج أصبحت كبيرة. فبعد أن كنت خجلة من أن أبيت مع ثلاث نساء لا أعرفهن، اليوم سأبيت مع العشرات.

لقد كانت هذه التجربة من أجمل تجارب الحياة، حيث تلاشت كل المظاهر ولبسنا جميعاً ثياب التواضع والمساواة..

نمنا في وقت متأخر ثم أيقظتنا المشرفة الساعة الثالثة والنصف نستعد للفجر، فلما أذن الفجر، وصلينا، شعرنا أن نسمات رحمات هذا اليوم الفضيل قد هبطت علينا ..
تأخر التفويج، فاضطجعت أستريح لأستعين بذلك على العبادة المقبلين عليها هذا اليوم. فإذا أصوات جاراتنا من الحملة المجاورة تصل إلى أذني بكلام طيب وتواصٍ بالخير وفوائد علمية ثم دعاء وتأمين وأنا أؤمن معهن..

يتبع

عطاء دائم
07-31-20, 07:35 AM
https://g.top4top.io/p_1673mszed1.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٥/١٠)
يوم عرفة

عرفة، وما أدراك ما عرفة، اليوم العظيم الذي عشته سنيناً صائمة، و ها أنا الآن أفطر فيه لأول مرة داعية مبتهلة..

وصلنا عرفات، ومشينا مسافة تحت لهيب الشمس تسطع فوق رؤوسنا من غير حجاب وكأنه لم يكن في الأمس مطر.
وصلنا خيمتنا و حجزنا مكاناً قريباً من المكيف. استرحنا وتناولنا ما يقوينا على العبادة وانتظرنا موعد الزوال وخطبة عرفة..

الخطبة اليوم تعني لي شيئا كبيراً..ولكن للأسف لم يصلنا الصوت واضحاً
دخلت إلينا و واعظتنا. بدأت تحمد الله وتشكره وتذكرنا بفضل هذا اليوم العظيم وتحثنا على استغلال لحظاته بالدعاء والتوسل إلى المولى جل في علاه..

“اليوم ليس يوم النوم، اليوم يوم عبادة"
لقد كانت الجملة هذه منها سبباً في إشعال همتنا رغم النوم المسيطر على أعيننا، ، فلم ننم في الليل شيئاً.

قضينا ساعات النهار، وكان أطول نهار نعيشه حقاً، بين ذكر ودعاء وغفوات من غير شعور..
كان الحر شديداً جداً في الخيمة والتكييف لا يصل إلى الجالسات بعيداً عن المكيف. لم أدرك ذلك إلا وأنا أمر من أمامهن لحاجة..
فبدأت أنا و رفيقاتي وجاراتنا في المقاعد نهيئ لهن مكاناً وندعوهن للجلوس بقربنا..الحج يعلمك الرحمة و التكاتف والشعور بالآخرين..

اقترب المغيب وحان موعد الإفاضة. هل هو الوداع يا عرفة؟ هل يا ترى أحسنّا في هذا اليوم؟ هل تقبلت يا رب دعواتنا؟.. آمالنا بالله.
العين والقلب يودعان المكان، واللحظات العزيزة في أمانينا أن تتكرر..

مشينا إلى محطة القطار. لقد كان طريق العودة أسهل بكثير من قدومنا..
توقفنا في المحطة على السلم ننتظر دورنا في الركوب. لقد كانت هنا لحظات إيمانية كبيرة في تأمل الغروب ونفير الحجيج، جموع من الحجاج يغادرون و قوافل من الحافلات مجتمعة..
الوداع يا عرفة..

يتبع

عطاء دائم
07-31-20, 07:37 AM
https://a.top4top.io/p_1673rb8k91.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٦/١٠)

المبيت في مزدلفة

ركبنا القطار إلى مزدلفة، استغرقنا بضع دقائق حتى الوصول. كانت خلايا دماغي تتفكر في حال حجة النبي صلى الله عليه وسلم والقرون الأولى، يقطعون المسافة على دواب أو سيراً على الأقدام.. ليست المشقة التي نجدها نحن بشيء يذكر أمام ما كانوا يجدون.

الحج كلمات تبدو لك أعماله بسيطة، إلا أن تفاصيله عميقة، وفي كل ركن مئات من الدروس والعبر، تحاول فقط أن تجمع منها قدر المستطاع..

وصلنا مزدلفة وكان الزحام شديداً والقوافل تسير بكل مجموعة إلى بلدها. وقائد حملتنا ينادينا لأن نتحد ونجتمع وألا نسمح لأي شيء أن يفرق بيننا.

وصلنا المكان المهيأ لنا. أذهلني منظر الفرش المتراصة جنباً إلى جنب من غير مسافات للممرات حتى!. وكانت ثمة مراوح منتشرة وموزعة بشكل لا يغطي المساحة كلها
كان الحر شديدا جدا، ورغم أننا كنا أول الواصلين لكننا لم نظفر هذه المرة بموقع استراتيجي يهب عليه هواء المراوح.
أخذنا مكاننا، ثم بدأت الحملات الأخرى بالوصول وازدحم المكان..

استلقيت على ظهري في تأمل للحال والمكان وجماله، أنام وسقفي السماء، أستشعر تغير ظلمة الليل وأرى الجبال.
ومع تزايد الحر يعود فكرك يتأمل في حجاج الماضي، وكيف كانت حياتهم وكيف قضوا هذه الليلة، فحتى الفرش المتواضعة لدينا الآن لم تكن متوفرة لديهم.. بل إننا في هذه اللحظة كم من حاج الآن مفترش الأرض لم يتوفر له ما يتوفر لدينا..

حاولت أن أنام، ونمت ولا أظن أحداً غيري نام، ولكن هكذا السنّة ولابد أن آتي بها، ولكي أتقوى على العبادة القادمة..

نمت بشكل متقطع، أصحو كلما أرادت امرأة ما العبور إلى فراشها مروراً بفراشي، أجمع رجلي تارة وأمدها تارة أخرى حتى حل منتصف الليل. غادرت أغلب الحاجِّيَّات مزدلفة آخذات بالرخصة، وبقيت أنا وفاطمة وعدد محدود جدا من النساء، و استغلينا الوضع بتجميع المراوح حولنا، فصار الجو أهون علينا بكثير..

جاء آخر الليل. توقفت المراوح عن العمل لنفاد الشحن، وعاد العرق يتصبب وعدت لتأملاتي ومناجاتي..

ما أجمل أن يرانا الله يباهي فينا الملائكة.. وما أجمل ما نجده من العناء والمشقة في سبيل تطهير نفوسنا من عوالق ورواسب تجمعت في قلوبنا وعكرت صفو إيماننا..

تخاطبني نفسي، لأجل كل هذا تتفهمين لماذا الحج فرض مرة في العمر. وتسألني نفسي : بعد كل هذا العناء، هل ستفكرين بإعادة التجربة؟ فأصرخ عليها : بل سأعود، ويارب اكتب لي الحج كل عام.. لأجل رضاك ربنا يهون كل شيء..

بدأت خيوط الفجر تظهر في منظر يشرح الصدر، { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } لقد اقتربت اللحظة التي أنتظرها، الموقف الثاني للدعاء في الحج. صلينا الفجر وبدأنا ندعو بقلوب خشعت لمولاها وتذللت من بعد ليلة شديدة .. ثم نادوا علينا وقت السفر للانطلاق قبل أن تشرق الشمس..ووهنا بدأت أعراض المرض تظهر علي.

يتبع

عطاء دائم
08-01-20, 08:29 AM
https://b.top4top.io/p_1674a3pkt1.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٧/١٠)
يوم العيد

من مقرنا في مزدلفة، مشينا إلى الحافلة، كنا نسير والناس من حولنا تسير، عالم كبير وحياة مختلفة في تفاصيلها عن كل حياة..
فكأننا انتقلنا نعيش مؤقتاً في عالم تختلف مظاهره..
ركبنا الحافلة مع إشراقه الشمس، وكانت الحافلة تسير وأنا أشاهد من النافذة مشاهد جليلة وكأنني أمام شاشة تعرض الحياة في الحج..


مشهد الناس يمشون مترجلين نحو منى، مشهد الذين يجمعون الحصى.. آه مر المنظر سريعا غير أنه وقع في القلب فلا يفارق العين
توجهنا مباشرة إلى الحرم لنطوف طواف الإفاضة، ووصلنا م
ع نهاية خطبة العيد.. هي المرة الأولى التي أعيش العيد في مكة، وكم هو جميل عيد مكة..

كان المطاف غير مزدحم حيث أن أغلب الحجاج يتجهون هذه اللحظات لرمي الجمرة الكبرى، طفنا وسعينا بكامل قوتنا ولم نشعر بتاتا بنفس تعب العمرة، ونحن في الأشواط الأخيرة بدأت أفواج الحجيج تدخل الحرم، كأنما سيل قد دخل وادي..منهم من انهى الرمي وتحلل، ولبس ملابس العيد، ومنهم من رمى وجاء فوراً يطوف..

كان مشهد الحجيج وهم يسعون بملابسهم أمرا مثيراً للتأمل، لقد بدأت تظهر الألوان في الحجيج من بعد أن كانوا متحدين بالبياض، وبدأت تظهر علامات الشعوب والقبائل، فظهر العماني، وظهر الهندي، وظهر الافريقي، وكذا البقية..
تحللنا في الفندق، واحتفلنا بالعيد معاً في جو أخوي وودي، وفي الليل انطلقنا نرمي جمرة العقبة الكبرى..

مشينا إلى الجمرات مسافة لم أكن أحسبها بهذا الطول البتة، وشعرت فيها بتعب وإعياء، ثم لما وصلنا رمينا الحصيات السبع، وكان هذا كل شيء..
نعم فقد قلتها في نفسي: أهذا كل شيء؟

أصابني الذهول، وشعرت بكامل الفقر والذل لرب العالمين أن قطعنا كل تلك المسافة لنرمي هذه الحصيات الصغيرة ثم نعود..

غرقت في بحر التأمل حول الدروس المستفادة من هذا النسك، والحكمة من ورائه..
حتما ليست الغاية هي رمي الحصيات نفسها.. بل هو الإخلاص لرب العالمين، حتى نستشعر أننا أذلاء لرب العالمين، نطيعه فيما أمر مهما كان وكيفما يكون ومهما كلف من المشقة والتعب.

توجهنا بعد الرمي إلى مخيمنا في منى لنبيت أول ليالي التشريق

يتبع

عطاء دائم
08-01-20, 08:59 AM
https://c.top4top.io/p_1674gx77k1.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٨/١٠)
أول أيام التشريق

قضينا في منى أول أيام التشريق، وما أجمله من يوم..
لما حل الصباح استيقظنا وغادرت معظم النساء إلى الفندق وبقيت أنا مع نسوة، تارة نتعبد، تارة نتبادل ود الحديث، وتمر علينا الواعظات يقدمن أزكى أنفاسهن من عبق الحديث الإيماني..
ولما جاء العصر، استعددنا للسير إلى الجمرات، لقد كنت متحمسة لهذه الرحلة، ولم أكن أدري أنها اختبار شديد ودروس عميقة نستفيدها ..
لقد وجدت في هذه الرحلة أشق ما أجد.. فكأنما هي رحلة في صهر الذنوب ..
كان قد اشتد علي المرض، والزحام والحر كانا يزيدان علي صعوبة التحمل..

الشمس تلفح وجوهنا والعرق يتصبب صباً..كنت ونحن ننتظر دورنا في ركوب القطار أشعر أني أكاد أسقط من شدة التعب، حتى أقول في نفسي متى ينتهي هذا اليوم وأطلب من زوجي أن نتعجل فلا نرمي اليوم الثالث..

لقد شعرت بالتعب حتى تخاطر في نفسي، متى ننتهي؟ لقد توقعت أن الرمي أيسر شيء.. ألهذا كتب الحج مرة في العمر وهل تراني بعد هذا كله أقدم على الحج من جديد؟ ولم أكن أجد إجابة في نفسي إلا زجرها ودحر شيطانها، بل سأحج من جديد..ودعوت يا رب أكتب لي الحج كل عام..

لقد كان مشهد الناس في الجمرات من أعظم المشاهد، كل هؤلاء قطعوا وبذلوا الجهد وتعرضوا للمشقة لتلبية ما افترضه الله، أصواتهم وهم يكبرون، ثم وقوفهم للدعاء..

لقد كان مشهداً يستحق أن تقف عليه من كل الزوايا إلا أنني بسبب المرض لم أستطع دفع رغبة سرعة العودة إلى منى.

انهينا الرمي، وسرنا نحو محطة القطار، لا أنسى مشهدنا مع الناس نسير أفواجاً، زرافات ووحدانا ! يا الله تذكرت لما تفتح لنا أبواب الجنة ويقال لنا أدخلوها بسلام آمنين..
ندخلها من بعد نصب الدنيا وهمها وجهادنا في تطهير أنفسنا، لننعم فيها {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}

عدنا إلى منى، وطلبت الحملة منا أن نسجل أسماءنا إن لم نكن نرغب بالتعجل، فالحملة ستتعجل..

كنت انتظر من زوجي اتصالاً حتى نناقش الموضوع من جديد، فقد كنا اتفقنا على عدم التعجل، أما الآن فأنا مريضة..
ولكنه فاجأني برسالة اتخذ فيها القرار..

“سجلت أننا لن نتعجل، شدي حيلك واصبري”

لم أناقشه في القرار، فقد استشعرت أنه لطف من رب العالمين.

يتبع

عطاء دائم
08-03-20, 08:28 AM
https://k.top4top.io/p_1676cj8bn1.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(٩/١٠)
ثاني أيام التشريق


صباح ثاني أيام التشريق، استيقظنا نشكر الله على فضله ومنه وكرمه أن بلغنا هذا اليوم الجديد، وأنعم وتفضل علينا أن جعلنا ضيوفه في هذا البلد الحرام..

كان تجمعنا في منى ومكوثنا فيها نهاراً يزيد من أواصر التعاون والتلاحم، وكل ضيفة من ضيوف الرحمن هي صحبة صالحة تعيننا في الدين والإحسان..

وقت الضحى استعدت الحملة للخروج للرمي، حتى يتم الرمي بعد الزوال مباشرة فتلحق الخروج من منى قبل أن يدركها المغيب.
أما نحن غير المتعجلين فقد أخرنا الخروج إلى العصر حتى تكسر أشعة الشمس

خرج كل من كان في الخيمة من نساء حملتنا متعجلات إلا أنا.. بقيت وحيدة أتأمل خلو المكان فجأة من بعد أن كان ممتلئا بالحياة ..
سمعت أصوات النساء من الحملة المجاورة، وكنا نسمع مواعظهن دوما ونعيش معهن أجواءهم من خلف الحاجز وهن لا يدرين. قلت هذه فرصتي كي أتعرف عليهن وأعرف من يكنّ..

أقدمت على هذه الخطوة وأنا أشعر بالخجل ولا أعرف ماذا سأقول..
لما وصلت إلى الباب وجدت قائمة بأسماءهن.. كان من بينهن نساء من أهلي!

فتحت الباب أسأل عن قريباتي، فلم أجد سوى أربعة نسوة قلن لي البقية غادرن متعجلات.. أخبرتهم أني وحيدة في خيمتي وجئت أنضم إليهن فأكرمنني وضيفنني وتبادلنا أطراف الحديث بودٍ أخوي يطفر من قلوبنا قبل أفواهنا..

كانت بينهن امرأة كبيرة في السن، بدأت تحدثنا وتعظنا، أعطيتها سمعي احتراماً ثم أعطيتها تركيزي إعجاباً وتعطشاً للمزيد..

تعودت أن أسمع من النساء في هذا السن ما يخرج من قلوبهن النقية، ويكون حديثاً بسيطاً لا يرتكز على علم شرعي كبير، لكن هذه المرأة أذهلتني بغزارة علمها.. فلم تكن تحدث حديث النساء العاديات، بل حديث أهل العلم..

سمعت إحداهن تناديها أم سعيد، فنُقش اسمها في ذاكرتي، ولم أحفظ من أسماء الحاضرات غير اسمها..
ودعتهن عصراً، ذاهبة للرمي، وكن هنّ أيضاً يوشكن على الخروج..

وخرجت مع زوجي، نمشي خلف من تبقى من رجال الحملة،
كان السير إلى الجمرات، لذيذاً بمعنى الكلمة.. وكان يسيراً وأقل إزدحاماً، لم أشعر أبداً بالتعب، بل شعرت باللحظات حتى جاء في نفسي أن هذا أجمل مناسك الحج..

كان الوقوف للدعاء، مولين وجوهنا القبلة، مستشعرين أن الكعبة قريبة، فقط تحجبها الجبال، كل منا في مناجاة عميقة لرب العالمين، نرفع أكف الذل والضراعة، مقبلين بإنابة، نسأله الغفران والقبول، نبث إليه الشكوى، ونبكي حالنا وتقصيرنا..
وكان ذلك في وقت الأصيل، والشمس أهون ما تكون، والسماء صافية، منظر روحاني يزيدك خشوعاً..

من الجمرات، مشينا إلى السوق في العزيزية، وصلينا في مسجد الشيخ عبدالعزيز بن باز، ومن ثم ركبنا سيارة أجرة تأخذنا إلى الفندق.
وهنا تلقى زوجي اتصالاً من ابن الخالة مريم: "أمي تسلم عليك وتقول أحضر زوجتك عندنا، لا تتركها وحيدة."

تبسمنا ابتسامة كبيرة من رقة قلب هذه السيدة، كانت كل مرة تذهلني أكثر بطيبة قلبها وحنانها

وصلت الفندق، في فرحة عامرة أبدتها الخالة مريم غير مصدقة أنها تراني من جديد
-رجعتِ! حسن ما عملتِ جزى الله زوجك المطيع خير الجزاء
- رجعت أودعكم يا خالة قبل أن تسافروا لأني لن ألحق عليكم، سأعود أبيت في منى

ودعتهن والقلب يتفطر ولا أنسى أبداً مشاعر الأخوة التي كانت بيننا، حديثنا الودي، خوفهن علي، وشدهن على يدي في المشي اهتمامهن بصحتي، وخوفهن وتفقدهن لحالي، كن خير ونعم الصحبة..

يتبع

عطاء دائم
08-04-20, 08:27 AM
https://g.top4top.io/p_1677126961.jpg

حكاية_العهد_الجديد

(١٠/١٠)
الثالث عشر من ذي الحجة

ليلة الثالث عشر من ذي الحجة، توجهت إلى منى في وقت متأخر، فوجدت المنظمين قد أخلوا خيامنا وجمعونا على اختلاف حملاتنا في خيام قريبة من بعض.
أعطتني المشرفة الحرية في اختيار أي خيمة أدخلها، فدخلت أول خيمة رأيتها، وكان الظلام فيها شديداً تسللت بهدوء أحاول عدم إزعاج النائمين، ونمت فوراً..
في الصباح، فتحت عيني أتفحص من معي في الخيمة، وجوه جديدة، رحبت بي ودعتني إلى تناول الفطور معها..جلست إليهن ثم وصلتني رسالة من زوجي:“ أم صديقي محمد معكم غير متعجلة، ابحثي عنها وتعرفي عليها..كنيتها أم سعيد”

شعرت بأن طلب زوجي تعجيزي، فكيف لي أن أعثر على امرأة من بين الكثير من النساء، هل يعقل أن أدخل خيمة خيمة أسأل: “هل بينكن أم سعيد؟” على الأقل لو أعرف اسم حملتها، فكرت وتخيلت، ماذا لو جمعتني بهذه المرأة صدفة؟ مثلا تكون معي حالياً في هذه الخيمة؟ أخذت أقلب النظر في الوجوه واتفحص،
“لا، ليست السيدة التي دعتني لتناول الفطور، ولا أظنها أبداً من تلك المجموعة التي ما تزال نائمة..”
وفجأة تذكرت.. أليس هو ذات الاسم الذي نُقِش في قلبي البارحة .! تلك السيدة…..
راسلت زوجي فوراً بالمعلومات التي عندي حول المرأة، لهجة كلامها، من يحج معها..فكانت الإجابة: “نعم هي..”
لامستني مشاعر من فاز في لعبة أو حل لغزاً حتى إني لم أشعر بنفسي وأنا ألملم أغراضي وأخرج في الممر أتلفت يمنة ويسرة لعلي ألمح صحبة الأمس، وفعلا لمحت إحداهن من بعيد، دخلت خيمتهن فاستقبلوني بالترحيب الحار: “ابنتنا.. أين أنت كنا نبحث عنكِ..” شعرت بالخجل من هذا الترحيب، سلمت عليهن، وجلست ثم وجهت السؤال لأم سعيد..
“يا خالة، هل أنت أم محمد الفلاني؟” وشعرت بالذهول وربما الخوف أن أصاب ابنها مكروه لأني لم أناديها باسمها المعروف..
قلت لها أنا زوجة صديقه، عرفتني وأخذتني بالأحضان وشرعت تسأل عن حال زوجي وأهله، والنساء من حولنا في ذهول، فأخبرتهم أن هذا لطف من رب العالمين، فاللطيف سبحانه دبر كل هذا ونحن لا نشعر، وهذا ليس أول لطف منه في هذه الرحلة..

قضينا الوقت معاً في السمر، وإعداد وجبات لإطعام الحجيج، ثم حضرنا معاً خاطرة إيمانية تلقيها إحدى الواعظات..ثم انطلقنا لرمي الجمرات..

كان كل شيء هذا اليوم يدعو للتأمل، فقد تعجل أكثر الحجيج، وصارت معالم المناسك واضحة بل إن القطار فارغ إلا منا..
تأملت مخيمات منى، كم هي كبيرة..مدينة كبيرة، عمرت بالحياة أياماً معدودة واليوم ستعود مهجورة..
انتهينا من الرمي والقلب يتفطر يتمنى لو زادت أيامه، يتمنى أن يعيش هنا أكثر..

ولم يتبق من رحلتنا هذه سوى طواف الوداع، طفنا نستغفر وندعوا بالقبول، وختمنا الطواف بركعتين كان فيهما نحيب طويل..


SEO by vBSEO 3.6.1