الصندوق الأسود
03-09-21, 09:26 AM
اعتاد رائحة المستكة ، واللبان ، والبخور المغمور بالوهم ، فهذه جلسة خميسية قبل غروب الشمس ،،
يلاحظ تمتماتهم ، وتمايلهم المصطنع ، ويفهم أن هذا كله تمثيل ودجل ، فمشاعرهم باردة .. برودة زجاج المستشفى الكبير وسط البلد حيثُ يُلصق وجهه بالزجاج ليراقب الجالسين في الجهة المقابلة ، والذين تبدو عليهم عاهاتٍ ، لم يدرك لمَ هو معهم !
· رقم ( 65 ) .. منذ ثلاث سنوات ورقمهم في ترتيب الدخول ( 65 ) لم يذكر اسمه مرة واحدة .. ولم يسمع أسماء البشر في هذا الممر المزروع بالزجاج الكاتم .. فقط أرقام !
تدلف أمه من الباب وهي ممسكة بيده وتبدأ دون مقدمات بإعطاء الطبيب – نعم أعرف أنه طبيب ، لكنه من نوع خاص – ملخص الشهر ، وأعرف تفاصيل كلامها وحتى التفاصيل التي نستها ، لكنها للأسف ترى التفاصيل من زاوية أخرى غير التي أراها ، تُفسّر ( كل ) المشاهد بشكل غير طبيعي وغير منطقي ..
لا ينظر لي الطبيب ، ولا يلتفت حتى نحو جهتي ، حتى أني أحرّك يدي باتجاهه لأشعره بوجودي ، فتقفز أمي مشيرة إلي وتقول : هاه شوفت يا دكتور !
شاف إيه ؟ وماذا اكتشفت أمي في حركتي هذه من دليل لإثبات ما أنا فيه ؟
العالم كله يتحرّك نحوي باتجاهـ غير صحيح ، ابتسامات الناس السامجة ، ومسحة أيديهم على رأسي تشعرني بالقرف من المجاملات العابرة ..
أدركتُ منذ سنوات أنهم يتحدثون عني كثيراً ، ثم بدأ هذا الحديث يقلّ .. والآن يتجاهلون وجودي .. إلا أمّي !
فأنا قضيتها الكبرى ، وشغلها الشاغل .. لم تترك برّا ولا فاجراً إلا وزوّرتنا مكانه ، سواء كان في كهف أو مسجد أو حتى خرابة ، إلى أن أقنعها خالي المتأمرك بإعمال العقل والمنطق وترك حالتي – نعم حالتي – للطب والتجربة ، فبدأ مشوار الدكاترة ، ومن عيادة لمستشفى ..
كل هذا لأجل ماذا ؟
أنا إنسان عادي ، على الأقل أشعر أني عادي .. لكن دائرة البشر حوّلي تلفّ باتجاه، غير صحيح من ناحيتي ،
أقف أمام المرآة فلا أرَ فرقا بيني وبين بقية أقراني ..
أتحرك مثلهم ..
ورغم أني لم أدخل المدرسة ، لكني أدرك مثلهم .. وأفهم مثلهم ..
لماذا لم أدخل المدرسة !
كنتُ أتمنى أن يكون لي دفاتر وأقلام وكراريس .. مثل أخي ، أخي الذي سفّروه إلى بلدِ أخرى ليعيش بعيدا عني حتى لا تنتقل العدوى !
لما دخلتُ مرحلة البلوغ ، انتشر الخبر بسرعة ، وكأن بلوغي مرحلة تأريخية !!
وأصبحتُ خطراً حقيقياً على كل أنثى ، لذلك تلاشت من أمامي ومن حولي كل الإناث .. وفجأة لم أستطع النظر لبنت الجيران ، ولا حتى أختي المتزوجة !!
رغم سوء الأمور وضبابية الموقف ، وضياع الأسباب ..
كانت عجلة الحياة ماشية ..
حتى جاء ذاك اليوم الذي قررتُ فيه أن أتكلّم ، أعبّر عن رأيي فيما يحدث .. : انتو ليه تعملوا كذا ؟ أنا إنسان عادي .
تدرّبت على هذه الجملة فترة طويلة ، لم يكن تدريبي للنطق لكن للموقف ، لأني ولأول مرة سأبدأ معهم حديثاً ..
فأنا طوال 25 سنة مستمع ،
اغتنمت اجتماع العائلة الكريمة ، ووقفت بينهم .. وفعلا سألتهم : أنا شخص عادي ، انتو ليه تعاملوني وكأني مختلف ؟
أنا قلت هذه الجملة أم لم أقلها !
تغيرت كل خطوط الطول والعرض في حياتي .. فجأة لفّوني بشرشف ثقيل ، ووالدي يقرأ الفاتحة وينفخ ، وأمي انهارت ، ولم أشعر إلا ببرودة المكان فعلمتُ أني في المستشفى إياها .. أم زجاج ثخين ..
وقد أجمع الأطباء التسعة أن حالتي وصلت إلى مراحل ( صعبة ) ! ولابد من الحجر ، والتدخّل الكيميائي والعضوي والنفسي و .. الخ من قائمة الفزلكات الطبية .
وكانوا فعلا جادين في التدخلات إياها ..
وكلما حاولت ( التعبير ) كلما زادوا الجرعات .. وازداد الهلع في ملامح قسم الكونسولتو كلو ، حتى أنهم قرروا أن حالتي فريدة من نوعها .. فأصبحتُ بسبب – ندارة حالتي – أنموذجا مختبرياً لكل الوفود الطبية الزائرة ، هذا غير طلاب وطالبات الدكتوراه والماجستير ،
وللحقيقة كانوا محترمين معي جدا ، صحيح حذرين .. ويتواجدوا معي بصحبة حماية وحرس ! لكني وجدتها فرصة للتعرف على ملامح البشر .. وأصبحتُ أمارس هواية التعبير مع كل وجه ..
فكلما دخل عليّ وجه جديد .. أبدأ معه بتعبير أشعرُ أنه يناسبه ، فتختبص الغرفة بمن فيها ، والمختبر المجاور ، وتشتغل الأقلام تسجيلاً ، وأسمع هناك مشادّة بين الأطباء .. فهم منقسمون بين مؤيد ومعارض ، فهناك من يقول حرام عليكم تجعلوه كفأر المختبرات ، والآخرون يقولون في سبيل العلم كل شيء ممكن .. ويبدأ سيل الفلسفات والقيم والفتاوى ..
كل هذا لأني تكلّمت ،
أو بالأصح حاولتُ أوصل فكرتي للآخر ..
قد أكون فقدتُ جزءً من الحرية ، لكني عرفتُ أن لي صوتاً ، صحيح صوتي سبب البلاوي المتعاقبة .. لكنه صوتي ، ولم أطالب بشيء أكثر من معرفة سبب تعاملهم معي بشكل مختلف ،
كيف لو طالبتهم بقائمة الحقوق التي شرعها الله لي !
ماذا لو قلت أريد أتعلّم ، ألعب ، أتزوج ، … الخ
و .. ماذا لو اشتكيت ؟
لو صرخت وقلت : تعبت !
،،
،
الناس ينظرون إلينا من ثقب إبرة ، لا يرون إلا جزء متناهي في الصغر من شخصياتنا ، ولا يريدون أن يروا أصلا إلا هذا الجزء ..
،،
التعبير هو الوجه القبيح الذي يقلبهم علينا ..
،،
دائما التأخر في المواجهة والتعبير يعقّد الأمور ، ويقنع الآخرين أننا كما يظنون ،،،
،،
إذا سلّمت نفسك للآخرين .. ستكون في النهاية فأر أو قرد تجارب – حسب حجمك وقدراتك – !
،،
لا تتعوّد الصمت .. تكلّم مباشرة ، وأبدي رأيك ، .. نعم ، لا تكن متعجلاً فتندم .. لكن لا تسكت ..
،،
لا تظن دائما أن الخطأ في الآخرين ..
وأن من حولك لا يفهموك ..
فقد تكون أنت غير المفهوم ، ودورانك عكس دوران البشر ..
،،
،
الصندوق الأسود ،
يلاحظ تمتماتهم ، وتمايلهم المصطنع ، ويفهم أن هذا كله تمثيل ودجل ، فمشاعرهم باردة .. برودة زجاج المستشفى الكبير وسط البلد حيثُ يُلصق وجهه بالزجاج ليراقب الجالسين في الجهة المقابلة ، والذين تبدو عليهم عاهاتٍ ، لم يدرك لمَ هو معهم !
· رقم ( 65 ) .. منذ ثلاث سنوات ورقمهم في ترتيب الدخول ( 65 ) لم يذكر اسمه مرة واحدة .. ولم يسمع أسماء البشر في هذا الممر المزروع بالزجاج الكاتم .. فقط أرقام !
تدلف أمه من الباب وهي ممسكة بيده وتبدأ دون مقدمات بإعطاء الطبيب – نعم أعرف أنه طبيب ، لكنه من نوع خاص – ملخص الشهر ، وأعرف تفاصيل كلامها وحتى التفاصيل التي نستها ، لكنها للأسف ترى التفاصيل من زاوية أخرى غير التي أراها ، تُفسّر ( كل ) المشاهد بشكل غير طبيعي وغير منطقي ..
لا ينظر لي الطبيب ، ولا يلتفت حتى نحو جهتي ، حتى أني أحرّك يدي باتجاهه لأشعره بوجودي ، فتقفز أمي مشيرة إلي وتقول : هاه شوفت يا دكتور !
شاف إيه ؟ وماذا اكتشفت أمي في حركتي هذه من دليل لإثبات ما أنا فيه ؟
العالم كله يتحرّك نحوي باتجاهـ غير صحيح ، ابتسامات الناس السامجة ، ومسحة أيديهم على رأسي تشعرني بالقرف من المجاملات العابرة ..
أدركتُ منذ سنوات أنهم يتحدثون عني كثيراً ، ثم بدأ هذا الحديث يقلّ .. والآن يتجاهلون وجودي .. إلا أمّي !
فأنا قضيتها الكبرى ، وشغلها الشاغل .. لم تترك برّا ولا فاجراً إلا وزوّرتنا مكانه ، سواء كان في كهف أو مسجد أو حتى خرابة ، إلى أن أقنعها خالي المتأمرك بإعمال العقل والمنطق وترك حالتي – نعم حالتي – للطب والتجربة ، فبدأ مشوار الدكاترة ، ومن عيادة لمستشفى ..
كل هذا لأجل ماذا ؟
أنا إنسان عادي ، على الأقل أشعر أني عادي .. لكن دائرة البشر حوّلي تلفّ باتجاه، غير صحيح من ناحيتي ،
أقف أمام المرآة فلا أرَ فرقا بيني وبين بقية أقراني ..
أتحرك مثلهم ..
ورغم أني لم أدخل المدرسة ، لكني أدرك مثلهم .. وأفهم مثلهم ..
لماذا لم أدخل المدرسة !
كنتُ أتمنى أن يكون لي دفاتر وأقلام وكراريس .. مثل أخي ، أخي الذي سفّروه إلى بلدِ أخرى ليعيش بعيدا عني حتى لا تنتقل العدوى !
لما دخلتُ مرحلة البلوغ ، انتشر الخبر بسرعة ، وكأن بلوغي مرحلة تأريخية !!
وأصبحتُ خطراً حقيقياً على كل أنثى ، لذلك تلاشت من أمامي ومن حولي كل الإناث .. وفجأة لم أستطع النظر لبنت الجيران ، ولا حتى أختي المتزوجة !!
رغم سوء الأمور وضبابية الموقف ، وضياع الأسباب ..
كانت عجلة الحياة ماشية ..
حتى جاء ذاك اليوم الذي قررتُ فيه أن أتكلّم ، أعبّر عن رأيي فيما يحدث .. : انتو ليه تعملوا كذا ؟ أنا إنسان عادي .
تدرّبت على هذه الجملة فترة طويلة ، لم يكن تدريبي للنطق لكن للموقف ، لأني ولأول مرة سأبدأ معهم حديثاً ..
فأنا طوال 25 سنة مستمع ،
اغتنمت اجتماع العائلة الكريمة ، ووقفت بينهم .. وفعلا سألتهم : أنا شخص عادي ، انتو ليه تعاملوني وكأني مختلف ؟
أنا قلت هذه الجملة أم لم أقلها !
تغيرت كل خطوط الطول والعرض في حياتي .. فجأة لفّوني بشرشف ثقيل ، ووالدي يقرأ الفاتحة وينفخ ، وأمي انهارت ، ولم أشعر إلا ببرودة المكان فعلمتُ أني في المستشفى إياها .. أم زجاج ثخين ..
وقد أجمع الأطباء التسعة أن حالتي وصلت إلى مراحل ( صعبة ) ! ولابد من الحجر ، والتدخّل الكيميائي والعضوي والنفسي و .. الخ من قائمة الفزلكات الطبية .
وكانوا فعلا جادين في التدخلات إياها ..
وكلما حاولت ( التعبير ) كلما زادوا الجرعات .. وازداد الهلع في ملامح قسم الكونسولتو كلو ، حتى أنهم قرروا أن حالتي فريدة من نوعها .. فأصبحتُ بسبب – ندارة حالتي – أنموذجا مختبرياً لكل الوفود الطبية الزائرة ، هذا غير طلاب وطالبات الدكتوراه والماجستير ،
وللحقيقة كانوا محترمين معي جدا ، صحيح حذرين .. ويتواجدوا معي بصحبة حماية وحرس ! لكني وجدتها فرصة للتعرف على ملامح البشر .. وأصبحتُ أمارس هواية التعبير مع كل وجه ..
فكلما دخل عليّ وجه جديد .. أبدأ معه بتعبير أشعرُ أنه يناسبه ، فتختبص الغرفة بمن فيها ، والمختبر المجاور ، وتشتغل الأقلام تسجيلاً ، وأسمع هناك مشادّة بين الأطباء .. فهم منقسمون بين مؤيد ومعارض ، فهناك من يقول حرام عليكم تجعلوه كفأر المختبرات ، والآخرون يقولون في سبيل العلم كل شيء ممكن .. ويبدأ سيل الفلسفات والقيم والفتاوى ..
كل هذا لأني تكلّمت ،
أو بالأصح حاولتُ أوصل فكرتي للآخر ..
قد أكون فقدتُ جزءً من الحرية ، لكني عرفتُ أن لي صوتاً ، صحيح صوتي سبب البلاوي المتعاقبة .. لكنه صوتي ، ولم أطالب بشيء أكثر من معرفة سبب تعاملهم معي بشكل مختلف ،
كيف لو طالبتهم بقائمة الحقوق التي شرعها الله لي !
ماذا لو قلت أريد أتعلّم ، ألعب ، أتزوج ، … الخ
و .. ماذا لو اشتكيت ؟
لو صرخت وقلت : تعبت !
،،
،
الناس ينظرون إلينا من ثقب إبرة ، لا يرون إلا جزء متناهي في الصغر من شخصياتنا ، ولا يريدون أن يروا أصلا إلا هذا الجزء ..
،،
التعبير هو الوجه القبيح الذي يقلبهم علينا ..
،،
دائما التأخر في المواجهة والتعبير يعقّد الأمور ، ويقنع الآخرين أننا كما يظنون ،،،
،،
إذا سلّمت نفسك للآخرين .. ستكون في النهاية فأر أو قرد تجارب – حسب حجمك وقدراتك – !
،،
لا تتعوّد الصمت .. تكلّم مباشرة ، وأبدي رأيك ، .. نعم ، لا تكن متعجلاً فتندم .. لكن لا تسكت ..
،،
لا تظن دائما أن الخطأ في الآخرين ..
وأن من حولك لا يفهموك ..
فقد تكون أنت غير المفهوم ، ودورانك عكس دوران البشر ..
،،
،
الصندوق الأسود ،