المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل يبكي القمر .. !


لبلبوني
01-30-22, 01:59 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد جبينه عند دخوله ، وسريعاً تهجّتْ أعين التلاميذ سرّ ما زوى بين عينيه وحام وسطهما من كآبة ، وشعر كأنه على وشك الاختناق وقد حدث في هذه المرة ما لم يتوقعه وكان لا بد أن يحدث لتنفكّ عنه حومة الحزن ، ثم يخطو دونما مشقة يعاونه جسد نحيل لم يحظ بغذاء يليق بمعلم يشكو داء السكر ، يخطو إلى السبورة ليكتب التأريخ .
أدار رأسه نحوهم ثم أخذ يدير قلم السبورة في يديه مرة تلو مرة وهو يقول :
" لم أعد أرى في السماء شيئاً يميّزها البارحة !!"
فاتّضح لتلميذ من تلاميذه متّقد الذكاء وقد تمدّد عنقه إلى معلمه بكل فضول .. اتّضح له أنه القمر فقال :
" نعم وأنا مثلك يا أستاذ "
فأطرق قليلاً وسرعان ما وثبتْ إلى ذهنه كلمة البارحة ثم تابع :
" بل في كل شهر يختفي مرة واحدة ، أي في السنة الواحدة اثنتا عشرة مرة يا ترى إلى أين يذهب يا أستاذ ؟؟ "
استدار إلى وجه تلميذه وقد اشرأب رأسه إليه وقد ألهبته مرة واحدة فكيف باثنتي عشرة مرة .. ثلاث دقائق مرّتْ ولم يتفوّه بكلمة .. يضرب أخماساً بأسداس .. يعاني حزناً لا يطاق .. ماذا لو غاب مرتين أو ثلاث ؟؟ .. لقد غاضت بشاشته وطال صمته وشروده .. إنه يلفت النظر إليه ، يتحرك التلاميذ كلما تحرّك وفي لحظةٍ ما يأوون مثله إلى السكون كلما سكن في زاويةٍ يدسّ في عينه الدّمِعَةِ ما يكفي لتبليل منديله .
وبينما هو في صدام مع نفسه بدأ سؤالٌ آخر يعترضه :
" ولمَ شكله يتغيّر ثلاث مرات ، نراه في أول الشهر باسماً ثم يختفي ثغره في أوسطه ومن ثم يعود لنا بثغرٍ عابس ، يا ترى ما السرّ في ذلك يا أستاذ ؟؟!! "
قال وأنفاسه تتهدّج :
" لا بأس ، أجيبك الآن ، قمري... "
تلعثم قليلاً ثم تابع :
" أعني قمرنا له ثلاثة أوجه ، تماماً كوجوهنا بيد أننا خلقٌ متفرّد وأيّ تفسير يلحقنا بغيرنا من المخلوقات تفسيرٌ باطلٌ من أساسه ، نعم فالأول نراه لأول مرةٍ يافعاً لذا لا تستغربوا أن يكون باسم الثغر وقد ظهرتْ على وجهه ملامح الصبا فأظهر علينا حسنه .. سكت برهةً وهو يحدث نفسه فيها :
" يا إلهي .. ماذا سأقول لهؤلاء الذين أشبعوني حزناً و ... "
جثم السؤال كالجبل على صدره ، وكلما نظر إلى الذي أثاره يشكو سخونةً وألماً ودموع آهات لم تعد بها قدرة على الوقوف :
" يكفي يا ولد لم تعد بي قدرة على الإجابة "
" لِمَ ، ألستَ أستاذاً وتعرف كل شيء ؟ "
" نعم أعرف ولكني لا آمن في إجابتي على طفلٍ مثلك لا يملك كتمان أمرٍ ما فكيف بهذا الأمر!! "
والتقت أعين التلاميذ عند سؤالٍ يدور في رؤوسهم :
" ماذا يقول الأستاذ ؟؟ ... ما الذي أصابه ؟! "
ولكنهم أجمعوا من تلاقي نظراتهم على ألاّ يفارقهم إلاّ وقد استعلموا كُنْهَ إجابته تلك ، وأصرّوا على ذلك قبيل أن يطلب منهم إعفاءه منها حينما تفرّسوا في صوته نبرةً أيقظتْ أذهانهم ، وصوتهم يرنّ في أذنه :
" هيّا يا أستاذ تحدّث والأفضل أن تبدأ الحديث عن الوجه الأول الذي ذكرته من قبل ولم نفهم منه شيئاً ، فقد زدتنا شوقاً إلى النظر إليه الليلة"
ابتسم وقال :
" حسناً ، حسناً ... ولكن ينبغي لكم أن تفهموا أني أودّ ببساطة شديدة ألاّ تطيلوا النظر إليه مثلي لتناموا مبكرين ، أما من حيث وجهه الأول فقد أطفلتِ الشمس ذات يوم عند المغيب وقد بانت بعد إطفالها على خد السماء شفتان باسمتان وأتصوّر أنّ أناقتهما تبدأ من الابتسامة وقد أطبقت على فمها لكي لا نرى أسنانها التي نخرها السّوسُ فتخْجَلَ منّا ، هنا في هذه الصورة يسمى القمر ( هلال بداية الشهر ) ثم يتسلى هذا الهلال مع مرور الوقت وهو ينظر إلى وجوهنا بابتسامته المطلّة علينا بحنانها وعطفها إلى أنْ يشبّ ويصبح وجهاً نَضِرَاً هنا في هذه الصورة يسمى القمر ( بدراً ) وهو في أوسط الشهر يحمل نفس ملامح كرة الطائرة التي طالما صفعتها أنت بكفّ مبسوطة فهل تُراك شعرتَ بآلامها حينما تصفعها ؟! "
وهنا سعل المعلم سعالاً خفيفاً يتسرّب إلى آذانهم ولا بد وأنهم سينتبهون إلى آلام الكرة وقد وجدها فرصةً سانحةً له لأن يصف الوجه الثالث :
" أما الثالث فقد كَبُرَ ذلك الوجه النضر حتى أفقده هذا التقدم في العمر الحيوية والسعادة بالإضافة إلى تلك الصفعة ثم اختفى أثر الابتسامة من على وجهه فظهر لنا بوجهٍ عابسٍ هنا في هذه الصورة يسمى القمر (هلال نهاية الشهر ) فَشَعُرَتْ السماء بمآله وحزنه فحملته إلى صدرها وراحت تكفكف دموعه ولكن الوقت يضيق ..نعم يضيق .. الوقت يأمره بالرحيل فرحل .. نعم يا أبنائي رحل !! .. ولم يكن في تلك اللحظة قادراً على البوح وها أنا بدلاً عنه أبوح !! "
مضتْ أعين التلاميذ تتطلّع إلى عينيه وقد جذبها بريقهما حينما اصطدم بوحه بما آمن به من قدرٍ ألَمّ به فرفرفتْ حمائم الدمع أمامهم تزفّ في وجهه ابتسامةً دافئةً تورِقُ وفاءً لقمره فسأله أحدهم :
" لِمَ تبك يا أستاذ ؟! "
ردّ عليه مستنكراً :
" أنا ؟؟ "
فرأى في نظراتهم إليه ما يوحي بذلك ويؤكّده فاستعاد صحوته ثم بابتسامةٍ أدفأ من الأولى قال :
" إنه بكاء القمر !! "
لم يطل المعلم الحديث حتى رُنّ الجرس منذراً بانتهاء الحصة ففتح الباب وقد رُسِمَتْ على وجوه تلاميذه علامات تعجّبٍ ، ربما خطر لهم أن يسألوه في الحصة القادمة عن بكائه .


لبلبوني

عطاء دائم
01-30-22, 07:25 AM
قصة جميلة وذات معنى كبير
يعطيك العافية اخي
يختم ل3 ايام مع التقييم

خفايا الطيف
01-30-22, 09:09 AM
كل الشكر والتقدير لك يا رائع

تمرد ذكرى
02-03-22, 03:27 AM
قصه عميقه وجميله
يعطيك العافيه

عدي بلال
02-10-22, 07:48 PM
القدير لبلبوني

نص فاخر أخي، واللغة السامقة تكشف عن هوية هذا القلم المتمكن بلا ريب.
النص اعتمد على الحبكة المتصلة السردية ، بلسان الراوي العليم.
والبيئة المكانية التي اخترتها ( المدرسة ) والشخوص ( التلاميذ ) كانا موفقين، متناسبين مع خط سير السرد.
راق لي هذا التفاعل بين الشخصية الرئيس ( المدرس،) والتلاميذ ( الشخصيات المساعدة )
والفلسفة النازحة للشاعرية لدى المدرس.

التدخل من الروائي كان حاضراً، يطل برأسه ثم يتوارى خلف الراوي العليم.

أحببت الخاتمة التي اخترتها، فكأنما الحديث، والسر وراء بكاء المدرس بقي مفتوح التأويل لدى القارىء ( النهاية المفتوحة )

ما يميز هذا النص هو اللغة التي اعتمد عليها القاص ( السردية ) التي تعوض تصاعد الحدث ( النقاش ورؤية المدرس )

استمتعت بوقتي هنا
وقلم ونص يستحقان الثناء والتقييم

كل التحية المبدع لبلبوني

لبلبوني
02-14-22, 07:21 AM
شكرا للجميع
شكرا عدي
لا أمثل أنملة من أصابيع صلاح الشهيد رحمه الله ثمانون عاما بحثا عن مخرج

أميرة الغيم
02-21-22, 10:50 PM
صراع بين معلم وتلامذته
في الحوار
والحديث
سمآآآء امطرت هنا


SEO by vBSEO 3.6.1