المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المشّاء..


جملة مفيده
03-22-22, 05:46 PM
مجموعة قصصية.. بقلمي.
بعضها قديم والآخر لم يُكتَب بعد :MonTaseR_43:

فرات الدين الحكيم.

جملة مفيده
03-22-22, 05:47 PM
مسيرة عمر..

كان في العاشرة من عمره حين رآهم أول مره يقفون على باب بيته الذي لا يسكنه الا هو وابيه، يمنعون البشر والهواء من الدخول والخروج اليه..
دخل احدهم وسأل: أين أبوك؟، فأجاب الصغير: خرج منذ الصباح ولم يعد للآن!! فوضع الرجل يده على رأس الطفل وقال: ان كنت تكذب سأدفنك وأبوك هنا.. تحت قدميّ، ومضى.
بكى الطفل طويلاً.. وتمنى أنه كبيرا ليرد عليه!!
وعندما عاد ابوه قال له: لا عليك يا بني.. هم يمازحونك.. وتركه ومضى.
بكى الطفل مرة أخرى .. وتمنى أنه كبير ليستوعب ما قاله أبوه.

كان في الخامسة عشر من عمره حين رآهم يكسرون باب البيت ، فدخل أحدهم وصفعه على وجهه وسأله بغضب: أين أبوك!؟ فأجاب الصغير: خرج منذ الصباح ولم يعد للآن!! فأمسكه الرجل وصرخ به: الن تقول لنا أين ذهب!؟ وضربه مرة أخرى..و مضى..
بكى الطفل كثيراً.. وتمنى أنه كبيراً.. ليرد الصفعات بألف صفعة!!
وعندما عاد أبوه قال له: لا عليك يا بني.. هم يمازحونك بقسوة..لن يعودو..ومضى.

كان في ريعان شبابه حين جذبوه من أمام بيته، ودفعوه داخله وضربوه بالهراوات و "البساطير" وهم يسألوه: اين ابوك يا ابن الكلب!؟ فقال: خرج منذ الصباح ولم يعد للآن،
-قل لنا اين ذهب ؟ - لا اعرف.. - تكلم يا ابن الحمار!! - لا اعرف..
ففقد الوعي.. واغتصبو كرامته ...ومضو..
وعندما عاد ابوه : حضنه بقوة وهمس في أذنه: لا عليك يا بني .. كانو يمازحونك..ولكنهم بالغوا في مزحهم قليلاً ..فتحمل.. تحمل يا بني! فلن يعودوا مرة أخرى.
وحينما استيقظ ابنه من صدمته..بكى كثيرا وتمنى أن يقتلهم..ويقتل ابيه قهراً!!

كان يمشي و ابنته الصغيرة في إحدى المسيرات على خط الطول الفاقد للعرض الوطني..حين اقتادوه الى المركز الأمني بلطف، في الطريق سمع كلاماً كثيرا: نحن مثلك نريد الاصلاح، نريد الأمان، نحن مثلك نرغب بالقضاء على الفساد، وحينما وصل قدمو له القهوة ولابنته بعض السكاكر والعصائر، نظر إلى كل الوجوه المحيطة به، شعر بأنه يعرفهم جميعاً، تذكرهم..وسرت القشعريرة في جسده .. وبكى..بكى كثيرا.. وتمنى أن يقتلهم.. ويقتل أبيه..ويقتل وطنه.. ويموت!!

حكيــم.

جملة مفيده
03-22-22, 05:49 PM
عمى..

كان يحبها، يحمل حقيبته ويأخذ ركناً محاذيا لبوابة مدرستها فيراقبها من بعيد ، كانت جميلة جدا.. ازداد بريق جمالها حينما زارها بعض من برد الصباح على خديها فزاد توردها..
اقتربت منه وحدق النظر فيها لعلها تستعطفه ببسمة أو كلمة أو نظرة، ولكنها مضت بدون شيء، فأخذ رشفة من الحسرة ومضى تملأه كل الأشياء.

كان يحبها، يمسك قهوته الباردة ورسالة غرامية كتبها ألف مرة منذ أن رآها المرة الأولى، ويأخذ ركناً قريبا من بوابة مدرستها ليتأملها من بعيد، كانت تتعثر كطفلة ألهبها الشوق للجري وتكاد تقع، تميل بها الرياح فتجلس على الأرض حائرة إلى أين تمضي فتتساقط منها دمعتان ويتمنى أن يركض إليها فيحملها، فتقف مرة أخرى وتقترب منه ويحدق بها لعلها تستعطفه بنظرة، ولكنها تمضي بدون شيء، فيأخذ رشفة من قهوته وحسرته ويمضي مملوءا بكل الأشياء.

كان يحبها، يمسك قهوته الباردة ورسالة غرامية قديمة كتبها منذ أن رآها في المرة الأولى ، يأخذ ركناً قريبا من مكان عملها ليتأملها قادمة من بعيد، ازداد وزنها لكنها ما زالت جميلة جدا، تحمل بين ذراعيها باقة ورد كبيرة وتمشي متثاقلة الخطى، تمنى للحظة أن هذه الورود له، أغمض عينيه وحلُم بها تهديه الورد وتراقصه ويطبع قبلة صغيرة بين عينيها ويحملها إلى حيث تريد.
اقتربت منه ومشى أمامها وهو يحدق بها بإمعان لعلها تستعطفه بنظرة أو ببسمة أو كلمة، ولكنها مضت بدون شيء، فأخذ رشفة من قهوته وحسرته ومضى تملؤه كل الأشياء.

كان يحبها، خبأ بعض الشيب الذي غزى جانبي رأسه وأمسك بقهوته ورسالة قديمة كتبها قبل سنين، يأخذ ركناً قريبا من باب مكتبها ليتأملها وهي قادمة من البعيد القريب، ما زالت جميلة، كانت تبتسم ورأسها بالأرض وتفكر بعمق، اقتربت منه فأشار إليها بيده كتائه يبحث عن عنوان لعله يتكلم معها فتستعطفه بنظرة أو ببسمة طال انتظارها، ولكنها مرت أمامه بدون أي شيء، فأخذ رشفة من قهوته وبعض من وجعه ومضى تملؤه كل الأشياء.

كان يحبها، حمل عصاه لتعينه في المسير، وأمسك ببقايا رسالة قديمة كتبها منذ عشرات السنين، جلس على كرسي الانتظار أمام مكتبها ليتأملها وهي قادمة من القريب القريب، ما زال فيها مسحة من جمال قديم ، اقتربت منه فتمنى بألم أن تستعطفه بنظرة أو بسمة أصابتهما الشيخوخة معه، فوقف واصطدمت به، تمتمت : المعذرة اني عمياء!!
ابتسم..وحمل بعضاً منه.. ومضى!

حكيــم..

جملة مفيده
03-22-22, 05:51 PM
إمرأة ورجلين.

المرأة العجوز تجهز الشاي وتمضي إلى غرف أبنائها، تتجاوز الممر وتكاد أن تتعثر فتتكئ بيدها الأخرى على الحائط وتأخذ نفسا عميقا وتتابع طريقها..
تقرع باب ابنها الثلاثيني فلا يجيبها .. فتقف قليلا على باب غرفته ثم تمضي إلى غرفة أخيه الصغير وتقرع الباب مرتين ولا يجيبها أيضا.. وتقف قليلا على باب غرفته وتمسك مقبض الباب فينفتح، تنير ضوء غرفته فلا تجده في سريره فتضع إبريق الشاي على طاولته وتفتح نافذته وتمعن النظر من خلالها إلى الطريق.. لعله قادم .. لعله قريب.. ولا ترى شيئا.. فتأخذ كرسي خشبي وتجلس قرب النافذة تراقب الطريق.
مرّ ساعتين والمرأة العجوز تنتظر، وكان قلبها يتقطع في كل لحظة تمر ولم يأتي ابنها فيها.. فهو لم يتعود التأخر إلى هذا الوقت..
تخيّلت كل شيء ووضعت كل الاحتمالات وكان أسوأها أن يكون قد أصابه مكروه!! وكلما فكرت بهذا الاحتمال تضع رأسها بين كفيها وتبكي !!
المرأة العجوز تخرج من غرفة ابنها الصغير وتذهب إلى غرفة أخيه فتقرع الباب بقوة : ” استيقظ.. أخوك للآن لم يعد.. استيقظ يا بني أرجوك!! ” فلم يجبها.. وبكت بمرارة وحزن وعادت إلى مقعدها وفي كل مرة تنوح بجنون أكثر.. ” أين أنت؟ عد يا بني .. ما الذي أخرك.. هل أنت بخير!! “
المرأة العجوز يطول انتظارها، وبدأ الشك يصبح يقينا أن هناك مكروه أصاب ابنها الصغير حينما أشرقت الشمس ولم يعد ، فأنهكها الخوف والإرهاق والحزن والحسرة وهي لا زالت جالسة على مقعدها، فأقرّت في نفسها أن عليها أن توقظ ابنها، فتحاول أن تقف ولا تستطيع.. تحاول أن تناديه فلا تستطيع..تحاول أن تصرخ فلا تستطيع!! فرمت نفسها على الأرض وقررت أن تزحف إلى باب غرفة ابنها، وضعت ذراعيها أسفل بطنها وأخذت تزحف ، أصابها التعب وأكملت بكائها بحرقة وأرادت أن تأخذ قسطا من الراحة، فأوجعها قلبها على ابنها أكثر، واستمرت بالزحف !!
المرأة العجوز تقطع نصف المسافة زحفا ، وتنظر إلى باب غرفة ابنها وتتمتم بحزن : يا إلهي ما زلت بعيدة!! فدفعت نفسها وهي منهكة إلى أن وصلت، كانت تلهث بشدة، حاولت أن تتعربش على الباب لتقف فلم تستطع، حاولت أن تطرق الباب ولم تستطع، حاولت أن توقف نزيف دموعها ولم تستطع.. حاولت أن تنسى ابنها الضائع للحظات لكي تأخذ قسطا من الراحة..فلم تستطع!!
المرأة العجوز تجاعيد وجهها ما عادت تحتمل كل هذا الحزن.. فأخذت تغمض عينيها .. وتحلم “بولديها” وتموت على مهل!!

حكيــم.

جملة مفيده
03-22-22, 05:53 PM
حالة أمل أو موت..

كان يحلم بالخضرة وامرأة جميلة وباتساع الأفق...
استيقظ فجأة على صوت نواح, يا ترى ما الذي حدث؟؟وما النائبة تلك التي أيقظته من حلمه الجميل؟؟
أسرّ لنفسه انه لن يقوم بل سيتابع نومه لعل للحلم بقية .....وما كاد أن يعود إلى حلمه حتى سمع النواح من جديد...
فتح عيناه بدهشة وتمتم (يا ترى ما الذي يحول بيني وبين حلمي)؟
وأخيرا قرر أن يتغلب على نعاسه ولذة الحلم الباقية بين جفونه فانتفض من فراشة ووتوقف..مشى خطوتين وقد انتهى صوت النواح..
همس لنفسه : الحمد لله اذن سأعود لإكمال حلمي !!
بينه وبين نفسه كان يعرف أن هناك خطب كبير ولكنه خشي أن يعرف ما الذي يدور في الخارج..
عاد إلى فراشه وأغلق كل المنافذ التي قد توصل إليه أي صوت.
حاول أن ينام وقد وضع كل الاحتمالات : أبي مات... أو أمي ...أو قد يكون أخي !!لا...قد أكون أنا متّ!! أمعقول إنني متّ!!؟
وأخذ يفكر بعمق : يا ترى منّ منّا قد مات!؟
للحظة أراد ان يخرج من غرفته ويسألهم عمّا يدور في الخارج ولكنه خشي من يوم جديد كئيب فيه أبيه قد مات..أو أمه قد ماتت ...أو هو قد مات!!
فعاد إلى نومه مرددا: قد أصحو بعد قليل ويكون كل شيء على ما يرام فأخسر دفء هذه الليلة وحلمها..
فأغلق عينيه ونام..... على أمل.

حكيم..

جملة مفيده
03-22-22, 05:54 PM
بوسة..

في ذلك الشارع ركن قد يتسع لنا.. او قد لا يتسع، لا يهم.. المهم أن يحمينا من كل هذا المطر!
حبيبتي لا ترمقيني بنظرة شك هكذا، هو المطر فقط.. المطر يبللنا، ضعي يدك في يدي وتعالي.. هناك إلى ذلك الركن!
سأشتري لنا بعض "البوشار"، أنظري انه ساخن.. والدخان يتصاعد منه!
البوشار في الشتاء يملأ الأجساد حرارة.. أحبه جدا، بل آكله يومياً!!
ماذا؟ لا تحبي البوشار؟! وانا أصلاً أكرهه جداً.. أصلاً البوشار مصنوع من الذرة.. وأكره الذرة حبيبتي.. نعم أكرهها.. سأشتري لنا سندويشتين فلافل بشطة حارة... الشطة تعطينا دفئاً!
حبيبتي هنا في هذه الزاوية لا أحد غيرنا، المطر ينهمر في الخارج وعلى سقف "الزينكو" الذي فوقنا، صوته موسيقي طروب اليس كذلك؟ أقصد صوت الزينكو حبيبتي وليس الأمطار، أحب هذه الأجواء.. مليئة بالرومانسية!!
صوته مزعج!؟ فعلا اشعر بذلك.. صوته مزعج جداً!!
حبيبتي... قولي لي كلمة حلوة!؟ لا لا.. غير كلمة بقلاوة! أصبحت هذه الكلمة قديمة.. قولي أحبك.. قولي حبيبي.. قولي الكلمات التي نراها ونسمعها في المسلسلات والافلام... أو هاتي يدك لأعانقها طويلاً.. فلا أحد يرانا يا حبيبتي... حتى المارين من الطريق لا ينتبهون لنا في زحمة الأمطار..
يدك ناعمة، هل تضايقك خشونة يدي؟ صحيح... لم تخبريني رأيك برائحة عطري.. أأعجبتك!؟ قد اخترته بعناية للقائنا هذا..
صغيرتي.. هاتي بوسه! على خدك فقط.. .. بوسه واحده.. واحدة فقط.. خاطفة.. أو بالهواء.. أي بوسه...
واحدة، بوسة واحدة فقط وسأكتب بك قصيدة، قصيدة طويلة، معلقة إن أردتي.. أو ديوان شعري، بوسه واحدة فقط.. أرجوك.. من أجلها اليوم ساعتين وانا أطرد برائحة البصل من فمي بعد عشاء الأمس، جلبت معطر فم ايضاً.. ودخل في فمي، واعاني الآن من نوبات مغص، وراسي يؤلمني واشعر باعياء شديد.. يقول الاطباء أن علي أن "أبوس" حبيبتي وسأشفى تماماً... ما رأيك حبيبتي... أأقبلك؟! قبلة واحدة.. واحدة فقط.. على يدك.. على رأسك.. بوسة هوائية.. أي بوسه.. أي شيء!! أخبرتك أني قد وضعت عطراً؟! نعم نعم..قد وضعت عطراً.. هو زيتي حبيبتي لكن رائحته قوية ولطيفة، تبا لك حبيبتي.. يبدو حتى عطري لم يعجبك..
حسناً حسناً.. هيا حبيبتي.. أكملي ساندويشتين الفلافل ولنعود إلى بيوتنا!

حكيم..

جملة مفيده
03-22-22, 05:55 PM
قصة حب..

تمسك الأم مقبضي كرسيها المتحرك وتقوده قريبا من النافذة، تنادي ابنتها لتفتحها لها بحثا عن نسمات هواء باردة.
تأتي الفتاة مسرعة فتداعب أمها بوداعة: ايتها العجوز لما لم تنادي علي لاقود الكرسي عنك؟! فتعانقها وتضع رأسها في حجر أمها وهي تتمتم: اللهم لا تحرمني من والدتي، فتبتسم الأم وتمسح بيديها على رأس ابنتها، ويغالبها النعاس فتنام.
*****
حديقة هادئة كبيرة تستظل الأم تحت أحد اشجارها، وفتاتها تقطف الورود، تنظر إليها الأم بسعادة وتتمنى بينها وبين نفسها أنها تستطيع الوقوف على قدميها، أن تسابق ابنتها، أن تحملها، أن تراقصها، أن تكون أم ككل الأمهات، إلا أن كرسيها المتحرك جعلها تشعر بالعجز، تشعر بأنها أم قعيدة لا شيء تستطيع أن تقدمه لابنتها.. فترفع يديها إلى السماء " يا رب" فتغالبها الدموع وتصمت.
مسحت الأم دموعها آملة بأن ابنتها لم تلاحظها، والتفتت اليها فلم تجدها، وأخذت بانظارها تلتفت إلى كل مساحات الحديقة فلم تلمحها.
- هل ذهبت لشراء شيء؟ من المؤكد أنها ستشتري شيئا!
هكذا حاولت الأم أن تطمئن نفسها على ابنتها رغم أنها تعلم جيدا أنها لا تخطو خطوة واحدة بدون أن تخبرها!
بدأ القلق يسري إلى الأم رغم كل محاولاتها لمنعه، وبدأت تنادي:
ابنتي.. يا ابنتي.. اين انت؟ سيحل الظلام قريبا.. تعالي.. قد تعبت.. يا ابنتي اين انت؟
الأم العجوز تقرر أن تسير بكرسيها المتحرك بحثا عن ابنتها، تسير به قليلا فتصطدم إحدى عجلاته بحجر ويتوقف، تحاول أن تحركه الأم بجسدها فلا تستطيع، وكلما حاولت أن تحركه أكثر تتساقط دموعها بغزارة أكثر..
تستسلم الأم لأقدارها وتمسح وجهها من دموع غزيرة ملأت وجهها وأنفها..
حل الظلام، و نحيب الأم وانكسار قلبها وقلة حيلتها تكاد أن توقف أنفاسها..
- ابنتي، اين انت، لا تقتليني، أرجوك يا الله هي وحيدتي يا رب، فتجهش الأم ببكاء هستيري وترمي بجسدها عن الكرسي على الأرض وتحبو..
بضع مترات هي فتستسلم الأم للأرض وتبلل التراب بدموع عينيها فتفقد وعيها و تنام..
*****
تستيقظ الأم فجأة من نومها، تنظر حولها وتبتسم:
هذه جدران الغرفة وهذه النافذة ما زالت مفتوحة... و هذه ابنتي.. نعم ابنتي ما زالت تضع رأسها في حجري..
كان كابوسا.. نعم هذه ابنتي لا زال رأسها في حجري!

حكيم..

جملة مفيده
03-22-22, 06:12 PM
انتحار

ذاك الرجل الواقف على الطلل ينظر في القاع إلى آخر لحظاتٍ من عمره.. تمنّى أنه شيخ ورع بثوب قصير كي لا يقفز قفزته الأخيرة ويموت.. لكنه شريكٌ مذنبٌ للحياة.
يضع يديه على رأسه فيقترب خطوة، فخطوتين، ويُغمِض عينيه ويتخيل نفسه يطير في الهواء، وفي تلك النقطة التي يكاد أن يصل فيها إلى مثواه الأخير يدعو الله أن تنتشله يد القدر فيسقط في الفراغ بدون الم.

ذاك الرجل الواقف على الطلل يصحو من حلمه ويبتسم ابتسامة المنتصر " للآن أنا على قيد الحياة، للآن لم انتحر"، فيأخذ شهيقاً ويتبعه بزفير وينظر خلفه لعل قطعة من الحياة تركض إليه فلا يجد، استفزه كل هذا الصمت، استفزه أن لا أحد يلحق به ليبكي بين يديه في لحظاته الأخيرة، ليعانقه عناق مسافر، فأغمض عينيه من جديد وعندما كاد أن يقفز تخيل أنه سقط فأمسكته حورية بحر تشكلّت على هيئة حبيبته الراحلة، أمسكته وأمعنت النظر فيه وبكَت عليه " حبيبي ماذا صنعت بك الحياة من بعدي؟" عانقته بشدة حتى كاد ان يسمع صوت عظامه.. فاستيقظ.

الرجل الواقف على الطلل جسمه يرتجف ويتصببُ عرقاً وقدماه ما عادت تحملانه، يتمتم بشفاه متلعثمة " أين ذهبَت؟ أين رَحَلَت؟ تُرى لو أقفز الآن هل حقاً ستلتقطني؟" يا لخيبة الأمل حينما نشعر أننا نمتلك أشياءً قد يحرمنا إياها -فجأة وبعد فوات الأوان- شيء واحد.. لعله الموت أو الحياة!
قرر أن يقفز بدون أن يغمض عينيه، أن يسلّم نفسه للريح فتضعه حيثما تشاء، لعله يسقط على صخرة فيموت، أو قد تكون بانتظاره فتلتقطه تلك الحورية - حبيبته- مرة أخرى، وقبل أن يمشي خطوته الأخيرة إلى الحافة تعثرت قدمه فوقع.

الرجل الذي كان يقفُ على الطلل لم تسعفه المفاجأة في أن يفكر بشيء، صرخ بصوتٍ عالٍ لحظة تعثره ووقوعه، وحينما كان القاع يجذبه إليه حاول أن يستجمع بعض الصور التي في مخيلته لعلها تنقذه في رحلة حياته القادمة او موته القادم، أبوه، والدته، لكنه راهن على أن تنقذه حبيبته، تلك الحورية حبيبته.. فينظر إلى الأسفل لعله يراها وهي تتهيأ لالتقاطه..
الرجل الذي كان يقف على الطلل يكاد أن يصل القاع.. ينتظر حياةً أو موتاً على مضض.

حكيم..

جملة مفيده
03-22-22, 06:14 PM
كلمات..

يرتدي ملابسه بسرعة، ويضع قدميه الصغيرتين في حذائهما بدون أن يربط خيطهما ثم يحملُ حقيبته المثقلة بكتبه المدرسية ويُسرع إلى الشارع!
يأخذ - كالمعتاد- زاوية صغيرة بجانب إحدى المحلات التجارية، ويقفُ متكئاً على الجدار حتى يلمح خيالها قادمٌ من البعيد فيمشي نحوها، وعندما كاد أن يقترب منها تصطدم به عربة مسرعة ... فيتأجل اللقاء إلى موعدٍ آخر.

يستفيق من غيبوبته بعد أسبوعين، ينظر إلى من حوله فعرف كل الوجوه، ولكنه تمنى للحظة لو أن أي من هذه الوجوه كانت لها، أو "لعلها هنا.. قد تكون مختبئة خلف أي واحدٍ من الذين يحيطونه به"، يبحث بعينيه بين العيون، بين الأجساد، بين خيوط الفراغ ولا يجدها، فيحمل خيبته وبعض أوجاعه ويعود إلى سباته!

ذات خريف، تتساقط عليه أوراق الحنين، ويسمع أجراس الشوق تُقرَعُ بين ضلوعه، فقرر أن يراها من جديد!
ينزلُ إلى الشارع، ويأخذ ركنه الدائم ... ويتكيء بظهره على الجدار فيراها قادمة، وكلما اقتربت تزداد نبضات قلبه تسارعاً فيهمس لنفسه بألم " ها قد جاءت.. ها قد كادت"... وحينما يفصلها عنه بعض الخطوات تبتسم له فيرتبك، ويتمنى - كالعادة- أن يكلمها.. وتضيع في جوفه كل الكلمات ... فتمضي هي وتتبعها عينيه بآلاف الحسرات!

القدمان الصغيرتان اصبحتا كبيرتان، والرأس الصغير أصبح متخمٌ بالحب،تجرهّ قدماه ورأسه إلى ذلك الركن الذي شهد ميلاد حبه لها قبل سنين، وفي كل مرة يصل فيها إلى محل تجاريٍ يقف أمامه وينظر إلى زجاجه الذي يتحول إلى مرآة في ساعات الظل، فيرتب هندامه ويعيد بعض خصلات شعره إلى مكانها ويكمل طريقه...
كانت تنظر إليه من بعيد، فابتسمت له، وقابلها الابتسام بالابتسام،اقتربت منه وفي عينيها آلاف الأسئلة .. " من أنت؟ لماذا تقف كل يوم هنا وتنظر إلي؟لماذا لا تكلمني؟ ماذا تريد؟ ....... "
وانقطعت سلسلة أسئلتها الحائرة حينما شعرت أنه يقترب منها مسافة لم يسبق أن اقتربها فوقفت، نظر إليها بذهول وكأنه يقول " وأخيراً.. أنا الآن بقربك... أنا معك.. "
حاول أن يخرج عن المعتاد فيكلمها، وكلما أراد أن ينطق كانت هي تهز رأسها وحالها يقول "ارجوك تكلم.. اني اسمعك"! ولكن ابتسم وعيناه دامعتان وتراجع خطوتان ليفسح لها الطريق.. ومضت هي تجر أذيال الخيبة.. وهو يجر آلاف الخيبات!

يكتب رسالة ويقرر أن يعطيها إياها، ويعود في اليوم الثاني إلى ركنه المعروف في الشارع، رآها قادمة فابتهجت اساريره، ابتسم ابتسامة عريضة وأمسك الورقة بيده ومضى نحوها ... قابلته بعصبية فقالت " ماذا تريد مني؟ أجبني؟ فقط قل لي كلمة واحدة أرجوك! منذ سنين وانت تنتظرني هنا ولا تتكلم.. قل لي أي شيء.. أو لا تعد هنا أبداً " فنظر إليها بحزن ووضع الرسالة بيدها .. ومضى مسرعاً!
وحينما وصَلَت البيت فَتَحت الرسالة فوجدت بعض من الكلمات التي كتبها بخط غير منتظم السطور " أحببتك بقلبي، وحاولت الف مرة أن أترجم محبتي لك حروفاً، ولكن الله حرمني من نعمة النطق، سيدتي ألا يكفي محبة قلبي لك!؟" فبكت .. بكت كثيراً ... ولم تعلم ما سبب بكائها.

خرج في الصباح إلى الشارع، وانتظرها إلى مغيب الشمس.. فلم تأتي!
القدمان الكبيرتان تشققتا بفعل العمر، والرأس الصغير أحرقه الشيب.. لكنهما لم يزالا ينتظران عودتها.

حكيم..


SEO by vBSEO 3.6.1