المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة كن صحابياً ...


الصفحات : [1] 2

عطاء دائم
12-14-22, 09:02 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

https://www2.0zz0.com/2022/12/14/06/541473674.jpg


جيل فريد. 1️⃣

اختار الله لنبيه محمد ﷺ أصحاباً كراماً بررة، فأخذوا عنه الدين وبلغوه لمن بعدهم من الأجيال، وزكاهم الله في كثير من آي القرآن الكريم، واستحقوا بذلك أن يكونوا أفضل جيل على الإطلاق، وقد أمرنا باتباعهم والسير على نهجهم، فهم أبر قلوباً، وأعمق علماً، وأقل تكلفاً، والطعن فيهم طعن في الدين، وتكريمهم وتعظيمهم تعظيم للدين.

منزلة الصحابة في الإسلام

يقول المؤلف راغب السرجاني حفظه الله هذه المجموعة هي مجموعة من المحاضرات، وقد أطلقت عليها اسم: (كن صحابياً)،

وهي محاولة للاقتراب جداً من جيل الصحابة، هذا الجيل الراقي رفيع المستوى، الذي ما تكرر مثله في التاريخ، سواء في السابق لجيل الصحابة أو بعده، وقد أخبر رسول الله ﷺ أنه لن يأتي جيل مثله إلى يوم القيامة، فعظمة هذا الجيل وقيمته تأتي من كون هذا الجيل بأكمله يتصف بصفات معينة، من سلامة العقيدة، وكمال الأخلاق، وأمانة النقل، وصفاء القلب، وقوة العزيمة، وحب الجهاد، فكان بأكمله جيلاً على هذه الدرجة الراقية من الأخلاق والصفات.

وقد يظهر إنسان نابغة في زمان من الأزمان، أو تظهر مجموعة من الأمناء الصادقين الأبرار في جيل من الأجيال، أما أن يكون جيل الصحابة بكامله على صورة معينة من النقاء والبهاء فهذا هو الغريب حقاً، وهذا هو الأمر الملفت للنظر، فلو أنه في زمن من الأزمان ظهر رجل كـ عمر بن الخطاب مثلاً، فهذا من سعادة هذا الجيل، ومن سعادة هذا الزمن، وكذلك لو ظهر شخص مثل أبي بكر الصديق، أو مثل طلحة بن عبيد الله، أو مثل خالد بن الوليد، أو مثل أبي هريرة وهكذا، لكن أن يظهر كل هؤلاء في زمن واحد فهذا هو الأمر العجيب حقاً، والأمر الفريد حقاً، ولذلك فليس الغرض من هذه المجموعة من المحاضرات أن نسرد الأقوال والأفعال التي قام بها الصحابة،

يعني:
ليس مجرد سيرة ذاتية للصحابة،
وكذلك ليس الغرض أن نتعرض إلى كل الأحداث التي مر بها الصحابة،
ولكن الغرض أن نتعلم كيف نقلد جيل الصحابة؟
كيف نكون كجيل الصحابة؟
كيف نسير في طريق الصحابة؟
كيف نصل إلى ما وصل إليه الصحابة،
سواء في الدنيا أو في الآخرة؟

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-14-22, 09:04 AM
سلسلة_كن_صحابياً
2️⃣

قبل أن نتعلم كيفية وصول الصحابة إلى هذا المستوى الراقي، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟

وقبل أن نتعلم كيف يمكن أن نسير في طريقهم؟

أريد في هذه المحاضرة أن أتحدث عن قيمة هذا الجيل في ميزان الإسلام، وقيمة هذا الجيل في ميزان التاريخ، بل وقيمة هذا الجيل في ميزان الله عز وجل، فهو الجيل الوحيد في الإسلام الذي تستطيع أن تعرف قيمته في ميزان الله عز وجل؛ لأن هذا لا يتأتى ولا يمكن معرفته أبداً على وجه اليقين إلا بإخبار من الله عز وجل في كتابه أو عن طريق رسوله الكريم ﷺ أما عموم البشر بعد هذا الجيل فلا يمكن الجزم أبداً بأن هذا الجيل جيل ثقيل في ميزان الله عز وجل، أو يمكن أن نرجح أن هذا الإنسان إنسان فاضل أو إنسان يسير على طريق الهدى، لكن لا يمكن الجزم بأنه فعلاً على طريق الله عز وجل؛

لأن التقييم الإلهي للفرد لا يعتمد فقط على ظاهر الأعمال التي نراها نحن بأعيننا، وإنما يعتمد أيضاً على القلب وعلى النوايا، وهذا ما لا يمكن للبشر أن يتيقنوا منه أبداً، نعم قد يكون هناك شواهد تشير إلى فضائل الرجال والنساء، لكن هذا كما ذكرنا لا يمكن أن يكون على وجه اليقين، فنحن يمكن أن نرى رجلاً حسناً من ظاهره، لكن من داخله مختلف تماماً، ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.


لكن تعالوا نرى جيل الصحابة، وماذا قال الله عنهم، يقول الله عز وجل عن أصحاب بيعة الرضوان: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] أي: أن الله قد رضي عنهم، وقضي الأمر وانتهى، ثم قال: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}
[الفتح:18]،

فهذه الآية لم تذكر في حق صحابي أو مجموعة صحابة، لا، بل ذكرت في حق ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واسمع إلى قوله سبحانه

وتعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117]،

وهذه الآية قيلت في حق ثلاثين ألفاً من الصحابة الذين اشتركوا في غزوة تبوك، ولذا فمن المستحيل بالنسبة للأجيال التي تلت جيل الصحابة أن نصل إلى اليقين، وأن الله عز وجل قد تاب على إنسان بعينه، مهما بلغ ذلك الإنسان من العمل في الدنيا، فلا نستطيع أبداً أن نجزم بخيريته عند الله،

أو بمكانته عند الله، أو بدرجته في الجنة، أو بنجاته الحتمية من النار، من أجل هذا نستطيع أن نفهم المعنى اللطيف الذي زرعه الرسول ﷺ في صحابته.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-15-22, 08:25 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣

من أسباب رقي الصحابة:

السبب الأول: اختيار الله عز وجل لهم

أن هذا الجيل جيل مختار من الله عز وجل، أي: أن هؤلاء الصحابة بأعيانهم خلقوا ليكونوا أصحاب النبي ﷺ ، فكان لازماً أن يكون أبا بكر موجود رضي الله عنه، لأن له دوراً لا بد أن يقوم به، ولن يستطيع أن يقوم به غيره، وكذلك عمر يكون موجوداً، وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبلال وخالد والسيدة خديجة والسيدة عائشة، فكل الصحابة لا بد أن يكونوا موجودين بأعيانهم، وكما يصطفي الله عز وجل رسله من الملائكة ومن البشر فكذلك يصطفي أصحاب رسله عليهم الصلاة والسلام:

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75].
وتأمل إلى الله سبحانه وتعالى وهو يتكلم على أصحاب عيسى عليه السلام إذ يقول:
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا} [المائدة:111]،

يعني: أن أصحاب عيسى عليه السلام قد خاطبهم الله عز وجل عن طريق الإلهام أو الوحي غير المباشر، واختيار الله عز وجل لأصحاب رسله لا بد أن يكون ذلك بطريقة معينة،

وهذه الطريقة قد تكون عسيرة وصعبة، كأصحاب موسى الذين اشتهروا بالشر والأذى وسوء الأدب، ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم في كتابه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:32 - 33].

أما عن أصحاب رسول الله ﷺ فقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: (فقد النبي ﷺ ليلة أصحابه -يعني: أن الصحابة فقدوا النبي ﷺ وكانوا إذا نزلوا أنزلوه أوسطهم) يعني: إذا كانوا في سفر وأرادوا النوم في ليلتهم تلك جعلوا رسول الله ﷺ في وسطهم؛ حماية له ﷺ ،

(فلما استيقظوا من نومهم في جوف الليل لم يجدوا رسول الله ﷺ ، يقول عبادة بن الصامت: ففزعوا وظنوا -وانتبه لهذه الكلمات- أن الله تبارك وتعالى قد اختار له أصحاباً غيرهم، فإذا هم بخيال رسول الله ﷺ ، فكبروا حين رأوه، قالوا: يا رسول الله أشفقنا أن يكون الله تبارك وتعالى اختار لك أصحاباً غيرنا، فقال رسول الله ﷺ : لا، بل أنتم أصحابي في الدنيا والآخرة).

فالصحابة مختارون؛ لأن على أكتافهم تبعة حمل هذا الدين كاملاً من فم رسول الله ﷺ إلى أهل الأرض أجمعين، وليس هناك بعد رسول الله ﷺ رسول، فماذا لو كان أصحابه يتصفون بكذب أو خيانة أو كسل أو فتور أو حب لدنيا وانغماس فيها؟!
وماذا سيكون حال الأرض إلى يوم القيامة لو نقل إلينا الدين مشوهاً أو مغيراً أو مبدلاً؟!

ولذلك تحتم أن يختار الله عز وجل من البشر من يستمعون إلى رسول الله ﷺ بإنصات، ويستمعون إليه بإمعان وتقدير، ثم ينقلون هذا الذي استمعوه إلينا جميعاً، فيقيمون بذلك الحجة على أهل الأرض أجمعين، وإلا فكيف سيحاسب الله عز وجل أهل الأرض؟!

وكيف سيحاسب من يأتي من البشر بعد رسول الله ﷺ وقد قال الله عز وجل في كتابه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].

إذاً: لا بد أن يوجد جيل يحمل الأمانة، ويحمِّل الأجيال التي تأتي من بعد رسول الله ﷺ هذه الأمانة، وكأن النبي ﷺ حيٌّ بينهم، وهذا هو السبب الأول الذي من أجله استحق أن يكون هذا الجيل جيلاً فريداً، وهذا الجيل جيل غير متكرر، وهو جيل قد اختاره الله عز وجل بعناية لصحبة رسوله الكريم ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-15-22, 08:26 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣

من أسباب رقي الصحابة:

السبب الثاني:

مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

أن هذا الجيل قد مر بتجربة فريدة تماماً، فوجدت عنده خبرات لم يرها أحد من المسلمين وتعالوا لنرى تجربة هذا الجيل الفريد فيما يأتي:

رؤية الصحابة للنبي ﷺ وتعاملهم معه

أولاً: أنهم قد رأوا رسول الله ﷺ بأعينهم، واجتمعوا به وتعاملوا معه وصلوا خلفه، واستمعوا لحديثه، وهذا أمر عظيم في حد ذاته، فالمؤمن منا بعد جيل رسول الله ﷺ وإلى جيلنا الآن، بل وإلى يوم القيامة إذا رأى رسول الله ﷺ في المنام اعتبر ذلك حدثاً عظيماً، وهو بالفعل كذلك، والرسول ﷺ يهتم جداً بهذا الحدث،

ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)،

وأعظم من ذلك ما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)، وفي رواية: (فكأنما رآني في اليقظة)، وهذا أمر جميل جداً، فما بالكم بمن كان يره بعينه وفي كل يوم وفي كل لحظة؟ وليس فقط في المنام بل في الحقيقة، وليس فقط ساعة أو ساعتين بل العمر كله.

وتخيل معي هذا الأمر: فلو أن إنساناً وصف لك شخصاً آخر بأنه قد فعل فعلاً حميداً في فلان، فإنك تحبه بمجرد ذلك الإخبار والوصف عنه، ويزرع في قلبك حب هذا الشخص، فماذا لو كان الفعل معك أنت شخصياً؟!

وأنا لا أقول لك: فلان عمل كذا وكذا مع فلان، بل أنت ذاتك مر عليك هذا الأمر، إذاً فكيف يكون حالك معه؟ فمثلاً: عندما تسمع أن النبي ﷺ كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فهذا أمر يزرع المحبة له في قلبك، فما بالك لو أنت ذاتك كنت الذي تأخذ منه، وأنت الذي كان يعطيك ﷺ بنفسه؟!

واسمع إلى قول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه كما عند الترمذي: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله ﷺ .

فهذا الأمر عندما تعرفه تزرع محبته ﷺ في قلبك، فما بالك أيضاً لو أنك أنت الذي يبتسم الرسول ﷺ في وجهه، وأنت الذي ترى وجهه ﷺ وهو يبتسم إليك؟! وعندما أقول لك: إن الرسول ﷺ كان يعود المرضى ويشهد الجنائز، فما بالك لو كنت أنت المريض الذي يعودك ﷺ في بيتك؟!

أو لك قريب مات فجاء ﷺ وشهد جنازة هذا القريب؟! فكيف تكون علاقتك مع رسول الله ﷺ ؟

وكيف تكون درجة إيمانك به؟

وهذا غير النظر في وجه الرسول ﷺ ، أما مجرد النظر إليه فله تأثير خاص جداً،
واسمعوا لكلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه عند الترمذي وقال: صحيح، قال: (فلما استثبت وجه رسول الله ﷺ عرفت أن وجهه هذا ليس بوجه كذاب)، يعني: مجرد رؤية وجه رسول الله ﷺ تترك في القلب أثراً لا ينسى، وغير رؤية خاتم النبوة مثلاً،

فكثير من الصحابة قد رأوا بأعينهم خاتم النبوة بين كتفيه ﷺ ، ومنهم: سلمان الفارسي وعبد الله بن سرجس وعمرو بن أخطب وغيرهم كثير، فالذي رأى خاتم النبوة ترك في قلبه أثراً لم يتركه من سمع فقط عن خاتم النبوة.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-16-22, 08:21 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5️⃣

من أسباب رقي الصحابة:

مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

معايشة الصحابة الكرام للقرآن الكريم

ثانياً: أنهم كانوا يعايشون القرآن، فنحن نقرأ القرآن ونسمع عن أسباب النزول، أما الصحابة فقد عاشوا أسباب النزول، ورأوا القرآن ينزل على رسول الله ﷺ في الحوادث المختلفة، وهذا لا شك أنه يرفع من درجات إيمانهم إلى أكبر درجة يمكن أن تتخيلها،

وتأمل وتخيل معي تلك المرأة التي جاءت تجادل رسول الله ﷺ في أمر زوجها الذي ظاهر منها، وتخيل تفاعل هذه المرأة مع الآيات التي نزلت في حقها شخصياً، وتخيل أنها تصلى بسورة المجادلة، أو تسمع سورة المجادلة، أو تقرأ سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، إنه من المؤكد أن تفاعلها مع كل كلمة مختلف تماماً عن تفاعل بقية المسلمين مع نفس الآيات،

وتخيل أيضاً تفاعل زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه مع الآيات، وتخيل وهو يستمع إلى التحذير الإلهي: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2]، وأكيد وهو يستمع إلى هذه الآيات غير أي واحد منا يستمع إليها، فهو عاش جوار هذه الآيات، وعايش الآيات حال حدوثها وحال نزولها،
وتخيل تفاعل الجيران للسيدة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وأرضاه وهم يقرؤون صدر سورة المجادلة وهم يعلمون أنها نزلت في جارتهم هذه بعينها، وتخيل تفاعل المجتمع المسلم بكامله مع هذه الآيات،

فقد ورد أن خولة بنت ثعلبة كانت تمشي في الطريق فقابلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع أناس كثيرين معه، فاستوقفته السيدة خولة بنت ثعلبة فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش بسبب هذه العجوز -وهو لا يعرفها- فقال: ويحك، أتدري من هذه؟

قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، ووالله لو لم تنصرف حتى يأتي الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، فانظر تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمر هذه السيدة لمجرد نزول هذه الآيات فيها، وضع هذا المفهوم على كل آيات القرآن الكريم، فكل آيات القرآن قد نزلت في حوادث معينة أو في ظروف معينة أو في وقت معين.

وتخيل نفسك أيضاً وأنت تشارك في غزوة بدر، ثم تسمع سورة الأنفال بعد هذه المشاركة، من المؤكد أن إحساسك بالآيات سيكون مختلفاً تماماً عن إحساس عامة المسلمين الذين يقرءون سورة الأنفال، ويتخيلون مجرد ما حدث للمسلمين في بدر، لكن الصحابة لم يكونوا يتخيلون ذلك؛ لأنهم بالفعل قد عايشوا التجربة بكاملها، فعايشوا غزوة بدر من أولها إلى آخرها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]،

فتذكر الصحابي للذي حصل عند تقسيم الأنفال أو عند المشادة التي حدثت بينهم بأمر الأنفال مختلف تماماً عن النصيحة بإصلاح ذات البين لمن لم يعش هذه التجربة بعينها: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}
[الأنفال:7]، فالصحابي عندما يقرأ هذه الآيات يتذكر ويقول: نحن كنا نريد غير ذات الشوكة، كنا نريد القافلة، ولم نكن نريد الجيش، ومع ذلك أراد الله عز وجل أمراً آخر، فيعيش مع كل كلمة من كلمات الله عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]
والنعاس قد نزل على بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وتكرر ذلك في غزوة أحد كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران:154]،

قال أبو طلحة الأنصاري: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف، والحجف جمع حجفة، وهي: الترس أو الدرع، لذا فسيدنا أبي طلحة الأنصاري عندما يقرأ هذه الآيات: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران:154]،

ويكون هو من الناس الذين نزل عليهم النعاس في هذه الغزوة، فإنه يتفاعل مع ذلك تفاعلاً غير الناس الذين حوله، ويقول تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:44]، فهذه الآيات

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-16-22, 08:22 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6️⃣

من أسباب رقي الصحابة:
مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

رؤية الصحابة للنبي ﷺ عند إخباره بالغيب

ثالثاً: أن الصحابة رأوا إخبار رسول الله ﷺ بالغيب، ونحن أيضاً نسمع عن ذلك، ولكن ليس من رأى كمن سمع، فالذين يعيشون في الحدث ويتشوقون لمعرفة ما يحدث على بعد مئات أو آلاف الأميال، غير الذي يسمعه بعد مائة سنة أو مائتين أو ألف.
ولنتأمل الصحابة الكرام وهم واقفون في المدينة المنورة حول رسول الله ﷺ وهو يصف لهم ما يحدث في غزوة مؤتة على بعد مئات الأميال من المدينة المنورة، وهو يقول: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر الراية فأصيب،

ثم أخذ ابن رواحة الراية فأصيب، وعيناه ﷺ تذرفان الدمع، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله عز وجل ففتح الله عليهم)، والمراد بسيف الله هو: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وبعد ذلك يرجع الجيش المسلم إلى المدينة، ويعرف المسلمون في المدينة المنورة أن كل كلمة قالها النبي ﷺ كانت كلمة صدق وحق، عند ذلك قدر ماذا يكون إيمان الصحابة بهذا الرسول وبهذا الدين؟ لا شك أنه عظيم جداً، ونحن أيضاً نسمع فنصدق ونؤمن بذلك، لكن هم عاشوا إخبار رسول الله ﷺ بالغيب.

وتأملوا أيضاً عندما يأتي رسولا عامل كسرى إلى رسول الله ﷺ فيطلبان منه أن يذهب معهما إلى كسرى فارس، فيقول لهما النبي ﷺ : (إن ربي قد قتل ربكما هذه الليلة)، والكلام هذا كان في ليلة الثلاثاء في العاشر من جمادى الأولى للسنة السابعة للهجرة، ومرت مرت الأيام وعينوا الليلة،

وعُلِم فعلاً أن كسرى فارس كان قد قُتِل في تلك الليلة، فنحن نسمع في هذا الوقت عن ذلك الحدث، لكن الصحابة عاشوا فيه، وانتظروا الأيام تمر حتى عرفوا أن كسرى فارس قد قُتل تلك الليلة المحدودة، وهذا أمر يرفع الإيمان العظيم في قلوب الصحابة.

والصحابة أيضاً شاهدوا المعجزات الحسية التي نسمع عنها في هذا الوقت، نعم القرآن أعظم معجزة بين أيدينا، لكن هم فوق ذلك شاهدوا مثلاً انشقاق القمر، وحُكي ذلك من روايات عدة، ففي البخاري وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فقالوا: انظروا السفار -يعني: الناس المسافرة التي تأتي من خارج مكة- فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ﷺ ،

وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، فسألوا السفار وكانوا قد قدموا من كل جهة -يعني: أكثر من مكان- فقالوا: رأينا -أي: شاهدوا انشقاق القمر- فأنزل الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1])
وأنا أريدك أن تتخيل نفسك وأنت عايش مع النبي ﷺ في داخل مكة، وترى القمر ينشق إلى فرقتين، نصف على جبل ونصف آخر على جبل آخر، وهذا لا شك أنه يزرع إيماناً عجيباً وقوياً جداً في قلوب الصحابة.

وشاهدوا أيضاً حنين جذع النخلة إلى رسول الله ﷺ ، فعند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي ﷺ كان يخطب إلى جذع، فلما صنع المنبر تحول إليه فحن الجذع -أي: صدر له صوت حنين وألم لفراق رسول الله ﷺ فأتاه الرسول ﷺ فاحتضنه فسكن، وقال صلى الله عليه وسلم: لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة)،
وفي رواية جابر بن عبد الله يقول: (حتى سمعه) أي: سمع حنين الجذع (أهل المسجد)، فتخيل نفسك وأنت جالس في المسجد وقد سمعت بأذنيك حنين جذع النخلة لرسول الله ﷺ .

وشاهدوا كذلك البركة في الطعام والشراب والسلاح والصحة، وأمثلة كثيرة وعجيبة لا تحصى، ومن ذلك: موقف جابر بن عبد الله في الأحزاب، وذلك عندما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه جوعاً شديداً برسول الله ﷺ ، فدعاه سراً ليأكل في بيته من طعام صنعه له، وكان قليلاً جداً، حتى أن جابر بن عبد الله سماه طعيم، قال: (يا رسول الله عندي طعيم، تعال أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك،

قال جابر بن عبد الله: فدعا رسول الله ﷺ أهل الخندق جميعاً -وتخيلوا أتى بكل أهل الخندق- فجاء من سمع النداء وكانوا قد تجاوزوا الألف -ألف شخص جاءوا إلى بيت جابر بن عبد الله - فأكلوا جمعياً من الطعام وشبعوا -وهذه قصة مشهورة- وبقيت بُرمة الطعام ملأى بما فيها، حتى أن رسول الله ﷺ أمر زوجة جابر أن توزع على جيرانها)، فأنت تسمع هذه القصة في هذا الوقت والحمد لله مؤمن بها، لكن تخيل

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
12-17-22, 08:15 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣

من أسباب رقي الصحابة:
مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

تبشير النبي ﷺ للصحابة بالجنة

رابعاً: أن الصحابة بشروا بالجنة بأسمائهم، فالواحد منهم كان يمشي على الأرض وهو يعلم علم اليقين أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على الحياة؟!
وهذا ليس فقط في حق العشرة المبشرين بالجنة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعيد بن زيد، بل كثير من صحابته ﷺ بشروا بالجنة وهم أحياء،

فمثلاً روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي ﷺ قال لـ بلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) ودف نعليك، يعني: تحريك نعليك أو صوت نعليك في الجنة، قال بلال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار -يعني: لم أتوضأ أي مرة- إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي، يعني: أن بلالاً كان يعيش في الدنيا وهو يعرف أنه من أهل الجنة، ولذلك من أجل هذا عند موته كانت زوجة بلال تبكي وتصرخ فقال لها: لماذا تبكين؟ غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه، وانظروا كيف حال بلال وهو مقبل على الموت! إنه إقبال بفرحة؛ لأنه على يقين أنه ذاهب إلى الجنة، فقد أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ .

وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما رآه الصحابة وهو يصعد شجرة للإتيان بعود أراك أو تمر من نخلة على اختلاف في الروايات فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال الرسول ﷺ : (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)،

فتخيل عبد الله بن مسعود وكيف يكون حاله في الدنيا وهو عارف أنه أثقل في ميزان الله عز وجل من جبل أحد؟

وكذلك: الحسن والحسين رضي الله عنهما، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وأيضاً هنا: كيف تكون قيمة الدنيا في عين الحسن أو الحسين وقد علما أنهما سيدا شباب أهل الجنة؟

وأيضاً: السيدة خديجة رضي الله عنها، ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ وقال له: اقرأ عليها السلام -أي: اقرأ على خديجة السلام- من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب -والقصب هو: اللؤلؤ- لا صخب فيه ولا نصب)، أي: لا ضوضاء ولا تعب في هذا البيت، فالسيدة خديجة تعرف أنها من أهل الجنة، وليس فقط ذلك، بل إن ربها قد أقرأها السلام، ومن جبريل أيضاً، وبشرها بقصر في الجنة من لؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب،

إذاً فكيف يمكن أن تكون متعلقة بالدنيا!
وكيف يمكن ألا تخشع في الصلاة!
وكيف يمكن ألا تجاهد بمالها!
وكيف يمكن ألا تشتاق إلى جنات الرحمن!

وأيضاً عندما تحدث رسول الله ﷺ عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال له عكاشة بن محصن - عكاشة: بتشديد الكاف أو تخفيفها-: (ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم، فقام رجل آخر يطلب نفسه الطلب، فقال له رسول الله ﷺ : سبقك بها عكاشة)،

لذلك نفهم كيف جاهد عكاشة حياته كلها، وجاهد كل حياته، وشهد مع رسول الله ﷺ المشاهد كلها، واستمر على ذلك بعد وفاة رسول الله ﷺ حتى استشهد في اليمامة في حرب المرتدين، وهو عارف أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على حياة الدنيا؟!

وكل هذه التجارب نقلت الصحابة من المرتبة الإيمانية المسماة بعلم اليقين إلى المرتبة الإيمانية الأعلى المسماة بمرتبة عين اليقين: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5 - 7]، وعلى كل فالصحابة كانوا يرون كل شيء بأعينهم، حتى أمور الغيب رأوا كثيراً منها بأعينهم وقت رسول الله ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-17-22, 08:16 AM
سلسلة_كن_صحابياً
8️⃣

من أسباب رقي الصحابة:
تصريح النبي ﷺ بخيريتهم

السبب الثالث:
أن النبي ﷺ قد صرح بأن هذا الجيل هو خير الأجيال على الإطلاق،
فقد روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
فهذه شهادة من رسول الله ﷺ ، وقضي الأمر بذلك،

قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله ﷺ بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟
يعني: هل قال: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاث؟
لكن المهم أن خير الأجيال وخير الناس هو قرن رسول الله ﷺ ، أو جيل رسول الله ﷺ .

وروى البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، قالها مرتين، ثم قال: فوالذي نفسي بيده لو أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)،

وتخيل لو أنك تملك ذهباًَ كجبل أحد، ثم أنفقته كله في سبيل الله، فإن ذلك لا يساوي ما أنفقه الصحابي، وإن كان ما أنفقه كمقدار المد، أي: مد الكفين، وتخيل واحداً من الصحابة ينفق ملء الكفين فقط يساوي قدر جبل أحد من الإنفاق، لأن لهم أجر السبق في الإسلام، فهم الذين علمونا الإنفاق، وهم الذين علمونا الجهاد في سبيل الله، وكيف يمكن أن نقهر النفس ونصرف الأموال في سبيل الله عز وجل،

وهذا يعطيهم الأجر العظيم والدرجة التي ذكرها رسول الله ﷺ بالتصريح أنهم خير الناس وخير القرون وخير الأجيال.

من كل ما سبق يتضح لنا أننا نتعامل في هذه المجموعة مع أرقى جيل في الوجود، مع الجيل الذي يصلح تماماً أن يتخذ قدوة كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.

يعني: نحن نرى أناساً كثيرين وعظماء يعيشون بيننا، لكن الله أعلم بمن سيثبت منهم على الحق، ومن فيهم الذي سيغير ويبدل، لكن الذي قد مات علمنا أنه قد مات على الحق وبالذات جيل الصحابة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أولئك أصحاب محمد ﷺ ، كانوا أفضل هذه الأمة.

ولا أحد يقول: إن هذا يزكي أو يُعظِّم نفسه، لا، فهو يذكر حقيقة لا بد أن يعلمها كل المسلمين، وإذا علموها استفادوا منها استفادة جمة؛ لذلك وجب عليه أن يذكر بهذا الأمر، وكتمان هذه الحقيقة كتمان لعلم مهم جداً، ألا وهو علم تقدير الصحابة وتعظيم الصحابة وتكريم هذا الجيل بأكمله؛ لأنهم جيل القدوة، ثم يقول عبد الله بن مسعود: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

لذلك في هذه المجموعة سنجعل هدفنا إن شاء الله أن نتعلم كيف نكون مثل الصحابة؟

كيف أننا نريد أن نتعلم مثلهم؟
كيف أننا نكون مسلمين حق الإسلام؟
كيف نؤمن بالله عز وجل حق الإيمان؟
كيف نحب رسول الله ﷺ حق الحب؟
كيف نفهم هذا الدين حق الفهم؟

دراسة حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هي دراسة الإسلام، والسير في طريق الصحابة هو السير في طريق الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، في صحبة نبينا وحبيبنا محمد ﷺ : {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
12-18-22, 08:12 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣

جيل الصحابة جيل فريد عظيم، لا يمكن أبداً أن يتكرر، فقد اصطفاه الله عز وجل لصحبة خير البشر وخاتم النبيين والمرسلين ﷺ ، فهو الجيل الفريد الذي تربى على عينه ﷺ ، ولا يعني هذا أننا لا نقتدي بهم أو نقلدهم، بل قد قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا).

شروط الصحابي في مصطلح الحديث

اليوم سنطرح سؤالاً قد يستغرب منه أناس كثيرون ألا وهو: هل أنت صحابي؟
في مصطلح أهل الحديث هذا مستحيل، لأن الصحابي أو الصحابية هو: رجل أو امرأة عاش في حقبة معينة من الزمان توافرت فيه أو فيها شروط معينة، وهذه الحقبة من الزمان مرت ولا يمكن أن تعود، فهذه الشروط من المستحيل أن تتوافر فينا.

وشروط الصحابي في مصطلح أهل الحديث هي:

الشرط الأول: أن يكون قد رأى النبي ﷺ في حياته أو اجتمع به،
يعني: أنه لابد أن يكون قد رآه بعينه، ولا يكفي أن يكون معاصراً لرسول الله ﷺ ، فيكون في بلد والرسول ﷺ في بلد آخر، ولذلك النجاشي رحمه الله تعالى ليس صحابياً، مع أنه كان معاصراً لرسول الله ﷺ ، وقد آمن به في حياته لكن لم يره.
أما قولهم: (أو اجتمع به) يعني: حتى يدخل في ذلك من اجتمع برسول الله ﷺ ولم يره لفقد نعمة البصر، كـ عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه، فقد اجتمع بالرسول لكنه لم يره؛ لأنه كان ضريراً رضي الله عنه وأرضاه.

الشرط الثاني: أن يكون قد آمن برسول الله ﷺ في حياته، ولا يكفي أن يكون معاصراً له وقد ظل كافراً سنوات طويلة إلى أن مات الرسول ﷺ ، وبعد أن مات رسول الله ﷺ آمن الرجل، حينها لا يكون من الصحابة، وممكن أن يكون من التابعين الذين تعلموا على أيدي الصحابة.

الشرط الثالث: أن يكون قد آمن برسول الله ﷺ في حياته ورآه، ثم مات على هذا الإيمان، ولم يرتد وبقي على ردته.

فهذه الشروط الثلاثة لو تحققت في أي واحد سيصبح صحابياً، والصحابة كثيرون جداً، فقد بلغ عددهم أكثر من مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ونحن لسنا منهم؛ لأننا لم نعاصر رسول الله ﷺ ولم نره، ولم تمر بنا هذه التجربة كما ذكرناها في هذه الكلمات.

كيف تكون صحابياً؟

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-18-22, 08:14 AM
سلسلة_كن_صحابياً

🔟

كيف تكون صحابياً؟

إذا كان مستحيلاً في مصطلح أهل الحديث أن تكون صحابياً،
فكيف تكون صحابياً في عقيدتك في إيمانك في أفكارك في فهمك لهذا الدين في طموحاتك وأهدافك في حميتك للإسلام في غيرتك على حرمات المسلمين،
في التطبيق لكل صغيرة وكبيرة في هذا الدين؟
المقصود في هذه المجموعة أن نفقه الأسباب الحقيقية التي جعلت من الصحابة صحابة،

فليس فضل الصحابة فقط أنهم عاصروا رسول الله ﷺ ، وعاشوا معه في نفس الفترة الزمنية، فقد عاصره أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وغيرهم من المشركين،

وإنما يرجع فضل الصحابة إلى التزامهم بتعاليم هذا الدين التزاماً حرفياً، واتباعهم لرسول الله ﷺ اتباعاً دقيقاً، وحبهم لهذا الشرع حباً خالصاً صادقاً حقيقياً.
والمقصود في هذه المجموعة أن نكون قوماً عمليين، لا أن يكون همنا فقط أننا نسمع الحكايات ونتندر بالروايات،
وإنما همنا أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العمالقة أو قريباً مما وصلوا إليه، هذا هو المقصود من كلمة: كن صحابياً، وهذا هو المقصود من

السؤال
هل أنت صحابي؟

وقد قال لي أحد أصحابي شيئاً غريباً جداً، ولعل ذلك الشيء الغريب هذا هو سبب تحضير كل هذه المجموعة من المحاضرات، قال: إنني كلما قرأت قصص الصحابة أو استمعت إليها أصابني اليأس والإحباط.

فقلت: سبحان الله! هذا عكس المراد تماماً، فنحن نقرأ سير الصحابة والصالحين لكي نتحمس للعمل ولكي ننشط عند الفتور،

ثم قلت له: لماذا تشعر بهذا الإحساس؟

قال: لأنني كلما قرأت عن الصحابة وجدت لهم أعمالاً يستحيل علينا فعلها، ووجدت إصراراً على الجهاد، ووجدت ثباتاً على الإيمان، ووجدت عزيمة على الصيام والقيام والبذل والعطاء، ووجدت مواصلة لأعمال البر والخير، ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً،

ليس هناك فرق بين مرحلة الطفولة ومرحلة الشباب ومرحلة الكهولة أو الشيخوخة،

فالجهد كله لله عز وجل، والمال كله في سبيل الله، والفكر كله في سبيل الله،
وتستطيع أن تقول: الحياة كلها في سبيل الله،
فعندما أجد ذلك أشعر بضعفي الشديد وبُعدي عن طريقهم، فيسيطر عليَّ الإحباط واليأس.

انتهى كلام صاحبي هذا.

فقلت له: والله أنا معك في نصف كلامك وأتفق معك فيه تماماً،
وأما النصف الثاني فأنا أختلف معك فيه اختلافاً جذرياً، فكما تقول: إن الصحابة جيل فريد، وحياة عجيبة، وعطاء ما انقطع لحظة،

ولذلك فقيمته عالية وغالية جداً، ويكفي أن تسمع إلى قول الله عز وجل وهو يقول في حق المهاجرين والأنصار: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]،

وانتبه فالله عز وجل لم يذكر شرط الإحسان في عمل الصحابة، وإنما شرط الإحسان في التابعين لهم، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]؛

لأن الصحابة كلهم قد عملوا بإحسان، وهذا معلوم ضمناً من حال الصحابة، فتأمل الدرجة كيف هي عالية وغالية عند الله سبحانه وتعالى وعند الرسول ﷺ وعند كل المؤمنين، وهذا هو الذي أتفق فيه معك، لكن ما أختلف فيه معك هو الشعور بالإحباط واليأس عند سماع هذه الحكايات وعند قراءة هذه السيرة، فبدلاً من الإحباط واليأس هناك شيء أفضل من ذلك، ألا وهو أن نشغل أنفسنا بمعرفة كيف سبق السابقون؟ وكيف اللحاق بهم؟

والمسألة بالعقل، وتعالوا لنُفكر معاً، فنقول: ما دام أن الصحابة قد ساروا في طريق معروف وواضح، وهذا الطريق موصوف لنا كما وصف لهم، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم ﷺ ، إذاً فالتعرف على الطريق والسير فيه يضمن لنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه، والمثال يوضح ذلك: فلو قلت لك: امش في هذا الطريق ولا تتجه يميناً ولا يساراً، وستجد نفسك في الإسكندرية، طريق مستقيم من هذه النقطة إلى تلك النقطة، وأي واحد سيسلكه سيوصله إلى الإسكندرية، وكذلك الصحابي مشى في الطريق ولم يتجه يميناً ولا يساراً، حتى وصل إلى ما كان يريد أن يصل إليه، والذي منا سيمشي في نفس الطريق من غير أن يتجه يميناً ولا شمالاً سيصل إلى نفس الذي وصل إليه الصحابة،

ولذلك فإن المشكلة أننا كثيراً ما نتجه يميناً ويساراً، فمرة تريد أن تستكشف طرقاً جانبية فتبتعد عن الطريق المستقيم، ومرة تفكر أنك أذكى من الشرع تستطيع أن تأخذ طرقاً مختصرة لتصل سريعاً، بينما الأصل أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وطريق الشرع هو دائماً الطريق المستقيم من غير يمين ولا شمال، وانظر إلى ربنا وهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، تقولها سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم في صلاتك، وذلك حتى تتربى وتتعلم.

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-19-22, 08:08 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣1️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

نريد أن نقف وقفة تحليلية حول الإحباط واليأس عند سماع قصص الصحابة، أقول: لا داعي للإحباط ولنكن عمليين، ولنبحث عن أسباب الإحباط لكي نعالج المسألة علاجاً متكاملاً، والحقيقة أنني قد وجدت بعض الأسباب التي أورثت في اعتقاد كثير من المسلمين أنه يصعب عليه جداً تقليد الصحابة،
وهذه الأسباب تتلخص فيما يلي:

أولاً: عدم وجود النبي ﷺ بيننا؛

لأنه هو الذي ربى الصحابة، وعليه فغير ممكن أن نكون مثل الصحابة،
وهنا سأسألك سؤالاً في غاية الأهمية: هل وجود الرسول ﷺ حتمي للدلالة على الطريق الصحيح؟

أي: هل من أجل أن نعرف الطريق الذي يريد الله عز وجل منا أن نمشي فيه أن يكون الرسول بيننا؟
إذا كان حتمياً فلا أمل في الوصول؛ لأنه ﷺ قد مات ولن يعود إلى يوم القيامة،
وإذا لم يكن حتمياً فهناك أمل في أن نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، وتعالوا بنا لنرد على هذا السؤال بهدوء، ونرى ما هي الإجابة عليه؟

بداية لا ينكر أحد أهمية وجود النبي ﷺ في هذا الجيل الأول، بل لا يكون هناك دين من غير رسول الله ﷺ ؛ لأن الرسول ﷺ هو الذي كان يتلقى عن رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم إنه كان القدوة الكاملة الحسنة في كل شيء لكل المؤمنين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]،

واسأل نفسك الآن؟

هل اختفت القدوة النبوية من حياتنا بعد وفاة رسول الله ﷺ ؟ أبداً،
فما زالت سنته وطريقته وكلماته حية بين أظهرنا، وستظل حية إن شاء الله إلى يوم القيامة، وقد أنكر الله بشدة على أولئك الذين فتروا عن العمل، عندما غاب عنهم رسول الله ﷺ ، يقول سبحانه تعليقاً على غزوة أحد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]،

فهذه الآية نزلت عندما أشيع يوم أحد أن رسول الله ﷺ قد قتل، وعند ذلك أحبط بعض الصحابة فجلسوا في أرض القتال، وفقدوا كل حمية للقتال، وفقدوا كل رغبة في النصر، وكل أمل في الحياة، والحياة بالنسبة للصحابة في الأرض ولو ساعة واحدة مع الرسول ﷺ أفضل من الخلود في الأرض بغير رسول الله ﷺ ، فكانت مصيبة كبيرة جداً فقدان الرسول ﷺ ، وكانت المصيبة على الصحابة أشق بكثير من المصيبة علينا؛ لأنهم عاشوا مع رسول الله ﷺ ، فخالطوه وتعاملوا معه وصلوا خلفه واستمعوا لحديثه، عاشوا حياة كاملة مع رسول الله ﷺ ، ثم بعد ذلك قيل: قد قتل ﷺ ، إنها مصيبة عظيمة جداً،

ومع عظم هذه المصيبة لم يعذرهم ربهم سبحانه وتعالى في عدم العمل بنفس الحمية حتى مع المصيبة الثقيلة، واعتبر أن ما فعله هؤلاء الصحابة كان قصوراً في الفهم يستحقون عليه اللوم الشديد والتهديد المرعب، فقال تعالى: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144].

وعلى العكس من ذلك تماماً،
فهذا الصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه عندما مر على هؤلاء الذين قعدوا بعد إشاعة مقتل رسول الله ﷺ فقال لهم: إن كان محمد ﷺ قد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقوموا وقاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد، فـ ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه رجل مؤمن، ورجل واقعي يتعامل مع الواقع الذي يعيشه بكل ظروفه وملابساته، فيعمل في وجود رسول الله ﷺ وفي غيابه، ويتأقلم بسرعة مع الأحداث فيعمل بكل طاقته فيها، وليس هناك أمر تتمناه مستحيل الحدوث، وليس هناك معنى لكلمة (لو) في حياة المسلم، فيقول أحدهم:

والله لو كنت في زمان رسول الله ﷺ لفعلت كذا وكذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل،
فأنا لست صحابياً، لذلك لن أستطيع أن أعمل مثل الصحابة.

هذا وهم، (فإن لو تفتح عمل الشيطان) كما جاء عنه ﷺ في صحيح مسلم، ثم ما أدراك أنك إذا كنت في زمن النبي ﷺ أنك تتبعه؟ فقد كان هناك آلاف من المشركين الذين كانوا معاصرين للنبي ﷺ ، ومع ذلك حاربوه عليه الصلاة والسلام، وكذلك فقد كان هناك آلاف من المنافقين عاشوا في المدينة، وصلوا في مسجد رسول الله ﷺ خلفه مباشرة، ومع ذلك ما آمنوا به.

أيضاً ما أدراك أنك كنت ستتغلب على فتنة ترك دين الآباء، وفتنة اتباع نبي من قبيلة أخرى، وفتنة المحاربة من أهل الأرض أجمعين، وفتنة التعذيب والتجويع والهجرة؟ اعلم أن ما اختاره الله عز وجل لك هو الأفضل، لذا لا يُقبل من المسلم أن يتعلل بغياب رسول الله ﷺ في أنه لا يفعل مثل الصحابة، بل يكون حاله وفهمه كفهم ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وأعظم منه كان موقف أبي بكر رضي الله عنه.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-19-22, 08:09 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣2️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

رفع الرسول ﷺ والصحابة فوق دائرة البشرية

السبب الثاني: الخروج بالصحابة عن دائرة البشرية، فالناس تعتقد أنهم طراز مختلف من البشر، وخلق آخر ليست لهم النوازع الإنسانية المزروعة داخل نفوسهم، وهذا كلام ليس بصحيح، ودعنا لنتأمل في حقيقة الصحابي، بل في حقيقة رسول الله ﷺ ، فهو نفسه بشر كبقية البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينجب ويحب ويكره ويفرح ويحزن ويتألم، فهو بشر بنص كلام الله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، فهو مثلنا تماماً، وإنما يختلف عنا عليه الصلاة والسلام في أنه يوحى إليه، فالرسول ﷺ بشر نزل عليه الوحي، {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110]،

ماذا يعمل؟ ما هو الطريق؟
{فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]،

فلا تنشغل عن العمل بأي أعذار، ولا تقل: الرسول رسول ولن أستطيع أن أقلده، لا، فالرسول ﷺ بشر مثلنا، وهذه لحكمة ظاهرة هي حتى نستطيع أن نقلده، ولو كان غير بشر لكان عندنا عذر في أننا لا نستطيع أن نقلده؛ لذلك سبحانه وتعالى لم ينزل علينا ملكاً بالرسالة، ولو قام ملك بالشرائع لقال الناس: إنما يستطيع ذلك؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيعه، وإذا امتنع الملك عن المعاصي قالوا: إنما يمتنع؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيع؛ لذلك لابد أن يكون الرسول من جنس من يرسل إليهم، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95]،

فالأرض ليس عليها ملائكة وإنما عليها بشر، لذلك كان الرسول بشراً؛ لكي نستطيع أن نقلده، وليس من المعقول أن نضيع الحكمة من كون الرسول ﷺ بشراً فلا نقلده، بزعم أنه رسول ونحن غير مرسلين، فإذا كان هذا الكلام يصح مع رسول الله ﷺ فمن باب أولى يصح مع الصحابة الكرام، وإذا كان الرسول ﷺ بشراً وجب تقليده واتباعه، فعلم يقيناً أن الله عز وجل ما أوجب شيئاً إلا وكنا عليه قادرين.
إذاً: أليس اتباع الصحابة بعد فهم هذه الحقيقة أمراً ممكناً؟

فالصحابة بشر لهم أجساد كأجسادنا، ولهم فطرة كفطرتنا، ولهم غرائز كغرائزنا، ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ومع كل هذه الأمور البشرية والنوازع الإنسانية إلا أنهم قهروا أنفسهم على اتباع الحق وإن كان مراً، وعلى السير في طريق الله عز وجل وإن كان صعباً أو وعراً، وليس معنى ذلك أن أقول كما يقول أولئك الذي قلَّ أدبهم، وانعدم حياؤهم، فقالوا: الصحابة رجال ونحن رجال، وسوغوا لأنفسهم بذلك الطعن في الصحابة وانتقاص بعضهم، أبداً،

فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود عكس ذلك بالضبط، فنقول: هم أعظم البشر مطلقاً بعد الأنبياء، وكونهم أعظم البشر لا يلغي ذلك بشريتهم ولا يقلل من شأنهم، وإنما العكس، فيرفع جداً من قيمتهم؛ لأنهم انتصروا على أنفسهم في امتحان عسير ما استطاعت السماوات والأرض والجبال أن يدخلن فيه أصلاً، فحملوا الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، فتقليدهم ممكن، بل وضروري جداً؛ لأنهم بشر نجحوا في امتحان وضعه الله عز وجل، وهو أعلم بقدرات البشر، ومع ذلك فأنا لا أدعي أننا سنكون مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإنما أقول: إنما يجب أن نتخذهم قدوات عملية، قدوات صالحة، وإننا نستطيع بإمكانياتنا البشرية وبمنهج الإسلام الواضح أن نسير في نفس الطريق الذي ساروا فيه، ونصل بإذن الله إلى ما وصلوا إليه، وهذا إذا كنا نريد أن نمشي في هذا الطريق فعلاً.

إذاً: السبب الثاني في إحساس بعض المسلمين أن تقليد الصحابة عسير: هو نسيان هؤلاء المسلمين أن الصحابة بشر لهم كل طبائع البشر، وليسوا خلقاً خاصاً، فليسو جناً ولا ملائكة، وإنما هم بشر نجحوا في حمل الأمانة.
وقبل أن أترك هذه النقطة أحب أن أشير إشارة سريعة، ألا وهي أن بعض الدعاة يساهمون في هذه المشكلة بذكرهم مبالغات شديدة في حق الصحابة، وهذه المبالغات إما أن تكون غير صحيحة أصلاً، ومن باب أولى ألا تذكر هذه المبالغات مطلقاً، وإنما يذكر الصحيح في حق الصحابة والحمد لله يكفي، والصحابة الكرام ليسوا محتاجين إلى المبالغة لكي نعظمهم، فهم عظماء بأحوالهم الحقيقية،

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
12-20-22, 08:21 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣3️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

النظر إلى إمكانيات الصحابة على أنها إمكانيات رجل واحد

السبب الثالث: أنهم ينظرون إلى إمكانيات جيل الصحابة بأكمله على أنها إمكانيات رجل واحد أو امرأة واحدة منهم، وهذا ليس بصحيح، صحيح أن الصحابي أو الصحابية شخصية متكاملة؛ لكنه لم يكن متفوقاً في كل المجالات بدرجة واحدة، وإنما كان يبرز في مجال ويتفوق عليه غيره في مجال آخر،

فهناك من تفوق في جانب الجهاد كـ خالد بن الوليد رضي الله عنه والقعقاع بن عمرو التميمي والزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين،

فكانت عبقريات عسكرية فذة، لكن في نفس الوقت كان خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يحفظ من القرآن كثيراً، فكان إذا صلى بالناس أخطأ في القراءة، فكان يلتفت إلى الناس بعد الصلاة ويعتذر منهم ويقول: إنما شغلت عن القرآن بالجهاد، لكن تعال للقرآن وعلوم القرآن تجد زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبا موسى الأشعري علماء أفذاذاً رضي الله عنهم، لكن تفوقهم في المجال العسكري غير بارز.

وتعالوا لننظر مجال الأحاديث وحفظها، وطلب العلم ونقله، تجد أبا هريرة أسطورة علمية ومكتبة حافظة وكمبيوتر متحرك، لكن في مجال الإفتاء والأحكام الشرعية تجد غيره أبرز منه، فتجد عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب.

وتعالوا لننظر مجال الإنفاق، فـ أبو بكر الصديق وإن كان أبو بكر الصديق قد تفوق في كل المجالات، كذلك تجد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.

وتعالوا لننظر أيضاً في الإدارة تجد عمر بن الخطاب، وفي إدارة الأمور تجد معاوية رضي الله عنه، فكل واحد متفوق في شيء، وكل واحد بارز في شيء، ونحن أيضاً منا من ينفق في سبيل الله ببساطة وبسرعة، ولكن حظه من العلم قليل، وواحد خطيب مفوه، لكن ليست له في السياسة خبرة، وواحد بارع في علوم القرآن، لكن ليس بارزاً جداً في القضاء، فهناك إمكانيات مختلفة في مواهب مختلفة،

وحصيلة علمية مختلفة، وتربية مختلفة، توجد ثغرات كثيرة جداً، ونحن محتاجون لكل هذه المواهب لسد كل هذه الثغرات، وعليه عندما تنظر إلى جيل الصحابة بهذه الصورة فإنك وإن كنت ستتخذ كل الجيل بصفة عامة قدوة، إلا أنك ستتخذ من بينهم قدوة خاصة في المجال الذي أنت بارز فيه، فلو أنك قائد في الجيش سيكون قدوتك خالداً، ولو أنك إداري سيكون قدوتك عمر وهكذا، وبذلك يصعب تسلل الإحباط إلى قلبك.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
12-20-22, 08:23 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣4️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

إغفال أخطاء الصحابة

السبب الرابع والأخير وإن كان هناك سبب خامس، لكن إن شاء الله سنتكلم عنه في الدرس القادم: أن كثيراً من الدعاة والعلماء يغفل عمداً أخطاء الصحابة؛ لأنه يخاف على اهتزاز صورة الصحابة، فلا يتحدث عن ذنوبهم ولا يتحدث عن اجتهاداتهم التي تخطئ أحياناً، أو يحاول أن يتعسف في إيجاد المبرر للخطأ، وهذا كله غير صحيح وغير حكيم، وهذا كله لمحاولة إلغاء بشرية الصحابة، ولا يعيب الصحابة مطلقاً أن نتحدث عن بعض أخطائهم، أو عن بعض الهفوات في حياتهم، وكفى بالمرء خيراً أن تعد معايبه.

فقد كانوا سريعي العودة إلى الله عز وجل، وسريعي التوبة من ذنوبهم، ومع ذلك انتبهوا معي فعند ذِكْرِ هذه الأخطاء يجب أن يراعى الأدب الكامل والاحترام العظيم لمقام أولئك الأخيار، فهذه سيئات تذوب في بحار حسناتهم، وإن شاء الله سنفرد في هذه المجموعة محاضرة خاصة بعنوان: (الصحابة والتوبة) وسنتكلم فيها بالتفصيل عن هذا الموضوع، وفي مجموعة كاملة تكلمنا فيها عن الرسول ﷺ وأخطاء المؤمنين،
ويمكن أن تعودوا لها لو أردتم أن تتعمقوا في هذا الموضوع.
إذاً: فهذه أربعة أسباب، واحتمال أن هناك غيرها أدت إلى إحباط بعض المسلمين من سماع قصص الصحابة المثالية، وخلصنا إلى أن تقليد الصحابة ليس فقط أمراً ممكناً، ولكنه أمر مطلوب شرعاً، ومن هنا كانت هذه المجموعة بعنوان: كن صحابياً.

وهذا المعنى إذا سئلت: هل أنت صحابي، تستطيع أن تقول: نعم، أنا صحابي في الفهم، صحابي في الجهاد، صحابي في التوبة، صحابي في الأخوة وهكذا، ونستطيع بعد ذلك أن نقرأ قصص الصحابة بفكر جديد، وبفكر البحث عن الطريق الذي وصل بالصحابي إلى هذه الدرجة العالية، وفكر الاجتهاد الحقيقي المخلص في السير في نفس الطريق الذي سار فيه الصحابة.

غربة الدين
قبل أن أختم هذه المحاضرة أحب أن أنقل إليكم حديثين رائعين لرسول الله ﷺ ، وكل أحاديثه ﷺ رائعة.

الحديث الأول: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله ﷺ : (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباًً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله ﷺ عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن، فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها، ويستنكر تعاليمها، ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن، وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية، وأصبح الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غريباً وسط الناس، والذي يقول: لا داعي أن نبيع الخمر يكون غريباً،

والذي يقول: الربا حرام يكون غريباً، والذي يقول: العري في الأفلام والمسرحيات والإعلانات وغيرها حرام يكون غريباً،

والذي يقول: فلسطين كلها ترجع للمسلمين يكون غريباً أمام الناس فرجع الإسلام فعلاً غريباً كما بدأ، لكن البشارة: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا، فطوبى للغرباء)، أي: سيكون هناك غرباء مثل الصحابة، يكافحون ككفاحهم، ويجاهدون كجهادهم، ويدعون إلى الله عز وجل كدعوتهم، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحبون الدين كحبهم له، ويحبون سنة الرسول ﷺ لحبهم لسنة النبي ﷺ ؛ لأن هذا دين ربنا سبحانه وتعالى، وهو الذي يسخر أناساً يدافعون عن دينه ويحملون الأمانة.

وفي رواية عند الترمذي عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه هناك زيادة لطيفة جداً سأله الصحابة-: (من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، فلماذا لا نكون نحن من هؤلاء الغرباء؟ لو صرنا من الغرباء الذي يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ سنصبح مثل الصحابة، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

أيام الصبر على الدين
الحديث الثاني: روى الترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وأرضاه، وهو حديث طويل جاء في آخره كلام عجيب لرسول الله ﷺ ، يقول النبي ﷺ : (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، فصعب جداً أن تتمسك بدينك وكأنك تمسك في يديك جمرة ملتهبة، لكن انتبه وانظر إلى بقية الحديث، يقول ﷺ : (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)، أي: أجر خمسين رجلاً يعملون مثل أعمال الصحابة؛

لذلك استغرب الصحابة فقالوا: (يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم)، فالذي يتمسك بدينه الآن له أجر خمسين من الصحابة، وعليه فلا يوجد هناك أناس محبطة من أنها تقلد صحابياً؛ لأن عندها فرصة لأن تكون مثل خمسين صحابياً، ولا يستغرب أحد، فالله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة، وفوق ذلك هو الكريم سبحانه وتعالى، ففرق كبير جداً بين الصحابي الذي يعيش في معسكر إيماني كامل، كلما سار في اتجاه رأى مؤمناً، بل يرى رجالاً الواحد منهم يوزن بأمة كاملة، فإذا سار هنا رأى الصديق والفاروق وعثمان وعلياً، وإذا سار هناك رأى أبا عبيدة وسعداً والزبير،

وإذا دخل المسجد المسجد وجد سعد بن معاذ وعبد الله بن مسعود، وإذا حضر درس علم سمعه من فم رسول الله ﷺ ، وجلس فيه إلى جواره أبو هريرة ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك، ويصلي الجماعة مع أبي ذر وأبي الدرداء، ويسمع الأذان من بلال، وإذا جاهدت جاهد تحت قيادة خالد بن الوليد، وإذا سافر سافر مع أبي موسى الأشعري.

أما الآن فهو يعيش في مجتمع لا يجد فيه على الخير أعواناً إلا القليل، ومع ذلك يصبر على طاعة ربه، ويصبر على الدعوة، ويصبر على الإسلام صبراً كأنه يقبض على الجمر، نعم والله تماماً كما وصف رسول الله ﷺ ، وقارن بين الصحابي الذي يعيش في مجتمع قلما تقع فيه عينه على معصية، وقلما يسمع منكراً، وبين هذا الذي يطيع ربه ويقبض على دينه في مجتمع تقتحم فيه المعاصي عينيه اقتحاماً، فيمشي في الشارع فيجد المعاصي، ويفتح التلفاز فيجد المعاصي، وينظر على الجدران في الشوارع فيجد المعاصي، ويدخل الجامعة والمستشفى، بل ويذهب للعزاء فيجد المعاصي، وفي كل مكان يجد المعاصي، وليس هناك اعتبار لعلم ولا لمرض ولا للموت.

إذاً: عند هذه المعاصي أنت تقبض على دينك كما تقبض على الجمر، وعلى قدر ما كان رسول الله ﷺ يبجل ويعظم ويقدر من يعمل حسنة أو فضيلة، فنحن في هذا الزمان على قدر هذا الأمر يحارب الدعاة، على قدر هذا الأمر هناك إهانة وتشريد وتعذيب للدعاة؛ من أجل أنهم أمروا بالذي كان يأمر به رسول الله ﷺ :
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56]، ما هي الجريمة؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، فهذه هي مشكلة أهل الخير في زماننا، فعلى قدر ما كان الرسول ﷺ يعظم الصحابي إذا عمل خيراً، على قدر ما الداعية في هذا الزمان يحارب ويطارد، ولذا عندما تضع كل هذه الملابسات والظروف في ذهنك، وأنت تعلم أن الله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة تستطيع أن تفهم بشارة رسول الله ﷺ : (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً ويعملون مثل عملكم، فقالوا: منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم).

إن هذه المجموعة من المحاضرات غرضها أن نكون من هؤلاء القابضين على الجمر، من هؤلاء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ ، من هؤلاء الغرباء الذين لا يعتبرون بنظر الناس إليهم، وإنما فقط يعتبرون بنظر الله عز وجل لهم، من هؤلاء الذين يحلمون أن يكونوا صحابة، بل من أولئك الذين إذا عملوا أجروا، ليس فقط كأجر صحابي، بل كأجر خمسين من الصحابة.

نسأل الله عز وجل أن نكون منهم، وأن يجمع بيننا وبين حبيبنا وقائدنا وقدوتنا رسول الله ﷺ وصحابته الكرام، إن الله عز وجل على كل شيء قدير.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].


... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-21-22, 08:04 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣5️⃣

صناعة الرجال

إن من معجزات الإسلام العظمى أنه أخرج لنا رجالاً سادوا البلاد والعباد، فبنوا لنا حضارة ما عرف التاريخ مثلها، واختفت عندهم الذلة والسلبية، والأنانية والغلظة، وحقارة الأهداف وتفاهة الطموح، وأصبح الواحد منهم يوزن بأمة بأجمعها، وكان الفوز والفلاح باتباع أثر هؤلاء الرجال، والوصول إلى ما وصلوا إليه.

نتابع أسباب الإحباط من إمكانية تقليد جيل الصحابة
سبق لنا أن تحدثنا عن موضوع أسميناه: القابضون على الجمر، والقابضون على الجمر هم: المسلمون الذين يتمسكون بدينهم في زمان كثر فيه الشر، وانتشرت فيه المعاصي، وتعددت فيه الفتن.

القابضون على الجمر هم: الذين يسيرون في طريق الصحابة حتى بعد ألف وأربعمائة سنة أو أكثر من انتهاء جيل الصحابة، وهم لا يأخذون من الأجر كأجر صحابي واحد، بل يأخذون كأجر خمسين صحابياً، وعلى النقيض من هذه الطائفة الرائعة من المسلمين، أعني: طائفة القابضين على الجمر، هناك طائفة أخرى من المسلمين تعاني من مشكلة أعتبرها خطيرة، ألا وهي مشكلة الإحباط من إمكانية تقليد جيل الصحابة، أو التعامل معه كقدوة عملية نستطيع أن نعمل مثلها، فهؤلاء يعتقدون أنه من المستحيل علينا أن نفعل مثلما كان يفعل الصحابة، أو نفكر مثلما كانوا يفكرون، أو نعبد الله عز وجل كما كانوا يعبدون، لماذا يا ترى هذا الإحساس في داخل بعض المسلمين؟
سبق وأن ذكرنا فيما مضى أربعة أسباب لهذا الأمر نذكرها باختصار: أولاً: الاعتقاد بأن وجود النبي ﷺ بين ظهراني الصحابة كان سبباً في وصولهم إلى هذا المستوى الراقي، وقد ذكرنا أن وجود رسول الله ﷺ كان مهماً جداً، لكنه ليس حتمياً لتطبيق شرائع الدين، وإلا لما أمر الله عز وجل اللاحقين بنفس التكاليف التي أمر بها الصحابة، والموضوع فيه تفصيل كثير، والذي يريد أن يعرف التفاصيل فليرجع إلى الدرس السابق.

ثانياً: رفع الصحابة رضوان عليهم فوق بشريتهم، والحديث عنهم بشيء من المبالغة التي تؤدي إلى استحالة التطبيق.

ثالثاً: الاعتقاد بأن كل الصحابة تفوقوا في كل المجالات بصورة واحدة، ونسيان أن كل صحابي قد تفوق في مجال من المجالات، وتفوق عليه غيره في مجال آخر، ولن تستطيع كإنسان أن تحصّل إنفاق أبي بكر مع إدارة عمر مع جهاد خالد مع علم عائشة مع فقه عبد الله بن عباس مع حياء عثمان مع قضاء علي، فذلك مستحيل، فالناس التي تنظر للجيل كله كوحدة واحدة صعب عليها أن تقلد كل الجيل، وإنما تقلد واحداً تشعر أنت أن إمكانياتك وقدراتك ومواهبك تتوافق مع المجال الذي هو كان متفوقاً فيه.

رابعاً: تعمد بعض العلماء إغفال أخطاء الصحابة الناتجة عن كونهم بشراً، والبشر جميعاً يصيبون ويخطئون، فالعلماء عملوا ذلك منهم بحسن نية، وحرصاً على تنزيه الصحابة، لكن هذا الأسلوب من التربية أدى إلى اعتقاد أن الصحابة لا يخطئون أبداً، وبالتالي إذا أخطأ المسلم الآن فإنه يحبط في أن يصل يوماً ما إلى ما وصل إليه الصحابي.

إذاً هذه أربعة أسباب أدت إلى إحساس بعض المسلمين أو كثير من المسلمين إلى أنه صعب عليه أن يقلد الصحابة، فلا يفعل كثيراً من الطاعات، وإذا ذكرته بصحابي ما وقلت له: كان يفعل كذا وكذا، يقول لك: والله أنا لست صحابياً، فأنا لست عبد الله بن عمرو ولست أبا ذر، وقد يرتكب المنكرات، فإذا ذكرته بصحابي تغلب على شهوته وامتنع عن المنكر، قال لك: والله أنا لست صحابياً فلست أبا بكر ولا عمر وهكذا.

والحقيقة أن هذا شيء خطير جداً، أن يفتقد المسلمون قدوتهم الصالحة، أن يعتقد المسلمون أن هذه القدوات قدوات غير عملية، أو أن اتباعها ضرب من الخيال.

وسنتكلم بمشيئة الله تعالى عن سبب خامس مهم جداً أدى إلى اعتقاد كثير من المسلمين إلى استحالة تقليد الصحابة، ولذلك عندما نعالج هذا السبب -في اعتقادي- سيؤدي إن شاء الله إلى خير كثير، وسيكون عند كثير منا أمل في الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة إن شاء الله تعالى.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-21-22, 08:05 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣6️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

عدم دراسة سيرة الصحابي كاملة

خامساً: أن كثيراً من المسلمين يأخذ قصة الصحابي من نصفها، فيبدأ في دراسة حياة الصحابي منذ لحظة إسلامه، ويغفل تماماً الفترة التي عاشها الصحابة في الجاهلية، وينسى كيف كان الصحابي قبل أن يصير إلى ما صار إليه، لذلك إذا قمت بدراسة حياة الصحابي كوحدة متكاملة، فدرسته في جاهليته،
ثم درسته في إسلامه، وقرأت عن أخلاقه قبل الهداية، وأخلاقه بعد الهداية، وعلمت أهدافه وطموحاته قبل أن يمن الله عز وجل عليه بهذا الدين، وقارنتها بأهدافه وطموحاته بعد أن أصبح مسلماً، عند ذلك تعلم أن الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة ليس بمستحيل، لأن كثيراً من الصحابة بدءوا بدايات أصعب بكثير من بدايتنا، فأنت عمرك -مثلاً- ما سجدت لصنم أو عبدت شجرة، وليس كل المسلمين كانوا مدمنين على الخمر قبل الهداية، وليس كثيراً من المسلمين قعد سنوات من عمره لا بأس بها يعذب ويقتل في المؤمنين،

ولست من قبيلة بينها وبين قبيلة الرسول ﷺ عداء طويل وقديم مستحكم يصدك عن الإيمان، فكثير منا كانت بدايتهم أفضل بكثير من بدايات الصحابة، فإذا كان الصحابة الذين بدءوا هذه البدايات الشاقة قد وصلوا إلى هذه الدرجة، فمن البديهي أن الذي بدأ من درجة أفضل يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، لكن بشرط أن يسير في نفس الطريق الذي ساروا عليه، والذي غيَّر الصحابة ونقلهم هذه النقلة الهائلة من عباد الحجر إلى قواد البشر، ومن أذل الناس إلى أعز الأولين والآخرين،

ومن أمة لا يأبه بها ولا يعتد برجالها ولا نسائها، بل ولا يعتد بوجودها أصلاً إلى أمة تسود البلاد والعباد، وتبني حضارة ما عرف التاريخ مثلها أبداً، وليس في ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، بل في سنوات معدودة، هو ببساطة: الإسلام، فالذي غيَّرهم هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، والذي غيرهم هو اتباعهم لرسول الله ﷺ ، والذي غيرهم هي هذه الكلمة الخالدة العظيمة والثقيلة جداً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لذلك كان كثيراً جداً ما يقوله النبي ﷺ للناس في مكة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، وصدق رسول الله ﷺ ، فالذي قال الكلمة بصدق ملك العرب والعجم.

وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يقول رسول الله ﷺ : (إن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله).

والقرآن الكريم كتاب عجيب ومعجز، لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي غرائبه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]،

وتخيل نفسك تحمل كتاباً لا يستطيع أهل الأرض جميعاً على اختلاف علومهم وخبراتهم وفنونهم ومعارفهم وبلدانهم وأزمانهم الإتيان بمثله، وإعجازه متجدداً ومتعدد: إعجاز لغوي، وإعجاز بلاغي، وإعجاز علمي، وإعجاز تاريخي، وإعجاز تشريعي، وإعجاز غيبي، يخبرك عن أشياء لم تحصل بعد وستحصل يوم القيامة، هذا هو إنباء العليم الخبير سبحانه وتعالى، وأنواع مختلفة ومتعددة من الإعجاز.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-22-22, 08:05 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣7️⃣

صناعة الإنسان في الإسلام

لكن تبقى معجزة القرآن الكبرى ومعجزة الإسلام العظمى هي: صناعة الإنسان، فشتان بين الرجل قبل إسلامه وبعد إسلامه، فبعد إسلامه كأنك جئت برجل جديد تماماً، فاختفت الذلة واختفت السلبية، واختفت الأنانية والغلظة، واختفت حقارة الأهداف وتفاهة الطموح، واختفت كل هذه المظاهر المنكرة، وظهر خلق جديد اسمه الإنسان، لقد أصبح الإنسان إنساناً بعد إسلامه،

وقبل الإسلام كان مفتقداً لأهم شيء يميزه كإنسان، كان يفتقد عقله، وانظر إلى وصف ربنا سبحانه وتعالى لمن لم يؤمن، لمن لم يعرف كلمة التوحيد، لمن لم يوجه حياته كلها لله رب العالمين، يقول الله عز وجل في كتابه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، فهو في الشكل الخارجي إنسان، له قلب مثل قلب الإنسان، لكن لا يؤدي الوظيفة التي خلق من أجلها: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ} [الأعراف:179]، بل لا يستحقون أن يكونوا أنعاماً: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]،

فكل إنسان لا يعرف ربه، ولا ينفع معه شرع ولا دين ولا إسلام، لا يستحق لقب إنسان مهما كان شكله طيِّباً، أو لبسه حسناً، أو أمواله كثيرة، أو سلطانه عظيماً، ومهما كان يتحرك كالإنسان، ويأكل كالإنسان، ويتكلم كالإنسان، لكن فقد أغلى نعمة عند الإنسان، فقد الدليل على إنسانيته، فقد العقل الذي يختار به طريق الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]،

فالإنسان قبل الالتزام بهذا الدين ميت موتاً حقيقياً، وإن كان ظاهراً يقوم ويقعد ويمشي ويتحرك ويأكل ويشرب، لكنه ميت القلب، ميت الإحساس، ميت المشاعر، ميت العقل، ميت الغاية، ميت الهدف، ليس له أي قيمة، وبعد الالتزام بالإسلام تدب فيه الحياة فجأة، فتتحرك كل ذرة في جسده، وكأنه ولد من جديد، وبعث من جديد، وصار يرى الحق بعد سنوات من الظلام،

وانظر إلى كلام ربنا عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].

وتعالوا بنا لننظر كيف أن الإنسان يسلم؟

وكيف أن الواحد ينتقل من الكفر إلى الإيمان؟

وكيف أن الواحد ينتقل من اللاإنسانية إلى الإنسانية، ولنتأمل الطريقة الرائعة التي اختارها ربنا عز وجل لعباده إذا أرادوا أن يخرجوا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، فأول شيء يعمله الإنسان: الغسل، ليس من نجاسات الجسم الخارجية أو المتعلقات الظاهرة، بل من كل متعلقات الكفر والرذيلة.

الخطوة الثانية: أن يلبس ملابساً طاهرة.

الخطوة الثالثة: أن يقول بلسانه وقلبه وجوارحه وكل ذرة في كيانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وبهذا صار مسلماً، وبهذا يكون قد ولد من جديد، وبهذا يكون قد بعث من جديد، وصار إنساناً له إنسانيته.

الخطوة الرابعة: صل ركعتين، وقل فيها: يا رب أنا رجعت إليك بعد سنوات طويلة من الهروب، واقتربت منك يا رب بعد سنوات طويلة من البعد، وعندها أيضاً ستقرأ في هاتين الركعتين قرآناً، وستقرأ أعظم نعمة التي تجعل من الإنسان إنساناً، وبدونه لا يوجد إنسان، لذلك فإن الله يقدم نعمة القرآن على نعمة خلق الإنسان، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]، ثم قال: {خَلَقَ الإِنسَانَ}
[الرحمن:3]، فالإنسان من غير قرآن ليس بإنسان، فهذه هي صناعة الإنسان في الإسلام.

وسأسألكم سؤالاً يحتاج إلى قليل من التفكير والتأمل، هل نحن أسلمنا؟! ولا تستغرب السؤال فكلنا لنا أسماء إسلامية، وكلنا ولدنا مسلمين،
لكن يا ترى هل نحن أسلمنا إسلاماً حقيقياً؟

ألسنا نريد أن نبتدي بداية كبداية الصحابي الذي اغتسل ولبس الثياب وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصلى ركعتين،

ثم بعد ذلك باع نفسه لله عز وجل؟
وهل عرفنا معنى: إسلام؟
أليس إسلاماً لله رب العالمين؟

فتسلم نفسك له عز وجل، فإذا أمرك بالإنفاق فأنفق، وإذا قال: جاهد فجاهد، وإذا قال: عاهد فعاهد، وإذا قال: أنا أريدك في المكان الفلاني لزمك أن تبقى في المكان الفلاني، وإذا قال: أنا لا أريدك في المكان الفلاني لزمك عدم الذهاب إليه، فهذا هو الإسلام الذي أمر الله به: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، وهذا هو المسلم الذي أسلم إسلا

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
12-22-22, 08:06 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣8️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
تعالوا لنرى نموذجاً لصحابي قبل الإسلام وبعده
عمر بن الخطاب رضي الله عنه

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي يُعدُّ شخصية من أروع الشخصيات في تاريخ الإنسانية كلها، هذا الرجل الذي تجسدت فيه كل معاني الكمال البشري، ولا تستغربوا من كلمة: (الكمال)، لأن الرسول ﷺ أخبر أن كثيراً من الرجال قد كمل، ففي مسند الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، عن أبي موسى الأشعري قال: (كمل من الرجال كثير)،

بمعنى: أنه استكمل الفضائل التي يمكن أن تكون موجودة في الرجال، من عقيدة وتقوى وإخلاص وأمانة وعدل وقوة وتواضع وزهد وذكاء وقيادة، فقد كان شخصية متكاملة متوازنة، شخصية نادرة فعلاً، وأنا أريدك أن تستخدم كل وسائل التنقيب والتفتيش وتحاول أن تجد لنا واحداً مثله في أمة من الأمم، كأمريكا مثلاً، أو في أمم كاملة كأوروبا،

أو في أمة كاملة كالصين أو اليابان أو روسيا، وعدِّد ما شئت من الأمم غيرها، فمستحيل والله أن تجد واحداً على عشرة منه، أو واحداً على مائة، أو واحداً على ألف من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهذه والله ليست مبالغة، بل ووالله العظيم أن هذا أقل من الواقع بكثير، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو وزن بأمة الإسلام -ليس أمريكا ولا الصين ولا روسيا فقط- لرجحت كفته،

إذا خلا منها رسول الله ﷺ وأبو بكر، فهو في كفة وبقية الأمة في كفة بما فيها عثمان وعلي وطلحة والزبير وحمزة وخالد وسعد وكل الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكذلك الذين أتوا من بعدهم، كـ البخاري ومسلم وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، بل وعلماء الطب والهندسة والفلك والكيمياء، وكذلك بما فيها من المجاهدين والعلماء والدعاة والصالحين، فكل الأمة يرجح بهم عمر رضي الله عنه، وهذا ليس من كلامي، بل من كلام رسول الله ﷺ ،

فقد جاء عنه بأكثر من رواية، منها: ما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال ﷺ : (وجيء بـ عمر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي في كفة فوضعوا فرجح عمر)، إذا: فنحن نتكلم عن رجل أسطورة، وشخصية نادرة تماماً.

وتعال لننظر ونتأمل من هو عمر بن الخطاب قبل إسلامه؟
وما هو تاريخ هذه الشخصية النادرة في تاريخ الأرض؟
وكيف كانت بداية هذا العملاق؟
يا ترى هل كانت بدايته كبدايتنا أم أصعب؟

عمر بن الخطاب جلس أكثر من نصف حياته يسجد للأصنام، ويقدم فروض العبادة والطاعة، فهو رضي الله عنه ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، يعني: أنه كان أصغر من الرسول ﷺ بثلاث عشرة سنة، فقد كان عمره سبعة وعشرين سنة وقت البعثة، وأسلم بعد ست سنوات كاملة من الرسالة، ومعنى هذا أن عمره عند الإسلام كان ثلاثاً وثلاثين سنة في أصح الروايات، وفي رواية تقول: أن عمره عند الإسلام كان ستاً وعشرين سنة،

ومات وعمره ثلاث وستون سنة تقريباً، يعني: أنه ثلاث وثلاثون قعد سنة في الكفر، وثلاثون سنة وهو مؤمن، وضمن سنوات الكفر ست سنوات كاملة وهو يعيش مع الرسول ﷺ في مكة،

ومع ذلك يصر على كفره وإنكاره لوحدانية الله عز وجل، ويصر على عبادة الأصنام، فهذا هو عمر قبل أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يكن كافراً عادياً، بل كان من أشد الكفار غلظة على المسلمين، فقد كان يعذب جارية بني مؤمل -وبني مؤمل أحد فروع قبيلة عمر، وقبيلة عمر هي بني عدي- من الصباح إلى المساء، ويتركها في الليل ليس رحمة بها ولكن يقول: والله ما تركتك إلا ملالة، أي: أنه تعب من تعذيبها،
وهذا كان عقل عمر الذي رضي أن يسجد لصنم، فيطلبه ويرجوه ويخافه ويعتمد عليه، هو نفس العقل الذي كان بعد إسلامه، فعرف ربه كما لم يعرفه كثير من الخلق، وهو هذا العقل الذي صار يدير دولة كبيرة كسرت شوكتي فارس والروم اللتين ملكتا المشرق والمغرب، ما هو الذي حصل في عقل عمر؟
لا إله إلا الله، محمد رسول الله خلقت إنساناً جديداً.

وانظر إلى قلب عمر كيف كان يقبل أن يجلد بالسياط امرأة مسكينة ضعيفة، لا لشيء إلا لأنها آمنت بالله وحده، وما نقم منها إلا أنها آمنت بالله العزيز الحميد،

وهذا هو قلب عمر نفسه بعد كلمة الإسلام، فقد تغير وصار يخاف خوفاً غير متخيل على كل مسلم في الأرض، سواء كان يعرفه أو لا يعرفه، فقد كان يقول لقواد جيشه: لا تدخلوا بجيش المسلمين في غيضة، يعني: لا تدخلوا الجيش في أي شيء فيه خطورة، فإن رجلاً من المسلمين أغلى عندي من مائة ألف دينار

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-23-22, 08:45 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣9️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
عمرو بن الجموح رضي الله عنه

وهذا عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه الذي لم يُسمع عنه شيئاً قبل إسلامه، ولا أحد كان يعرفه في الجزيرة العربية، فعقليته كانت ساذجة وبسيطة ومحدودة جداً، لدرجة أنه قعد سنين طويلة يسجد لصنم من خشب عمله بيديه، لا أقول: عشرين أو أربعين سنة، بل أكثر من ستين سنة وهو يسجد لصنم صنعه بيده، فوهن العظم وخط الشيب في الرأس، وكان المفروض أن يزداد حكمة كما يقولون، لكن كان كبيراً جداً في السن ولا يوجد عقل،
وكان يمكن أن يموت في أي لحظة ويغلق الستار على حياة تافهة لا تساوي شيئاً في ميزان الناس، بل ولا في ميزان التاريخ ولا في ميزان الله عز وجل، لكن الله سبحانه وتعالى أراد له الهداية، فآمن بعد الستين، وحدث انقلاب هائل في حياته، أو قل: حدث انعدال هائل في حياته، ففطرته عدلت، وعقله المظلم استنار، وطموحاته التافهة الفارغة عَظُمت.

وهنا تأمل في عمرو بن الجموح كيف صار يفكر بعد الإسلام، وكيف أن عرجته الشديدة لم تمنعه من الجهاد في سبيل الله، وكان معذوراً في ذلك، فعندما تجهز المسلمون لغزوة أحد أصر عمرو بن الجموح أن يخرج مع المسلمين للجهاد، وحاول أبناؤه أن يمنعوه من الخروج، لكنه ذهب يشتكيهم إلى رسول الله ﷺ ، ولم يقل: أنا معذور بنص القرآن الكريم:

{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61]، بل ذهب إلى رسول الله ﷺ وقال له: (يا نبي الله إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة)، فأنا لا أريد عرجتي هذه أن تمنعني من الجهاد ومن دخول الجنة، وانظروا إلى أي حد هو مشتاق إلى الجهاد، وانظروا إلى الأهداف العالية والطموحات السامية، فقال رسول الله ﷺ لأبنائه: (دعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة)، وتأمل قوله: (يرزقه الشهادة)، أي: يرزقه الموت فالشهادة موت، لكنه موت في سبيل الله،

فتأمل الهدف الذي صار عند عمرو بن الجموح، والأمنية التي تمناها الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن الجموح ثم رفع عمرو بن الجموح يده إلى السماء وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائباً.

فالخيبة أن يعود إلى أهله سالماً، والغاية والأمنية والمطلب والفوز أن يموت في سبيل الله، فما الذي حصل في عقل وقلب وجوارح عمرو بن الجموح رضي الله عنه؟ وكيف تغير هذا التغيير الهائل؟ فقد قعد أكثر من ستين سنة في الكفر ولم يمض عليه في الإسلام غير ثلاث أو أربع سنوات، وكيف نما فكره وعقله بهذه الصورة؟!

لقد صنع الإسلام عمرو بن الجموح وصيَّره إنساناً، فعرف طريق ربه عز وجل، وقبل هذا كان شخصاً آخر، لكن الآن أصبح عمرو يعيش حياة عظيمة، هي حياة الإنسان كما أراده الله عز وجل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فلا ينفع أن يكون خليفة الله عز وجل يعيش حياة الكفر والشرك واللعب والمعصية والتفاهة والفراغ، بل حياة الخليفة حياة جادة، وحياة الخليفة حياة الإنسان.

وحقق الله لـ عمرو بن الجموح ما تمناه، فمات شهيداً في هذه الغزوة، ولم يمنعه العرج من أن يقوم بشيء عجز عنه كثير من الأصحاء، فيا ترى من كانت نقطة بدايته أسهل نحن أم عمرو بن الجموح؟ ويا ترى مَنْ منا مرت عليه ستون سنة في أفكار قديمة خاطئة لا يستطيع أن يغيرها الآن؟ ويا ترى من فينا رضي أن يسجد لخشب ستين سنة؟ ويا ترى من فينا شديد العرج ومع ذلك يشتاق إلى جهاد ونضال وشهادة؟

لا شك أن بدايتنا أسهل، ولكن نحتاج إلى لحظة صدق، ونحتاج إلى أن نقبل الإسلام بالمعنى الذي يريده الله عز وجل، لا المعنى الذي تريده أهواؤنا وشهواتنا ورغباتنا، ونعمل كسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، فتسليم كامل مطلق، فكل حياتنا لله عز وجل وحده، وهذا هو الشيء الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-23-22, 08:46 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣0️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
مصعب بن عمير رضي الله عنه

مصعب بن عمير رضي الله عنه، ذلك الشاب المترف، يعني: بلغة العصر الحديث: مدلع جداً، فقد كانت أمه غنية، وكانت تأتي له بملذات العيش من مكة ومن خارجها، وتعود على الترف المستورد، فالملابس من اليمن، والعطور من الشام، ولم يكن له هم في حياته إلا البحث عن اللذة المادية، وليس له أي تدخل بالذي يحصل حوله في الدنيا، وليس له في الدين أمر أو شأن، وكذلك في العلم والسياسة والحرب ليس له أي دخل، وليس له في مشاكل الناس أي دخل، فعاش حياة فارغة تماماً، وهذا كحال الشباب اليوم،

فكثير من الشباب ليس له أي اهتمام إلا في لبسه وسيارته والنادي الذي يشترك فيه،

والموبايل الذي يحمله، ما لونه؟ ما نوعه؟ ما رنته؟ هل فيه كاميرا أم لا؟ هل فيه ألوان أم لا؟

فتنقلب الدنيا حوله مائة مرة وهو لا يدري ما الأمر؟

لأنه مشغول ليل نهار: أغنية، فيلم، مباراة، قصة شعر، صحبة، سهرة، سيجارة، مجلة، ويخيل له أنه سعيد بذلك! وهذه قصة لواحد من هؤلاء الشباب،

فقد أزعجني أسبوعين أو ثلاثة وهو يرن لي على الموبايل ويقفل، خمس أو ست مرات في اليوم، ويعتبر هذا نوعاً من المرح، وهو في الحقيقة خفة دم، ثم أخذته الحمية فأصبح يرن لي على الموبايل عشرين مرة في اليوم، بل وفي أوقات صعبة جداً، فقد أكون نائماً أو مشغولاً أو أقرأ شيئاً، ثم تطور معه الموضوع فصار يبعث رسائل: أنا أعرفك، ألست أنت الدكتور راغب؟ هل عرفتني بعد أم لا؟

والحقيقة أنني فكرت أن أبلغ شرطة التلفونات، لكن لم أعمل ذلك؛ لأن هذا الشاب مسكين، فوقته ضائع، وفكره ضائع، وجهده ضائع، والمشكلة أن هذه الأشياء تسبب له نوعاً من السعادة، سعادة التافهين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نعود مرة أخرى لـ مصعب بن عمير الذي كان يعيش مثل هؤلاء، لكن لم يكن عنده موبايل، يعني: أنه كان يعيش كهؤلاء ثم ماذا حصل؟

حصل أنه أسلم لله عز وجل، أسلم بالمعنى الذي قلناه، ومن ثم حصل له نقلة هائلة في كيان وتكوين هذا الشخص، فتحول فجأة من الشاب المترف الناعم المدلع إلى شاب صلب قوي عملاق، صاحب تقوى وزهد وعلم وقوة وتضحية وفروسية، فحرمته أمه من كل الدنيا الحلوة التي كانت تأتي بها له، لكنَّ مصعباً ذاق معنى السعادة الحقيقية،

وعرف أن السعادة الحقيقة ليست في لبس أو أكل أو عطر،
وإنما السعادة الحقيقة في إحساسك أن لك قيمة، وأن لك هدفاً وغاية، وأنك تعرف ربك وتعرف كيف تعبده، وأنك تجاهد في سبيل الله، وأنك تهاجر في سبيل الله، وأنك تضحي في سبيل الله،

فقد تغيرت مقاييس السعادة تماماً في حياة مصعب، فقد هاجر إلى الحبشة الأولى والثانية، ثم ذهب إلى المدينة المنورة ليعلم أهلها الإسلام،
وأصبحت سعادته الكبرى أن يرى رجلاً ينتقل من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، حتى وإن كان لا يعرف هذا الرجل من قبل، بل ولم يكتف مصعب بالهجرة إلى الحبشة وتعليم الناس في المدينة ودعوتهم إلى الإسلام،

وبأن كان سبباً مباشراً في إسلام مدينة كاملة أصبحت عاصمة للإسلام والمسلمين، لم يكتف بأنه نقل الدعوة من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لم يكتف بذلك كله، بل أراد أن يذوق من كل أنواع السعادة في الإسلام، فهو قد ذاق حلاوة العقيدة، وذاق حلاوة الإخوة، وذاق حلاوة الهجرة، وذاق حلاوة الدعوة، فهو يريد أن يذوق حلاوة الجهاد في سبيل الله، وهذه الأمور لها حلاوة لا يعرفها ولن يذوقها إلا الذي جربها، ولن نستطيع أن نصفها لك، فهي حلاوة فيها مشاق ومتاعب، لكن الذين يعملونها يستمتعون بها، بالإضافة إلى أنهم يتعاملون معها على أنها فرض من ربنا سبحانه وتعالى.

ثم خرج مصعب يجاهد في سبيل الله، فخرج في بدر، ثم خرج في أحد، وانظروا إلى الشاب مصعب بن عمير الذي كان شاباً يعيش على هامش التاريخ قبل أن يسلم، وانظروا إليه في أحد وهو يحمل راية المسلمين، وانظروا إليه بعد أن أصبح إنساناً قد انتقل من اللاإنسانية إلى الإنسانية، مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين في أحد قاتل بضراوة، وجاهد بإخلاص، وحارب بالثبات النادر، فقطعت يده اليمنى، فأمسك اللواء بيده اليسرى، فقطعت يده اليسرى،

ثم سقط مصعب على الأرض، لكنه أمسك الراية بعضدية ولم يسمح لها أن تسقط، فلا يمكن أن تسقط راية الإسلام وما زالت به حياة، وأصبحت راية الإسلام هذه قضية مصعب الكبرى، وخدمة الإسلام ونصرته، أصبحت أهداف وطموحات مصعب، وإلى آخر نبضة قلب في حياته كان مصعب في سبيل الله، ومن أرض أحد إلى الجنة مباشرة، فقد استشهد رضي الله عنه وأرضاه وذهب إلى النعيم الحقيقي، لا النعيم الدنيوي، فكل هذا لا يساوي غمسة ولحظة واحدة في النعيم المقيم، ففي الجنة خلود ولا موت،

فهذه هي حياة مصعب بن عمير، فيا ترى هل تريد أن تعيش عيشته أيام اللبس والعطر والمتعة والفراغ وكل حياته السابقة للإسلام؟ أم تريد أن تعيش عيشة أيام الهجرة والدعوة والجهاد والتضحي

.... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-24-22, 08:12 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣1️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
قبيلة غفار

كل هذه الأمثلة والقصص التي ذكرناها هي لأفراد لامس الإيمان قلوبهم فتغيرت، لكن خذ قصة ومثالاً لقبيلة كاملة لامس الإيمان قلوب أفرادها، فحدثت في حياتها النقلة الهائلة، وليس أي قبيلة، بل قبيلة اشتهرت بالسرقة وقطع الطريق، يعني: أنهم كانوا مجموعة من اللصوص وأبعد الناس عن طريق الهدى والصلاح،

قبيلة غفار، القبيلة التي منها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي هو من أوائل من أسلم وعاد إلى قبيلته يدعوها إلى الإسلام، يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، يدعوهم إلى أن يعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو، يدعوهم إلى ترك منهج الحياة الذي كانوا عليه تركاً كلياً، يدعوهم إلى أن يسلكوا منهجاً مغايراً تماماً،

ومعنى ذلك: أنه يدعوهم إلى أن يغيروا كل شيء في حياتهم، وهذا ليس سهلاً، فبدلاً من أن يقطعوا الطريق على الناس يدعوهم إلى أن تكون رسالتهم في الحياة أن يحفظوا للناس دينهم وأموالهم وحياتهم، وبدلاً من أن يأخذوا من الناس أموالهم سيدعوهم إلى أن يعطوهم من زكاتهم وصدقاتهم، وبدلاً من أن يمتلكوا قلوب الناس بالسطو على الناس بالقوة والبطش والإجرام والظلم يدعوهم إلى امتلاك قلوب الناس بالرفق والدعوة والحلم والحب.

فهذه معاني ما أتت في فكر قبيلة غفار قبل هذا نهائياً، وكان أمراً خطيراً على حياة أبي ذر أن يذهب ليغير منهج قبيلة كاملة، قبيلة اعتادت على قطع الطريق، ثم يقول لها: عيشوا حياة ثانية، ويصر على موقفه هذا، وتأملوا أيضاً في قبيلة غفار كيف أن مجموعة من اللصوص تعاونت على الشر والإثم ستغير حياتها كلها،
وتنتقل إلى حياة أخرى نظيفة وجميلة وسعيدة بسعادة الإسلام لا بسعادة الدنيا، لا شك أن خطوة قبيلة غفار أصعب من كل خطواتنا، فلا يوجد أحد منا عنده هذه البداية الصعبة التي كانت عند قبيلة غفار، وأريدك أن تقف مع أبي ذر وهو واقف يفكر في كيف أنه سيكلم هؤلاء الناس، وسبحان الله فإن أبا ذر لم يثنه تاريخ القبيلة عن أن يتحدث معهم في أمر الإيمان، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فآمنت وأسلمت قبيلة غفار كاملة، آمن اللصوص وقطاع الطريق، فانتقلوا بإيمانهم هذا من درجة قطاع الطريق إلى درجة الصحابة مرة واحدة، وكل هؤلاء صاروا صحابة وقبلها بلحظة واحدة كانوا كلهم قطاع طريق،
وبعدها بلحظة واحدة صاروا مرة واحدة من الصحابة من أفضل أجيال الخلق، تماماً كالذي ينتقل من الأرض إلى السماء والفارق لحظة واحدة، لحظة صدق، فيا ترى كم واحداً منا كانت بدايته أسوأ من بداية قبيلة غفار؟ أعتقد أنه لا أحد، وحتى لو كان فينا واحد تاريخه كله سرقة واحتيال وإجرام لا يمكن أن يبتدئ بداية كبداية قبيلة غفار، وإنما يكفي أن يعزم على التوبة ويندم على ما فات، ويقرر أن لا يعود إلى المعصية، فتصبح صفحته نقية طاهرة بيضاء.

وانظر إلى التعليق النبوي الرائع على إسلام قبيلة غفار، ففي البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم جميعاً أنهم قالوا: قال رسول الله ﷺ : (غفار غفر الله لها)، أي: أن كل الذي فات قد محي، وانظر إلى أي حد الرسول ﷺ يأتي لهم بمعنى لطيف جداً مناسباً لهم،
ويمكن أن يقول أحدهم: تاريخي كله سرقة وقطع طريق وقتل ونهب وظلم، فهل هناك شيء اسمه التوبة؟

نعم، فهذه غفار شغلتها قطع الطريق فغفر الله لها بالتوبة والرجوع إليه،
فيا ترى هل نريد أن نعيش حياة غفار قبل الإسلام، أم نريد أن نعيش حياة غفار بعد الإسلام؟
نحن الذي نختار ونقرر.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-24-22, 08:13 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣2️⃣

اختيار الطريق

إن الله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة، فقد أعطى هذا الإنسان عقلاً يستطيع أن يميز به بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وأنزل له شرعاً سهلاً مفهوماً واضحاً، جميلاً وأعطاه فطرة سليمة تقبل الطيب وتكره القبيح، وأعطاه بعد كل ذلك فرصة الاختيار، فيختار هو كل شيء: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]،

أي: وضحنا له الطريقين: طريق الهداية وطريق الضلالة، طريق الخير وطريق الشر، واسمع وتدبر في الكلام المعجز في كتاب الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الدنيا وملذاتها وشهواتها غير المكبوتة، الثمرة ولو كانت حراماً، ثم بين الله ماذا سيحصل بعد ذلك فقال: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}
[الإسراء:18]، فالذي يريد الدنيا فالله سيعطيه، والذي يريد المعصية سيعملها، والذي يريد الحياة التافهة الحقيرة التي لا وزن لها سيأخذها، لذا فإن أهل المعاصي يمكن أن يرتفعوا وأن يغتنوا، ويمكن أن يحكموا، لكن ما هو الوضع في الآخرة؟ يقول الله عز وجل في بقية الآيات: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]،
أي: يدخلها ممقوتاً مطروداً من رحمة الله عز وجل، فهذا هو الفريق الذي عاش حياته كلها بهذه الصورة، فأراد العاجلة وليس له في الآخرة نصيب.

الفريق الثاني: يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} [الإسراء:19]، أي: يريد الجنة، وتنبه فالرغبة وحدها لا تكفي، وكلام اللسان فقط ليس كاف، وإنما لا بد من العمل والحركة والسعي، قال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، لا بد من شغل وعمل، {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وانظر إلى تعليق الله عز وجل على الفريقين فيقول: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]،
فالذي يريد دنيا ولا يريد آخرة سيأخذ، والذي يريد آخرة حتى ولو كانت على حساب الدنيا سيأخذ أيضاً إن شاء الله.

والمهم ماذا تريد أنت؟
فأنت الذي تحدد، وأنت الذي تختار ما لا يوجد أحد يظلم، لذا فإن الصحابي في لحظة الصدق التي أسلم فيها اختار بصدق ومضى في الطريق الواضح فوصل والحمد لله، ونحن كذلك إن أردنا أن نصل،

فالله عز وجل لا يظلم، وكلامه سبحانه وتعالى كله حق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، لا أحد،

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، لا أحد،
وهو القائل كما سبق: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، أي: إن عملت للآخرة ستأخذ نصيبك إن شاء الله، كلام واضح لا يحتاج إلى تأويل، تريد دنيا أم تريد آخرة؟

كن واضحاً وصادقاً مع نفسك، هذا هو مفهوم الآيات التي ذكرناه منذ قليل.
وخلاصة القول: أن الصحابة لم يخلقوا صحابة، بل عاشوا قبل إيمانهم حياة بعيدة كل البعد عن مظاهر الإسلام أو الالتزام، فمنهم من كان يعبد الحجر أو الشجر، ومنهم من كان يسرق، ومنهم من كان يظلم، ومنهم من كان يشرب الخمر،
ومنهم من كان يأد البنات، ومنهم من كان يعذب المؤمنين والمؤمنات، ثم عرض لهم طريق الخير وطريق الشر بوضوح، وفي لحظة صدق اختاروا طريق الخير فصاروا صحابة، بينما أناس كثيرون عاشوا معهم في نفس البلد والزمن والظروف، ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم اختاروا طريق الشر فصاروا مشركين ومنافقين ويهود.

فالإنسان هو الذي يختار، وليست عظمة الإنسان بكونه عاش في زمان معين، أو بكونه صاحب مال أو سلطان أو جاه، أو بكونه من سلالة فلان أو فلان، لا، إنما عظمة الإنسان الحقيقية تكون بقدر تعظيم هذا الدين، وبقدر حب الله عز وجل في قلبه، وبقدر قيمة الشرع في حياته، وبقدر احترام الإنسان لنفسه كإنسان، فهذا هو الإنسان في الإسلام.

وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يحشرنا مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-25-22, 08:07 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣3️⃣

الصحابة والإخلاص

الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو أساس قبول الأعمال عند الله عز وجل، فمن أخلص فقد نجا، ومن أشرك فقد هوى، وقد وردت نصوص كثيرة ترغب فيه وتحذر من الشرك، وهو معنى من المعاني العظيمة التي قام بها الصحابة في حياتهم، لأنهم علموا أنه الطريق الموصل إلى الله عز وجل.

أول الطريق الإخلاص
ذكرنا أن بدايات الصحابة كانت صعبة، بل هي أصعب من بداياتنا ولا شك، لأن الصحابة كانوا يعبدون إلهاً غير الله عز وجل، ونحن بحمد الله ولدنا مسلمين، فالأب والأم عند الصحابة كانوا من الكفار، ونحن والحمد لله الآباء والأمهات من المسلمين المؤمنين،

وانتقال الصحابة من الكفر إلى الإيمان اختبار صعب جداً، ونحن والحمد لله لم نتعرض إلى هذا الاختبار الصعب، فانتقالنا من عدم الالتزام بهذا الدين إلى الالتزام به لا شك أنه أسهل من انتقال الصحابة مما كانوا عليه إلى ما وصلوا إليه.
ونحن في هذه المجموعة من المحاضرات ومنها هذه المحاضرة إن شاء الله سوف نأخذ في كل محاضرة بصفة من صفات الصحابة، أو معنى من المعاني التي مارسها الصحابة في حياتهم، وننظر كيف كانوا يفهمونه؟ وكيف تحركوا بهذا المعنى في حياتهم؟

وهو هذا الطريق الذي مشى فيه الصحابة ووصلوا فيه إلى ما وصلوا إليه من نعيم الله عز وجل في الآخرة كما قال الله عز وجل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
إذاً لا بد أن نكون في هذه الدروس عمليين، فنريد أن نعرف كيف من الممكن أن نقلد جيل الصحابة، وكيف من الممكن أن نمشي في نفس الطريق الذي مشوا فيه؟ وفي هذه المحاضرة سنحاول أن نضع أيدينا على أول الطريق الذي سار فيه الصحابة، وسنتحدث عن أهم صفة من صفات الصحابة،
وهو شيء مهم جداً كان يميز جيل الصحابة، وأنا أعتبر هذا الشيء هو أهم شيء في حياة الصحابة مطلقاً، إذ لا يمكن أن يكون هناك مؤمن بغير هذا الشيء وبغير هذه الصفة، بل ولا يمكن أن يُقبل عمل بغير هذه الصفة، إذ أن هذه الصفة صفة خطيرة، هذه الصفة هي: صفة الإخلاص لله عز وجل، وأنا أعرف أن كل واحد منا سوف يقول: أنا مخلص،
و يعتقد اعتقاداً جازماً أنه مخلص تمام الإخلاص، لكن كيف كان مفهوم الصحابة عن الإخلاص؟ وكيف استوعب الصحابة هذه الصفة؟

وكيف مارسوا هذه الصفة في حياتهم؟ وقبل أن أبدأ في وصف فهم الصحابة لصفة الإخلاص، أحب أن أذكر أن هذا الدرس من أهم الدروس وأخطرها في حياة المسلم، ولهذا نريد أن نركز ونفهم كل كلمة في الدرس؛ لأن الذي سيسقط في امتحان الإخلاص سوف يسقط في النار، والذي سينجح فيه سيدخل الجنة إن شاء الله تعالى.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-25-22, 08:09 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣4️⃣

بعض النصوص المحذرة من الشرك

تأمل في قول الله تبارك وتعالى وهو يتحدث عن قضية الإخلاص فيقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزمر:65]، يخاطب رسول الله ﷺ ، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر:65] أي: بقية الأنبياء، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} [الزمر:65] أي: في حالة عدم وجود الإخلاص، {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]

فالقضية خطيرة جداً، ولذلك وجِّه الخطاب للرسول ﷺ ، ومستحيل أن النبي ﷺ سيشرك بالله عز وجل، لكن هذا لتعظيم الجرم، ولتقبيح الفعل، والشرك هو عكس الإخلاص، والذي يُشرك بالله عز وجل ما أخلص لله عز وجل، والإخلاص أن يكون العمل خالصاً من كل شائبة، والشوائب: هي الشركاء،

فلو أنك أشركت مع الله عز وجل آخر بنسبة (25%) مثلاً، فهل تظن أنك ستأخذ (75%) من الأجر ويذهب عنك (25%)، أم أنه سيُحبط العمل جميعه بسبب نسبة بسيطة من الإشراك؟

هنا يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]،

وننتقل إلى الحديث الذي يفسّر هذا الموضوع، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أي: أنه يذهب العمل كله.

وحديث آخر يوضح هذا المعنى بصورة أكبر: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم) أي: من أجل الغنيمة، (والرجل يُقاتل للذكر) أي: ليشتهر أمره بين الناس، (والرجل يُقاتل ليُرى مكانه)، أي: ليقال أنه شجاع، (فمن قاتل في سبيل الله؟) أي: أن الأعرابي يسأل الرسول ﷺ عن هؤلاء الثلاثة،

هل هم من المقاتلين في سبيل الله أم لا؟
فأعرض الرسول ﷺ عن جميع هؤلاء الثلاثة،

حتى أنه لم يناقش هذه القضية،
ثم قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) سواء هؤلاء الثلاثة السابقين أو غيرهم، فكل هذا ليس في ميزان الله عز وجل وليس في سبيله، وكل هذا إشراك وليس من الإخلاص لله عز وجل،
وشيء واحد فقط هو الذي يجعله في سبيل الله، ألا وهو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، والمغنم ليس حراماً، بل إن الله عز وجل شرع في كتابه أن الغنيمة توزع أربعة أخماسها على الجيش،
والذكر للخير ليس حراماً، وصفة الشجاعة ليست حراماً، لكن هذا للعبد وهذا للنفس، هذا حظ النفس وليس لله عز وجل، أي: أنك تُقاتل من أجل هذه الأشياء لنفسك وستأخذها في الدنيا، فلا يُحسب عند الله عز وجل، لكن الذي يُقاتل ليرفع كلمة الله عز وجل في الأرض فهو المقاتل في سبيل الله.

وهناك حديث آخر وهو أخطر من الحديث السابق، يوضح المعنى بشكل أوضح وأكبر: روى النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: (أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر) فهو خرج في سبيل الله عز وجل يريد الأجر منه، لكن إلى جانب هذا الخروج هو يلتمس الذكر أيضاً، أي: لأجل أن يذكروه ويقولوا: فلان قد قاتل وحارب وانتصر وما إلى ذلك من صفات المجاهدين، فهو يريد شيئين: يريد الأجر، ويريد الذكر، ثم قال: (ما له؟) أي: أن الرجل يسأل الرسول ﷺ عما لهذا الرجل من الأجر، أي: ما مقدار أجره عند الله عز وجل، فقال ﷺ كلمة في منتهى الخطورة:

(لا شيء)، أي: أنه ليس له من الأجر شيء، فأعادها الرجل مستغرباً على النبي ﷺ ثلاثاً: (ما له يا رسول الله؟ ثلاثاً، ورسول الله ﷺ يرد عليه في كل مرة: لا شيء، لا شيء) ثم قال ﷺ ليوضح له الصورة: (إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه).

كذلك حديث آخر من أحاديث الرسول ﷺ ، وفيه معنى عميق جداً، وأعتقد أننا قد ذكرنا هذا الحديث وتحدثنا عنه في موضوع: (كيفية حفظ القرآن الكريم)، لكن: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]

فلا بأس بأن نعيده مرة أخرى.
روى مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: (" إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.

قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-26-22, 08:09 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣5️⃣

مواقف من الإخلاص في حياة الصحابة

الموقف الأول:

روى النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه)، وهو رجل من الأعراب، (ثم قال: أُهاجر معك)، وهنا نتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي أسلم قريباً، من هذا الرجل الذي أصبح صحابياً وحقق شروط الصحابي كما ذكرناها، وقد قلنا: إن الصحابي هو الرجل الذي آمن برسول الله ﷺ في حياته ورآه أو اجتمع به ومات على هذا الإيمان، وهذا الصحابي رضي الله عنه عند إسلامه أوصى به الرسول ﷺ بعض أصحابه ليعلموه الدين فعلّموه،

ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، وغنم النبي ﷺ سبياً -هو النساء- فقسمه بين أصحابه، وجعل لهذا الصحابي قسماً، وقال لأصحابه: عندما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، ثم جاء الرجل فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟

فقالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ .
والرسول ﷺ هو الذي يقسم، أي: أن هذا حلال خالص، وأيضاً هناك ميل فطري لهذا السبي، ومع ذلك لنتأمل ما كان رد هذا الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قليلة؟ فأخذه وجاء به إلى النبي ﷺ وقال: (ما هذا؟)،

قد يظن من يقرأ هذا الحديث أنه مستقل لهذا العطاء، (قال الرسول ﷺ : قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا)، وأشار إلى مكان في الحلق، وهو مكان مميت لو ضُرب فيه بسهم لقُتل لا محالة، (ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة)، وهنا نقف وقفة مع فعل هذا الصحابي الذي قد يستغربه البعض، بل وقد يعتقدون أن هذه مبالغة، وهي فعلاً مبالغة لكنها مبالغة في الخير، فالصحابي هذا مع أن عمره في الإسلام قليل جداً، لكن كان فهمه عميقاً جداً،

ورؤيته واضحة جداً، والجنة قد كبرت في عينيه، والجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، فهو يخاف أن يأخذ شيئاً يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى هو يخاف أن تتغير نيته، وعند ذلك سوف يبتدئ عملاً جديداً بنية خالصة لله عز وجل، وبعد أن يكثر المال أو يجد منفعته من هذا العمل تتغير نيته، كالذي ينشئ مدرسة -مثلاً- بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي، وسيفيد به الأمة الإسلامية جميعها، وبعد أن يبدأ المال بالكثرة يغير في نيته، ويبدأ يجعل الدنيا هي همه، ويرفع من أسعار المدرسة، ويعمل رحلات بأسعار عالية ليكسب من ورائها،

ويغيّر لبس المدرسة كل سنة ليضطر أولياء الأمور لأن يشتروا الزي المدرسي كل سنة، ويكثِّر عدد الطلبة في كل فصل، أي: فبعد أن كان الفصل فيه عشرين أو خمسة وعشرين طالباً لدوافع تربوية، صار في الفصل خمسون طالباً وأكثر من أجل تكثير المال؛ لأنه يعرف أن الأبعاد التربوية التي كان يرجوها لا يستطيع أن يعملها في ظل هذا العدد الكبير من الطلاب، إذاً تغيرت النية هنا.

فالصحابي الأعرابي البسيط لم يكن يريد أن يدخل في هذه التجربة، لأنه يريد أن يعيش حياة مخلصة لله عز وجل وإن قصرت، ولهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يعمل لله عز وجل بدون أجر، هذا وإن لم يكن فرضاً فهو من فضائل الأعمال، والرسول ﷺ لم يُنكر عليه ذلك، ولم يقل: إن هذا تشدد منك، بل قال: (إن تصدق الله يصدقك) أي: لو أنت صادق في نيتك فإن الله سيحقق لك كل الذي تريده، ولهذا يجب على كل واحد منا أن يكون له أعمالُ خيرٍ كثيرة لا يأخذ عليها أجراً من أحد، وذلك ليثبت إخلاص نيته لله عز وجل، كالمدرس يمكن أن يُدرس من غير فلوس للناس المحتاجين، وكذلك الطبيب يمكن أن يعالج من غير فلوس للناس المحتاجين،
وأيضاً المحامي يمكن أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير فلوس؛ لأنه محامي يعمل لله عز وجل، وهذا ليس فرضاً ولكنها وسيلة لإثبات الإخلاص لله عز وجل.
هنا قد يأتي سائل ويسأل فيقول: ما هي الوسيلة التي من الممكن أن تعرف أنك مخلص تماماً لله عز وجل في عملك؟ كلنا نقول: إننا مخلصون، لكن أحياناً قد يكون هناك أجر على العمل، فيا ترى إذا كل واحد منا أخذ أجراً على العمل ليس مخلصاً؟ لا،

فالصحابة كانوا يأخذون أجراً على عملهم، فقد أخذوا في هذه الغزوة السبي، وهو من الأجر على عملهم، ومع ذلك فإخلاصهم عالي جداً، والمقياس الحقيقي لتعرف إخلاصك من عدمه هو: أنك تعمل العمل بغض النظر أخذت أو لم تأخذ، أما إذا ربطت عملك بالأجر فهذا يدل على ضعف الإخلاص أو غيابه أصلاً.

نرجع مرة أخرى لقصة الصحابي الأعرابي، قال الصحابي: أنا لا أريد أن آخذ من السبي شيئاً، فأنا لم أدخل في الإسلام إلا لأُقتل في سبيل الله، فقال له ﷺ : (إن تصدق الله يصدقك)، قال راوي الحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه: ". فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : " أَهُوَ هُوَ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ. قَالَ : " صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ".

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ : " اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ".

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-26-22, 08:11 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣6️⃣

مواقف من الإخلاص في حياة الصحابة

الموقف الثاني:

لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يعتق العبيد في بداية الدعوة، فقد كان يشتري العبيد بكثرة ويدفع أموالاً كبيرة لذلك، وكان رضي الله عنه يشتري العبيد الضعفاء والفقراء، من الرجال ومن النساء على السواء، فقال له أبوه أبو قحافة وكان لا يزال مشركاً: يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك أعتقت رجالاً أشداء يمنعونك، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبت إنما أبتغي وجه الله عز وجل، أي: أنا لا أريد غير رضا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]،

وهذه من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأن الله عز وجل يشهد له بأنه الأتقى، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:18 - 20] أي: لا يريد غير رضا الله سبحانه وتعالى فقط، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] وهذه هي نتيجة الإخلاص أن يرضى الله عنه.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-28-22, 07:46 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣7️⃣

كيفية الإخلاص

وهنا من الممكن أن يقول أحدهم: والله إن هذا الكلام سهل، لكن التطبيق صعب بل عسير، فأقول له: صدقت، فهو شيء صعب فعلاً، وأحد التابعين كان يقول: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي.
أي: أكثر شيء صعب عليَّ النية والإخلاص، لكن لا بد أن تكون هناك طريقة لزرع الإخلاص، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب منا شيئاً إلا وهو يعلم أنا نقدر على فعله، فمن الممكن أن يقول شخص: قل لي طريقة عملية إذا فعلتها زرعت الإخلاص في قلبي،

سأقول له: أعط لله قدره تخلص له، فأبرز هذه العبارة واجعلها دائماً صورة في خيالك، لأننا إذا عرفنا قدر الله عز وجل فليس من الممكن أن نشتغل بغيره،
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] فهذا المرض: أن الناس لم يعطوا لله عز وجل قدره، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]،

وهذه بعض علامات قدرة الله عز وجل، وهذا الذي يمكن أن نفعله: تعظيم وتقدير وإجلال لله عز وجل، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فالذين لم يعطوا لله عز وجل قدره فقد أشركوا معه، لأن الشرك لا يأتي إلا عندما لا يعطي العبد لله عز وجل قدره،

لكن عندما عرف الصحابة هذا القدر لله عز وجل أخلصوا في أعمالهم، ولذلك علموا أن مَنْ يعطي لله قدره ويعمل لإرضاء غيره أنه نوع من السفه والحماقة.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-28-22, 07:47 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣8️⃣

كيفية إعطاء الله عز وجل قدره

هنا السؤال

كيف يمكن أن نعطي لله عز وجل قدره؟

الجواب
أكثر من النظر والتدبر في كتاب الله عز وجل المقروء والمنظور.

النظر في الكتاب المقروء
الكتاب المقروء هو القرآن الكريم، واقرأ أي سورة أو أي آية لا بد أنك ستعطي لله قدره، لكن مع التدبر والتأمل في كل آية، والرسول ﷺ كان أحياناً يقوم الليل كله بآية واحدة، فقد قام ليلة كاملة بقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فلو فكرت في هذه الآية فليس من الممكن أن تعمل لغير الله سبحانه وتعالى، لأن كل شيء بيده، فكيف ستعمل لغيره؟

الرزق بيده سبحانه وتعالى، وقلوب العباد بيده سبحانه وتعالى، والمقادير كلها بيده سبحانه وتعالى، والحياة بيده، والموت بيده، والجنة بيده، والنار بيده، ولن تجد أحداً سوف يحاسبك يوم القيامة غير الله، فكيف تعمل لغيره سبحانه وتعالى؟!
فهو الأول وهو الآخر، وهو المحيي وهو المميت، وهو النافع وهو الضار، وهو المبدئ وهو المعيد، وهو الملك الذي يملك كل شيء، وأي ملك من ملوك الأرض فملكه نسبي غير مطلق، وإن كان يطلق عليه لقب: (ملك) لكن نهاية المطاف الآخر هو ملك نسبي،
فقد يملك أشياء ولا يملك أشياء أخرى، وقد يعتريه الفقر والمرض والضعف والحزن، وسيعتريه الموت لا محالة، فلا يستطيع أن يملك سعادة الناس ولا حب الناس ولا أعمار الناس ولا أرزاق الناس، فهو ملك بسيط حقير تافه، ولا بد أن يترك ملكه أو أن ملكه سيتركه، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه مطلق، فكيف تعمل لغيره؟!
واقرأ مثلاً في كتاب الله عز وجل: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:13 - 14]
هذا هو الإخلاص،

وتسألني أأتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى؟ كيف؟ {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]

هذا هو سبب الإخلاص، فأي شيء غيره يُطعِم ولا يُطعَم، سواء رئيس المصلحة أو مدير المدرسة أو الملك أو السلطان أو الشرطي أو غير ذلك، فلا أحد يُطعِم ولا يُطعَم غير الله عز وجل، ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]

فالذي يشرك بالله عز وجل هو الذي يتخذ ولياً غير الله عز وجل، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]

وهذا سبب ثاني للإخلاص، وكل الناس تملك أشياء بسيطة في الدنيا، لكن لا تملك شيئاً مطلقاً في الآخرة، فالله عز وجل يملك الآخرة بكاملها، ثم اسمع لكلام ربنا وهو يقول: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:16 - 17]

وهذا سبب ثالث للإخلاص، فلن ينفعك أحدٌ غيره، وما دام أنه يُطعِم ولا يُطعَم إذاً فالرزق كله أتى من عنده، وهو يملك يوم القيامة ولا أحد من البشر أو الخلق يملك هذا اليوم إلا هو سبحانه،

ورابعاً أنه هو الذي ينفع ويضر سبحانه وتعالى، وخامساً: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، حتى وإن لم يكن بإرادتك فسوف يكون غصباً عنك، فهو القاهر فوق عباده، وأنت تريد أن تُخلص أو لا تُخلص فالذي يريده سبحانه وتعالى سوف يكون، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]،

ثم كيف من الممكن أن تقرأ مثل هذا الكلام في كتاب ربنا سبحانه وتعالى ولا تُخلص لله عز وجل؟! واقرأ أيضاً: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:26 - 27] فلو تقف لحظة وتتخيل جميع أشجار الأرض، بغاباتها وجبالها وسهولها التي سمعت عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي مصر وفي غيرها من البقاع،

ثم تخيل أن كل هذه الأشجار أقلام {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] أي: أن البحر عبارة عن مداد ليكتب آيات الله عز وجل، فالشجر أقلام والبحر مداد، ومع ذلك: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، أي: ما نفدت آيات الله عز وجل في الأرض، ثم يقول الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]،

فليس هناك شيء يصعب على الله سبحانه وتعالى، فخلق البشر جميعاً كخلق إنسان واحد، وليس هناك شيء سهل أو صعب عند الله عز وجل، وكل قوله إنما هو: كن، فيكون، ثم قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [لقمان:29]

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-29-22, 08:13 AM
سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣9️⃣

كيفية إعطاء الله عز وجل قدره

هنا السؤال

كيف يمكن أن نعطي لله عز وجل قدره؟

الجواب

أكثر من النظر والتدبر في كتاب الله عز وجل المقروء والمنظور.
نتابع

النظر في الكتاب المنظور

الكتاب الثاني هو كتاب الله المنظور، أي: الكون والخلق، فتفكر في خلق السماوات والأرض، وتأمل قول الله عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]

فهذا الكون فسيح جداً لدرجة يتوه العقل فيه تماماً، وليس من الممكن أن تتخيله، فلو أن هناك طائرة خيالية تسير بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة!! فكم من الوقت تحتاج للسير في أرجاء الكون؟ قد تحتاج إلى ألف مليون سنة، وفي الأخير أيضاً لا تستطيع، لماذا؟ لأن الكون يتمدد ويتوسع كما قال الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]،

ولو تأملنا في بعد الشمس عن الأرض، فإن البُعد بينهما يساوي مائة وخمسين مليون كيلو متر، والأرض تدور في محورها بسرعة ألف وستمائة كيلو متر في الساعة، والدائرة التي تدور فيها الأرض قطرها ثلاثمائة مليون كيلو متر، فتخيل الرقم ثلاثمائة مليون كيلو متر وتكمل الدورة في سنة كاملة، وكذلك إذا كانت الأرض مع ثمانية كواكب أخرى مع الشمس في المجموعة الشمسية، أي: أن المجموعة الشمسية كما تعلمون تسعة كواكب، وأبعدها هو كوكب بلوتو، فإنه يدور في دائرة قطرها اثنا عشر ألف مليون كيلو متر وكل هذه المجموعة الشمسية فقط، والشمس نفسها ليست ثابتة، فهي تدور في فلك ومعها كل الكواكب التي حولها ومن ضمنها الأرض،

وسرعة دوران الشمس تسعمائة وستون ألف كيلو متر في الساعة، والشمس هذه هي أحد الشموس في مجرة هائلة اسمها مجرة درب التبانة، وهناك شموس أخرى تحيط بها كواكب، وحجمها كالأرض وأكبر وأصغر، وعدد الشموس في مجرة درب التبانة أربعمائة ألف مليون شمس كشمسنا في مجرة درب التبانة، والكون كله ليس مجرة درب التبانة فقط! فهذه المجرة هي إحدى المجرات الهائلة في الكون،

والمجرات في الكون تبلغ مائتين ألف مليون مجرة كمجرة درب التبانة، وارجع وراجع هذه المعلومات، وانظر إلى هذه الأرقام، فإنها جزء من ملكوت ربنا سبحانه وتعالى، فهذا هو جزء الكون الذي نحن رأيناه بالتليسكوبات، وكلما نخترع تليسكوباً أكبر كلما نرى أكثر، وكل هذه المليارات من النجوم والكواكب تدور في الكون دون تصادم، والعجيب أن بعض المجرات تدخل في مجرات أخرى بكاملها دون أن تصطدم، فانظر إلى عظمة هذا الكون، صنع من هذا إنه صنع الله عز وجل،

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11]،

إذاً: فكيف يعرف الواحد منا جميع هذه المعلومات والحقائق ولا يعبد ربه سبحانه وتعالى حق العبادة؟ وكيف من الممكن أن يعرف كل هذا ولا يعمل لله عز وجل! وكيف من الممكن أن يعرف كل هذا ويعمل لغيره، أو يشرك به أحداً أو شيئاً؟! مستحيل ذلك.

هذه كانت أكبر شيء في الكون: السماوات، ولنأت لنتدبر أشياء صغيرة جداً في الكون وهي الذرة، هذا الشيء الصغير الذي لا نستطيع بالمناظير الكبيرة جداً التي تكبر ملايين المرات أن نراه، هذه الذرة العجيبة تحتوي على نفس نظام الكواكب السيارة المحيطة بالشمس، ونفس نظام النجوم الدائرة في المجرة، وهذا يثبت أن خالق هذا الكون هو خالق واحد، لأن كل الكون فيه أشياء متشابهة جداً، وهذه الذرة الدقيقة جداً تحتوي على إلكترونات تدور حول البروتونات، كما تدور الأرض والكواكب حول الشمس،

فيا ترى ما هو حجم الإلكترون في الذرة؟

وما هي نسبة حجم الإلكترون إلى حجم الذرة؟ الإلكترون واحد على ألف مليون من حجم الذرة، والإلكترون يدور حول البروتون بلايين المرات في الثانية الواحدة، والإلكترون أكثر من الذرة بكثير جداً، ولهذا نستطيع أن نفهم كلام ربنا سبحانه وتعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3]، والعلماء السابقون كانوا يعتقدون أن هذه صيغة مبالغة، {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ} [سبأ:3]،

لأنه في اعتقادهم أنه لا يوجد شيء أصغر من الذرة، لكن هذا العلم الذي منَّ الله به علينا أثبت أن الإلكترون أصغر من الذرة بألف مليون مرة، ولا نعرف ما الذي سيأتي غداً، وأنا متأكد أنا سنجد بعد هذا أن الإلكترون هذا الجسيم الصغير جداً أمام الذرة، داخله عالم كبير من الأحداث نحن لا نزال لم نعرفها، وغداً سنعرفها.
ولو أتينا للتفكر في أنفسنا وفي أجسامنا لرأينا العجب، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]،

فالإنسان قد ينبهر بنظام الاتصالات في العصر الحديث، من تليفونات ونت وأقمار صناعية وأشياء كثيرة غيرها، لكن لو نظرت إلى داخلك وإلى نظامك العصبي -نظام الاتصالات بداخلك- لوجدت أن النظام العصبي في الإنسان يضم ألف مليون خلية عصبية، وهذا في الطفل والشاب والشيخ الكبير،

فهذا هو نظام الاتصالات الرهيب الذي خلقه الله تعالى فيك.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-29-22, 08:14 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣0️⃣

الصحابة والعلم

العلم من أنبل الغايات وأشرفها، وله مكانة عظيمة في ديننا، به يعبد المسلم ربه على بصيرة، بل ويكون أشد خشية له، فكان تعلمه خشية، وطلبه عبادة، والبحث عنه جهاداً، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أروع الأمثلة في حرصهم على طلب العلم، فقد طلبوه ضمن ضوابط وشروط معينة، فحصلوا بذلك العلم النافع الصحيح.

مكانة العلم في الإسلام

ما زلنا نبحث عن إجابة السؤال المهم:

كيف سبق الصحابة وكيف نلحق بهم؟
ومع الدرس الخامس من دروس مجموعة: كن صحابياً، وسنتعرف في هذا الدرس على علامة جديدة من علامات الطريق الذي سار فيه الصحابة.
وقد تعرفنا فيما سبق على علامة مهمة جداً من علامات الطريق الذي سار فيه الصحابة،

ألا وهي: علامة الإخلاص،
وسيكون حديثنا عن نقطة مهمة جداً في بناء جيل الصحابة، ومهمة جداً في بناء أي جيل يريد أن يصل إلى ما وصلوا إليه،
هذه النقطة هي: العلم،

وكما قلنا: إنه لا يوجد عمل يمكن أن يُقبل بدون إخلاص، وكذلك لا يوجد عمل يمكن أن يُقبل إلا بعلم؛

لأن كثيراً من الناس يعبد الله عز وجل بنية صادقة، لكن بطريقة خاطئة جاهلة، وهذا يضر ولا ينفع، ففي أي مجال من مجالات الحياة وليس فقط في مجالات الدين، إذا عمل الإنسان بدون علم فإنه يضر ولا ينفع، فالطبيب الجاهل هل ينفع المرضى أم يضرهم؟ من المؤكد أنه يضرهم، والمهندس الجاهل، والنجار الجاهل، والسباك الجاهل كذلك، وكذلك العبادة، فالعابد الجاهل يضر ولا ينفع، فيضر نفسه وغيره ومجتمعه، ولذلك فإن قضية العلم قضية محورية في حياة الأمة المسلمة،
ومن المؤكد أن الصحابة قد أخذوا بالهم من أول آية نزلت من هذا الكتاب المعجز، الذي هو دستور حياتهم بكاملها،

فقد كانت كلمة: (اقرأ)، وهذا شيء غريب جداً،
لأن كلمة: (اقرأ) تنزل في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الأمية، وليس فقط في جزيرة العرب، بل في جميع أطراف المعمورة، فمن كل كلمات القرآن الكثيرة تكون أول كلمة تنزل هي كلمة: (اقرأ) وليست أول كلمة فحسب، بل أول خمس آيات جميعها تتحدث عن قضية العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]، إذاً فالقضية الأساسية التي يبنى عليها هذا الدين بكامله هي قضية العلم، وهي مسألة العلم.

وقد كان هذا النزول لكلمة: (اقرأ) بياناً وإيضاحاً وتبييناً لطبيعة هذا الدين، هذا الدين الذي لا يقوم على الخرافات والضلالات، ولا يقوم على الجهل والتخبط، وإنما يقوم على أسس علمية ثابتة ومعروفة، هذا الدين الذي يشجع أبناءه على أن يكونوا علماء سبَّاقين، وليس فقط لمجرد العلم ولكن أيضاً السبق في العلم، والريادة في العلم، والتفوق في العلم.

وانظروا هنا إلى ألفاظ هذا الحديث الغريبة على آذاننا، ولكن هو معنى دقيق جداً يلفت إليه رسول الله ﷺ الأنظار.

فعند ابن ماجة، والترمذي وقال: حسن، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة)، وهذه كلمة شديدة جداً، (ملعون ما فيها)، أي: أي شيء في الدنيا فهو ملعون، وهذا على إطلاق الحديث، والذي يلعن هو الرسول ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى، فهو وحي من الله عز وجل، فكل شيء في الدنيا ملعون ليس له أي قيمة، وتافه وحقير، حتى وإن كان ملكاً أو سلطاناً أو سلاحاً أو قوة أو أي شيء، ثم استثنى الرسول ﷺ من هذه اللعنة أربعة أشياء: الأولى والثانية: (إلا ذكر الله تعالى وما والاه) وما والاه: أي ما قارب الذكر من أعمال الطاعة والبر وغيرها من الأعمال في الدنيا التي يحبها الله عز وجل، الثالثة والرابعة: (وعالماً، ومتعلماً)

فهذه أيضاً مستثناة من اللعنة، إذاً العملية التعليمية التي تدور بين العالم والمتعلم عملية عظيمة جداً في ميزان الله عز وجل، ويبقى الذي هو خارج نطاق هذه العملية، فهو ملعون بنص حديث رسول الله صلّ الله عليه وسلم .

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-30-22, 08:30 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣1️⃣

القيمة الحقيقية للمفاضلة بين الناس

فقه الصحابة أن القيمة الحقيقية التي تصلح للمفاضلة بين الناس هي العلم، فالتفاضل بين الناس لا يكون بالمال ولا بالسلطان ولا بالجند ولا بالمظهر، وإنما المهم أن تعلم أهمية العلم، لكن قد يأتي سائل فيقول: لكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، يعني: أن الأتقى هو الأفضل، فكيف ذلك؟

أقول له: فمن الذي يتقي الله عز وجل؟
أليس العالم به؟
أليس العالم بصفاته سبحانه وتعالى؟
أليس العالم بشرعه؟ أليس العالم بخلقه؟

ألم تسمع إلى كلام الله عز وجل في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؟ وما هي الخشية؟ أليست هي التقوى؟ وعندما تخشى الله عز وجل تكون متقياً لله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد العالم علماً ازداد خشية وتقوى لله عز وجل، وليس معنى العالم أني أقصد كبار هيئة العلماء وكبار الفقهاء، فأي شخص عرف معلومة صحيحة أصبح بها عالماً، وكلما عرف أكثر ارتفعت قيمته، وأعظم العلماء هم أعظم الناس قيمة، وليس فقط في ميزان الناس ولكن أيضاً في ميزان الله عز وجل.

فهذه معلومات في غاية الأهمية، ولهذا فالذي يصرف وقته في تعلم العلم أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة، ولم أقل: بأنه أفضل من الذي يصرف وقته في اللعب أو في المعصية أو في المنكر! لا، وإنما أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة،

واسمع إلى حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ : (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) وانظروا إلى قيمة هذا العلم؛ لأن العالم أشد معرفة لمداخل الشيطان، وأكثر قدرة على التصدي له، ولذلك فهذا العالم أشد على الشيطان من ألف عابد، وليس المقصود بالعلم: العلم الشرعي فقط، من تفسير وفقه وحديث وعقيدة، بل علوم الحياة أيضاً، وقد تكلمنا عن ذلك في محاضرة كاملة واسمها: (أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة)،

وتحدثنا عن علوم الحياة وقيمتها في ترسيخ معنى الإيمان بالله عز وجل في قلب العالم، لذلك فإنه من المؤكد أن العالم الذي يدرس تركيب الخلية مثلاً أعظم تقديراً لله عز وجل من الذي يعلم وجودها إجمالاً، فهذه الخلية على صغرها إلا أنها دولة كاملة، وعالم ليس له نهاية، ففيها قيادة، وإدارة، ومراكز طاقة، ومراكز تغذية، ومراكز دفاع، ومراكز بناء، ومراكز هدم، فتتحرك وتتكاثر، وتقوم بوظائف لا تحصى ولا تعد، فيكون الذي يعرف تفاصيل هذه الأمور أشد إيماناً بالله عز وجل من الذي لا يعلم بهذه التفاصيل، وكذلك العالم الذي يدرس تفاصيل حياة النبات ونشأته وتركيبه ليس كالذي يعلم فقط أن النبات شيء معجز، وأيضاً العالم الذي يدرس الأفلاك واتساعها، والنجوم وأعدادها، والمجرات وصفتها ليس كالذي يعلم فقط أن هناك نجوماً في السماء، وقس على هذا بقية العلوم كالكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، وعلوم البحار والطب والأحياء، وعلوم أخرى لا تنتهي،

وصدق الله عز وجل القائل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] فكل هذه العلوم، أي: علوم الشرع وعلوم الحياة تقود إلى خشية الله عز وجل، ومن ثم تقود إلى تقواه، ومن ثم تقود إلى رضا الله عز وجل، وهذا هو الذي نبحث عنه، وهو طريق الصحابة الذي ساروا فيه، وهذه الحقائق كانت واضحة كالشمس في عيون الصحابة، وبعد أن علموا هذه المعلومات رفعوا جداً من قدر كل عالم،

وحرصوا على العلم في كل لحظة من لحظات حياتهم، لذا كان لا بد أن تتعلم شيئاً في كل يوم، لأن الله قد رفع من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وذلك عندما أسجد الله سبحانه وتعالى ملائكته لآدم عليه السلام؛ لقيمة العلم الذي كان عنده، لا بكثرة التسبيح وطول القيام، أو الطاعة المطلقة، أو القوة الخارقة، أبداً، فالملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله عز وجل مَنَّ على آدم عليه السلام بنعمة رفعت من قدره إلى الدرجة الذي جعل الملائكة يسجدون له تكريماً له،

ألا وهي العلم كما ذكرنا، واقرءوا القرآن وتدبروا في آيات الله عز وجل (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِی بِأَسۡمَاۤءِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ۝* قَالُوا۟ سُبۡحَـٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَاۤ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ ۝* قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡۖ فَلَمَّاۤ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ غَیۡبَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ۝* وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ۝

وَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)
[سورة البقرة 31 - 35]

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
12-30-22, 08:31 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣2️⃣

الصحابة والعلم

الصحابة كانوا ينظرون إلى العلم نظرة خاصة جداً، نظرة معظّمة جداً، نظرة تجل جداً العلم وكل من حمل العلم، وهذه نماذج تبين لنا كيف كان الصحابة يقدرون قيمة هذا العلم؟
وما هو مفهومهم عن العلم؟

فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه ذهب وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره للالتحاق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن الرسول ﷺ رده لصغر سنه، فرجع إلى أمه رضي الله عنه يبكي من الحزن، ولكنه عند عودته فكّر في أن يخدم الإسلام بطريقة أخرى،

فهل أستطيع أن أخدم الإسلام بطريقة غير طريقة الجهاد في سبيل الله ما دام الجهاد غير ميسّر لي في هذا الوقت؟

إن أحدنا حين يفشل في إحدى مجالات الدعوة، أو إحدى مجالات العمل للإسلام، أو يُغلق عليه باب من أبواب العمل للإسلام من غير إرادته، أي: أنه لو أراد الجهاد وليس هناك فرصة للجهاد، أو أراد أن ينفق وهو فقير، فهو عنده رغبة في العمل لله عز وجل لكن ليس له إمكانيات، ففي ذلك الوقت يحبط، ويعتقد أن هذا هو آخر الدنيا! وهذا خطأ، فنحن إمكانيات مختلفة ومواهب مختلفة، فكل فرد منا يستطيع أن يعمل في مجاله، وهذه هي حلاوة الإسلام وحلاوة التكامل والتكافل والتعاون في الإسلام،

فإذا كان لم ينفع زيد في هذا الوقت في الجهاد فمن الممكن أن ينفع في شيء آخر.

فـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه تذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، وملكة القدرة على التعلم، وملكة القراءة، والقراءة كان شيء نادراً في ذلك الزمان، فأخبر بذلك أمه وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله ﷺ يعرضون عليه أن يوظّف طاقته العلمية في خدمة رسول الله ﷺ وفي خدمة دين الإسلام، فذهبت به أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وأرضاها إلى رسول الله ﷺ وقالت: (يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة) وهذه فعلاً إمكانيات عالية جداً، وبالذات في ذلك الزمن الذي كان فيه الكثير من الناس لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، ثم تكمل السيدة النوار بنت مالك فتقول: (وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك،

فاسمع منه إذا شئت)، وهذا الكلام أنا أريد أن أقوله لجميع شباب المسلمين: زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بدأ رحلته في خدمة الإسلام وعمره ثلاث عشرة سنة، وبعض المسلمين كان يسد ثغرة الجهاد والقتال، وزيد بن ثابت ذهب ليسد ثغرة أخرى مهمة جداً، فكل بحسب إمكانياته، فالشباب عندهم طاقة عالية جداً، فهناك شباب عندهم مهارة في الكمبيوتر، وهناك شباب عندهم مهارة في الخطابة، وهناك شباب عندهم مهارة في الرياضة المفيدة، وهناك شباب عندهم مهارة في الكتابة والبحث والدراسة، وهناك شباب عندهم مهارة في الترجمة، فكل واحد من المؤكد أن عنده مجالاً متفوقاً فيه،

والمهم أن تكون رغبة خدمة الإسلام موجودة، وعند ذلك سوف تجد المجال الذي تستطيع أن تسد فيه إن شاء الله تعالى.

واستمع النبي ﷺ لـ زيد بن ثابت واختبره، وقدّر مواهبه وأُعجب به، ثم أراد أن يستفيد منه على نقاط أوسع، فعرض عليه فرعاً جديداً من فروع العلم، ولم يقل له الرسول ﷺ : تعلم الفقه أو الحديث أو العقيدة، لا، ولكنه قال له: تعلم اللغات الأجنبية، وتخيل وفي هذا العمق في التاريخ الرسول الله ﷺ يهتم باللغات الأجنبية في تكوين الأمة المسلمة، لأنه علم في غاية الأهمية، ولأن المسلمين يحتاجون جداً إلى هذه اللغة في ذلك الزمن، فأمره النبي ﷺ بأن يتعلم العبرية،

حيث قال له: (يا زيد تعلم لي كتابة اليهود العبرية فإني لا آمنهم على ما أقول) ومن المؤكد أن كان الرسول ﷺ لو كان يعيش معنا في هذه الأيام لأمر بتعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية وغيرها، فكم ستكون مقدار الفائدة عندما يكون عند المسلمين شباب يتقنوا اللغات الأخرى غير اللغة العربية، وليس ذلك على حساب اللغة العربية، وكم مقدار الفائدة التي من الممكن أن يفيدوا الإسلام ويخدموا الأمة الإسلامية بكاملها، وكم سيكتشفون من حيل وألاعيب وخطط للأعداء،
وكم من الممكن أن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل ويردون على الشبهات، فهذا عمل كبير جداً من الممكن أن يعمله الذين يفهمون لغة أخرى، وانظروا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه بهذه الحمية وهذا الإخلاص لدين الله عز وجل، وهذه الرغبة في خدمة هذا الدين، فيذهب ويتعلم اللغة العبرية، فهل تعلمها في سنة أو سنتين أو أربع؟
وفي أي كلية تعلمها؟

يقول زيد بن ثابت: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، فكنت أتكلمها كأهلها،
فانظروا إلى هذه البركة عندما يكون عند الواحد رجل فطن ذو عقل وعلم.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
12-31-22, 07:54 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣3️⃣

ضوابط تحصيل العلم

إذاً كان هذا مجهود الصحابة في تحصيل العلم، واحترامهم لقيمة العلم، لكن هناك ناس تبذل مجهوداً كبيراً جداً في تحصيل العلم، لكنها لن تصل إلى علم الصحابة، لماذا؟ لأن الصحابة كانوا يتعلمون العلم بضوابط معينة، ولهذا تعلموا تعليماً صحيحاً، وسنوجز ونذكر بعضاً من هذه الضوابط التي حرص الصحابة عليها في تحصيل العلم، وأي جيل يحرص على هذه الضوابط فإنه سيتعلم تعليماً صحيحاً، ومنها:

الضابط الأول: وحدة المصدر،
أي: أن المصدر الرئيسي والأول لعلم الصحابة كان هو: الكتاب والسنة، وكون هذا هو المصدر الرئيسي لعلم الصحابة فقد أدى ذلك إلى ما يسمى بوضوح الرؤية، فقد أخذوا علماً نقياً طاهراً مضمون الصحة والصواب، لا العلم الدنيوي الذي يرد عليه الصحة والخطأ، والذي يتقرر صحته بعد ذلك بعدة تجارب، فهذا هو المقياس الذي يمكن أن نقيس عليه أي شيء آخر، فليس هناك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسول الله ﷺ إن صح عن رسول الله ﷺ أيُّ أخطاء، فهو منهج صحيح تماماً بلا ريب، فإذا اعتمد عليه المسلمون فلن يضلوا أبداً.

روى الإمام مالك في موطئه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي) فهذا أول ضابط في تحصيل العلم، وسواء في العلوم الشرعية أو غير العلوم الشرعية.
وهناك

السؤال
كيف يمكن أن يكون الكتاب والسنة هما الضابط في علوم الدنيا (العلوم غير الشرعية)؟

و الجواب
أن هناك قواعداً وأصولاً وضعها القرآن والسنة، وعلماء الطب والهندسة والفلك والجيولوجيا وكل علم لا بد أن يعرف هذه الأصول، ولا يخترعوا شيئاً أو يبدأوا في علم أو يفكروا في نظرية تتعارض مع ما جاء في كتاب الله عز وجل، فلا يصح لأحد أن يقول: إن الإنسان أصله قرد! ويقول: إنه عالم من علماء الأحياء، والذي يقول هذا الكلام يعلم أن الله سبحانه وتعالى بيَّن في كتابه الكريم آن آدم أول الخلق، وأنه خلقه ولم يكن قرداً قبل ذلك، بل ولم يكن حشرة قبل ذلك كما يدّعي علماء التطور، إذاً فهذا علم يتعارض مع القرآن والسنة، وليس له أي قيمة ولا أي وزن، ولا يجب لعالم مسلم أن يسير في طريق هذا العلم؛ لأنه متعارض مع المصدر الرئيسي.

ولذلك عندما خرج الصحابة أحياناً عن هذا المصدر في الفهم، أو عن هذا الضابط الذي هو وحدة المصدر، كان ﷺ يغضب غضباً شديداً؛ وبهذا نستطيع أن نفهم الرواية التي أتت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وجاءت أيضاً في سنن الدارمي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (أن رسول الله ﷺ كان يسمع عمر بن الخطاب وهو يقرأ في التوراة، فجعل وجه رسول الله ﷺ يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل أي: أنه يكلم عمر بن الخطاب ما ترى ما بوجه رسول الله ﷺ ؟

فنظر عمر إلى وجه رسول الله ﷺ فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ﷺ ، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ نبياً، فقال رسول الله ﷺ : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟) أي: أترى أن هذا الذي قد أتاك قليل وتريد أن تضيف عليه من مصدر آخر؟!: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتحدثوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) إذاً: فالصحابة فهموا من هذا الموقف أنه لا يوجد شيء يتقدم على كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا على سنة رسوله ﷺ ، وأنه لا يمكن أن يتعلموا قانوناً أو قاعدة أو مفهوماً يتعارض مع هذين المصدرين العظيمين، أعني: الكتاب والسنة.

وعبد الله بن عباس حبر هذه الأمة قد تعلم هذا الدرس جيداً، فقد جاء في البخاري أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله ﷺ أحدث؟: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله ﷺ والذي تقرءونه لا يزال حدثاً لم يشب، ولم يختلط بغيره، فهو نقي وخالص وطاهر، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوه بأيديهم وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟!

لا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أُنزل عليكم، أي:
ومع أن هذين المصدرين -الكتاب والسنة- هما المصدر الحقيقي الخالص، لا يسألونكم فكيف بكم تسألونهم؟!

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
12-31-22, 07:55 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣4️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الثاني:

العلم النافع، أي: لا بد أن يكون هذا العلم الذي تتعلمه علماً نافعاً، ودائماً يوصف العلم المرغب فيه شرعاً بكونه نافعاً.

روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) أي: أنه ليس صحيحاً أن يصرف الإنسان عمره ووقته وجهده في تعلم علم لا يعود بالفائدة والنفع على أمته وعلى الأرض بصفة عامة، مثل الذي ينفق عمره في الجري وراء تفصيلات لا ينبني عليها عمل في قصص الأنبياء والسابقين، فمثلاً: كم كان طول سفينة نوح عليه السلام؟ كم يوماً مكث الطوفان؟

وأي نوع من أنواع الحيوانات سبقاً في الصعود على سفينة نوح؟
وكم مكث قابيل عند قتله لهابيل شهراً أم سنة قبل دفنه؟ وتفصيلات أخرى لا ينبني عليها أي عمل وليس لها أي معنى.

وأيضاً في علوم الحياة المختلفة، فليس صحيحاً أن يصرف الإنسان وقته في أشياء لا تنفع، وربما قد تضر كبعض العلوم الفلسفية، وكصرف الوقت في قراءة القصص والروايات، أو كتابة أو قراءة الشعر الإباحي، أو غير هذا من العلوم التي لا تقبلها الفطرة السليمة، فضلاً عن أن يعيش الإنسان عمره وحياته ليدرسها.

وهذا يرجعنا للمناهج التعليمية في المدارس والجامعات، فلا بد أن يكون المنهج معمولاً لينتفع به الطالب ومن ثم ينفع الأمة بعد ذلك، فلو شعر الطالب أن العلوم التي يدرسها مجرد حشو ليملأ فراغ السنة الدراسية وأنه لا يمكن أن يستفيد منه، فغير ممكن أن الطالب يستطيع أن يحصِّل هذا العلم، إذ لم يكن عنده النية الصادقة المخلصة في أن يتعلم العلم لينفع نفسه وأمته، وأيضاً لن يستفيد، إذاً فالعلم لا بد أن يكون علماً نافعاً، ولا بد أن يتعلمه بنية أن يستغله في بناء الأمة وفي نفع الإنسان في الأرض بصفة عامة.

إن العلم الذي ليس فيه صفة النفع ليس علماً ضرورياً، بل على العكس، فهو شر يجب الاستعاذة منه، والحذر من تضييع الوقت في سبيل تحصيله؛ ولهذا نستطيع فهم الحديث اللطيف والدعاء الجميل الذي كان يدعو به الرسول ﷺ ،
ففي مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فيستعيذ بالله عز وجل من أن يضيع وقته في علم لا ينفع، ثم قال: (ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

📑.. يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-01-23, 08:19 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣5️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الثالث:

أن ينقل العلم إلى غيره؛ لأن العلم لا يقف عند المتعلم فقط، وإنما لا بد أن ينتقل هذا العلم من العالم إلى غيره، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة.

ولو أن كل عالم سواء في العلوم الشرعية أو في علوم الحياة كتم علمه ولم ينقله إلى غيره لكانت كارثة على الأرض، ولسارت الأرض لا محالة ولا شك في ذلك إلى دمار وهلاك.

ولهذا لا يُطلق اسم (عالم) على شخص دون أن يكون معلماً لغيره، فالعالم الحقيقي هو الذي يقضي حياته بين التعلم والتعليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فلا بد أن يتعلم ويعلم غيره.

وانظر إلى كلام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره، أي: لو أن آخر هذه الأمة الذين جاءوا في القرن الثاني والثالث وحتى العشرين يلعنون أول هذه الأمة من الصحابة ومن جاء بعدهم، ويشوهوا التاريخ الإسلامي بصفة عامة، من كان عنده علم فليظهره، فالذي يعرف تصحيح هذه المعلومات لابد أن يتكلم ويعلم غيره، وليس له أن يحتفظ بهذه المعلومات في نفسه، وهو يعلم أن أول هذه الأمة رجال عظماء وفضلاء، فهذا شيء خطير جداً في كتمان هذا العلم،

ثم قال رضي الله عنه: فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أُنزل على محمد ﷺ ، أي: لو سمعت أحداً يسب في الصحابة أو يلعن في هذا الجيل ولم تُظهر هذه المعلومة في الناس، فكأنك كتمت ما أُنزل على رسول الله ﷺ ، لأن الدين كله جاء عن طريقهم، وتخيل لو جاء أحدهم فطعن في عمر وفي أبي بكر وفي عثمان وكذا من الصحابة، فأين الدين الذي هو عندنا؟
وأين السنة التي أتتنا عن طريقهم؟
وأين القرآن الذي أتي إلينا نقلاً عن صحابة رسول الله ﷺ ؟

إذاً فنقل العلم إلى الغير من أهم الضوابط، وليس صحيحاً أن يتعلم الإنسان العلم ويحتفظ به لنفسه، بل لا بد أن تسعى إلى تعليم الغير بأي علم تتعلمه، حتى وإن كانت آية واحدة فقط، يقول رسول الله ﷺ : (بلغوا عني ولو آية).

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-01-23, 08:20 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣6️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الرابع:

عدم الفتوى بغير علم.
وهذه مشكلة وقع فيها الكثير من الناس، وهي مصيبة وكارثة أن يفتي الإنسان بغير علم، سواء في أمور الدين أو غيرها، فلا يجوز للمسلم أن يفتي بدون علم في أمور الإسلام أو في أمور الطب أو في أمور الزراعة أو في أمور التجارة أو حتى في وصف الطريق، كان يصف لشخص الطريق بالتخمين، فعلينا أن نتعلم كلمة: (لا أعلم)، وليس عيباً أن نقول: لا أعلم، لكن العيب الحقيقي هو الفتوى بغير علم، والصحابة قد تعلموا هذا النهج من رسول الله ﷺ ،

فتخيلوا الرسول ﷺ وهو أعلم البشر وأحكم البشر لم يكن يتردد عن قوله: لا أعلم، إذا كان فعلاً لا يعلم.
فقد روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أي البلدان شر؟ فقال ﷺ : لا أدري، فلما أتاه جبريل عليه السلام قال: يا جبريل أي البلدان شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي عز وجل، فانطلق جبريل عليه السلام، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم جاء فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلدان شر فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي عز وجل: أي البلدان شر؟ فقال: أسواقها) فالأسواق تلهي الناس عن ذكر الله، ويكثر فيها الكذب والحلف على غير الحقيقة،

ويكثر فيها الشحناء والبغضاء بين المسلمين، والفتنة بالمال، والاختلاط وأمور كثيرة، لكن الشاهد: أن الرسول ﷺ مع كونه أحكم وأعلم البشر إلا أنه لم يتجرأ على الفتوى بغير علم، وكان ﷺ يشدد النكير على من أفتى بغير علم من صحابته ﷺ .
فقد روى أبو داود عن جابر رضي الله عنهما قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه، فنام فاحتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ﷺ أُخبر بذلك) فغضب الرسول ﷺ غضباً شديداً وقال كلمة ثقيلة جداً: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال)،

أي: أن الجاهل الذي لا يعلم شفاءه أن يسأل: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب) شك من أحد الرواة (على جرحه خرقه، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) فالشاهد من القصة: أن الرسول ﷺ اتهم هؤلاء بقتل الرجل؛ لأنهم أفتوا بغير علم، وهذه قضية في منتهى الخطورة.

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-02-23, 08:15 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣7️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الخامس:

العمل بما تعلم
لأنه ما الفائدة أنك تعرف كذا وكذا من أمور العلم ثم تعمل بغيرها؟
وما هي الفائدة في أنك اكتسبت خبرات طويلة جداً، وقرأت كتباً عظيمة جداً، وحضرت دروس علم ومجالس علم، ثم في النهاية تعمل بطريقة أخرى غير التي تعلمتها؟!

وأين أيضاً قيمة العلم عنده؟
وتأملوا في كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، عند الدارمي رحمه الله: يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، فهم لا يتعلمون العلم لأجل أن يعملوا به، وإنما لأجل أن يقال فيهم أنهم علماء، ولأجل أن يقولوا عنهم أنهم يحملوا علماً كبيراً جداً، ولأجل تكبر حلقته والناس يستمعون له، لأجل هذا فقط هو يتعلم العلم، وهذا ليس بعالم.

ثم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه.
أي: أنه لو ذهب إلى عالم غيره يسخط ع
ليه، فهذا هو العالم المباهي بعلمه، والذي لا يخلص لله سبحانه وتعالى، وقد تحدثنا فيما مضى عن قيمة الإخلاص، وقلنا: إن من الثلاثة الذين تسعر بهم النار: رجل تعلم العلم لغير ذات الله عز وجل، فهو لم يتعلمه لوجه الله عز وجل.
ثم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل.

فعمله محبط؛ لأنه فُقِد منه الإخلاص، فإذاً لا بد أن تعمل بالذي تعرفه، فهذا الموضوع في غاية الأهمية، والضابط هذا يحتاج منا إلى كلام كثير جداً.
وإن شاء الله في المحاضرة القادمة جميعها سوف تكون عن هذا الموضوع، وستكون عن الصحابة والعمل، وهنا قد تحدثنا عن الصحابة والعلم، وإن شاء الله في اللقاء القادم سنتحدث عن الصحابة والعمل.

وأختم بكلمة بليغة عميقة ورائعة للعالم الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، وهو يوضح فيها قيمة العلم، يقول: تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعلميه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة.
فهذا هو العلم في منظور معاذ بن جبل رضي الله عنه ورضي الله عن صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.

نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-02-23, 08:16 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣8️⃣

الصحابة والعمل

أمر الله عباده بالعلم والعمل معاً؛
لأن العلم لا ينفع بدون عمل،
كما هو حال إبليس والأمم من اليهود والنصارى الذين ذمهم الله تعالى وضرب لهم مثلاً بالكلب والحمار،

وقد ضرب لنا الصحابة الكرام أروع الأمثلة في العلم والعمل،
سواء كان بالإنفاق أو الجهاد أو التضحية أو غيرها،
وهذا هو الفارق بين الصحابة وبين من جاء بعدهم ممن علم ولم يعمل.

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
01-03-23, 07:37 AM
سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣9️⃣

الثقة بالله عند الصحابة ومدى مسارعتهم إلى فعل الأوامر وترك النواهي

مما ينبغي التنبيه عليه هو أن طريق الصحابة مرتكز على مثلث مهم جداً له ثلاثة أضلاع: الأول: الإخلاص، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة قبل الماضية: الصحابة والإخلاص.

الثاني: العلم، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة الماضية: الصحابة والعلم.
الثالث: الذي سنتكلم عنه اليوم إن شاء الله: الصحابة والعمل.

هناك فرق هائل جداً بين جيل الصحابة وبين من أتى بعدهم، وهذا الفارق هو فارق العمل، فطريقة الصحابة في تلقي الكتاب والسنة كانت مختلفة جداً عن طريقة معظم اللاحقين بعد ذلك، فالصحابة كانوا يتلقون الكتاب والسنة بهدف التطبيق، وكانوا يسمعون بهدف الطاعة، وهذا مبدأ جميل جداً، كانوا مستشعرين قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].

والصحابة كانوا كمثل المريض الذي يتلقى الدواء من الطبيب، أو كمريض ينصحه الطبيب بإجراء عملية، وهو يقول له: أنا سأعمل لك عملية وأفتح فيها بطنك، وستتعطل من عملك، وستدفع ألفاً أو ألفين أو ثلاثة أو عشرة، والمريض يسمع ويطيع، فيضحي بالألم، ويضحي بالمال, ويضحي بالوقت حتى تنتهي العملية، لماذا؟ لأنه يعرف أن مصلحته في إجراء العملية، ولأنه يثق في هذا الطبيب، ومسألة الثقة هذه مهمة جداً، فقد كان الصحابة مثل الجندي في ميدان المعركة وفي أرض العدو ينتظر أمراً من الأوامر؛ ليوضح له كيف يتحرك؛ لأنه لا يستطيع التحرك بغير هذا الأمر، فيخشى أن يقع في مهلكة، أو يدخل في كارثة، أو تصيبه مصيبة من مصائب الزمان والمكان.

لكن: هل الجندي الذي في ميدان المعركة لا يعرف أين يمشي يميناً أم يساراً، فهو منتظر للأمر من القائد، هل يتلقى الأوامر على التراخي؟ أبداً، فالجندي في هذه الظروف متلهف للأمر الذي يوصله إلى بر الأمان، فهو يثق بقائده، ولذلك يسمع منه دون جدل ولا نقاش، إلا فقط للفهم، لكنه يعرف أن القائد يريد مصلحته ومصلحة الجيش كاملاً.
وكذلك الصحابي وكل مؤمن فطن ذكي يتلهف لأمر الله عز وجل في أي قضية من القضايا، في أي أمر من الأمور؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل يريد به الخير، فهو يريد أن يعلم ماذا يريد الله عز وجل منه في هذه النقطة؟ إن علم أن الله عز وجل راضٍ عن ذلك فعل ما أمره الله به وهو مطمئن، بل سارع في فعله، وإن علم أن الله لا يرضى عن ذلك تركه، بل بالغ في الابتعاد عنه.

إذاً: فالمسألة مسألة ثقة، فيا تُرى هل أنت مطمئن إلى أن ما أمر الله سبحانه وتعالى به أنه هو الخير لك وللأرض كلها، أم عندك شك في ذلك؟
لأجل هذا كان عند الصحابة حساسية مفرطة لكل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، وأيضاً كان هذا الأمر من أهم الأمور التي تميز بها الصحابة الكرام، فقد فقهوا الحقيقة القرآنية المهمة التي تقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

فهذا فارق هائل جداً بين جيل الصحابة والأجيال التالية، فالذي خلق لا بد أن يأمر، والذي خلق لا بد أن يحكم، والذي خلق يعرف ما ينفع المخلوق وما يضره؛ لأجل هذا الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]،

وانتبه معي لكل كلمة، فليس لدينا اختيار ما دام أننا قد عرفنا أن هذا أمر ربنا سبحانه وتعالى، أو أمر الرسول ﷺ ؛ فلا بد من التنفيذ، حتى لو كان عكس رغبتنا، وعكس تفكيرنا، وعكس تفكير الغرب والشرق، وعكس القانون الدولي، وعكس التقاليد، فليس لنا فيه أصلاً أي اختيار.

وفي بعض الأحيان قد يكون الموضوع صعباً على النفس، بل وقد يكون فيه فتنة؛ لأجل هذا بين الله سبحانه وتعالى أنه لن يقدر على تنفيذ هذه الأوامر إلا المؤمن والمؤمنة، فالمؤمن والمؤمنة هما اللذان لديهما ثقة كاملة في الله سبحانه وتعالى، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي سيخالف سيخسر خسارة عظيمة جداً، سيضيع ويشقى في الآخرة: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-03-23, 07:38 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣0️⃣

وجوب العمل بالعلم وعدم الركون إلى الأماني

من المستحيل أن يصلح العلم بغير عمل يصدقه،
يقول الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
فلا بد من علم ثابت في القلب، ويكون فيه إخلاص لله عز وجل، بحيث لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، وفي الأخير لابد أن يصدقه العمل.
والذي يعلم ولا يعمل واهم في أنه يصل إلى الجنة؛ لأن ذلك ضد النواميس الكونية العادلة التي وضعها رب العزة سبحانه وتعالى،

روى الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (الكيِّس من دان نفسه)، أي: حاسبها وقهرها، ثم قال: (وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)، يعني: يفعل كل ما يريد فعله ثم يتمنى على الله، ويقول: الله غفور رحيم، وكم نسمع هذه الكلمة كثيراً جداً، يفعل كل المعاصي ثم يقول: الله غفور رحيم، سبحان الله!
كيف ذكرت صفات الله سبحانه وتعالى هذه ولم تذكر صفاته الأخرى؟! {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، فهو سبحانه وتعالى الغفور الرحيم، لكن ماذا بعد ذلك؟ {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:50]،

وهناك أناس يقولون: ربنا رب قلوب، أي: ما دام القلب نظيفاً فلا تخف شيئاً!! لكن هل القلب النظيف يعصي الله سبحانه وتعالى؟
هل القلب النظيف يكسل في الطاعة أو لا يبالي بها؟
هل القلب النظيف لا يسمع كلام الخالق؟
هل هذا قلب نظيف؟!!

هذا كلام حق أريد به باطل، نعم فالله سبحانه وتعالى غفور رحيم، وصحيح أن المهم هو القلب، لكن لا يمكن أن ينفع هذا من غير عمل، قال الشاعر حول هذا المعنى: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس والأدهى أن هناك أناساً يقولون بمنتهى الاستهتار: لا تخف، إن شاء الله ربنا سيسهل! نعم الله سبحانه وتعالى قادر على التسهيل من غير عمل،
لكن هذا ضد السنن الجارية في الكون، وأيضاً فالله سبحانه وتعالى لا يخالف سننه، وإن خالفها فذلك في ظروف خاصة جداً جداً لا تقدر على بناء خطتك عليها، بل أنت مأمور شرعاً بالسير على السنن،

فمثلاً: لو قمت ببناء سفينة في الصحراء وقلت: لعل ربنا سبحانه وتعالى أن ينزل طوفاناً كما أنزله على قوم نوح عليه السلام.
هذا مخالف للسنن، ولا يحدث إلا في ظروف خاصة كما ذكرنا، وكلنا يعرف قصة سيدنا نوح عليه السلام .

وعلى هذا الأمر فكثير منا سيبني سفينة في الصحراء ويقول: ربنا يسهل سيرها، والحياة كلها معاص ويريد أن يدخل الجنة، ويقول: ربنا يسهل.
وطالب يلعب سائر العام ويريد أن ينجح، ويقول: الله يسهل.
ومريض لا يأخذ الدواء ويريد أن يتعافى، ويقول: الله يسهل.

فلا يمكن أن يسهل الله تلك الأمور إلا ببذل الأسباب، فلا بد من السير على السنن، وسنة الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

فالذي سيعمل مثقال ذرة سيجدها في الدنيا والآخرة، سواء كان خيراً أم شراً، والذي يعمل مقدار قنطار سيجده في الدنيا والآخرة من خير أم من شر.
أما التواكل على الله عز وجل، واعتقاد النجاة بدون عمل؛ فهذا ليس مسلك الصالحين، ولم يكن أبداً مسلك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما هذا مسلك الضالين من أهل الأرض، هذا المسلك كان سمة مميزة لبني إسرائيل.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-04-23, 07:42 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣1️⃣

ذم الله لبني إسرائيل ومن وافقهم بسبب تركهم العمل بالعلم
ؤ
قال الله عز وجل في حق بني إسرائيل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:70 - 71]، فقد كانوا قواميس متحركة، وكانوا يعرفون كل شيء، لكن لا يعملون بما علموا، فماذا كانت النتيجة؟

ضلال وكفر ولعنة، ثم جهنم والعياذ بالله.
واسمع إلى قصة حيي بن أخطب مع أخيه، فقد كان حيي بن أخطب من أكابر اليهود أيام رسول الله ﷺ ، فعندما ظهر الرسول ﷺ ذهب هو وأخوه إلى النبي ﷺ ليعرفوا هل هو الرسول الموصوف لديهم أم لا؟
فسأله أخوه عن رسول الله ﷺ فقال: أهو هو؟

قال: نعم! قال: وما تفعل معه؟
واسمع إلى قول حيي بن أخطب وهو يعرف أنه رسول الله ﷺ قال: عداوته ما بقيت.

أي: أحاربه إلى أن أموت، علم بلا عمل، عجز وحماقة وغباء.
حتى إن تاريخ اليهود يشهد بهذه الصفة الذميمة: علم بلا عمل،
روى البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن الرسول ﷺ قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا: حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة)، يعني: بدلاً من أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، وفي رواية: (قالوا: حنطة)،

سبحان الله! لا يريدون التطبيق مع أنهم يعرفون، والآيات كلها واضحة بأنهم كانوا علماء،
ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]،

علماء، لكن أين العمل؟
لا عمل!! وكقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]،

وانظروا كيف ردوا على نبيهم؟!
سوء أدب ومجادلة وعناد وحماقة وعدم رغبة في التطبيق أصلاً، فيسمعون ولكن ليس للطاعة، بل للعصيان والتمرد على أوامر الله تعالى.

ويقول الله تبارك وتعالى في ذلك أيضاً: {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46]، وكل ما سبق ذكره في حق بني إسرائيل يلخصه الله عز وجل في وصفهم الذي وصفهم به في سورة الجمعة، فقال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، فالله عز وجل قد أمهلهم في المرة الأولى والثانية، ثم طلب منهم في المرة الثالثة أن يقوموا بمهمة حمل التوراة، ولكنهم عصوا وتمردوا، وقبل ذلك اختارهم الله وأرسل لهم الرسل، الواحد تلو الآخر فرفضوا،

وأراهم الآيات الواضحة الواحدة تلو الأخرى، ولكن بلا فائدة، بل أصروا على عدم القبول لمهمة الإنسان، وقاموا بمهمة أخرى تماماً، فقبلوا مهمة الحمار، والحمار يحمل الأشياء بغض النظر عن قيمتها ومحتواها، فيحمل الكتب كما يحمل الحشيش، لا فرق عنده في ذلك، لكنه لا يستفيد بشيء مما يحمل، وهذه ليست غلطة من الحمار، فهو خلق لهذا وهو يقوم بما خلق له،

والعيب كل العيب في الذي خلقه الله سبحانه وتعالى لوظيفة معينة وهو يعمل في عمل آخر تماماً، ويترك وظيفته الرئيسية، وذلك كبني إسرائيل عندما أعطاهم الله التوراة لأجل أن يدعوا إليه ويعلموا الناس أمر دينهم، ويسمعوا ما فيها من أوامر ونواه، لكنهم قاموا بوظيفة الحمار، ألا وهي: حمل التوراة دون أن يعملوا بمحتواها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].

وأيضاً المسلم الذي سيحتفظ بكتاب ربنا سبحانه وتعالى، وبسنة الرسول ﷺ في البيت أو في السيارة أو في غيرهما من الأماكن ولا يعمل بهما؛ هو واقع عليه نفس الوصف: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].

وكذلك الذي يقرأ آيات الربا ثم يتعامل بالربا، والذي يقرأ آيات الرفق واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ثم يتعامل بالعنف، والذي يقرأ آيات حفظ اللسان وكأنه لا يقرأ ولا يسمع، والذي يقرأ آيات بر الوالدين وصلة الرحم ولا يلقي لها بالاً، والذي يقرأ آيات الإنفاق والجهاد ثم يبخل بالمال والنفس: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].

فعجيب جداً أن يكون الإنسان ظاهره الإسلام واسمه مسلماً، ووالداه مسلمين،

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-04-23, 07:43 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣2️⃣

بعض مواقف الصحابة العملية

نتكلم عن بعض مواقف الصحابة العملية، وكيف كان رد فعل الصحابة عند نزول الآيات وسماع الأوامر من رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فتعالوا لنتعلم مبدأ التلقي والسماع للأوامر للتطبيق، وتعالوا لنرى معنى كلمة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].

موقفهم في إنفاق المال
موقفهم من قضية إنفاق المال في سبيل الله، هذا المال الذي غرس حبه في قلب الإنسان: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20]، ويقول سبحانه وتعالى في حق المال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، أي: أن الإنسان يجب المال حباً شديداً جداً، والله سبحانه هو الذي خلقه على هذه الصورة، لكن مع هذا طلب منه أن يدفع هذا المال في سبيل الله عز وجل، ولو كان حب المال يسيراً على النفوس لم يكن ذلك اختباراً، لكن الله سبحانه زرع في النفس حب المال، حتى لو طلبه منك ودفعته تكون بذلك مؤمناً بالله عز وجل، واسمع إلى هذا الموقف العظيم لأحد الصحابة، وكيف كان بذلهم للمال في سبيل الله عز وجل؟

فيقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (لما نزل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245]، سمع أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه هذه الآية -وكأنها وقعت في قلبه لا في أذنه-،

فأسرع إلى الرسول ﷺ وقال له: يا رسول الله! وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح!)، وانظر إلى إجابة الرسول ﷺ ، فلا توجد تفصيلات ولا محاورات ولا جدالات ولا ندوات، ولم يعد يسأل أبو الدحداح بعدها، فهو قد عرف أن الله يريد من عباده قرضاً أو صدقة أو زكاة، ولماذا الله سبحانه وتعالى استخدم لفظ القرض؟ هذا لم يشغل أبا الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وإنما كان الشاغل له العمل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، فهو قد شغل بالطاعة رضي الله عنه.

قال أبو الدحداح -في نفس المجلس وهو ما زال قاعداً مع الرسول ﷺ : (أرني يدك يا رسول الله! قال - عبد الله بن مسعود راوي الحديث-: فناوله يده، قال أبو الدحداح: فإني أقرضت ربي حائطي)، فقد كانت لديه حديقة كبيرة، فتصدق بها كلها، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: وحائطه فيه ستمائة نخلة.
ففي لحظة واحدة سمع آية واحدة من آيات الله عز وجل فدفع ستمائة نخلة، (وأم الدحداح فيه وعيالها)، أي: ما زالت أم الدحداح ساكنة داخل الحائط، وكذلك أبناء أبي الدحداح جالسين داخل الحائط، (فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح!

قالت: لبيك! قال: اخرجي من الحائط؛ فإني أقرضته ربي عز وجل)، وتأمل إلى أي درجة كان عندهم العمل، فلا تسويف، ولا تأجيل، ولا تأويل، وإنما منهج السماع للطاعة، ونتمنى أن نتعلم هذا المنهج من أبي الدحداح ومن غيره من صحابة رسول الله ﷺ : السماع للطاعة: {قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].

وتأمل وانظر على النقيض من ذلك رد فعل اليهود لنفس الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245]، قالوا: ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير.

أعوذ بالله! معنى قولهم: نحن لسنا محتاجين إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن أغنياء وهو فقير إلينا ما دام أنه يطلب منا قرضاً؛

فانظر إلى فقه بني إسرائيل وما فيه من الضلال والكفر والضياع، ثم يكملون ويقولون: وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، يطلب منا أن نرجع إليه ونتوب ونحن لا نأبه لذلك، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم -يعني: النبي ﷺ ينهاكم عن الربا ويعطيناه.

أي: أن الله سبحانه وتعالى يطلب منكم القرض، وسيرجعه لكم أضعافاً كثيرة، فهذا هو الربا، فانظر إلى أين وصل الفهم لدى اليهود؟! فهؤلاء هم اليهود، ولذلك عندما ترى شارون أو غيره وترى عمله لا تستغرب، فقد كان أجدادهم يفعلون هذا الفعل في وجود النبي ﷺ ، فما بالك بالأحفاد وفي غير وجود الرسول ﷺ .

إذاً: هذه قضية من قضايا الحياة التي نعيش فيها كلنا، إنها قضية الإنفاق ودفع المال في سبيل الله عز وجل، وانظر إلى هذا الصحابي كيف تعامل مع الآية الخاصة بالإنفاق.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-05-23, 07:51 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣3️⃣

بعض مواقف الصحابة العملية
موقفهم في الجهاد

في قضية الجهاد في سبيل الله هناك موقف نعرفه كلنا، إنه موقف لـ حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه وأرضاه، غسيل الملائكة، أي: الرجل الذي غسلته الملائكة، فقد سمع حنظلة النداء يوم أحد وهو عريس، وكان قد تزوج في الليلة الماضية، وكان جنباً، فسمع داعي الجهاد يطلب الناس للخروج إلى الجهاد في سبيل الله في أُحد، فلم يصبر حنظلة حتى يغتسل، بل خرج مسرعاً إلى الجيش، وانظر إلى هذه الاستجابة الفورية، فهو ليس بمكره، بل مشتاق ومتلهف إلى تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، فذهب إلى أُحد واستشهد وهو جنب، فغسلته الملائكة، فأصبح حنظلة غسيل الملائكة.

ليس هناك معنى لكلمة (الظروف) عند الصحابة، بل كان عندهم معنى لقول الله تعالى، أو لقول الرسول ﷺ ، فيا تُرى هل خسر حنظلة؟

لا، فـ حنظلة لو كان في بيته كان سيموت في نفس الساعة التي مات فيها، لكن بدلاً من أن يموت على فراشه يموت في ميدان الجهاد شهيداً، وبدلاً من الموت معتذراً متخلفاً يموت مجاهداً مقبلاً غير مدبر، والموت لا يؤجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].

إذاً: فـ حنظلة وإن لم يكن يعرف ميعاد الموت إلا أنه قد اختار طريقة الموت.
فهذا هو الذكاء، وهذه هي الفطنة، وهذا هو المطلوب من المؤمن العملي، فلو أنك تعيش لربنا فستموت له سبحانه وتعالى، ولو أنك تعيش حياة الجهاد ستموت مجاهداً، ولو أنك تعيش حياتك في سبيل الله، ولم يكن في يدك أن تختار وقت موتك، إلا أنه في يدك أن تختار طريقة موتك،

وتذكر: (يبعث المرء على ما مات عليه)، فمن مات على صلاة يبعث على صلاة، ومن مات على تلبية وهو في الحج يبعث ملبياً، ومن مات على جهاد يبعث على هيئته وقت الجهاد، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ونحن الذين نختار الطريق.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-05-23, 07:52 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣4️⃣

بعض مواقف الصحابة العملية
موقفهم في الإنفاق على ذوي القربى مع إساءتهم

تعالوا لنرى رد فعل الصحابة مع بعض آيات القرآن الكريم التي تخاطب قلوبهم، هذا القلب الذي أحواله غريبة وعجيبة جداً، ففي بعض الأحيان قد يكون الإنسان متوجعاً من آخر ولا يقدر أن ينسى ذلك، لكن الصحابة قد ملكوا قلوبهم وأصبحت في أيديهم، فيقدرون على تنظيفه متى شاءوا، ويقدرون على الأخذ منه والوضع فيه متى شاءوا.

ولنسمع إلى هذه القصة اللطيفة، وهي قصة مشهورة والجميع يعلمها، لكن فيها دروساً عميقة جداً: لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة رضي الله عنه وأرضاه، فإذا بـ مسطح يتكلم في عرض أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، لم يتكلم في مسألة يسيرة، ولم يقل عن عائشة: إنها بخيلة أو مخطئة، أو لم يكن الحق معها في رأي أو غيره، لا، بل يطعن في عرض وشرف السيدة عائشة رضي الله عنه، وكان ذلك كرد فعل طبيعي للأب المجروح الذي طعن في شرفه وشرف ابنته الطاهرة الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه وأرضاها،

فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد اليوم، وفي رواية: والله لا أنفعه بنافعة أبداً، فالمهم أنه قرر أن يقطع النفقة عليه.

وتأمل هنا فـ أبو بكر لم يمنع حقاً من حقوق مسطح، وإنما كان يتفضل عليه فقط، فيتصدق عليه، والصدقة كما نعلم ليست كالزكاة، وإنما هي اختيارية، يعني: تفعلها أو لا تفعلها لا شيء عليك، لكن مع كل هذا الأمر ينزل قول الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22]، يعني: ولا يحلف؛ لأن أبا بكر حلف أنه لن ينفق على مسطح بعد ذلك شيئاً،

ثم قال تعالى: {أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، وهذه المنقبة كانت من أعظم مناقب الصديق، فالله سبحانه وتعالى يصفه بأنه من أولي الفضل والسعة، ثم قال: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22]، وهذا الأمر من ربنا سبحانه وتعالى على سبيل الاختيار: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، ففي هذه الآيات ربنا سبحانه وتعالى لا يذكر أن مسطحاً له حقاً عند أبي بكر، وإنما يطلب من أبي بكر بمنتهى الرفق أن يعفو وأن يصفح، ثم يتودد إليه سبحانه وتعالى فيقول: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا أنت غفرت للناس فالله سبحانه وتعالى سيغفر لك: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].

قال أبو بكر في رد فعل عجيب واستجابة سريعة جداً دون تردد: بلى والله! إني لأحب أن يغفر الله تعالى لي.

سمع قول الله تعالى فانطلق لتنفيذه فوراً، وذلك دون أي تفكير في القضاء على ما في قلبه من حزن أو حقد أو ضيق على مسطح بن أثاثة أو غير ذلك، ولم يقل: أعطني وقتاً لأنسى ما حصل، لا، بل قال في لحظة واحدة: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي.

فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه من ماله، بل وأقسم ألا يقطعها بعد ذلك؛ لأنه عرف ماذا يريد منه المولى تعالى، وليس من الممكن أن الله تبارك وتعالى يطلب منه شيئاً ثم يرفض، فإنه الصديق رضي الله عنه.

إذاً: فـ الصديق لم يكن ملزماً بالإنفاق على مسطح، وموقفه في المنع مفهوم، ولا يلومه عليه أحد، لكن النداء واضح، إن كنت تحب مغفرة الله عز وجل فاغفر للعباد، فوصلت الرسالة إلى قلب الصديق ولم يتأخر عن الالتزام بها.

وهنا نتساءل فنقول: كم من شخص غاضب من جاره أو من صاحبه؟ حتى ربما من أبيه وأمه! فيقاطعهم بسبب ذلك اليوم والاثنين والثلاثة، والشهر والشهرين، ولا يريد أن ينسى سبب ذلك، ونسي قول الله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، وهذا خلاف المنافقين تماماً، فلو خاصم الإنسان على كل شيء دون صفح أو مسامحة لدخل تحت وصف المنافقين؛ فالمنافقون لا ينقادون لأحكام الدين إلا عند تحقق فوائد دنيوية ملموسة، وإن لم تكن هناك فائدة مباشرة فلا طاعة لكلام الله عز وجل.

واسمع إلى قول الله عز وجل فيهم: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47]، فهذا كلام باللسان، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47]، فهم قالوا كلمة الإيمان وقالوا: أطعنا، لكن بلا عمل.
ثم قال تعالى: (وَإِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ إِذَا فَرِیقࣱ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ)
[سورة النور 48]

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-06-23, 07:44 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣5️⃣

أمثلة للصحابة في استجابتهم لأوامر الله

لنسمع إلى بعض الأمثلة في استجابة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضايا الدين وأحكامه.

استجابتهم عند تحويل القبلة

المثال الأول:
تحويل القبلة، فعندما أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وهذا الموضوع ليس سهلاً، فقد بقي المسلمون في المدينة المنورة متجهين إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وفجأة تغيرت القبلة إلى البيت الحرام، فقال اليهود والمنافقون للمسلمين: كأنكم لا تعرفون قبلتكم أين هي؟ فمرة تصلون إلى بيت المقدس، وأخرى ناحية البيت الحرام، فلم يفهموا الغرض والعبرة من التغيير، فقد كان الأمر اختباراً، والمسألة مسألة فتنة، والله سبحانه وتعالى قد قال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]،

وهذا الكلام ليس فقط في أمر القبلة، وإنما في كل أمر من أوامر الدين، فالمؤمنون قالوا بمنتهى البساطة: سمعنا وأطعنا، سواء قيل لهم: صلوا ناحية بيت المقدس، أو قيل لهم: صلوا ناحية الكعبة، فالقضية واضحة جداً عندهم، وربنا قد قال شيئاً فالمؤمن يسمع ويطيع، حتى الذين كانوا في صلاة حين وصلهم الخبر لم ينتظروا الانتهاء من صلاتهم حتى يجلسوا مع الرسول ﷺ ويقولون: لماذا هذا التغيير، أو غير ذلك من الأسئلة والمبررات؟ لا، لم يكن هذا الكلام شاغلاً لهم، بل بمجرد أن يتأكدوا أن الله سبحانه وتعالى قال كذا، أو رسوله ﷺ قال كذا، لا بد من القيام به، ففي نفس الصلاة غيروا اتجاههم، فصلوا ركعتين باتجاه بيت المقدس، وركعتين باتجاه الكعبة، فهذا هو معنى قول: سمعنا وأطعنا، وهذا هو الفهم الحقيقي لمعنى العبادة لله عز وجل.

أما رد فعل المنافقين واليهود: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142]، وتأمل الرد الإلهي على هؤلاء، فلم يقل لهم: لأجل كذا وكذا، مع أن هناك حِكَمٌ ظهرت لنا من ذلك، وحِكَمٌ لم نعرفها، لكن الله قال لهم: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]، فالذي يريده الله سبحانه وتعالى اعملوا به، فله سبحانه المشرق والمغرب.

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
01-06-23, 07:45 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣6️⃣

أمثلة للصحابة في استجابتهم لأوامر الله

قصة رؤيا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقيامه لليل مدة عمره

المثال الثاني:
قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،
ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي ﷺ إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله ﷺ ، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله ﷺ ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم -يعني: أناس من المشركين والمنافقين- فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار! أعوذ بالله من النار! فلقينا ملك آخر، فقال لي: لن تراع -أي: لن تخاف، أراد أن يطمئنه- فاستيقظ عبد الله بن عمر، فأراد أن يذهب إلى الرسول ﷺ ، ولكنه استحى لصغر سنه، فذهب إلى أخته السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وأرضاها، وحكى لها الرؤيا وقال لها: قوليها لرسول الله ﷺ ، فقصت السيدة حفصة رؤيا عبد الله على النبي ﷺ ، فقال رسول الله ﷺ كلمات قليلة جداً، كان لها أثر عظيم في حياة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)،

فـ (لو) ليست للشرط، وإنما للتمني كما يقول ابن حجر في الفتح، يعني: أن الرسول ﷺ لم يُعلِّق خيرية عبد الله بن عمر على قيام الليل، بل قال: (نعم الرجل عبد الله)، فهو يثني ويمدح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ثم قال: (لو كان يصلي من الليل)، أي: لو أكمل حسنه بقيام الليل، والتقدير: لو كان يصلي من الليل لارتفعت قيمته.

وفيه إشارة واضحة بأن قيام الليل يقي من عذاب النار الذي رآه عبد الله بن عمر في المنام.

يقول نافع مولى عبد الله بن عمر: فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
يعني: ظل بقية عمره يقيم ليله بالعبادة بسبب حديث واحد سمعه من النبي ﷺ ، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام مدح عبد الله بن عمر، لكن لم يتكل عبد الله بن عمر على هذا المدح،

ولم يعتمد على هذا الثناء من رسول الله ﷺ ، لكنه استمر على القيام إلى أن توفي، وكان موته سنة (73) من الهجرة، وله من العمر (86) سنة، فبقي رضي الله عنه مواظباً على قيام الليل طويلاً، وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً.
إنه منهج واضح جداً لفهم الإسلام، إنه منهج السماع للطاعة، سمعت حديثاً اشتغل به، سمعت آية اشتغل بها، وهكذا بما عندك من العلم.

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-07-23, 07:38 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4⃣7⃣

أمثلة للصحابة في استجابتهم لأوامر الله

قصة المسيء صلاته ومدى استجابته لتعليم النبي ﷺ
المثال الثالث: المسيء في صلاته، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (دخل رسول الله ﷺ المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي ﷺ فرد عليه السلام وقال: ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، فالرجل قد صلى، والرسول ﷺ يقول له: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، والرجل لم يقل للنبي ﷺ : أنا الآن قد صليت أمامك، واسأل فلاناً وعلاناً، لا، فهو لا يحتاج إلى كل هذا الكلام، فرجع في منتهى الأدب وصلى مرة أخرى،

ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فقال له: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، فرجع مرة ثانية بدون أي نقاش، وأعاده النبي ﷺ ثلاث مرات، وفي المرة الرابعة والرجل خائف بسبب ما يقال له، فأراد أن يعرف الخلل، فقال: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره)، أي: لو كنت أعرف غير هذا لصليت، (ما أحسن غيره فعلمني)، يعني: مشكلته ليست في الطاعة، إنما مشكلته أنه لا يعرف ويريد أن يعرف، وحين يعرف سيعمل بشكل جيد، ويريد أن يعرف لأجل أن يطيع ربه عز وجل.

فقال له ﷺ : (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها)، فكانت مشكلة هذا الرجل: عدم الاطمئنان في الصلاة.

والشاهد أن الرجل ذهب في المرة الأولى والثانية والثالثة ليعيد الصلاة وهو في منتهى الصبر، فهو يسمع ليطيع، وما دام أن الرسول ﷺ قال ذلك، فلا بد من التنفيذ، ثم بعد ذلك كله يسأل بأدب جم: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره)، فلم ييأس ويضق من المسجد.

وقد يحذر الناس من الجانب السلبي الذي كان عند المسيء في صلاته، وهو عدم الاطمئنان في الصلاة، لكن تجدهم لا يهتمون بالجانب الإيجابي وهو الحرص على التعلم والعمل، والصبر على ذلك مرة ومرتين وثلاثاً، ولو قلت لشخص آخر: أنت لا تطمئن في ركوعك ولا في سجودك، ولا بد من أن تعيد الصلاة، سيقول لك: الله غفور رحيم، وإن شاء الله في الصلاة القادمة أهتم، ويمكن أن يتشاجر معك ويترك المسجد.

إذاً: هذا هو فهم الصحابة لقضية السمع للطاعة، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].

... يتبـــــــــ؏....[/color]

عطاء دائم
01-07-23, 07:40 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4⃣8⃣

أمثلة للصحابة في استجابتهم لأوامر الله

قصة الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك واستجابة الصحابة لأمر النبي ﷺ بمقاطعتهم

تعالوا لنختم هذه المحاضرة بقصة يعرفها الكثير منكم، لكن سنعلق على جانب صغير معين فيها، وتفاصيلها سنقوله في درس: الصحابة والتوبة، وقد قلنا تفاصيلها قبل هذا في دروس السيرة النبوية.

إنها قصة استجابة المسلمين لمقاطعة الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، وهي مثل رائع للجانب العملي عند الصحابة الكرام، فقد كان هذا التخلف نزغة من نزغات الشيطان، فقد تخلف كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين، ونزل الوحي بعقابهم عن طريق المقاطعة، فكان عقاباً صعباً جداً، ولم يحصل في حياة الصحابة إلا في هذه المرة فقط.

يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا.

فلا أحد يكلم هؤلاء الثلاثة، وهنا حدثت استجابة سريعة وكاملة وعجيبة جداً من أهل المدينة جميعاً، فلا جدال ولا نقاش ولا مبررات ولا تعليلات لا استثناءات ولا وساطة، بل ولا أحد قال للنبي ﷺ : هذا رجل من السابقين، هذا من المكافحين، من أهل العقبة، لم يقل أحد أي شيء من هذا الكلام، بل قالوا: سمعنا وأطعنا.
ولم يأت أيضاً أحد من عائلته أو أرسل له كرتاً وأعطاه إياه، ولا كان شيء من ذلك، فقطعت مصالح كثيرة، وكل واحد من هؤلاء له علاقات كثيرة، يتاجر مع هذا ويشتغل مع هذا، ومتزوج من بيت فلان، وقريب من هذا،

لكن ليس ذلك مشكلة، فلتهدم كل المصالح ولا تهدم الطاعة، والمهم الطاعة لله عز وجل، والطاعة لرسوله الكريم ﷺ ، فلم ينفع رحم، ولم تنفع صداقة، فنفذت المقاطعة بشكلها الواسع والعجيب في المدينة المنورة، وكل أهل المدينة قاطعوا الثلاثة، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: فاجتنبنا الناس.

أي: تجنبوا حتى طريقهم، ثم قال: وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي بالتي أعرف.

أي: هل هذه هي المدينة المنورة أم أنها ليست هي؟
وكأن الأرض التي ولد فيها وعاش فيها سنين وسنين لم يأت إليها قبل الآن،
والشيء الغريب جداً أن كل الناس في المدينة قد سمعوا وأطاعوا، وهذا هو جيل الصحابة الكرام: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فليس لهم أي اختيار أبداً، لكن هل ظل ذلك يوماً أو يومين؟

لا، بل بقي كثيراً جداً، يقول كعب بن مالك: فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فترة طويلة جداً، وبالذات داخل مجتمع صغير مثل المدينة، وهو مجتمع اجتماعي، وليس كمجتمعاتنا في هذا الزمان، ففي أيامنا قد تجد أن بعض الجيران لا يعرف جاره، لكن في جيل الصحابة كان الجميع كأسرة واحدة، فالمقاطعة في هذه البيئة كانت صعبة جداً، فتفاقم الأمر مع كعب بن مالك رضي الله عنه الله عنه وأرضاه، يقول: حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه.

أي: أنه ذهب إلى أقرب شخص وأحب شخص إليه بعد النبي ﷺ ، وهو مطمئن إلى أنه لن يقاطعه، قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! ورد السلام فرض، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ألغى هذا الأمر في هذه الحالة الاستثنائية فقط، فمنع الناس من الكلام حتى السلام، يقول: فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟! وأبو قتادة لا يرد.
يعني: هل تظنني قد غلطت لأجل أنني منافق، في داخلي كراهية لله وللرسول، أم أن هذه غلطة عابرة وأنا أحب الله ورسوله؟

فهو يسأله سؤالاً واضحاً جداً، فيريد منه رأيه: نعم أم لا.
يقول كعب: فسكت.
أي: المرة الثانية، ثم قال: فعدت له فنشدته.
أي: في المرة الثالثة، ثم قال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم.

أي: لا أدري، وهي كلمة رهيبة جداً، أي: أنه لا يعلم إيمان كعب، فهو يشك في إيمانه وليس واثقاً منه، وكان هذا أشد على كعب من السكوت، فتمنى أنه لم يتكلم وبقي ساكتاً، لكن أراد أبو قتادة أن يبعد كعباً عنه تماماً؛ وذلك حتى لا يصر على كلامه، فأقفل عليه الباب وقال له: الله ورسوله أعلم.

وفي هذا استجابة شديدة لأوامر الله تعالى، وأوامر الرسول ﷺ ، استجابة إلى درجة عظيمة وعالية، مع أنه أحب الناس في المدينة إلى كعب بن مالك بعد رسول الله ﷺ ، يقول كعب: ففاضت عيناي.

أي: أنه لم يقدر على التحمل، فقام والألم والحزن والاكتئاب يعتصر قلبه، وقد استمر هذا الوضع خمسين ليلة، ولاحظ كل هذه الاستجابة، وكل هذه الطاعة، وكل هذه المقاطعة إلا أنهم بعد خمسين ليلة من المقاطعة صدر الأمر الإلهي بالعفو عن الثلاثة الذين خلفوا،
وهنا رفع الحظر عنهم،
وسمح لأهل المدينة بالحديث معهم.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-08-23, 07:50 AM
سلسلة_كن_صحابياً

4⃣9⃣
الصحابة والدنيا

الدنيا حلوة خضرة، وقد استخلفنا الله سبحانه فيها للابتلاء والامتحان، فالكيس من عمرها بما يقربه إلى مولاه، والعاجز من عمرها واغتر بشهواتها وملذاتها، وقد فقه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذلك المعنى، فجعلوها مزرعة للآخرة، وقدّموا فيها صالح الأعمال ليوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

نظرة الصحابة إلى الدنيا

فيا ترى ما هو مفهوم الصحابة للدنيا؟
وما هي نظرة الصحابة إلى الدنيا؟

في الحقيقة إن نظرة الصحابة إلى الدنيا كانت نظرة عجيبة جداً، فقد كانت نظرة متوازنة بشكل ملفت للنظر، فهم من جانب لا يُعطون لها قيمة تُذكر في حياتهم، فيتنازلون عنها بسهولة وببساطة شديدة، وكأنها لا تساوي درهماً، ومع ذلك هم من جانب آخر يعملون فيها بجد واجتهاد، فيزرعون ويتاجرون ويتكسّبون المال، ويعمّرون الأرض، فكان منهم الأغنياء الذين لا تُحصى أموالهم، والمُلّاك الذين تجاوزت أراضيهم مئات الأفدنة، فالدنيا في أعين الصحابة لم تكن غاية ولم تكن هدفاً، بل كانت وسيلة إلى إرضاء الله عز وجل،

ومعبراً إلى الآخرة، ومن ثم كانت وسيلة إلى تنفيذ كل ما أمر الله عز وجل به، فالله عز وجل أمر بإعمار الدنيا، فليكن الإعمار، والله عز وجل أمر بكفالة الأسرة والزوجة والأولاد والآباء والأمهات، فليكن العمل في الدنيا لتحصيل المال لكفاية هؤلاء، والله عز وجل حض على الجهاد بالمال، فلا بد من وجود المال حتى يجاهد به، والله عز وجل حض على الوقوف في وجه الكافرين، فلا بد من العمل في الدنيا لإعداد العدة لمواجهة الكافرين.

إذاً: فأنا أشتغل في الدنيا لإرضاء الله عز وجل، فأكسب المال لإرضاء الله، وأتزوج لإرضاء الله، وأخلّف لإرضاء الله، وأعمل كل شيء في الدنيا لإرضاء الله، ومن الممكن أن أكون من أغنى الناس في الدنيا، وفي نفس الوقت أرضي الله عز وجل بهذا المال، وفي نفس الوقت أيضاً لا يوجد عندي مانع أن أترك الدنيا بكاملها وأصبح أفقر واحد فيها إرضاء لله سبحانه وتعالى.

إذاً: فهذه علاقة تفاعلية رائعة فقهها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومعادلة صعبة جداً حققوها بسهولة ويسر، عندما ساروا على منهج الله عز وجل.
إن الدنيا في حقيقتها لا تساوي عند الله شيئاً، ومن ثم فهي لا تساوي عند المؤمنين بالله شيئاً، فلا يجوز التصارع من أجلها، ولا يجوز التشاحن والبغضاء من أجل جزء منها ولو كان عظيماً في أعين الناس، وفي ذات الوقت لا يجوز اعتزالها وتركها وإهمالها، ولا يجوز التأخر فيها، ولا يجوز تركها غنيمة في أيدي أعداء الدين.
إذاً: لنتأمل كيف فقه الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟ وكيف حققوا هذه المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟

إن هناك من الناس من يقول لك: إما دنيا وإما آخرة، ولا ينفع أن تعمل للدنيا والآخرة في نفس الوقت!

وعليه فكيف تكون من طلاب الآخرة، وأنت تعمل في الدنيا وتكافح وتتزوج وتكسب وتفرح وتضحك!؟

إن الصحابة الكرام وصل إليهم هذا الفقه العميق والدقيق عن طريق معلمهم ﷺ ، ومعلم البشرية أجمعين ﷺ ، فوصل إليهم عن طريق كلماته وأفعاله ﷺ ، وعن طريق ما نقله عن رب العزة سبحانه وتعالى من آيات ومعجزات القرآن الكريم، فقد كانت حياته ﷺ تطبيقاً حياً دقيقاً لكل كلمة قالها ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-08-23, 07:51 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣0⃣
الصحابة والدنيا

حقيقة الدنيا،
ما هو حجم الدنيا الحقيقي؟

روى مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بن سعيد إلى السبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع)، وانظر إلى ما ترجع به الإصبع.

فهذا هو حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، فالدنيا بأموالها وأملاكها وأرضها ومتعتها وزهرتها ما هي إلا قطرات في الآخرة، والدنيا بكل ما فيها من جنيهات ودولارات وريالات، وكل ما يتعلق به القلب لا تساوي إلا قطرات قليلة بالنسبة لليم إذا قورنت بالآخرة، هذا هو حجم الدنيا، فهل نحن نفهم الدنيا بالحجم هذا، أو أنا أعطيناها حجماً أكبر من هذا الحجم الطبيعي.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة)، أي: أنه جلس في فترة القيلولة تحت ظل شجرة، ثم قال: (في يوم صائف، ثم راح وتركها)، فحياتك على الأرض كفترة القيلولة التي أخذتها تحت ظل شجرة في صحراء واسعة جداً مررت بجانبها في يوم من أيام حياتك، واليوم قد مضى وانتهى من زمان، فقارن عمرك في الأرض بالفترة التي سوف تعيشها في القبر بعد ذلك، وقارن كل هذا بالخلود في الآخرة، فهناك أناس في قبورهم منذ ألف سنة أو ألفين أو خمسة آلاف، وأنت مهما عشت فكم سوف تعيش؟


ما بين ستين سنة إلى مائة سنة، وبعد هذا العمر ما الذي سيحصل؟
تذهب وتترك هذه الدنيا، وعند البعث يوم القيامة كيف سيكون الوضع؟
لا يوجد موت آخر، وإنما خلود ولا موت، وعيشة إلى ما لا نهاية، إما جنة وإما نار، وأي شيء فيه ما لا نهاية فكم سيساوي؟

يقول علماء الرياضيات: يساوي صفراً، أي: أنه عندما تقول: حياتك على وجه الأرض كما لو كان أحد يأخذ قيلولة فقط تحت ظل شجرة في يوم من الأيام، فهذه مبالغة؛ لأن هذا كثير جداً، فأنت أقل من هذا، فهذه الفترة تساوي صفراً؛ لأنها تقاس إلى ما لا نهاية يوم القيامة.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهما: (أن رسول الله ﷺ مر بالسوق، والناس كنفتيه أو كنفيه)، روايتان في ذلك، يعني: أن الناس يحيطون به، من هؤلاء الناس؟ إنهم الصحابة، هذا الجيل الذين نريد أن نقلدهم، فأراد الرسول ﷺ أن يعلمهم درساً عملياً: (فمر ﷺ بجدي أسك ميت)، أي: أن أذنيه صغيرتين، والجدي ذو الأذنين الصغيرتين يكون جَدياً معيباً، والناس لا تشتريه حتى وإن كان حياً فكيف إذا كان ميتاً؟ (فتناوله ﷺ فأخذ بأذنه)، أي: أنه مسك بالأذن ليعرّف الصحابة بأن هذا الجدي فيه عيب، ثم قال ﷺ : (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، أي: من يشتري هذا الجدي الذي به عيب وهو ميت أيضاً بدرهم؟

اسأل نفسك نفس السؤال لتعرف ماذا كان رد الصحابة: أتريد أن تشتري جدياً ميتاً في الشارع سواء كان معيباً أو غير معيب بجنيه أو بنصف جنيه؟ (فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟

ثم قال ﷺ : أتحبون أنه لكم؟ -أي: بدون أي مقابل من المال- قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟)، فهم ظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعرف بالعيب، فأرادوا أن يوضحوا له الرؤية فقالوا له: إنه لو كان حياً فلن نأخذه، فما بالك وهو ميت؟ والرسول ﷺ يعرف أن الجدي أسك وفي نفس الوقت ميت، فقال ﷺ : (والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: أن الدنيا كلها أهون على الله من هذا الجدي المعيب الميت، فلماذا نحن نتصارع من أجل هذه الدنيا؟

ولماذا نخسر بعضنا من أجلها؟
ولماذا نظلم بعضنا من أجلها؟ ولماذا نجد أناساً يكافح مدة عمره فيظلم ويغش ويعصي من أجل أن يكسب كرسياً أو شقة أو وزارة أو ملكاً في هذه الدنيا؟
مع أن الدنيا كلها أرخص من جدي أسك ميت لا يساوي درهماً ولا أقل من درهم.
أترون كيف كان المثل الذي ضربه الرسول ﷺ للدنيا؟ فلماذا كل هذا الصراع على الدنيا؟

لأن الناس لم تفهم قيمة الدنيا، فهي مشغولة بالمظهر عن المخبر، ولا تعرف حقيقتها، ولم تعمل المقارنة بين الدنيا والآخرة، وذلك هو الجهل والحمق والغفلة، والمهم أن الناس ضائعة؛ لأنها لا تستطيع أن تفهم القيمة الحقيقية للدنيا، ولو فهمت فعلاً لم يكن هذا هو حالها أبداً.

روى الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، أي: أن الدنيا لا تعدل بعوضة كاملة، بل لا تعدل ولا تساوي جناح بعوضة، لكن نحن نرى الكفار يشربون ماء في طست من ذهب.
أليس هذا حالنا؟!

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-09-23, 07:49 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣1⃣

قصة قدوم أبي عبيدة بن الجراح من البحرين بالجزية

تأملوا إلى هذه القصة اللطيفة التي رواها الإمام البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يقول: (بعث رسول الله ﷺ أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين)، أي: ذهب إلى البحرين ليأتي بالجزية، والبحرين شرق الجزيرة، وليس المقصود بالبحرين مملكة البحرين حالياً.

وكان يعيش هناك مجوس يدفعون الجزية لرسول الله ﷺ ، فذهب أبو عبيدة بن الجراح إلى هناك وأتى بالجزية إلى رسول الله ﷺ ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي ﷺ ، والمدينة المنورة لها ضواح كثيرة، وكل ضاحية فيها مسجد يصلي الناس فيه؛ لأن بيوتهم كانت بعيدة عن مسجد رسول الله ﷺ الذي في وسط المدينة المنورة، فلم يكونوا يصلون الصبح والعشاء مع رسول الله ﷺ ، بل كانوا يصلونها في مساجدهم، ويأتون فقط في الأمور الجامعة، أي: أنه من الممكن أن يأتوا في صلاة الجمعة أو في صلاة العيد أو عندما يكون هناك استنفار لأمر ما، فهم في هذه المرة سمعوا بقدوم أبي عبيدة فوافوا رسول الله ﷺ في مسجده في صلاة الصبح، فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له، أي: أنهم اعترضوا له في الطريق والرسول ﷺ خارج من صلاة الصبح،
وهو يرى أن هؤلاء الناس ليس من عادتهم أن يصلوا الصبح معه في مسجده، فلما رآهم النبي ﷺ وعرف سبب مجيئهم تبسم رسول الله ﷺ في وجوههم وقال: (أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟

قالوا: أجل يا رسول الله! قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم) أي: أنه سوف يعطيهم ما يشاءون، لكن في نفس الوقت سيعطيهم درساً تربوياً في غاية الأهمية، فهو ﷺ يستغل الفرصة لذلك، ففي البداية ابتسم لهم وقال لهم: أبشروا وأملوا، ومن ثم أعطاهم الدرس فقال ﷺ : (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا)، أي: أن الذي يخاف عليهم منه هو الدنيا، ولو بقوا فقراء فإنه لا يخاف عليهم، لكنه يخاف عليهم من المال، ويخاف عليهم من الدنيا، تجد الفقراء مستريحين، لكن الأغنياء غير مستريحين،
فتراهم يتساءلون: بكم الدولار في هذا اليوم؟

لماذا الناس تطمع فيِّ؟
فلان هذا يريد أن يكون أفضل مني، فلان أمواله كثرت على أموالي، فكيف أن أنافسه؟
كيف أضربه في السوق؟
كيف أدفعه من أمامي؟
كيف أتملك وأسيطر؟

فالغني لا يستطيع النوم ولا الراحة؛ لأنه في قلق وحيرة وهم، والفقير ينام في الشارع وهو في منتهى الأمان، بينما الملك أو السلطان يحيط به الحراس الكثيرون من الجنود والكتائب ومع ذلك ينام وهو خائف، فهو يتلفت يميناً وشمالاً، يا ترى هل أحد سوف يعمل لي أي شيء؟ هل هناك من يدبر لي أي شيء؟ تجده في خوف وجزع وهم.

فهذه هي الدنيا، وانظر إلى الفقير كيف هو فيها، وانظر إلى الغني كيف هو فيها أيضاً.

إذاً: ما هي السعادة؟
وكيف يمكن أن يكون الشخص سعيداً وهو حيران كل هذه الحيرة، وقلق كل هذا القلق؟

(فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم)، ما الذي سوف يحصل إن بسطت علينا الدنيا؟
تأمل هذا الكلام الحكيم، يقول: (فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم)،

فنجد هنا أن الرسول ﷺ يخاف علينا من الدنيا، ولم يكن هذا التحذير مرة أو مرتين في حياة الرسول ﷺ ، بل كان كثيراً جداً؛ فقد كان كلما جلس مع الصحابة خوفهم من أمر الدنيا.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-09-23, 07:50 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5️⃣2️⃣

تحذير النبي ﷺ لأصحابه من الدنيا

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فلم يكن يخاف عليهم من فارس أو الروم، ولم يكن يخاف عليهم من المشركين أو اليهود؛ لأن هذه الأشياء يستطيعون أن يتصرفوا معها، وإنما الخوف عليهم هو من الدنيا.

فانظر إلى نفسك في حياتك، فمن المؤكد أنها قد مرت بك ظروف أو مرت بك أمثلة في الدنيا، فرأيت شخصاً كان مريضاً وكان طائعاً لربنا سبحانه وتعالى، وعندما أغناه سبحانه وتعالى ما الذي وقع؟ كثير منهم ابتعدوا عن طريق الله عز وجل، ونحن نرى هذا كثيراً جداً، وربما يكون قد حصل معنا شخصياً، نسأل الله السلامة.

وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إن الدنيا حلوة خضرة)، أي: أن الدنيا حلوة، وشكلها أخضر كالنبات الجميل الزاهي، لكن هل هناك نبات مهما كان جماله يبقى على الدوام؟ مستحيل، فكل نبات مصيره إلى الفناء ومصيره إلى أن ييبس؛ وهكذا الدنيا حلوة خضرة وسوف تنتهي، ثم يقول: (وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون)،

وانظر إلى هذا الفهم العميق، فالله عز وجل قد استخلفنا في هذه الدنيا وهو مراقب لنا في كل خطوة، وما الدنيا إلا اختبار وابتلاء وامتحان، وهذا هو الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبداً، فنحن في اختبار دائم، ونحن في اختبار مستمر، والدنيا عبارة عن استخلاف للابتلاء والاختبار، فكل حركة لك في الدنيا ينظر إليها الله، فهل أنت مشيت يميناً أم شمالاً،

فلو قال لك: امش يميناً فمشيت فلك حسنة، ولو مشيت شمالاً عليك سيئة، وعُدَّ على هذا جميع خطوات حياتك، فالدنيا اختبار، ولهذا سيأتي في نفس الحديث القليل في كلماته والعميق جداً في معانيه، يقول: (فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) قد يُفتن الإنسان أولاً بالمال أو بالمنصب أو بالسلطة أو بالصحة أو بالقوة أو بأي فتنة أخرى، ثم تأتي جميع الفتن عندما يقع في فتنة من هذه الفتن، نسأل الله السلامة.

إذاً: مع أن الحديث قليل جداً في كلماته لكنه عميق جداً في المعنى الذي يوضحه، فالدنيا شكلها جميل ومبهر لكنها إلى زوال، والله سبحانه وتعالى جعلها هكذا جميلة في مظهرها الخارجي؛ لتكون اختباراً حقيقياً للناس، فاحذر يا مؤمن أن تنشغل بجمال الدنيا عن امتحانها، الغاية أنك تدخل الامتحان، وليست الغاية أن تنبهر بالجمال الموجود في الدنيا، والمثال يوضح ذلك: فلو أن طالباً دخل قاعة الامتحان، ثم وزعت بعد ذلك ورق الامتحان، فجلس مبهوراً بحلاوة شكل الورقة وطريقة طباعتها، ونوع المادة التي صنعت منها الورقة، ولون الطباعة والتخطيط الذي في الورقة، وبقي على هذه الحال ساعة وساعتين وثلاثاً حتى انتهى الوقت، ثم قال له شخص: انتهى الوقت ولا يوجد وقت إضافي، عند ذلك لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، فما هو رأيكم في هذا الطالب؟

أنا لا أريد منكم استغرابكم من هذا الطالب؛ لأن كثيراً منا مثل هذا الطالب، وكثيراً منا من ينبهر بشكل الورقة وينسى الامتحان، وكثيراً منا من ينبهر بشكل الدنيا وينسى الامتحان، ثم يأتي في وقت ينتهي فيه الامتحان ولا يوجد هناك رجوع ولا يوجد وقت إضافي، وكذلك عندما تنتهي الدنيا تنتهي، سواء كانت هذه النهاية بنهايتك شخصياً أو بنهاية الأرض كلها، ولا يوجد أحد في هذه الأرض سيخلّف: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].

وقال تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] لا يمكن ذلك، فهذه الحقائق لا بد أن نعيها جيداً، والرسول ﷺ قد اجتهد مرة ومرتين وثلاثاً وعشراً وعشرين على أن يعلمها الصحابة ويعلمنا بعد هذا، فانتبه يا مسلم! أن تنسى هذه الحقائق.
وتأملوا إلى الرسول ﷺ وهو يمشي خارج المدينة مع أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فأخذا يمشيان حتى وصلوا إلى جبل أحد خارج المدينة،

روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي ﷺ في حرة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟

قلت: أحد، فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين)، يعني: امتلاك جبل من الذهب ليس من أسباب السعادة والسرور، لكن أنا أحتاجه فقط في حالتين: الحالة الأولى: (إلا شيئاً أرصده لدين)،

والحالة الثانية: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه)، أي: أنه يوزع هذا الجبل.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-10-23, 08:02 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣3⃣

حال النبي ﷺ مع الدنيا
لم يكن الرسول ﷺ يحذر الناس من الدنيا ثم يتنعم هو بها، أبداً، فانظروا إلى الصحابة كيف كانت تصف حياة الرسول ﷺ ؟

روى مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه واللفظ لـ ابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (رأيت رسول الله ﷺ يلتوي من الجوع ما يجد من الدقل -والدقل: رديء التمر- ما يملأ به بطنه)، فكيف من الممكن بعد هذا أن تَكْبُر الدنيا في عيني عمر بن الخطاب وفي عيون الصحابة، لكن تعال وقل ألف كلمة وألف خطاب وألف مقال عن الزهد من غير تطبيق، ليس من الممكن أن يكون لها أي قيمة، فالذي جعل لكلام الرسول ﷺ قيمة كبيرة جداً أن حياته كانت مثالاً عملياً لكل كلمة يقولها ﷺ .

وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله ﷺ على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)، أرأيتم ما الذي حصل بعد هذا؟ لقد تغيرت الدنيا على الرسول ﷺ ، ذاك الذي كان مُطارداً ومُشرّداً ولم يجد أحداً ينصره، لقد أصبح رئيس دولة، وأصبح مُمَكَّنٌ في الأرض، وأصبح عنده بيت مال، وتأتي له الغنائم والجزية من أماكن كثيرة جداً، فكل الدنيا قد تغيرت من حوله، لكن عليه الصلاة والسلام لم يتغير إلى أن مات، وتأمل عند موته ما الذي حصل؟

فقد روت السيدة عائشة ذلك فتقول: (توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد)، يعني: أي خلق من إنسان أو حيوان، فهو يشمل جميع الخلق، (وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي)، أي: كل الذي كان عندي هو شطر شعير في رف لي، وأين ذلك؟ في بيت زعيم الأمة وقائد الدولة،

ولا تستغربوا من ذلك فالرسول ﷺ يعرف قيمة الدنيا، والذي يستغرب منه حقاً هو الذي يؤمن بالآخرة وحجمها ولم يعمل لها، وهو الذي يعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة في الدنيا وهو يعلم أنها زائلة، وما أنفق في سبيل الله ساعة وهو يعلم أن الآخرة باقية!!

هذا الذي بالفعل يستغرب منه، ولا يستغرب من واحد يعرف أن الدنيا كلها قطرات، ولهذا لم يأخذ منها شيئاً وتركها، فهو سائر عمره يركز على أمر الآخرة.
ومع كل هذا الوصف لحياة رسول الله ﷺ ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يعيش حياة متوازنة، فكان يعمل ويتكسب المال، وكان إذا أفاء الله عليهم بفيء كان له خمسه، والفيء: هي الغنيمة التي تأتي من غير قتال، وكان يتزوج النساء، وكان يُنجب الأطفال، وكان إذا حضر الطعام وفيه شاة أكل من كتفها، وكان إذا أُهديت له بردة من الصوف لبسها ﷺ ، ولم يكن يعتزل الناس أو يعتزل الحياة أو يعتزل الدنيا مع كل هذا الكلام عن الدنيا، وكان يجعل أصحابه على الولايات، وكان يعطيهم من الأموال، وكان يأمرهم بالعمل، وينهى ﷺ عن الكسل والخمول والدعة فقد كان يعمل في الدنيا أي عمل مهما كان بسيطاً،

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي ﷺ : (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس)،

وفي راوية: (خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) فانظر إلى هذا التوجيه النبوي، فلو عملت حمّالاً أو بيّاعاً للحطب فليس عيباً ولا حراماً، فهذا خير من أن تمد يديك إلى الناس، وتأمل إلى الجمال في التعليم النبوي: (فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق)، فليس فقط يأكل، لكنه يأكل ويتصدق، فيُصبح له فضل على غيره، فبدلاً من أن تمد يديك إلى الناس اعمل وتصدق على الناس، ولا تقعد في البيت عاطلاً؛

فالرسول ﷺ كان يشجع الناس على العمل، ومع كل هذا التخويف من أمر الدنيا إلا أنه يأمرك ألا تقعد في البيت من غير شغل.

فهذا هو التوازن الذي كان يقصده الرسول ﷺ في حياته، وبهذه النظرة المتوازنة انطلق الصحابة في أرض الله عز وجل يعملون ويتكسبون، وينفقون على أنفسهم وأهليهم، ويتاجرون، ويزرعون، ويجاهدون في سبيل الله، ويُصيبون الغنائم، ويتولون المناصب والقيادات، ويخالطون الناس وغير ذلك، ومع ذلك لم تمثل لهم الدنيا شيئاً في أعينهم، فما أسهل بذلهم لها في سبيل الله، وما أيسر تنازلهم عنها لإخوانهم، حتى لمن لا يعرفون.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-10-23, 08:03 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣4⃣

نماذج من تعامل الصحابة مع الدنيا وقصة عزل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.

تعالوا لنعيش مع الصحابة في تعاملهم مع الدنيا، ونتعلم من الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع الدنيا، وسنتحدث عن قصة سبق وأن تحدثنا عنها بالتفصيل في فتوح الشام، وأعطينا لها درساً كاملاً، إنها قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما عزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول توليه للخلافة، عزله وهو في قمة انتصاره الساحق على جيوش الإمبراطورية الرومانية الرهيبة،

وكان ذلك بعد موقعة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد كان عدد الروم مائتي ألف رومي، وعدد المسلمين تسعة وثلاثين ألفاً.
ولننظر إلى عظمة جميع المشاركين في هذا الحدث، وهو حدث عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ورضي الله عن صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.

موقف سيدنا عمر بعد عزله لسيدنا خالد رضي الله عنهما

تعالوا لننظر إلى عظمة عمر بن الخطاب الذي عزل خالد بن الوليد، قال عمر بن الخطاب: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويُفتنوا به، فتأمل إلى فهم وتفكير عمر بن الخطاب، فقد كانت فتوح الشام وسيلة لدخول الناس الجنة، لكن إن كانت هذه الوسيلة ستبعدنا عن الجنة فليس من الضروري فتحها؛ لأن القضية في حياة المسلمين ليست معركة أو موقفاً أو جيشاً، لا، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فالناس قد فُتنت بـ خالد رضي الله عنه، واعتقدت أن النصر من عنده وليس من عند الله عز وجل، فكلما كان خالد بن الوليد موجوداً ينتصرون، وإذا كان خالد بن الوليد في مكان آخر يُغلبون.

إذاً: فالنصر جاء من عند خالد !
وهذا الفهم في منتهى الخطورة على عقيدة الناس، ولأن سيدنا عمر بن الخطاب حريص على حياة الناس في الجنة وليس على حياتهم في الشام عزل خالد بن الوليد وهو في أشد الاحتياج إليه، فجيوش المسلمين موزعة بين فارس والروم، ونصر خالد نصر لـ عمر بن الخطاب، وكل الأراضي التي أدخلها خالد بن الوليد في ملك المسلمين، هي في ملك عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فليست المشكلة أن الأراضي تزيد، ولا الانتصارات تتوالى، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فيا ترى هل هؤلاء الناس الذين سيكسبون المعركة من أهل الجنة أم من أهل النار؟

هذه هي القضية التي شغلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعزل خالداً من أجل مشاكل شخصية أو خلافات قديمة، كما يقول بعض المستشرقين، أو بعض الناس التي فُتنت بمناهج المستشرقين، وليس عمر الذي يضحي بجيشه من أجل أشياء كانت بينه وبين خالد رضي الله عنه وأرضاه، ويُعلم أيضاً من سيرة عمر بن الخطاب أن الدنيا قد غيّرت في حياة كثير من الناس، لكنها لم تغير شيئاً في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: فالقضية أن حسابات الدنيا في ذهن عمر لا تساوي شيئاً إلى جوار حسابات الآخرة، فنأخذ الجيوش ونفتح البلاد، ونأخذ الغنائم والسبايا، ونعيش في الدنيا، لكن ليس على حساب الآخرة أبداً، فأوقف عمر الفتوح في فارس سنة سبع عشرة للهجرة؛ لسبب عجيب، وأنا أعتقد أنه لم يتكرر في الأرض ولا مرة إلا في تلك المرة فقط، ألا وهو كثرة الغنائم، فقد فُتن الناس بالدنيا وتغيروا، فأوقف الفتوحات والانتصارات وحافظ على المسلمين من الدنيا؛ لأنه لم ينس كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا)، فهو على حذر تام طيلة حياته من الدنيا، ولهذا عزل خالد بن الوليد لكي لا يُفتن الناس بالدنيا.

فانظروا إلى هذا الفهم العميق الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظروا إلى هذه التضحية العظيمة، فقد ضحى بعزل أكبر قائد من قواته وفي أحرج اللحظات، فهذا هو القائد الناجح، وهذا هو القائد المسلم الذي ينفع أن يكون قائداً في المسلمين.

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
01-11-23, 08:13 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣5⃣

نماذج من تعامل الصحابة مع الدنيا وقصة عزل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.

موقف سيدنا أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من عزل سيدنا خالد رضي الله عنه

ننتقل إلى موقف أبي عبيدة بن الجراح الذي عُين قائداً بدلاً من خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولنرى موقف الزعيم الجديد للشام، فقد أصبح رئيساً لقطاع كبير من الدولة الإسلامية، فهو أمير الشام وما أدراك ما الشام؟ إنها من أغنى الولايات الإسلامية في ذلك الوقت بعد أن فُتحت، فعندما جاءه خطاب التعيين، ما الذي عمله مع هذا الخطاب المهم جداً؟

هذا الخطاب الذي معظم سكان الأرض يتمنى سطراً واحداً منه، فإن الإنسان ليتمنى أن يكون أميراً على شركة صغيرة أو على قطاع أو مصلحة، لكن ماذا كان حال أمير الشام؟ لقد كانت المفاجأة من أبي عبيدة بن الجراح أنه أخفى خطاب العزل لـ خالد بن الوليد، فهو لا يريد أن يكون زعيماً، ولم يُعلم خالد بن الوليد بذلك، ثم أتاه خطاباً آخر من عمر بن الخطاب.

لأن عمر بن الخطاب كان يعلم أن أبا عبيدة سيأخذ الخطاب ويخبئه ويرفض الإمارة، لكنه رضي الله عنه خبأ الخطاب الثاني حتى انتهت المعركة بقيادة خالد، ووصل الخبر إلى خالد بن الوليد من طريق آخر، أي: أن هناك شخصاً آخر أخبر خالداً بعزل عمر بن الخطاب له، وهو لم يكن يعرف بعد أن أبا عبيدة تم تعيينه أميراً على الجيش، فذهب مسرعاً إلى أبي عبيدة ليلومه على ذلك، فقال أبو عبيدة لـ خالد بن الوليد: وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع.

أي: ما ترى يا خالد من الملك والإمارة والسلطة سوف يذهب، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله تعالى، سواء الحاكم والمحكوم، أو القائد والجندي، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه لا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة.

أي: فتنة الإمارة وفتنة الدنيا.
ثم قال: وأوقعهما في الخطيئة، لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم.

أي: أن القليل جداً من الأمراء الذين لا يقعون في الدنيا، فلماذا أطلب الإمارة إذا كانت خطرة على ديني، وسوف تصعّب عليّ امتحان الدنيا؟ مسكين فعلاً هذا الذي لا يفهم حقيقة الدنيا.

ثم قام أبو عبيدة وخطب في جيش المسلمين يعظّم من أمر خالد فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة)، فلا يظن ظان أن خالداً عُزل لنقص في دينه أو ضعف في رأيه، أبداً، فالرسول ﷺ بنفسه مدحه وسماه: سيف الله.

انظروا إلى عظمة أبي عبيدة بن الجراح عندما يقول هذا الكلام في هذا الموضع، يعظّم من القائد الذي عُزل وهو قد جُعل في مكانه، وليس أن يذكر سيئاته السابقة وأنه كان يعمل كذا وكذا، بل يعظم من أمر خالد وغير مسرور لتولي الإمارة، لماذا كل هذا؟

لأنه يعرف قيمة الدنيا، ولو أنه لم يعرفها لكان فرحاً جداً بأنه قد أصبح أميراً على الشام.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-11-23, 08:14 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣6⃣

نماذج من تعامل الصحابة مع الدنيا وقصة عزل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.

عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وموقفه من عزل عمر له
برزت عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل الذي كان في أعظم درجات الملك، وفي أعلى درجات التفوق والانتصار، فقد كان جيش المسلمين في الشام قبل أن يأتي خالد بن الوليد في أزمة خطيرة، ولم يستطع أن يحقق إلا نصراً يسيراً جداً، وظل شهوراً لا يستطيع أن ينتصر، بينما سيدنا خالد كان في العراق له انتصاراته الأولى والثانية والثالثة، ففكر سيدنا أبو بكر بنقل خالد من العراق لينقذ جيوش الشام، وعندما أتى خالد من العراق إلى الشام، وهو في طريقه إلى جيش الشام حقق خمسة انتصارات في الشام، وهذا قبل أن يقابل جيش الشام، وبعد أن قابل جيش الشام كانت موقعة اليرموك الخالدة، أي: أن سيدنا خالداً كان يعمل عملاً لا يستطيع أحد تصوره حتى الناس الذين يعيشون معه، سواء من الصحابة أو غيرهم،

وهنا سيدنا أبو بكر يقول: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟
فانظروا إلى خالد وهو في قمة هذا الانتصار يعزل،
فماذا كان ردة فعله؟

إن خالداً في كل هذا الطريق وفي كل هذه الانتصارات لم يقل كلمة (أنا) مرة واحدة، بل كان دائماً ينسب الأمر إلى الله عز وجل، وتأمل إلى هذا الموقف في موقعة اليرموك لأحد الجنود المسلمين، إذ يقول بعد أن نظر إلى أعداد الروم الهائلة: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فسمعه خالد بن الوليد فقال له في ثقة شديدة، ثقة الرجل الواثق من ربه سبحانه وتعالى: اصمت أيها الرجل، بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بنصر الله عز وجل، وتقل الجنود بالخذلان لا بعدد الرجال، ووالله لوددت أن الأشقر -أي: فرسه- براء من توجعه وأنهم أُضعفوا في العدد.

أي: وددت أن يكون فرسي سليماً والرومان أربعمائة ألف.
فـ خالد بن الوليد عندما أتاه قرار العزل سلّم الراية بدون تردد إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال: ما عليّ أن أقاتل في سبيل الله قائداً أم جندياً.
أي: ما دام أن ذلك كله في سبيل الله فلا فرق بين أن أكون قائداً أم جندياً؛ لأنه في النهاية كله في سبيل الله، والغاية هي إرضاء الله عز وجل، سواء أرضاه في كرسي الحاكم، أو في كرسي المحكوم، أو في كرسي القائد، أو في كرسي الجندي،

ففي النهاية أنت ترضي الله عز وجل.
ثم قام يخطب في الجيش ويقول: بعث عليكم أمين هذه الأمة، وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) ولم يقل: بماذا فُضِّل عليّ؟ ولم يقل: ما الذي فعله أبو عبيدة قبل أن آتي من العراق؟ ولم يخبر أنه قد ظُلم بهذا القرار، مع أن كل الجيش كان يحبه حباً لا يوصف،

لكن لو كان قال هذا الكلام لأحدث فتنة، لكنه لا يريد ذلك، ولماذا الفتنة؟
من أجل الدنيا، هو يعرف قيمة الدنيا، فهي لا تساوي عنده شيئاً.
فقد خاض رضي الله عنه معارك كثيرة جداً، حتى قيل: إنها قد تجاوزت المائة، وانتصر فيها جميعاً دون هزيمة واحدة، وغنم غنائم شتى، وربح أموالاً عظيمة، ولم يترك بعد موته إلا فرساً وسلاحاً وغلاماً فقط من كل هذه الدنيا، بل وأمر بإرسالها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: اجعلوها عُدة في سبيل الله،
لكن من يستطيع أن يحمل سيفه بعد موته؟
من يستطيع أن يركب خيله؟
أين ذهبت أمواله وغنائمه؟

لقد أنفقها جميعها في سبيل الله، فقد كان جواداً عظيم الجود، كريماً واسع الكرم، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا عجب فهو تلميذ نجيب لرسول الله ﷺ .
ما هو أكثر ما تمتع به خالد بن الوليد رضي الله عنه في حياته؟ قال خالد بن الوليد: ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أصبّح فيها العدو.
فهذه هي متعته في الدنيا، وليست السلطة ولا الإمارة ولا الأموال ولا النساء، بل الجهاد في سبيل الله، وليس أي جهاد، بل الجهاد الصعب الخطير في البرد والليل والجيش القليل والعدو الكثير، فهذا هو خالد بن الوليد وهذه متعته.

وقال وهو على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني -أي: تمطر علي- ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار.
ثم قال كلمته المشهورة وهو يبكي: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، وها أنا أموت حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.

فهذه حياة عظيمة خالدة، أتظنون أن ضرب السيوف أو رمي السهام لم يكن يؤلم خالد بن الوليد؟

بل كان يؤلمه، لكنه فقه حقيقة الدنيا، وعلم أنها أيام قليلة يقضيها ثم يموت وأن الحياة الحقيقية هي الدار الآخرة.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-12-23, 08:04 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5️⃣7️⃣

الصحابة والجنة

الجنة هي النعيم الذي لا ينفذ، وهي التي دندن حولها النبي ﷺ والصحابة أجمعون، فاشتاقت نفوسهم إلى هذا النعيم الدائم، وتفاعلوا معها أعظم التفاعل، فضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، فقدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الوصول إلى ذلك.

الجنة والخلود فهي مطلب كل مسلم

في الحقيقة هذه نقطة محورية فعلاً في بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية بكاملها.
فيا ترى كيف فهم الصحابة حقيقة الجنة؟
وكيف كان تعاملهم مع حقيقة الجنة؟

عندما تدرس حياة الصحابة ستجد أن تفاعل الصحابة مع قضية الجنة مختلف جداً عن تفاعل معظم اللاحقين بعد ذلك، وأنا أعتقد أن هذا الاختلاف كان سبباً رئيساً من الأسباب التي أدت إلى أن جيل الصحابة وصل إلى هذه الدرجة السامية الرفيعة من الأخلاق، ومن الاعتقاد في الله عز وجل، ومن العمل في سبيل الله عز وجل، لذا كانت الجنة نقطة محورية في حياة كل الصحابة، لكن قد تجد أناساً كثيرين الآن من الذين لديهم علم كبير جداً من العلماء الأفاضل،
ومن كبار الدعاة عندما يأتي ويتكلم عن الجنة تحس أنه يتكلم على شيء نظري، ولا تشعر في كلماته بالأحاسيس التي كان يشعر بها فالصحابي، فالصحابي حتى وإن كان بسيطاً في علمه، أو قليلاً في معلوماته، لكن عندما يعرف معلومة واحدة عن الجنة فإنها تبقى معه إلى أن يموت، حتى لو كان أعرابياً بسيطاً، وحتى لو كانت لغته ضعيفة مقارنة بكبار الصحابة، لكن كانوا يتأثرون بالجنة تأثراً قوياً جداً، وأنا أشعر أن هذا فارق جوهري؛ لذلك أتمنى أن يركز كل سامع لهذه المحاضرة مع هذه المعاني، وأن يعيش فيها معايشة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وأنا أعتقد أنه عندما تصبح الآخرة في أعيننا كما هي في أعين الصحابة ستتغير -ولا شك- مناهجنا في الحياة، وسنفكر بطريقة أخرى، وسنرتب أولوياتنا بطريقة أخرى، وسنسعد بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالأشياء التي نسعد لها الآن، وسنحزن أيضاً بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالتي نحزن عليها الآن.
فيا تُرى من منا يحزن الحزن الذي يقعده في الفراش عندما تفوته تكبيرة الإحرام مثلاً كما كان يحدث مع بعض الصحابة؟ ويا تُرى كم فينا من يحزن على فوات قيام الليل؟ أو على فوات صلاة الفجر الذي هو أصلاً فرض من الفروض؟
وكم واحداً لو فاتته صلاة الفجر واستيقظ وقد طلعت الشمس يبقى حزيناً طوال اليوم؛ لأنه فاتته صلاة مفروضة كان عليه أن يصليها في وقتها؟! ويا تُرى كم فينا من يحزن على أن أحد أصحابه بعيد عن الله تعالى، وأن ربنا لم يهده بعد، وهو يحبه حباً شديداً ويراه على ضلالته، ويراه بعيداً عن الطريق، فهل سيحزن عليه حزناً حقيقياً أم أن الأمر لا يهمه؟ مثلما أن الناس يسيرون في الشارع يعبدون الله أو لا يعبدونه لا فرق عندنا! ويا تُرى من منا يحزن أن فاتته معركة في سبيل الله، أو جهاد في سبيل الله؟

الناس الذين يأتيهم إعفاء من الجيش هذه الأيام يفرحون بينما الصحابة الذين يفوتهم الجهاد في سبيل الله يحزنون على ذلك.

وكم واحد منا حزين على فلسطين وعلى العراق وعلى كشمير وعلى الشيشان وعلى الصومال وعلى السودان وعلى غيرها من البلدان؟ إننا لو فهمنا ما معنى الجنة وما معنى النار مثلما فهم ذلك الصحابة؛ فإن كل شيء في حياتنا سيتغير تغييراً شاملاً، بل وكاملاً لمنظومة الحياة بكاملها.

وتعالوا لنرى كيف كان تفكير الصحابة في الجنة؟
وكيف كانوا من أهل الجنة وهم ما زالوا على وجه الأرض؟

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-12-23, 08:05 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣8⃣

الصحابة والجنة
اشتياق ربيعة بن كعب الأسلمي للجنة

فهذا ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، له موقف يهزني فعلاً من الأعماق، حتى ولو تكررت قراءتي له فإنني سأقف مذهولاً أمام هذا العملاق ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، مع أن كثيراً منا ربما لا يسمع عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه.

ربيعة بن كعب هو: خادم رسول الله ﷺ وشاب صغير جداً، فعمره دون العشرين، وهو من أهل الصفة، وخبرته في الحياة قصيرة، ليس أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا أي واحد من الكبار الذين نسمع عنهم، وإنما هو من عوام الصحابة.
وعلاوة على أنه صغير في السن، فهو من أهل الصفة، يعني: من الناس الفقراء جداً الذين ليس لهم بيوت، وإنما قد اتخذوا المسجد بيتاً، فيصرف عليهم أهل الخير في المدينة المنورة، وأيضاً ليس بمتزوج، بل إنه معدم لا يجد ما يسد رمقه في كل يوم، فلو كان أحدنا مكان ربيعة بن كعب ماذا كان سيتمنى؟

تخيل كم من الأحلام والآمال والأمنيات التي من الممكن أن تكون عند هذا الإنسان،

لكن قبل ذلك اسمع معي هذه القصة التي وردت في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله جميعاً، يقول ربيعة بن كعب رضي الله عنه: (كنت أخدم رسول الله ﷺ ، وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع -طوال النهار هو شغال في خدمة النبي ﷺ - حتى يصلي رسول الله ﷺ العشاء الآخرة -أي: صلاة العشاء- فأجلس ببابه إذا دخل بيته)، فالرسول بعد صلاة العشاء يذهب إلى بيته؛ لأن الحركة في المدينة المنورة تنتهي بعد العشاء بالنوم،

لأجل يبتدئوا يومهم قبل الفجر بقيام الليل، ثم صلاة الفجر ويبتدئ اليوم بصورة طبيعية، ثم قال رضي الله عنه: (لعلها أن تحدث لرسول الله ﷺ حاجة)، وانظر إلى أي درجة وصل التفاني في خدمة رسول الله ﷺ .

قال ربيعة: فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله سبحان الله سبحان الله وبحمده، وفي رواية: الحمد لله رب العالمين، يعني: طيلة جلوسه وهو في ذكر ﷺ ،
يقول ربيعة: حتى أمل؛ فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقد، إما أن أمل من طول القيام وأذهب إلى المسجد للنوم، أو أبقى في مكاني وأنام على باب بيت رسول الله ﷺ من طول المقام.

فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى ربيعة وهو ذاهب وآت في خدمته، قال ربيعة: فقال لي يوماً -لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه-: يا ربيعة! سلني أعطك، أي: اطلب يا ربيعة! تمن يا ربيعة!

قل ماذا تريد؟

وتخيل نفسك مكان ربيعة ورسول الله ﷺ وهو رئيس المدينة المنورة ورئيس الدولة يقول لك: اطلب يا فلان! والذي تريده أنا سأحاول أن أوفره لك، سل يا فلان أعطك.
ثم انظر إلى فقره وحاجته الشديدة؛ لا يجد ما يأكل أو يشرب أو يلبس أو يتزوج، والرسول ﷺ يقول له -وهو رئيس الدولة بالمدينة المنورة-: اطلب يا ربيعة! ولنتأمل ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه على هذا العرض المغري من رسول الله ﷺ ،
يقول ربيعة: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله! ثم أعلمك ذلك، يعني: أعطني فرصة لأفكر، يقول ربيعة: ففكرت في نفسي فعرفت.

وانتبه هنا وضع في ذهنك الخلفية التي صورتها لك لحالة ربيعة بن كعب الأسلمي من ناحية الإمكانيات المادية، ومن ناحية الوضع الاجتماعي في المدينة المنورة، يقول: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وتذكرون المحاضرة التي سبقت: الصحابة والدنيا، وانظر إلى هذا الشاب الصغير كيف أنه فاهم لحقيقة هذه الدنيا جيداً، يقول: فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، أي: إن الله لن يتركني وسيكفيني ويأويني، يقول ربيعة: فقلت: أسال رسول الله ﷺ لآخرتي، إذا كانت الدنيا ستأتيني هكذا أو هكذا، والله قد كتب لي فيها شيئاً ما، فلماذا أسأله الدنيا؟

فتأمل ما مقدار ما يفكرون به، يقول: لو أن الله كتب لي رزق فسيأتيني، أو زوجة فستأتيني، أو بيتاً فسيأتيني، إذاً فلماذا لا أسأله عن الحاجات الصعبة على كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة، ألا وهي الجنة.

قال: أسأل رسول الله ﷺ لآخرتي؛ فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، أي: هو رسول الله الذي إذا سأل الله تعالى استجاب له، ثم قال: فجئت، فقال رسول الله ﷺ : ما فعلت يا ربيعة! أي: هل فكرت في الطلب الذي تريده؟ يقول ربيعة:
فَقُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ، فَيُعْتِقَنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ : فَقَالَ : " مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ ؟ ". قَالَ : فَقُلْتُ : لَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ، مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ : سَلْنِي أُعْطِكَ. وَكُنْتَ مِنَ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي، فَقُلْتُ : أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِآخِرَتِي، قَالَ : فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لِي : " إِنِّي فَاعِلٌ، فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ



يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-13-23, 07:47 AM
سلسلة_كن_صحابياً

5⃣9⃣

الصحابة والجنة
اشتياق عمير بن الحمام للجنة

وموقف آخر لصحابي آخر: عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه، وكلنا نعرف ذلك الموقف، وكلنا قد سمعنا به كثيراً، إنه موقف في منتهى الجمال والروعة:

روى مسلم وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: يوم بدر قال رسول الله ﷺ ، وانظروا إلى الرسول ﷺ في يوم بدر وهو يشجع الصحابة على القتال في سبيل الله، قال لهم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، كلمات قد سمعناها مراراً، وسمعنا أيضاً الآية الكريمة مرات عديدة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، لكن -سبحان الله! - عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سمع هذه الكلمات وتدبرها جيداً، وجلس يفكر: جنة عرضها السماوات والأرض!!

إنه شيء عظيم جداً، وكأنه أول مرة يسمع هذه الآية! فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض، ما هذه العظمة!؟ رأى السماء والنجوم وتباعدها عن بعضها وعن الأرض، الجنة عرض السماوات والأرض، وكل الذي نراه من السماء هو سماء الدنيا فقط، وهناك أيضاً سبع سماوات أخرى!! فقال رسول الله ﷺ : نعم، قال عمير: بخٍ بخٍ! كلمة تقال للتعظيم، يعني: معقول أنها بهذا الحجم، فالرسول خاف ألا يصدق ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! أنا مصدق،

لكن رجاء أن أكون من أهلها، فقال رسول الله ﷺ لما رأى الصدق في عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه: فإنك من أهلها، وتأمل إلى عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه فقد أخذ ما أراد، فهو طوال عمره يعيش لأجل هذا الأمر، لأجل أن يدخل الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: فإنك من أهلها، وهل هناك أحد سيدخل الجنة في الدنيا؟! لا، لابد من الموت،

فهو عرف أن الفارق بينه وبين الجنة أن يموت، وبينما هو واقف بجانب رسول الله ﷺ يقول أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: فأخرج عمير تمرات من قرنه، أي: من الكيس الذي يوضع على الظهر وفيه الزاد، فكان رضي الله عنه واقفاً طوال اليوم ولا يوجد لديه أكل، فأخذ من كيسه بعض التمر ليأكلها، قال: فجعل يأكل منهن أي: من التمر، ثم إن عمير بن الحمام رضي الله عنه عمل عملاً غريباً جداً، فأخذ التمرات ورمى بهن، ثم قال: (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة)، أي: هل سأنتظر دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث حتى آكل هذه التمرات وبعد ذلك أموت ثم أدخل الجنة؟ لا، فأنا مشتاق جداً إلى الجنة، ولا أستطيع أن أصبر دقيقة واحدة، فهل يا تُرى كان في فعل عمير بن الحمام تكلف.

لا والله أبداً، فهو الآن يعيش في الجنة فعلاً، والذي يفصل بينه وبين أن يكون في الجنة حقيقة الموت، لأن الإنسان إذا مات انتقل إلى القبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، ومجرد أن يموت فإن كل النعيم الذي سيراه في الجنة سيرى منه في القبر، ثم إلى النعيم الكثير والكبير والذي لا ينقطع بعد قيامه من قبره يوم يقوم الناس لرب العالمين.

يقول أنس: فرمى عمير بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل، أي: حتى استشهد، ونال الأمنية التي كان يتمناها، وانظر إلى بعض الناس ماذا يتمنون؟! أن الله يكتب لهم عمراً طويلاً، وأنهم يعيشون سنين وسنين، بينما عمير كان يتمنى فعلاً أن يموت، وصدق الله فصدقه الله عز وجل.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-13-23, 07:48 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣0⃣

الصحابة والحنة
قبول الصحابة لشروط بيعتي العقبة مقابل تبشيرهم بالجنة

وتعالوا بنا أيضاً لنرى بيعة العقبة الأولى -وقد تكلمنا عليها بالتفصيل في دروس السيرة- يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنا عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله ﷺ على بيعة النساء)، وذلك قبل أن يفرض الجهاد، لأن بيعة النساء كانت بيعة بدون جهاد، والجهاد إنما جاء في بيعة العقبة الثانية، وتعالوا لنرى الشروط التي اشترطها رسول الله ﷺ على عبادة بن الصامت ومن معه من أصحاب بيعة العقبة الأولى،

يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه: (بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف).

فهذه ستة شروط وأمور بايع النبي ﷺ عليها أصحابه، وهي شروط صعبة جداً، وأريد منكم أن تتخيلوا هؤلاء المبايعين الذين دخلوا في الإسلام الآن، ويملي عليهم النبي ﷺ كل هذه الشروط والقيود الشديدة، ومن أولها: عدم الإشراك بالله، وعدم السرقة إلى آخر ما أملاه عليهم عليه الصلاة والسلام، لكن ما هو الثمن إن وفَّوا بذلك؟ يقول النبي ﷺ : (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم).

فهل يا ترى تخلف أحد عن البيعة بعد هذه القيود الصعبة؟
لا، فكلهم قد بايعوا، نعم الشروط كانت صعبة لكن الثمن هو الجنة، فهذا هو المفهوم عن الجنة لدى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولننظر في بيعة العقبة الثانية، فقد كانت أصعب وأصعب، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحكي قصة بيعة العقبة الثانية كما جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فيقول رضي الله عنه وعن أبيه: (قلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟

قال: تبايعوني على)،
وانتبه! فالرسول ﷺ يصعب عليهم الأمور أكثر وأكثر، أكثر من السنة الماضية، لأن هؤلاء هم الدعامة التي ستقوم عليها الحكومة الإسلامية بعد ذلك، ولا بد أن يكونوا فاهمين جيداً لتبعات الإيمان، ولا بد أن يفهموا بماذا سيضحون وماذا سيكسبون؟

فالرسول ﷺ يقول لهم الحقيقة بمنتهى الصراحة وبمنتهى الوضوح، قال: (تبايعوني على: السمع والطاعة)، تذكرون محاضرة: الصحابة والعمل، وتذكرون كلمة السمع والطاعة؟

حيث قالوا: (سمعنا وأطعنا)، وليس السمع والطاعة فقط، بل الأمر أصعب من ذلك: (السمع والطاعة في النشاط والكسل)، فالسمع والطاعة في النشاط ممكن، وخاصة عندما يكون الإنسان متحمساً جداً لعمل الخير، فقد تأتيه ساعات هو متحمس فيها للصلاة في المسجد، لكن عندما يكون كسلان أو مرهقاً من العمل أو غيره فإنه يؤدي صلاة الجماعة في المسجد جماعة، وهذا هو السمع والطاعة؛ لأنه أمرك بالصلاة في الجماعة في المسجد؛ فتصلي جماعة في المسجد.
أيضاً عندك حمية للجهاد في سبيل الله وأنت في منتهى النشاط، وفي أوقات أخرى قد يحصل لك فتور، لكن هذا الفتور ليس مبرراً لعدم الطاعة، وعليه فهذا هو المؤمن الذي يقدر على حمل مسئولية الأمة الإسلامية على كتفيه.
وهذا أول الشروط.

ثانياً: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، في اليسر ممكنة، لا، أيضاً في العسر، فإذا كنت فقيراً أو محتاجاً، وعليك كذا وكذا من الأمور، لزمك النفقة في سبيل الله.
ثالثاً: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو أمر صعب أيضاً على النفس.
رابعاً: (وعلى أن تقولوا)، وفي رواية: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم)، وهذه في منتهى الصعوبة، لأن شدة المواجهة للدعاة في سبيل الله عز وجل معروفة، لكن هذا ليس مبرراً لمنع الدعوة أو لوقفها.

خامساً: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم).

فهذه هي الشروط الخمسة، وهي شروط في منتهى الصعوبة، ويمكن أن يقال على فكر العامة أو الجهلة: هذه شروط تعجيز، وليس من الممكن لأحد يريد أن يستقطب الناس أن يأتي بهذه الشروط الصعبة، لكن هذه هي حقيقة الإسلام، فالإسلام دين يحتاج إلى تضحية، ويحتاج إلى مجهود، ويحتاج إلى أناس تدفع ولا تأخذ، لأن بعض الناس همها أن تأخذ في الأخير، أي: أنها تريد أي شيء في الدنيا لا في الجنة.
إذاً ما هو الثمن؟

وما جزاؤنا إذا عملنا كل هذه الشروط الصعبة وصرفنا كل حياتنا لله عز وجل؟
يقول ﷺ : (ولكم الجنة)، كلمة واحدة، فقط، فالشروط أكثر من أربعين كلمة، والثمن كلمة واحدة: (الجنة)، ثم اعلموا أننا سوف نكسب لو عرفنا قيمة الجنة، وعرفنا أن ما ندفعه هو القليل، أربعون كلمة أو مائة كلمة أو خمسة
فهدفهم واضح وغايتهم واحدة.

... يتبـــــــــ؏.

عطاء دائم
01-14-23, 07:57 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣1⃣

خوف الصحابة من النار

إن مما يلفت النظر في الصحابة التوازن في حياتهم، فقد كانوا أيضاً يتفاعلون مع النار مثل تفاعلهم مع الجنة.

فهذا عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه عند خروجه إلى سرية مؤتة بكى رضي الله عنه وأرضاه والناس يودعونه، فلما رآه الناس وهو يبكي ظنوا أنه خائف من الموت في الجهاد، فقالوا: ما يبكيك؟

قال: أما والله ما بي حب الدنيا -لا تظنوا أني أبكي لأجل الدنيا -لا صبابة بكم-ولا اشتياق لكم- ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71]، يعني: أن كل الناس ستمر فوق الصراط على النار، ثم يقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه: فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟

يعني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، أي: ما يضمن لي أن أطلع منها، وأن أنجو منها والكل سيمر من فوقها.

لماذا تذكَّر هذه الآية الآن؟
لأنه ذاهب إلى الجهاد، ومن المحتمل أن يموت، وفعلاً فقد استشهد في سبيل الله في سرية مؤتة رضي الله عنه وأرضاه،

فهو رضي الله عنه كان معايشاً للجنة والنار، فقد كان مشتاقاً إلى الجنة، وخائفاً من النار كأنه من أهل المعاصي، أو أهل النفاق أو أهل الشرك، مع أنه من أعظم الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.

ونحن لا بد لنا من الوقوف مع أنفسنا ونسألها: لماذا لا نتفاعل مع الجنة والنار كتفاعل الصحابة؟

نعم نحب الجنة ونخاف من النار، لكن هل قضية الجنة والنار تملأ علينا حياتنا كما كانت تملأ حياة الصحابة؟

هل نعايشها المعايشة التي كان يعايشها صحابة رسول الله ﷺ ؟
هل فعلاً نحن على هذه الحال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟
لماذا لا نعيش ما عاشه الصحابة؟

جلست أفكر في هذه القضية فقلت لنفسي: لعلنا لا نعرف الجنة التي عرفها الصحابة، يعني: ربما قد تكون مسألة نقص في المعلومات عن الجنة، لذا كان من المؤكد أن الذي يعرف تفصيلات الجنة سيشتاق إليها بصورة أكبر من الذي يعرفها إجمالاً، فيعرف أن الجنة شيء جميل، أو أن النار شيء صعب وخطير وغيرها من المعلومات إجمالاً، لكن الذي يعرف التفاصيل أكيد سيحس أكثر بالمعاني العظيمة عن الجنة.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-14-23, 07:59 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣2⃣

حال آخر أهل الجنة دخولاً الجنة

وتعال لنسمع عن الجنة من رسول الله ﷺ ، وأنا قد احترت ماذا أقول من أحاديث الجنة؟

وعن ماذا أكلمكم؟
مئات من الأحاديث قد جاءت في وصف الجنة، ثم بعد تفكير قررت أن أذكر لكم أقل واحد في الجنة، ماذا سيكون نصيبه؟

وكل أهل الجنة بعد ذلك سيكونون أكثر منه، وتخيلوا معي ذلك.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ -يصف حال آخر أهل الجنة دخولاً الجنة-: (آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة)، أي: وهو خارج من النار يمشي قليلاً ويقع قليلاً، والنار تسفعه قليلاً، (فإذا ما جاوزها التفت إليها)،

فهو خرج من النار إلى مكان بين الجنة والنار، فلما نجا من النار نظر إلى هيئتها، قال: (تبارك الذي نجاني منك)، ثم يقول كلمة غريبة جداً: (لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين)، يظن أن النجاة من النار والوقوف في هذا المكان بين الجنة والنار أعظم نعمة على كل الخلق، ولا يعرف أن في الجنة قبله أناساً يعيشون في الجنة من سنين طويلة يتنعمون في نعيم الجنة: (يقول رسول الله ﷺ : فترفع له شجرة -يرى من بعيد شجرة- فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب!

ويعاهده ألا يسأله غيرها)، هو الآن نجا من النار، ورأى شجرة رفعت له من بعيد، فيريد أن يجلس في ظلها، ثم يقول رسول الله ﷺ : (وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه)، فهو رأى شجرة في منتهى الجمال.

قال ﷺ : (فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها)، ويجلس على هذه الحال فترة، ثم ماذا؟ (ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى؛ فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها)، وكان قال قبل قليل: لن أسأل مرة أخرى، لكن ابن آدم دائماً يريد الأكثر، فيقول الله عز وجل: (يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟

لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها!)، وكل لحظة تطلب جديداً، (فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة)، أصبح الآن قريباً من الجنة، (ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين؛ فيقول: أي رب! أدنني من هذه؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها لا أسألك غيرها؛ فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟

قال: بلى يا رب! هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها)، الآن أصبح قريباً من الشجرة الثالثة التي على باب الجنة، (فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة)، أي: أنه قد قرب من الجنة جداً، فسمع النعيم والسرور فيها، فيشتاق لهذا النعيم والسرور، فيطلب من ربه أن يدخله الجنة،

يقول: (أي رب! أدخلنيها؛ فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! ما يصريني منك؟)، أي: ما الذي يقطع مسألتك عني؟ والصري هو: القطع، والمعنى: متى تكف عن السؤال؟ وكلما تأخذ شيئاً تطلب آخر! ثم يقول الله عز وجل: (أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها)، أي: ليس الدنيا فقط، بل ضعفها، الدنيا ومثلها معها! هذه الدنيا التي تكلمنا عنها في الدرس الماضي، هذه الدنيا الضخمة والواسعة بما فيها من أموال وأراض وغيرها سيأخذ هذا كله، ومثلها معها.

فالرجل الآن نجا من النار، ومن شجرة إلى شجرة، ويريد فقط أن يدخل الجنة، لكن لم يصدق ما هو فيه، فيقول: (أتستهزئ مني وأنت رب العالمين!)، فضحك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه راوي الحديث ثم قال للناس الجالسين حوله: ألا تسألوني مم أضحك؟!

فقالوا: مم تضحك؟! قال: (هكذا ضحك رسول الله ﷺ ، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟!

قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فيقول الله عز وجل: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)، سبحانه وتعالى! وهناك زيادة لهذا الرجل، ففي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صل5: (سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة! فيقول: أي رب! وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم)، أي: أنه يرى أن الجنة ملأى، ويرى أن كل مكان في الجنة مشغول، ويرى أن الناس قد دخلوا الجنة من سنين، وكل واحد قد أخذ مكانه، أما أنا فماذا سيبقى لي؟

(فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ : لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ : رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ : هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-15-23, 08:07 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣3⃣

وصف نعيم أعلى أهل الجنة منزلة وقدر سعة الجنة

ثم سأل موسى عليه السلام فقال: (فأعلاهم منزلة؟!)، أي: إذا كان هذا أقل واحد فكيف أعلاهم منزلة؟ (قال: أولئك الذين أردت.

غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال صلى الله عليه وسلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).

وسأذكر لكم شيئاً غريباً جداً -وفكروا فيه- ألا وهو: لا تتعجبوا لو كان نصيب واحد منا في الجنة مقدار مجموعة شمسية مثلاً، فمجرة درب التبانة فيها أربعمائة ألف مليون مجموعة شمسية مثل مجموعتنا هذه، وتذكرون هذا الكلام وقد مر معنا في محاضرة سابقة، وإذا كان في الكون مائتا ألف مليون مجرة مثل مجرة درب التبانة، وهذا الرقم اكتشف حالياً، وكلما تصنع تلسكوبات أكبر كلما سنجد أكثر وأكثر وأكثر، يعني:

أن عدد المجموعات الشمسية في الكون التي عرفناها إلى الآن كم؟ اضرب هذا في هذا ينتج: ثمانين ألف ألف ألف ألف ألف مليون مجموعة!!! ثمانية وأمامها اثنين وعشرين صفراً، رقم في حياتنا لم نسمع من قبل ولن نسمع به، وهو بلا شك يفوق أعداد البشر كلهم، فلو أن كل أهل الأرض دخلوا الجنة سيكون رقمهم أقل من ثمانية وأمامها اثنان وعشرون صفراً.

وكل هذا زينة السماء الدنيا، وكل هذا تحت السماء الدنيا، ولم نصل بعد إلى السماء، ولا أحد يفكر أن يصل إلى السماء، بل العلماء لا يفكرون إلا في بلوغ مجرات تلو مجرات، وكل هذا تحت السماء.

لكن نحن نقول: سبع سماوات، ثم نقول بعد ذلك: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، جنة عرضها السماوات والأرض، يعني: أن كل الذي تكلمنا عنه جزء من جزء من جزء من جزء من الجنة، إذاً فليس غريباً لو كان للواحد منا ملك كالمجموعة الشمسية، وهذا لتعرف ما معنى: {عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، ولأجل أن تعرف لماذا عمير بن الحمام رضي الله عنه لم يصبر على أكل التمرات؟ فهو لم يصبر عن ملك مثل المجموعة الشمسية عشرات المرات، وهو من المجاهدين وليس آخر من يدخل الجنة، ولا من عوام أهل الجنة، وإنما من السابقين السابقين، من أهل الجهاد، من الناس الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله.

وأريد منكم أن تتخيلوا حجم الجنة: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، فهذا العرض بينما لم يأت حديث يصرح بطول الجنة وكم مقداره، لكن هناك أحاديث يمكن أن يفهم منها -ولو تخيلاً- طول الجنة.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)، وتخيل المسافة بين الأرض وبين أبعد كوكب في أبعد مجرة في الكون، لا شك أنها أقل حتماً من المسافة بين السماء والأرض، ولم نصل بعد إلى السماء، وأريدك أن تتخيل كم سنة ضوئية؟ كم ألف ألف ألف مليون سنة ضوئية؟ وتخيل أن الدرجة الواحدة في الجنة من نصيب المجاهدين كما بين السماء والأرض، وعندك مائة درجة للمجاهدين في سبيل الله وحدهم، فكم حجم الجنة كلها؟ وكم الطول؟ وكم العرض؟ فهذه هي الجنة.

روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة)، الناس الذين يبحثون عن شقة ولم يجدوها، ويبحثون عن غرفتين وصالة، وثلاث غرف وصالة، وأربع غرف وصالة، وأقصاها كيلو في كيلو، وما أحد قد دخل في بيت بهذا الحجم والسعة، لكن تخيل معي الجنة: (إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة -مقدار هذا البيت- عرضها ستون ميلاً)، يعني: حوالي مائة كيلو، من القاهرة إلى الفيوم تقريباً، فهذه شقة واحدة في الجنة، وممكن يكون عندك أكثر من واحدة، وفي كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن، فهذا بيتك في الجنة: لؤلؤة وقصر وفلة؛ فهذه هي الجنة.

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها)، أي: في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد وليس أي جواد، بل المضمر، يعني: المجهز للجري السريع، فيستمر هذا الفارس على هذا الجواد في الجري مائة سنة ما يقطع ظل الشجرة، فإذا كان هذا نعيم الجنة فلماذا نتقاتل على هذه الدنيا؟ ولماذا نجعل كل همنا في الدنيا؟ وهل رأيتم المستوى الذي نتكلم عنه؟ وكم مقدار المساحات في الجنة؟ وكم مقدار النعيم فيها؟ وكم مقدار رحمة ربنا سبحانه وتعالى بعباده على أعمال بسيطة لا تساوي شيئاً أبداً في ميزان الله جل وعلا يوم القيامة؟
كل هذا ماذا يساوي؟

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
01-15-23, 08:08 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣4⃣

وصف النار وبيان حال أقل أهلها عذاباً

لا بد للإنسان من التفكير في البديل عن الجنة إذا لم يدخلها، وإلى أين سيذهب؟ البديل عن الجنة النار، وليس هناك بدائل أخرى، كما قال ﷺ في أول يوم أعلن للناس فيه دعوته: (والله! لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً، أو النار أبداً)، واحدة من الاثنتين، إما الجنة وإما النار، فيا ترى كيف النار؟

ويا ترى ما مقدار عذاب أقل واحد في النار؟

روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة -أو قال في رواية: جمرتان- يغلي منها -أو منهما- دماغه)، أي: توضع جمرة تحت الرجل يغلي منها الدماغ، وبعض الأحاديث الأخرى قد صرحت أن هذا الرجل هو أبو طالب عم رسول الله ﷺ ، وهذا أقل واحد، فما بالك بمن في الدركة الوسطى والدركات التي بعد هذا، والدركات الدنيا، شيء مهول وعظيم جداً.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، أي: هذه النار التي نراها في الدنيا جزء من سبعين جزءاً، فقال الصحابة: (يا رسول الله! إن كانت لكافية)، يعني: لو كان العذاب بنار الدنيا لكان كافياً.

فقال ﷺ : (فضلت عليهن -أي: على نيران الدنيا-)، وفي رواية: (فضلت عليها -أي على نار الدنيا- بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)،

فمن هنا نفهم حديث رسول الله ﷺ الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة)، وفي رواية ابن ماجه: (غمسة)، يعني يؤتى بملك ظالم، أو سلطان متكبر، أو حاكم جبار، أو واحد كان عنده نعيم كبير جداً في الدنيا، لكنه من أهل النار، ثم يقال (يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط)، أنت أكثر شخص كنت متنعماً في الدنيا، (هل رأيت خيراً قط، هل مر بك نعيم قط، فيقول: لا والله يا رب!)، ضاعت متعة المال، ومتعة الملك، ومتعة النساء، ومتعة السلطة، وذهب كله بغمسة واحدة في النار، بغمسة واحدة في هذا الجحيم.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-16-23, 07:41 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣5⃣

نعيم الجنة ينسي كل بؤس مر بالمؤمن في حياته

قال ﷺ : (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة)، أي: بفقير، معدم، معذب، مظلوم، مبتلى، مريض، محروم، مصاب في ماله وأهله وولده وعمله ووطنه، وفي كل شيء، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: (يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؛ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)، فنسى البؤس والشقاء كله عند أول غمسة في الجنة.
فلماذا لا نشتغل للجنة؟

ولماذا لا نخاف من النار؟
إننا عندما نعرف حجم الجنة وحجم النار، وقيمة الجنة وخطورة النار؛ سنعرف لماذا حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه -الصحابي الجليل- قال هذه الكلمة العجيبة التي وقفت أفكر فيها كثيراً، كلمة في منتهى الغرابة، ففي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما طعن حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه يوم بئر معونة)، وفي رواية: (حتى أنفذه بالرمح)، يعني: أن الرمح اخترق الظهر وخرج من الصدر، قال: (الله أكبر! فزت ورب الكعبة)، فهل نفهم من هذا شيئاً؟
وأي فوز فازه هذا الصحابي الجليل؟!

لقد فقد حياته في عرف الناس، لكنه فاز بالجنة التي تحدثنا عنها آنفاً، فاز بالنجاة من النار التي تحدثنا عنها أيضاً منذ قليل، تيقن من ذلك لما نفذ الرمح في جسده، فأيقن أنه ميت، وأنه سيأخذ ما وعد به النبي ﷺ الشهيد، فالشهيد ينتقل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، (يغفر للشهيد في أول دَفعة)، وفي رواية: (في أول دُفعة)، والروايتان صحيحتان.

هذا ما كان يريده حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه: (يغفر للشهيد في أول دفع)، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي فكر فيه حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه.

ولعلنا لا نعرف كل هذه المعاني العظيمة، ولعلنا لا نعرف الجنة ولا النار، فنريد أن نقرأ عن الجنة وعن النار، ونريد أن نعيش كأننا نعيش في الجنة، ونريد أن نخاف من النار وكأننا قريبون منها جداً، وذلك مثل خوف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه الذي تكلمنا عليه قبل قليل، وكان ذاهباً للجهاد في سبيل الله.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-16-23, 07:42 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣6⃣

نعيم الجنة لا يدرك إلا بصدق العمل لها

هناك أناس سيقولون كلمة غريبة جداً، ألا وهي: كل الكلام الذي ذكرته نحن نعرفه، لكن نحن لم نشتغل للجنة! وانتبه يا مسلم! فالعلم الذي لا ينفع كأنه غير موجود، وكأنك جاهل، بل أخطر من ذلك؛ لأن العلم أصبح حجة عليك، والناس الذين كانوا يعيشون مع رسول الله ﷺ يعرفون أنه صادق، ويعرفون أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولا يقدر عليه البشر، لكن عندما لم يسمعوا الكلام والنصيحة من رسول الله ﷺ ماذا كانت النتيجة؟

هل نفعهم علمهم هذا؟
لا، وانظر إلى الوليد بن المغيرة ماذا كان يقول؟
قال: لقد نظرت فيما قال الرجل -أي محمد ﷺ ـ فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
لكن ماذا عمل بهذا الكلام الجميل؟

إن الذي يسمع كلامه يحسبه داعية من الدعاة إلى الإسلام، لا، لقد قاتل في معركة بدر وقتل فيها.

وهذا أبو جهل -لعنه الله- كان يقول عندما سئل: ما رأيك فيما سمعت من محمد ﷺ -واسمعوا قول أبي جهل - قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه.

فهو يعرف أنه رسول فعلاً، لكن من أين لهم بمثله؟
فلم يصدقه ويؤمن به، ولم ينفعه العلم شيئاً.

وعتبة بن ربيعة قال في وصف القرآن: سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم.
فماذا فعل له كل هذا الكلام؟

لقد خرج يحارب في بدر أيضاً، وقتل وهو مشرك والعياذ بالله.
إذاً: فأين العلم؟

إننا لا نريد أن نكون مثل هؤلاء، لا نريد أن نعلم كل ما علمناه عن الجنة والنار وعملنا كما هو، وكيف نعرف قيمة الجنة وخطورة النار ومع ذلك ما زلنا نعيش للدنيا؟ كيف هذا؟! إنها والله حياة واحدة، طالت أم قصرت، صعبت أم تيسرت، عشت فيها حاكماً أو محكوماً، غنياً أو فقيراً، ظالماً أو مظلوماً، طائعاً أو عاصياً، هي في النهاية حياة واحدة ومحدودة جداً، حياتك هي حياتك، والله لن تزيد أو تنقص، لن تقدر على أخذ رزق أحد، ولا تقدر على أخذ عمر إضافي من أحد.
لكن لماذا نعصي؟ لماذا نظلم؟ لماذا ننسى؟

إن المسلم مطالب بأن يتزود، فإن خير الزاد التقوى، وهلموا إلى ربكم؛ فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.

قال النبي ﷺ : (من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).

فإذا كنتم تريدون الجنة حقاً؛ فاعلموا أن ثمنها غال جداً: (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)، فالله عز وجل لا يبيع سلعته بثمن بخس دراهم معدودات، إنما ثمنها الذي يريد سبحانه وتعالى هو النفس والمال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].

اللهم اجمع لنا أمرنا ولا تفرقه علينا، واجعل غنانا في قلوبنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واجعل الجنة هي دارنا ومستقرنا، آمين اللهم آمين.

وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-17-23, 08:01 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣7⃣

الصحابة واتباع الرسول ﷺ

ضرب لنا الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في اتباعهم لسنة النبي ﷺ ، وحرصهم عليها، وموقفهم الصارم ممن لم يلتزم بها، فسادوا بذلك الدنيا كلها، ثم خلف من بعدهم خلف تطاولوا على السنة، وطعنوا فيها وألقوا الشبه عليها، واتبعوا المتشابه منها، وأعرضوا عن المحكم، ونسي هؤلاء أن الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة هو باتباعهم لسنة نبيهم محمد ﷺ .

نظرة الصحابة ومن بعدهم للسنة

إن نظرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى السنة كانت نظرة فريدة حقاً، فقد كانوا يعظمونها إلى درجة لا يتخيلها إلا من درس حياتهم بعمق، فدرس كل نقطة من نقاط حياتهم رضوان الله عليهم أجمعين.

ثم مع مرور الزمن تفاوتت نظرة الناس الذين جاءوا من بعد الصحابة، فاختلفت نظرتهم للسنة، فمنهم من عظمها ولكن كشيء نظري، فيأخذ ويترك منها ما شاء.

ومن الناس من اعتقد أنها شيء من الكماليات لا من الضروريات.
ومن الناس من اعتقد أن السنة أشياء وأمور خاصة برسول الله ﷺ ، وليست لعموم الأمة، فإذا قلت لأحدهم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل كذا، أو يقول كذا، أو كان يتعامل بالطريقة الفلانية في هذا الأمر، يقول لك: هذا الرسول، أما أنا فلست برسول!! ومن الناس من تطاول على السنة، فطعن فيها وألقى بالشبهات، واتبع المتشابه منها وأعرض عن المحكم.

فهذا تفاوت كبير في تعظيم السنة في الأجيال التي لحقت برسول الله ﷺ ، لذا فنحن نريد أن نرى نظرة الصحابة للسنة النبوية، وكيف كان تعاملهم معها.
إن ارتباط الصحابة بالسنة كان سبباً مباشراً لوصولهم إلى رضا الله عز وجل، وإلى حب الله عز وجل، فالله عز وجل لن يحب عبداً حتى يتبع سنة رسوله ﷺ ، قال تعالى مصرحاً بذلك: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]،

فحياة الرسول ﷺ كانت التفسير العملي للقرآن الكريم، والتطبيق الواقعي لما أراده الله عز وجل من العباد، فكل صغيرة وكبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لهدف مقصود ومتابعة بالوحي، ولذا تستطيع أن تقول بمنتهى الاطمئنان: إن كل أفعال النبي ﷺ كانت متابعة بالوحي الكريم من الله عز وجل، فإما أن الله سبحانه وتعالى يقول له: اعمل كذا وكذا، وإما أنه ﷺ فعل فعلاً ونزل الوحي بالتأكيد أو بتعديله إلى شيء آخر.

فإذاً: كل شأن من شؤون حياة رسول الله ﷺ كانت متابعة بالوحي، وليس هذا إلا للرسول ﷺ والأنبياء فقط، وهذا يعني: أنه لا يجوز تقليد إنسان تقليداً مطلقاً، وإنما ذلك للنبي ﷺ ؛ لأن كل إنسان غير النبي ﷺ قد يصيب ويخطئ، وكل إنسان يؤخذ من كلامه وأفعاله ويرد، إلا المعصوم ﷺ .

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-17-23, 08:02 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣8⃣


مفهوم السنة وضرورة اتباعها والتمسك بها

السنة: هي الطريقة، يقال: سنة فلان.
أي: طريقة فلان في الحياة، سواء كانت هذه الطريقة محمودة أم مذمومة، ومعلوم أن طريقة الله وسنته محمودة، أما من كانت طريقته سيئة فسنته مذمومة، وتأمل قول الله عز وجل في كتابه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]،

فسنة الأولين: التكذيب لأنبيائهم، فكان العذاب والهلكة لهم، يقول الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (من سن في الإسلام سنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

والمعنى: أن أي شخص عمل شيئاً حسناً وقلدته الناس في ذلك، فإنه يأخذ مثل أجورهم، مع عدم نقصان أجورهم، ونفس الأمر إذا عمل الرجل شيئاً سيئاً.
ولذلك فإنه من الخير العظيم أن المسلم عندما يقلد النبي ﷺ فيقلده أناس آخرون، فإن ذلك يضاف إلى حسناته، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

إذاً عندما نقول: سنة الرسول ﷺ .
فإننا نقصد بذلك: طريقته ومنهجه وأسلوبه في الحياة، لا نقصد السنة التي بمعنى النوافل، والتي تعد أحد الأحكام التكليفية الخمسة عند الفقهاء: الواجب، والحرام، والسنة، والمكروه، والمباح، وإنما نقصد السنة عند علماء أصول الفقه، وأصول التشريع، وأصول الحديث، إذ إنهم عرّفوا السنة بقولهم: هي كل ما نقل عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.

فأي شيء نقل عن النبي ﷺ فهو سنة، سواء كان فرضاً أو نفلاً، لا فرق في ذلك.
فقولهم: (من قول) أي: أي كلمة تكلم بها النبي ﷺ ، فمثلاً: قوله ﷺ (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) وغيرهما من الأحاديث التي ينطبق عليها أنها من قوله ﷺ .

وقولهم: (أو فعل) أي: ما نقله الصحابة عن رسول الله ﷺ من أفعال فعلها، فمثلاً: أداء الصلاة، فقد كان ﷺ يصلي الظهر أربعاً، يقرأ في كل ركعة بالفاتحة، ويركع ويسجد، وعند ركوعه يقول: الله أكبر، وعند الرفع يقول: سمع الله لمن حمده، وهكذا ينتقل من فعل إلى فعل، فهذه الأفعال منها ما هو فرض ومنها ما هو نافلة، لكن كلها تدخل تحت أفعال النبي ﷺ ، وكلها سنة من سنن الرسول ﷺ .

وقولهم: (أو تقرير) أي: أي شيء أقره الرسول ﷺ بمعنى: أن الصحابي إذا عمل عملاً وعلمه الرسول ﷺ وسكت عنه واستحسنه صار ذلك سنة؛ لأنه ليس من الممكن أن يسكت النبي ﷺ عن باطل أو يستحسنه.

إذاً: كل كلمة خرجت من فمه ﷺ ، وكل حركة تحركها، وكل سكنة سكنها، وكل ابتسامة ابتسمها، أو غضبة غضبها صل6، وكل أمر حصل أمامه أو علمه وسكت عنه صار سنة يقتدى به، وكل أمر حدث أمامه أو علمه ونهى عنه صار عكس السنة، أي: يكون منهياً عنه؛ ولذا فإن المسلم مطالب بأن يعرف كل حياة الرسول؛ حتى يصير متبعاً له ولسنته عليه الصلاة والسلام.

وهناك أمر لم يحدث في حياة أي إنسان على وجه الأرض إلا في حياة رسول الله ﷺ ، ألا وهو أنه ليس في حياته مطلقاً أي سر، فكل حياته مكشوفة أمامنا، وذلك من أجل أن نتعلم كيف يمكن أن نقتدي به عليه الصلاة والسلام، وكيف يمكن أن نقلده، ولعل هذا هو إحدى الحِكَم التي من أجلها تزوج الرسول ﷺ بإحدى عشرة زوجة، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع أكثر من تسع في وقت واحد، لكن هذا العدد من الأزواج استطاع أن ينقل لنا كل صغيرة وكبيرة في حياته ﷺ الشخصية وغيرها، فقد كن معه في البيت، ونقلن لنا كل ما كان يعمله في بيته، ولو كانت زوجة واحدة لما استطاعت أن تنقل لنا كل هذا الكم الهائل من المعاملات، وكل أموره الشخصية التي تجري في بيته،

لذا شاء الله عز وجل أن تكون حياة نبيه كاملة مكشوفة للأمة؛ لأن كل حركة في حياته ستكون مفيدة في شيء ما، وبذلك لم يعد يوجد أي أمر أو خبر في حياة الرسول ﷺ مخفياً عنا، وصدق الله إذ يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
إذاً: فسنة الرسول ﷺ هي الحياة بأسرها، فله سنةٌ ﷺ في كيفية الاعتقاد في الله عز وجل، ولا بد أن نعتقد في الله كما علمنا رسول الله ﷺ ، ولو خرجنا عن طريقه لضللنا.

وله سنة في الشعائر، كالصلاة، والزكاة، والصيام والحج وسائر العبادات.

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-18-23, 08:40 AM
سلسلة_كن_صحابياً

6⃣9⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

هذه أمثلة تبين لنا كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يتعاملون مع السنة؟
وكيف كانوا يتبعون الرسول ﷺ ؟
ومعرفة مدى حرصهم على أن يعرفوا عن رسولهم كل شيء، وذلك حتى لا تفوتهم أي سنة من سنن نبيهم ﷺ .

حرص عمر بن الخطاب على سنة النبي ﷺ
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهذا الجار هو عتبان بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، فكان سيدنا عمر وعتبان رضي الله عنهما في مكان بعيد عن مسجد رسول الله ﷺ ، واسمه: عوالي المدينة، قال: وكنا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ ، فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.

ومع ذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه يعيش حياته الطبيعية، فكان يتاجر ويشتغل، وكان صاحب زوجة وأولاد، لكن كان حريصاً كل الحرص على أن يعرف كل شيء عن حياة الرسول ﷺ ، ونحن عندما نقرأ أو نسمع مثل هذه القصص نظن أن سيدنا عمر كان ليله ونهاره مع الرسول صلى ﷺ لا يتركه أبداً، سواء في الجامع أو غيره، لا، بل كانت حياته سائرة بصورة طبيعية، لكن في نفس الوقت هو حريص على أن يعرف كل شيء عن حياة الرسول ﷺ ، فهو يروح يوماً والثاني يروح يوماً وهكذا، فلماذا لا نعمل كعملهم هذا؟

وخاصة نحن في زمن لم يعد كل الناس لديها الوقت لأن تقعد فتدرس، فلماذا لا يقرأ أحدنا شيئاً من الشرع ثم ينقلها لجاره؟ وجاره يقرأ شيئاً وينقلها له، وثالث يقرأ شيئاً وينقلها للاثنين وهكذا، وهذا العمل من عمر من باب التعاون على البر والتقوى، مع أن جار عمر هذا ليس صحابياً معروفاً هو ليس كـ أبي بكر، وعثمان وغيرهما، ومع ذلك كان سيدنا عمر يستفيد منه، وعمر رضي الله عنه أيضاً كان يفيده، فلماذا لا نتعاون في مثل هذه الأشياء: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]،

وهل هناك أحسن من التعاون على معرفة سنة الحبيب ﷺ ؟

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-18-23, 08:40 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7⃣0⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

حرص ابن عباس على سنة النبي ﷺ
كذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان حريصاً على السنة، فقد كان ينام على باب أحد الصحابة، فيحكي عن نفسه فيقول كما عند الدارمي بسند صحيح: لما توفي رسول الله ﷺ قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي ﷺ ، فإنهم اليوم كثر.

أي: في هذا الوقت قد مات الرسول ﷺ وأصحابه كثر، ولو لم نسألهم الآن فإنه سيأتي يوم يموتون هم أيضاً، فلا بد أن نسألهم ونتعلم منهم، وذلك حتى نعرف العلم الذي أنزل على رسول الله ﷺ ، فقال له صاحبه الأنصاري مستغرباً: وا عجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك.

وفيهم كبار الصحابة، كأمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم؟
وكان عُمْرُ عبد الله بن عباس عندما توفي الرسول ﷺ أربع عشرة سنة، وكأن الأنصاري استقله لصغر سنه.
يقول عبد الله بن عباس: فترك ذلك.

أي: أن صاحبه الأنصاري لم يذهب فيسأل الصحابة، قال ابن عباس: وأقبلت أنا على المسألة، وإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه في قيلولته، فأتوسد ردائي على بابه، فتسف الريح التراب على وجهي.
فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ﷺ ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك.
فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.

فأسأله عن الحديث.
وبعد مرور فترة من الزمن على طلب العلم يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فبقي الرجل - أي: صاحبه الأنصاري- حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ يسألونني العلم.

أي: صار ابن عباس رضي الله عنهما من علماء المسلمين، ورحل الناس إليه لطلب العلم، بينما صاحبه الأنصاري ندم على ذلك، ولذا جاء عنه أنه قال: كان هذا الفتى - أي عبد الله بن عباس - أعقل مني.
لكن الندم عند ذلك لا ينفع، والوقت الذي يذهب منك لا يرجع مرة أخرى، والذكي هو الذي لا يضيع وقته، وكل شيء يمكن أن يعوض إلا الأيام والليالي.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-19-23, 07:51 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣1️⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

حرص أبي هريرة على حفظ سنة النبي ﷺ
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة.

يعني: الناس يستغربون من أن أبا هريرة يقول كل هذه الأحاديث عن رسول الله ﷺ ، ومعلوم أن أبا هريرة روى عن رسول الله ﷺ أكثر من سبعة آلاف حديث، وكان إسلامه في السنة السابعة من الهجرة، أي: أنه لازم الرسول ﷺ أربع سنوات فقط، وروى عنه هذا الكم الهائل من الأحاديث، بينما غيره من الصحابة قد يكون لازم الرسول ﷺ عشرين سنة أو أكثر من عشرين سنة، ولم يرو عنه هذا الكم الهائل من الأحاديث.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت بحديث عن رسول الله ﷺ ، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160]، في الآيتين تحذير خطير جداً للذي يكتم آيات الله عز وجل، أو يكتم أي علم وصل إليه عن طريق رسول الله ﷺ وأبو هريرة بسبب هذا التحذير كان يقول كل معلومة عرفها من الرسول ﷺ .

وهنا السؤال
لماذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يعرف كل هذه الأحاديث وغيره من الصحابة لم يعرف هذا الكم الهائل منها؟

يفسر ذلك أبو هريرة فيقول: إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق -يعني: التجارة-، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإني كنت ألزم رسول الله ﷺ بشبع بطني.

يعني: كنت أبقى مع النبي ﷺ لا أفارقه وأكتفي من الأكل بما يشبعني، وقد كان أبو هريرة من أهل الصفة رضي الله عنهم أجمعين.
لكن قد يقول قائل: هل يمكن أن نترك أشغالنا وتجارتنا وأعمالنا ونقعد نتعلم الأحاديث ونتعلم السنة ونتعلم الشرع؟

أقول له: لا، لأن كل الصحابة لم يكونوا معتكفين على باب الرسول ﷺ ليعرفوا منه الأحاديث، لكن كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يسد ثغرة مهمة جداً ألا وهي نقل الأحاديث النبوية لوحده، فقد نقل لنا أكثر من سبعة آلاف حديث عن رسول الله ﷺ ، فقعدته هذه كانت مفيدة جداً للمسلمين، وهناك أناس سدت ثغرات أخرى، وهذا الذي نريده،

أناس تسد ثغرات السنة، وأناس تسد ثغرات أخرى، وفي الأخير يتعاون الكل ويستفيد بعضهم من بعض.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-19-23, 07:52 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7⃣2⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

حرص عقبة بن الحارث على التثبت في الأمر وطلب سنة النبي ﷺ
إن الصحابة الكرام لم يكن عندهم مانع من أن يقطعوا المسافات الكبيرة، ويجوبوا البلاد العديدة ليعرفوا رأي الرسول ﷺ في قضية من القضايا.
ففي البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه الذي كان يسكن في مكة والرسول في المدينة، فتزوج ابنة لـ أبي إيهاب بن عزيز رضي الله عنه، فأتته امرأة فقالت له: إني قد أرضعتك وامرأتك.

فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني.
أي: أنا لم أكن أعرف أنك أرضعتني قبل هذا، ولم تخبريني بذلك قبل الزواج، فركب إلى رسول الله ﷺ بالمدينة وسأله، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: (كيف وقد قيل؟ ثم أمره أن يفارقها، ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره).

الشاهد من ذلك هو حرص الصحابة الشديد على معرفة رأي الرسول الله ﷺ ، ولم يقل: أنا قد تزوجت وانتهى الأمر، ولم يكتف بسؤال أصحابه في مكة، لا، وإنما رحل من مكة إلى المدينة، وقطع (500) كيلو في الصحراء ذهاباً وإياباً؛ من أجل أن يسأل عن مسألة واحدة؛ وذلك لأن المسألة مهمة وتستحق هذا السفر الطويل، وليس كل شخص يكون حريصاً على معرفة رأي الدين في أي مسألة، فكثير من الناس يأتون إلي ويسألونني عن مسائل في الطلاق أو الزواج، فتعرف منه حكايته وقصته، فمنهم من يسألك وهو قد طلق قبل هذا مرة ومرتين وثلاثاً، وهو لا يزال مع امرأته!

فتسأله: كيف؟ فيقول لك: والله أنا سألت أحد معارفي فقال لي: أنت كنت غضبان عند طلاقك لزوجتك؟

فقلت: نعم، فقال لي: إذن لا تحسب طلقة.
فيأخذ الموضوع ببساطة، وهناك قضايا وأمور ضخمة جداً في حياة الناس يأخذونها ببساطة، وليس هذا هو الذي نريده، فنحن محتاجون لأن نبذل مجهوداً كبيراً حتى نعرف رأي الدين في كل قضية من القضايا، صغرت هذه القضية في أعيننا أم لا، ولا بد أن نعرف أنه ليس هناك حاجة اسمها صغيرة أو كبيرة، إنما هناك حاجة اسمها حلال وحاجة اسمها حرام،

وهذا هو الذي نريد أن نفهمه وندرسه في حياة الصحابة.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-20-23, 07:32 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7⃣3⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

حرص جابر بن عبد الله واجتهاده في طلب حديث النبي ﷺ
روى الإمام أحمد والطبراني وأبو يعلى رحمهم الله جميعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله ﷺ ، وهذا الرجل هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه، وهو من صحابة رسول الله ﷺ المستقرين في الشام، بينما سيدنا جابر كان في المدينة، وقد سمع أن عبد الله بن أنيس يقول حديثاً فيه كذا وكذا، وهو لم يسمع هذا الحديث منه، وقبل ذلك لم يسمعه من الرسول ﷺ ، فيريد أن يتأكد من الحديث، مع أن الذي نقل له هذا الحديث يمكن أن يكون ثقة، لكن أراد أن يذهب إلى الشام فيسمع الحديث بنفسه من عبد الله بن أنيس، وهذا ما يسمى عند علماء الحديث بـ: علو السند.

فهو لا يريد أن يسمع من فلان عن فلان عن عبد الله بن أنيس، بل يريد أن يسمع منه مباشرة، فيكون أوثق في المعرفة، فاشترى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بعيراً ليركب عليه من المدينة إلى الشام، ثم شدّ عليه رحله وسار شهراً حتى قدم الشام، وقدم على بيت عبد الله بن أنيس الأنصاري رضي الله عنه، فقال لحاجبه: قل لسيدك: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يجر ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، والعجب أن أول شيء قال له بعد هذا الفراق الطويل بينهما: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أسمعه.

فقال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلاً بهماً، قالوا: وما بهم؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة)، تهديد وتخويف عظيم، فما بالك بالناس التي تظلم وتعذب وتشرد وتسجن من غير وجه حق،
يا ترى ماذا ستعمل هذه الناس يومذاك؟! فيقول عبد الله بن أنيس: (قلنا: كيف هو وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ -يعني: ليس معنا شيء فكيف سنخلص حقوق بعض- فقال ﷺ : بالحسنات والسيئات).
وعند هذا انتهى الحديث، فأخذه جابر بن عبد الله ثم رجع إلى المدينة المنورة، وكل هذا من أجل حديث واحد، فيا ترى كم عندنا كتب في المكتبة فيها أحاديث لرسول الله ﷺ لم نقرأها؟
أليس لدينا وقت لذلك؟

ولماذا وجد جابر بن عبد الله وقتاً حتى يقطع المسافات الكبيرة من أجل أن يعرف حديثاً واحداً؟

لاشك أنه أعطى للموضوع أهمية، فلذلك استطاع أن يجد وقتاً، وكذلك ما دام العبد يعطي لموضوع أهمية، فإنه يستطيع أن يجد له وقتاً، كالواحد منا يستطيع أن يجد أسبوعاً كاملاً يذهب فيه إلى عطلة الصيف؛ لأنه عرف قيمة المصيف عنده، وكذلك يستطيع أن يجد ساعتين يتفرج فيها على المباراة؛ لأنه عرف قيمة المباراة عنده، وعليه فعلى قدر أهمية الموضوع عندك ستجد له وقتاً.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-20-23, 07:33 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣4️⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

حرص أبي أيوب الأنصاري ورحلته في طلب حديث النبي ﷺ
روى أحمد والبيهقي عن التابعي عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى أنه قال: إن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه رحل إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله ﷺ ، وأبو أيوب كان يسكن المدينة المنورة، وعقبة بن عامر كان في مصر، قال عطاء: فلما قدم في أثناء طريقه على منزل مسلمة بن مخلّد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمير مصر في ذلك الوقت، خرج إليه فعانقه، ثم قال له مسلمة: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث واحد سمعه عقبة من رسول الله ﷺ في ستر المؤمن،

فدلني على عقبة، فقال: نعم، فذهب معه إلى سيدنا عقبة رضي الله عنه، ثم ذكر لهما الحديث عن رسول الله صل6 أنه قال: (من ستر مؤمناً في الدنيا ستره الله يوم القيامة)، وانتهى الحديث، فتأمل سطراً واحداً جعل أبا أيوب يرحل من المدينة المنورة إلى مصر!

واسمع راوي الحديث ماذا يقول: ثم انصرف أبو أيوب بعدما سمع الحديث إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة، فلم يقعد في مصر ولا لحظة واحدة، لم يقعد ليشاهد الأهرامات، ولا ليشاهد نهر النيل، ولا حتى يرى أهل مصر أو يتكلم معهم، بل جاء ليتعلم سنة واحدة من سنن الرسول ﷺ ثم يرجع إلى بلده، فكان الهدف واضحاً جداً عنده، ألا وهو أنه يعرف سنة من سنن النبي ﷺ ، وليس عنده وقت يصرفه في أي شيء آخر.

وأنا بذكر هذه القصص والأحاديث لا أريد أن تصاب بالحزن والكآبة، ولا أريد أن تسافر من بلد إلى بلد آخر لتتعلم السنة، وإن كان هذا أحياناً قد يكون مطلوباً،
لكن أنا أريد أن تخرج الكتب التي في بيتك وتقرأها، أو أن تشتري كتباً إن لم يكن عندك في البيت، وأريد أن تحضر درساً في العلم الشرعي في منطقتك أنت، لا المناطق البعيدة،

وأريد أن تسأل المشايخ الذين تعرفهم عن القضايا التي تعترضك في حياتك اليومية، وما أكثر هذه القضايا؛ لأن هذه القضايا هي عمرك كله، فكل صغيرة وكبيرة في حياتك للدين فيها رأي،

فهذا هو المقصود من سماع مثل هذه الحكايات عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
01-21-23, 07:37 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣5️⃣

حرص الصحابة على اتباع السنة

موقف الصحابة ممن لم يلتزم بسنة النبي ﷺ وحرصهم عليها
إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يقاطعون من لم يلتزم بالسنة، أي: مقاطعة من يصر على مخالفة نهج رسول الله ﷺ في حياته، وليس المراد الذي لا يعمل النوافل، لأن السنة ليست هي النافلة فقط، بل السنة هي حياة رسول الله ﷺ ، فهي أوامره ونواهيه عليه الصلاة والسلام.

موقف عبد الله بن مغفل ممن أصر على مخالفة سنة النبي ﷺ
من أمثلة ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: (أنه رأى رجلاً يخذف)، أي: أنه يضع حجراً بين الإصبع الوسطى وبين الإبهام ويرمي، أو يكون ذلك بالمقلاع، وهي أداة مشهورة معروفة - فنهاه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عن هذا الفعل، وقال له: (لا تخذف، فإن رسول الله ﷺ نهى عن الخذف)، فأوصل له المعلومة، ثم ذكر له الحكمة من النهي في الحديث: (إنه لا يصاد به صيد)، أي: أن معظم الطيور لن تقع بالنبلة هذه، (ولا ينكى به عدو)،
أي: أن تعلمه لن يفيدك في تعلم الرماية، ولن ينفع في الجهاد، وفوق هذا أيضاً يمكن أن يضر، لذا قال الرسول ﷺ : (ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين)، فلا يوجد أي مصلحة في استعمال هذا الخذف، وأيضاً فهذا الطير الذي خذف بالحجارة لو سقط ميتاً لا يجوز أكله في الشرع؛ لأنه موقوذة، وأكل الوقيذ محرم كما في سورة المائدة: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3]؛ ولأنه مات بقوة الرمي ولم يمت بحدها، إلا إذا لحقه وذبحه قبل أن يموت، وعليه فلا توجد أي مصالح في ذلك وأيضاً هو ممنوع من أكثر من وجه.

والشاهد: أن عبد الله بن مغفل رأى الرجل مرة أخرى يخذف، بعد أن نبهه كل هذا التنبيه، فقال له عبد الله بن مغفل: (أحدثك عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن الخذف وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا).

وفي رواية لـ مسلم قال: (لا أكلمك أبداً).
ففي بداية الأمر نصحه، لكن لما رآه يعمل شيئاً في نظره كبيرة جداً قرر أن يقاطعه، ولذلك أجاز العلماء مقاطعة الذي يخالف السنة عمداً، حتى وإن كانت المقاطعة أكثر من ثلاثة أيام؛ وهذا بعد النصح والإرشاد له.

والشيء العظيم أيضاً في الصحابة أنهم كانوا يتبعون الرسول الله ﷺ دون أن يسألوا عن الحكم، أي: لو لم يروا الحكمة من الفعل فإنهم يقلدون الرسول ﷺ ويتبعونه.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-21-23, 07:38 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣6️⃣

التزام عمر بن الخطاب بأفعال النبي ﷺ مع عدم ظهور الحكمة له منها
من أمثلة ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك)، هذه الجملة من الفاروق تنفع دستور حياة ومنهج حياة.

فالرسول ﷺ إذا عمل عملاً ينبغي للمسلم أن يعمله، حتى ولو لم يفهم الحكمة من ذلك، وكذلك الأمر إذا منع النبي ﷺ شيئاً أو كرهه، ولذا كانت الحياة سهلة عند الصحابة، ومواطن الحيرة كانت عندهم قليلة جداً، فيصبح كل الهم هو البحث عن فعل الرسول أو قول الرسول ﷺ ، فإذا عرفوا رأيه في أي مسألة من المسائل زال الإشكال، وتصير الرؤية واضحة.

مثال آخر: ما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: فما لنا وللرمل؟ فما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، والرمل هو: الإسراع مع تقارب الخطى، وهو من مناسك الحج، وفي رواية يقول: فيم الرمل والكشف عن المناكب، أي: عن الأكتاف، وأول ما كان هذا في عمرة القضاء، في السنة السابعة، وذلك أن الرسول ﷺ كان يريد أن يري الكفار قوة المسلمين،

فأمر الصحابة بالكشف عن الأكتاف، والجري الخفيف الذي هو كالجرية العسكرية؛ وذلك حتى يخوف المشركين من قوة المسلمين، لكن بعد ذلك ظن عمر أن الشرك قد انتهى، وأنه لا يوجد مشركون، وكل الجزيرة قد أسلمت، وكل الحجاج مسلمون، وعليه فلا فائدة من الرمل والكشف عن المناكب، فهذا كان ظن عمر في بداية الأمر، ثم رجع لنفسه فقال: شيء صنعه النبي ﷺ فلا نحب أن نتركه.
أي: شيء عمله النبي ﷺ فلا بد أن نعمله، حتى ولو كان العقل يقول غير ذلك، فالمهم أن أعمل ما عمله النبي ﷺ .

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-22-23, 07:55 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7⃣7⃣

تقيد الصحابة بفعل النبي ﷺ في لبس خاتم الذهب ثم نزعه

روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اتخذ النبي ﷺ خاتماً من ذهب -وهذا قبل أن يحرم الذهب على الرجال- فاتخذ الناس خواتيم من ذهب -تقليداً للنبي ﷺ لا أمراً منه لهم- ثم بعد زمن قال النبي ﷺ : إني كنت قد اتخذت خاتماً من ذهب، ثم رمى به وقال: إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم)،

وقبل ذلك تكلف الناس بشرائها،
لكن ذلك لم يكن في عقولهم،
وإنما المهم الاتباع للنبي ﷺ ،
فكانت المسألة في غاية البساطة عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم
01-22-23, 07:56 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣8️⃣

تقيد الصحابة بفعل النبي ﷺ في خلع النعلين في الصلاة
روى أبو داود وأحمد والدارمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره -وكان ذلك في أثناء الصلاة- فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم ووضعوها عن شمائلهم، فلما قضى رسول الله ﷺ صلاته قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ -أي: لماذا خلعتم نعالكم- قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله ﷺ : إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً أو قال أذىً)، يعني: أنه خلعهما لسبب مؤقت، والسبب هذا لم يكن موجوداً عند الصحابة،

فما كان المفروض على الصحابة أن يخلعوا نعالهم، لكن الشاهد هو حرص الصحابة على الاتباع، فهم لم ينتظروا إلى انتهاء الصلاة ثم بعد ذلك يسألونه، لا، وإنما بمجرد رؤية الرسول ﷺ يفعل شيئاً فعلوه.

وهنا قد يظن بعض الناس أن هذا الكلام فيه مبالغة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، لا؛ لأن الرسول ﷺ ليس مجرد شخص يعجبون به، وليس مجرد شخص ينبهرون بأفعاله، وإنما هو رسول رب العالمين، فكل خطوة من خطواته بأمر من الوحي أو مراجعة بالوحي، ونحن عندما نقلده، فإننا نعمل الذي أراده الله منا،

وعندما نعمل الذي أراده الله منا، فإننا سنسعد في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى، وسندخل الجنة التي هي منتهى أحلام المؤمنين، لذا كان الصحابة حريصين كل الحرص على أن يقلدوا الرسول ﷺ في كل حركة من حركاته والرسول ﷺ كان حريصاً جداً على ترسيخ هذا المعنى في قلوب وعقول الصحابة.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-23-23, 08:04 AM
سلسلة_كن_صحابياً

7⃣9⃣

وجوب اتباع النبي ﷺ في كل أمر لم يثبت اختصاصه به

روى الإمام مالك في موطئه عن التابعي الكبير عطاء بن يسار رحمه الله، وكان ممن يسكن المدينة: (أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجداً شديداً)، يعني: حزن حزناً كبيراً جداً، وخاف أن يكون قد ارتكب محظوراً يأثم به، مع أن هذا ليس بحرام، لكن الرجل لم يكن يعرف ذلك، فأرسل امرأته لتسأل له عن ذلك، وهنا نلحظ أن الرجل عنده مراقبة داخلية لله عز وجل، وحريص على أن يعرف رأي الرسول ﷺ في هذه المسألة، لكنّ حياءه منعه من ذلك، (فبعث امرأته لتسأل إحدى زوجات الرسول ﷺ ، فدخلت زوجته على أم سلمة زوج النبي ﷺ فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة وأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شراً، يعني: زاده حزناً، وقال: لسنا مثل رسول الله ﷺ ، فالله يحل لرسوله ﷺ ما شاء).

وهذا كان اجتهاداً من الرجل، ولو سحبنا هذا الاجتهاد على كل قواعد الدين لضاع الدين، فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله ﷺ عندها فقال رسول الله ﷺ : (ما لهذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة بقصتها، فقال رسول الله ﷺ : ألا أخبرته أني أفعل ذلك؟

فقالت له أم سلمة: قد أخبرتها، وذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله ﷺ ، فالله يحل لرسوله ما شاء.

فغضب الرسول ﷺ غضباً شديداً)، وهنا نجد أن مواطن الغضب في حياة الرسول كانت قليلة جداً؛ لأنه ﷺ لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله عز وجل، لكن كان هذا الرجل مشدداً على نفسه، لكن ذلك لا ينفع، فلا بد من تقليد الرسول ﷺ في كل نقطة من نقاط حياته، ثم قال ﷺ : (والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده).
إذاً: فالذي عمله رسول الله ﷺ هو الحلال، والذي منع منه هو الحرام من غير أي تكلف، فأي شيء عمله في العبادة والطاعة والتقرب إلى الله وأمر به المسلمين ولم يقل: إنه خاص به فعلى المسلمين أن يعملوه ولا يزيدوا عليه شيئاً، فالذي عمله النبي ﷺ هو الصحيح من غير زيادة ولا نقصان.

وتأمل موقف الصديق من إنفاذه لبعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ وذلك أن النبي ﷺ بعث جيشاً لحرب الروم قبل أن يموت بأيام قليلة، ثم مات ﷺ وارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية، وخاف الناس على المدينة، بل تخوفوا على الإسلام، وفي هذا الجو المشحون بالفتن والردة والخوف على المدينة أصر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لمحاربة الروم، ولم يلتفت رضي الله عنه إلى المرتدين وما يشكلونهم من خطر، لأن الذي أنفذ جيش أسامة هو الرسول ﷺ ، وجاءت الناس تخاطب الصديق رضي الله عنه وأرضاه وتقول له: دع الجيش في المدينة حتى يقوم بحمايتها، فرد عليهم قائلاً: لو تخطفتنا الطير وأكلتنا السباع حول المدينة، وجرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله ﷺ ، ولا حللت لواءً عقده.

فانظر كيف أن الصديق لم يخالف النبي ﷺ في هذا الأمر؛ ولذا كان من أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه الاتباع للنبي ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-23-23, 08:05 AM
سلسلة_كن_صحابياً
8⃣0⃣

الصحابة والأخوة

الأخوة منحة ربانية وإشراقة قدسية، وصمام أمان لهذه الأمة من الذلة والضعف والهوان، وقد ترجم ذلك الرعيل الأول في مفاهيم عدة، فانتشر الحب والوئام فيما بينهم، وسادوا الدنيا بأجمعها، لأنهم علموا أن أمة الإسلام لا يستقيم أمرها ولا يكون لها شأن إلا بالتآلف والتآخي بين أبنائها.

الأخوة صمام أمان لهذه الأمة وضرورة حتمية لإقامة كيانها

ما زلنا نبحث عن معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة، والذي نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، وسنتحدث بمشيئة الله تعالى عن مفهوم جديد من المفاهيم الإسلامية، وكيف تعامل الصحابة مع هذا المفهوم، هذا المفهوم الذي لا يستقيم لأمة الإسلام أن تقوم بغيره، والذي بعدُّ من دعامات المجتمع الصالح، ولبنة أساسية من لبنات إقامة الأمة الإسلامية الصالحة، ألا وهو: مفهوم الأخوة، فأي مجتمع صالح لابد أن يقوم على أساس الأخوة.

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وانظروا إلى هذا التشبيه الجميل، فبنيان الأمة الإسلامية مثل العمارة الضخمة الكبيرة، فهل تستطيع أن تبني عمارة بأن تضع طوبة بجانب طوبة فوق طوبة من غير إسمنت وغيره من المواد؟ لا يمكن ذلك، لأنه لابد أن يكون هناك شيء يربط بين كل طوبة وأخرى،

وإذا فرضنا أنك تستطيع أن تعمل ذلك في ارتفاع متر أو مترين فإنك لن تستطيع أن تعمله في عمارة ضخمة، والإسمنت الذي بين طوبة وطوبة أخرى، أو الخرسانة التي بين دور ودور آخر هي الأخوة، فلا تستطيع أن تبني عمارة كبيرة من غير إسمنت، أو من غير خرسانة، وكذلك الأمة الإسلامية، فلا تستطيع أن تبني أمة من غير أخوة، لذا قال ربنا عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]،

حصر منه عز وجل، فلا ينفع أن تكون أمة المؤمنين من غير أخوة، ولذلك كان من أوائل الأساسات التي أنشأها رسول الله ﷺ في المدينة المنورة بعد هجرته أساس الأخوة، فأقام المؤاخاة بين الأوس والخزرج، وفك النزاع القديم الأصيل في المدينة، وليس فقط ذلك، بل جعل كل طرف يحب الطرف الثاني، ووجدت المحبة والمودة في المدينة لأول مرة، ونحن لا نريد مجرد التعايش السلمي، بل نريد الأخوة في الله، والحب في الله.

ثم أقام النبي ﷺ المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، ووصلت هذه المؤاخاة إلى حد الميراث، يعني: كأنها أخوة حقيقية تماماً، بل أشد من الأخوة الحقيقية، والغريب أن الأوس والخزرج قحطانيون من اليمن، بينما قريش عدنانيون من مكة، لكن الإسلام جمع بينهم، وليس فقط أقام لهم دولة، بل جعل كل فرد في هذه الدولة يحب الفرد الآخر، وهذا هو ما عمله الإسلام في المدينة، ولذلك نجد أن معظم شعائر الإسلام تقوم على الجماعة، أي: على المجتمع، ولذا كان لابد لهذا المجتمع أن يكون فيه أواصر أخوة ومحبة، فمثلاً: صلاة الجماعة تفضُل على صلاة الرجل في بيته بسبع وعشرين درجة،

وذلك حتى يرتبط المسلم بجماعة المسلمين، وكذلك الزكاة، لابد أن تكون من واحد لمجموعة، أو من واحد لواحد، ولا ينفع أن تكون الزكاة شيئاً فردياً، والحج أيضاً مؤتمر جماعي كبير، يأتي إليه الناس من كل أقطار الأرض، ليجتمعوا وليعملوا هذا المؤتمر العظيم كل سنة، وكذلك الجهاد لابد أن يقوم به مجموعة من الناس، ولا ينفع أن يكون الجيش فرداً أو فردين أو ثلاثة، لأنه عمل يشمل كل الأمة في أقطارها، وفي الدعوة لابد أن يكون هناك داعية ولابد أن يكون هناك مدعوون، وفي العلم لابد أن يكون هناك عالم ومتعلمون، والشورى أيضاً لابد أن تكون بين مجموعة من المسلمين،

فكل شيء محتاج إلى مجموعة من الناس، وكل شيء في الإسلام محتاج إلى العمل الجماعي، وأعظم دليل على ذلك: قضية الاستخلاف على الأرض، فلن تقوم إلا بعمل جماعي، فهناك من يزرع، وهناك من يبني، وهناك من يبيع، وهناك من يعالج، وهناك من يخترع، وهناك من يحارب ويدافع، ولابد من تفاعل وتنسيق بين كل هؤلاء، وذلك حتى يخرجوا بعمل طيب ونافع، وهذا كله لا يحصل إلا إذا وجدت محبة بين المسلمين، وفوق ذلك هناك صراع حتمي بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو سنة من سنن الله عز وجل في الأرض، وهذا الصراع سيحتاج إلى وحدة بين أهل الحق في مواجهة أهل الباطل، ولا يمكن أن يتصارع أهل الحق مع أهل الباطل وهناك فرقة وبغضاء وشحناء بين أهل الحق،

ولذلك فإنه إذا تصارع أهل الحق فيما بينهم فلن يكون هناك شرائع ولا جهاد ولا شورى ولا استخلاف، ولذا أوجب الله عز وجل الأخوة والحب في الله بين أفراد المجتمع المسلم، ونهاهم عن الشحناء والبغضاء والكراهية، وبذلك يستطيع المؤمنون بالله أن يقوموا بأمر الاستخلاف كما أراد الله عز وجل، ومن هنا فقه الصحابة أهمية الأخوة بين بعضهم البعض دون ارتباط بنسب ولا مال ولا مصلحة، فهموا أنه لن تقوم لهم أمة، ولن يعبدوا الله حق عبادته .

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-24-23, 07:34 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣1️⃣

من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها طريق إلى الجنة
المفهوم الأول: أن الصحابة فهموا أن الأخوة طريق إلى الجنة، مثلها مثل: الصلاة والصوم والجهاد والدعوة إلى الله عز وجل، وكل هذا فهموه من رسول الله ﷺ ، وهذا يعطينا قيمة وقدراً عالياً لها.

الأحاديث النبوية التي تربط بين الأخوة ودخول الجنة
انظر إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، الرسول يقسم أن البشر لن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا، وهذا أمر مفهوم، لكن التي ستأتي بعدها قد يستغربها كثير من الناس، قال ﷺ : (ولن تؤمنوا حتى تحابوا)، إذاً هذا شرط من شروط الإيمان، وعليه فإن العبد يخاطر بقضية الإيمان، ويخاطر بدخول الجنة إذا قطع علاقته مع كل الناس، ثم يعطيك النبي ﷺ أحد الطرق لزيادة المحبة أو لتأصيل المحبة بين المسلمين فقال: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).

وانظر أيضاً إلى الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، تخيل في هذا اليوم الصعب العسير، والشمس تدنو من الرءوس قرابة ميل -والميل: ميل المسافة أو الميل الذي تكتحل به العين- ومع ذلك هناك طائفة من الناس لا تشعر أبداً بهذا الحر، ألا وهم المتحابون بجلال الله عز وجل، الذين كان يحب بعضهم بعضاً دون نسب ودون مصالح ودون منافع.
وتأمل هذا الحديث الخطير الذي رواه الترمذي وقال: صحيح.

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، يا ترى كم واحداً منا يحب أن صديقه أو جاره يكون عنده من الأموال مثل الذي عنده، أو يحب أن ابن جاره أو ابن صاحبه يأخذ وظيفة جيدة مثل التي عند ابنه، أو أن أولاد جاره يكونون متفوقين تماماً مثل ابنه بل وأحسن؟ يا ترى هل هناك أحد منا يعمل بهذه العواطف أو المشاعر، أم يريد دائماً أن يكون أحسن وأعظم وأذكى من كل الذين حوله؟ إذاً فالقضية خطيرة جداً، ولذلك كان ثوابه أكبر وأعظم من الذي يمكن أن نتخيله.

وتأمل أيضاً في هذا الحديث الذي يُعظِّم من ثواب أولئك الذين أحبوا بعضهم البعض إلى درجةٍ وصفها رسول الله ﷺ في حديثه الذي رواه أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي ﷺ : (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى) فتعجب عندما ترى الأنبياء والشهداء يغبطون هؤلاء الذين أعطوا درجة عالية جداً يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، وقربوا منه سبحانه وتعالى، لكن يا ترى ماذا عمل هؤلاء؟ وما هو العمل العظيم الذي أوصلهم إلى هذه الدرجة؟

لذا فإن الصحابة تشوقوا لمعرفة هؤلاء الناس: (قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟
قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها).

فلا يوجد بينهم نسب ولا مصالح، (فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ ﷺ : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]).
فهؤلاء هم أولياء الله عز وجل، وليس الولي الذي يمشي فوق الماء أو يطير في الهواء، إنما الأولياء هم الذين يتحابون بروح الله على غير أنساب بينهم، ولا أرحام ولا أموال يتعاطونها.
إذاً فهذه هي القيمة العالية للأخوة في الله.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-24-23, 07:35 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣2️⃣

التباغض والشحناء سبب لتأخر المغفرة وتخلف الثواب
وانظر إلى الناحية الأخرى عندما توجد الشحناء والبغضاء محل الأخوة في الله، وخطر منعها مغفرة الله تعالى: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)،

فتخيل لو أنك تشاجرت مع جارك أو صاحبك أو قريبك فإن مغفرة الله عز وجل تؤجل لك ولصاحبك إلى أن تتصالحا، ثم الله أعلم هل ستموت قبل أن يغفر لك أم ستلحقك المغفرة في الدنيا؟!
إذاً علاقتك بإخوانك هي التي تحدد مغفرة الله لك، وهذا شيء في منتهى الخطورة.

لذا كان الشافعي يقول أبيات رائعة: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وقوله: إنه ليس من الصالحين إنما هو تواضع منه رحمه الله تعالى.
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سوياً في البضاعة فيقول رحمه الله تعالى: بأن حبه للصالحين هو الذي يمكن أن يدخله الجنة، وهذا مفهوم راقٍ جداً عند الإمام الشافعي رحمه الله،

ولذا نجد أن تلميذه الإمام أحمد بن حنبل عندما سمعه يقول هذين البيتين قال له: تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم سوف يلقون الشفاعة وتكره من تجارته المعاصي وقاك الله من شر البضاعة فهذا هو الكلام الذي ينفع مع أمثال الشافعي أو أحمد بن حنبل رحمهما الله.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-25-23, 07:55 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣3️⃣

سلامة الصدر وحب الخير للآخرين صفة ترتقي بصاحبها في درجات الجنان
إن معنى الأخوة والحب في الله قد زرعه النبي الله ﷺ في قلوب أصحابه من خلال التربية والتعليم من المواقف، وذلك بأسلوب سهل وبسيط،

فعند الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع رسول الله ﷺ فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، والصحابة في شوق إلى معرفة هذا الرجل، فيا ترى هل هو أبو بكر؟ أم عمر؟ أم عثمان؟ أم علي؟ أم غيرهم من كبار الصحابة؟

لا، يقول أنس بن مالك راوي الحديث: (فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال)، وانظروا إلى وصف أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه للرجل، فهو رجل بسيط جداً، وليس معروفاً بين الصحابة، وإنما هو مجرد رجل من الأنصار كما يقول أنس، ولو كان هذا الرجل معروفاً لقال أنس: فطلع سعد بن معاذ أو سعد بن عبادة أو أسيد بن حضير وذكره باسمه،

لكن هو رجل غير معروف، خرج لتوه من الوضوء ولحيته تقطر ماء، وواضع نعله في يده الشمال، والصحابة لا يرون فيه شيئاً غريباً، فهو رجل متوضئ مثلما هم يتوضئون وذاهب ليصلي مثلما هم يصلون، وليس معروفاً بين الصحابة بعمل كبير أو عمل عظيم.

قال أنس راوي الحديث: (فلما كان من الغد قال النبي ﷺ مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى -وبنفس الهيئة- فلما كان اليوم الثالث قال النبي ﷺ مثل مقالته أيضاً: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى)، وكان باستطاعة النبي ﷺ أن يقول لهم بمنتهى الوضوح ما هو العمل الذي عمله هذا الرجل وانتهى الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يشوقهم إلى معرفة عمل هذا الرجل الذي أهله لأن يكون من أهل الجنة، ثم في الأخير أراد أحد الصحابة أن يعرف ما خبر وقصة هذا الرجل؟ وما الذي جعله من أهل الجنة وهو رجل بسيط لا أحد يعرفه؟

قال راوي الحديث: فلما قام النبي ﷺ تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص.
يعني: أن عبد الله بن عمرو بن العاص تبع هذا الرجل ومشى خلفه وقال له: إني لاحيت أبي.

يعني: تشاجرت مع والدي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً أي: قلت: أنا لن أدخل البيت لثلاثة أيام، فأريد أن أبر بالقسم، ولا أجد مكاناً أقعد فيه، فأريد أن أقعد عندك، ولذلك قال له: فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضي فعلت حتى تنقضي الثلاثة الأيام، فقال: نعم.

وأخذ الرجل الموضوع ببساطة ورحب به في بيته.
قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، يعني: أن أنساً راوي الحديث رضي الله عنه وأرضاه يحكي أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحكي حكايته مع هذا الرجل الذي هو من أهل الجنة، والذي لا يعرفه أحد من الصحابة، فيقول أنس بن مالك يروي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه لم يره يقوم من الليل شيئاً، وإنما ينام حتى طلوع الفجر، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار، أي: استيقظ من نومه، وتقلب في فراشه ذكر الله عز وجل وكبر، أي: يذكر الله ويكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، ثم قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً يعني: كل كلامه كان خيراً.

فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، وليس المقصود هنا أن عمله ليس جيداً، فالرجل يصلي ويذكر الله عز وجل ولا يقول إلا خيراً، لكن كل الصحابة كانوا على هذه الصورة، فلماذا هذا الرجل بالذات يؤكد الرسول ﷺ ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، وكان هذا الذي دعا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الاستغراب وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من عباد الصحابة، كان يصوم معظم الأيام، ويقوم معظم الليالي، ويقرأ القرآن يختمه في ثلاثة أيام، فهو لم ير العمل الكبير عند هذا الرجل الأنصاري حتى جعله من أهل الجنة بشهادة الرسول ﷺ وتأكيده لذلك، فبدأ يصارحه فقال له: إني لم أتشاجر مع والدي ولكن أردت أن أعرف قصتك، يقول عبد الله: قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ﷺ يعني: احتمال أن يكون هناك عمل خفي بينك وبين الله أردت أن أعرفه فأقتدي بك، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، أي: هذا هو كل عملي، فلا يوجد أي شيء مخفي.

وعند ذلك شعر عبد الله بن عمرو بن العاص بإحباط شديد
واستدرك الرجل فقال : غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه.
فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-25-23, 07:56 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣4️⃣

من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها مسؤولية أمام الله تعالى
المفهوم الثاني: مفهوم في منتهى الخطورة،
ألا وهو: أن الأخوة مسؤولية،
وليست مجرد كلمة تقال أو إحساس يشعر به الإنسان،
الأخوة ليست أخذاً بلا عطاء،
وليست مصالح تقضى لك كلما ازدادت معارفك،
وليست قوة في سلطانك كلما ازدادت علاقاتك،
يعني: أنت عندما يكون لك معرفة في رئاسة الحي تستطيع أن تحصل على ترخيص،

ولو عندك معرفة في المرور تستطيع الحصول على الرخصة لو كانت مسحوبة منك،

ولو عندك معرفة في وزارة التربية والتعليم تستطيع أن تدخل طفلاً قبل السن القانوني،

ليس هذا هو المقصود من الأخوة ومن كثرة المعارف، إنما الأخوة تبعات ومسؤولية،
وهذا على العكس من المفهوم السائد عند كثير من الناس،
فالأخوة تضحية وبذل وعطاء وإنفاق، إنفاق بلا مردود أو بلا طلب مردود،
الأخوة إيثار على النفس،

الأخوة حب خالص من القلب لا يراد به إلا وجه الله تعالى.

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-26-23, 07:38 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣5️⃣

الحقوق الأخوية أمر إلهي يترتب عليه ثواب الدنيا والآخرة
وتعالوا بنا نرى كيف أن الرسول ﷺ غرس في فهم الصحابة معنى الأخوة، أو معنى الحب في الله، أو معنى أنك تعيش في مجتمع متعاون مع إخوانك،
ففي الحديث اللطيف الذي أتى بروايات كثيرة، وكلها في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم.

ففي رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (كل سلامى عليه صدقة) والسلامى: هو العظم أو المفصل، وهناك حديث آخر يبين أن عدد المفاصل في الجسم 360 مفصلاً، يعني: عليك كل يوم 360 صدقة، ثم بين النبي ﷺ الصدقة فقال: (كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة)، أي: تساعد الرجل في أن يصعد على دابته، أو تحمل متاعه وترفعه فوق الدابة، ثم يقول: (والكلمة الطيبة صدقة)، وهذه الكلمة الطيبة صادرة لشخص وليست صادرة هكذا للهوى، فأنت تكلم إنساناً لا جماداً، ثم قال: (وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة)، وهذا عمل من الأعمال الفردية، والمراد بذلك: أنه ذاهب إلى صلاة الجماعة، يعني: ذاهب يلتقي بالمسلمين، (ودل الطريق صدقة) أي: تدل التائه على الطريق الذي يريده.

فهذه هي روايات الحديث عند البخاري.

وهناك روايات أخرى غيرها، ففي رواية يقول: (يعدل بين الاثنين صدقة)، أي: تصلح بين اثنين متخاصمين صدقة، وفي رواية: (ويميط الأذى عن الطريق صدقة)، أي: تبعد الأذى عن طريق الناس صدقة، وفي رواية: (يعين ذا الحاجة الملهوف)، وفي رواية: (فليعمل المعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة)، أيضاً هذا خير تعمله في الناس، أو شر تكفه عن الناس، وفي رواية: (تسليمه على من لقي صدقة)، وفي رواية: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، وفي رواية: (وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة) يعني: تدل الرجل الأعمى على طريقه أو تمسكه بيده وتأخذه إلى المكان الذي يسأل عليه صدقة، فكأن عينيك أصبحت بصراً له، وفي رواية: (وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة).

فهذه أعمال خيرٍ قالها الرسول ﷺ مرة في مجلس، ومرة في مجلس آخر، والمهم أن الصدقة الحقيقية التي يمكن أن تدفعها عن أعضائك وعن النعم التي أعطاك إياها ربنا جل وعلا هي أن تساعد غيرك، وأن تشعر بمسؤوليتك تجاه الناس الذين تعيش معهم، أو المجتمع الذي تعيش بداخله، أو الأمة التي تعيش فيها، وعند ذلك تخيل مجتمعاً يفقه الأخوة بهذه الصورة، على أنها اختبار وامتحان وبذل وعطاء ومجهود، وهذا فعلاً ما فقهه الصحابة من أن الأخوة مسؤولية، وليست منافع ومصالح، أو أن معارفي كثيرة فسأستطيع أن أكسب كثيراً، لا، إنما المراد أنك ستشتغل للمسلمين كثيراً، وستضحي من أجلهم كثيراً، حتى يشفق عليك مَنْ ليس له إخوان يتعب من أجلهم.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-26-23, 07:39 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣6️⃣

إعانة المسلم وكشف كربته سبب لإعانة الله للعبد وكشف كربته يوم القيامة
وهذا المعنى قد ذكره الصحابي الجليل: النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه في خطبته المشهورة في موقعة نهاوند: ولا يكل أحدكم قرنه إلى أخيه -كلمة في منتهى الصعوبة- أي: لا أحد يرمي مسؤوليته على أخيه الذي بجواره، وإنما كل واحد يحمل مسؤوليته، بل لو استطاع أن يحمل مسؤولية أخيه فليفعل، ثم قال: كلمة في منتهى الخطورة: فإن الكلب يدافع عن صاحبه.

سبحان الله! الكلب يدافع عن صاحبه، فلماذا لا يدافع المؤمن عن أخيه المؤمن؟!
صعب جداً أن يتدنى المؤمن إلى درجة أقل من الحيوان، فالحيوان يدافع عن صاحبه، والمؤمن لا يدافع عن إخوانه، هذا هو مفهوم المسؤولية عند النعمان بن مقرن صاحب رسول الله ﷺ .

وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) فالجزاء من جنس العمل، بل الجزاء عظيم على هذا العمل، فإذا كنت أنت الذي تنفس عن مؤمن كربة فربنا سبحانه وتعالى بنفسه هو الذي سينفس عنك يوم القيامة، وإذا كنت تيسر على معسر فربنا سبحانه وتعالى أيضاً هو الذي سييسر عليك في الدنيا وفي الآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ثم ذكر النبي ﷺ جملة في منتهى الجمال هي ملخص لكل ما فات: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، أي: ما دام أنك تساعد إخوانك فإن الله سيساعدك،

وعلى قدر ما تعطي لإخوانك المسلمين يعطيك الله عز وجل ويكون في عونك، وتخيل لو أن عندك مسألة أو قضية أو مشكلة في حياتك فإن الله عز وجل يجعل لك من ذلك مخرجاً، ولذلك كان الصحابة باذلين حياتهم كلها لنفع الآخرين ولمساعدة الآخرين وللتضحية من أجل الآخرين، لأنهم علموا المردود لذلك، وأن ربهم هو الذي سيعوضهم وليس البشر.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-27-23, 07:59 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣7️⃣

حرص الأشعريين على مواساة بعضهم ومدح النبي لهم
ولنتأمل في قبيلة الأشعريين التي منها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، هذه القبيلة كان لها عادة جميلة جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام علق على هذه العادة وشكرها.

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ : (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو) أي: فني زادهم، وطعامهم في الغزو (أو قل طعام عيالهم بالمدينة) سواء كانوا في سفر أو في غزو، أو حتى وهم في المدينة مع بعضهم البعض، ماذا يعملون؟ (جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد)، أي: جمعوا كل الأكل من كل البيوت، أو جمعوا كل الأكل الذي معهم السفر (ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية) أي: أن كل واحد يأخذ نصيباً مساوياً للآخر، لكن قد يقول قائل: ما ذنبي أنا؟

لقد بقيت أجمع الطعام يومين وثلاثة وشهر وشهرين وجاري هذا لم يجمع شيئاً، فلماذا أتحمل أنا المسئولية؟ أيضاً: أنا صاحب عيال وزوجة، ولا أدري ماذا سيحدث غداً؟ لا، فقد كانوا يضعون الأكل في إناء واحد، ثم يقسمونه بينهم بالسوية، ولا يبقى هناك فضل لأحد على أحد، يعني: لا أحد يعرف من الذي كان أكله كثير ومن الذي كان أكله قليل، وهذا منتهى الإخلاص، وانظروا الرسول صلى الله عليه وسلم يعلق على هذا فيقول: (فهم مني وأنا منهم) أي: أن الأشعريين من رسول الله ﷺ وهو منهم، وهذه منقبة عظيمة لهم، مع أن الأشعريين من اليمن، يعني: أنها قبيلة بعيدة جداً عن رسول الله ﷺ ، لكن الفعل يرقى بهم إلى أن يكونوا من رسول الله ﷺ وهو منهم ﷺ .

.. يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم
01-27-23, 08:00 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣8️⃣

فهم عثمان بن عفان لمفهوم الأخوة وتطبيقه له

وذكر أيضاً ابن عباس رضي الله عنهما: أن الناس قحطوا في زمن أبي بكر وحصل قحط شديد، وفي هذا الوقت جاءت قافلة لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فجاء التجار يريدون شراءها في هذا القحط الشديد، فسألهم عثمان: كم تربحونني؟

قالوا: في العشرة اثنا عشر، يعني: مقابل كل عشرة دراهم سنعطيك اثني عشر درهماً،

قال: قد زادني غيركم، يعني: أنا أتاجر مع آخر وقد زادني على هذا الربح،
فقالوا: في العشرة خمسة عشر، وهذا ربح عظيم جداً، ففي مقابل كل عشرة سيكون مكسب خمسة عشر، قال: قد زادني، قالوا: من الذي زادك؟
ونحن تجار المدينة، ولا يوجد أحد آخر غيرنا،

فقال: الله عز وجل، زادني بكل درهم عشرة، فهل لديكم مزيد على ذلك؟
ثم قال: اللهم إني وهبتها لفقراء المدينة بلا ثمن وحساب، وتبرع بكل القافلة لفقراء المدينة، لأنه فهم معنى الأخوة، ولو كان رجلاً آخر ليس عنده مشاعر الأخوة في الله لأعطى زكاته 2.5 %، ثم لا دخل له بعد ذلك، لكن الصحابي الجليل عثمان بن عفان فقه معنى الأخوة في الله، وأنها مسئولية وتضحية وبذل وعطاء لفقراء المسلمين، بل ولعموم المسلمين ولأمة الإسلام، فهذه هي حياة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذه هي حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-28-23, 08:19 AM
سلسلة_كن_صحابياً

8️⃣9️⃣

فهم معاذ وسلمان لحقيقة الأخوة وتطبيقهما لها

لم تكن مسؤوليتهم تنحصر في المسؤولية المادية فقط، بل كان الصحابي يعين أخاه على طاعة الله عز وجل.

ففي البخاري أن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه كان يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة.

فليس كله عمل، وليس كله شغل، وليس كله مادة، وليس كله انغماس في الدنيا، وإنما مساعدة على طاعة الله عز وجل، وهذا هو المعنى الذي ذكره الله عز وجل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في سورة طه فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32]، لماذا كل هذا؟ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:33 - 34]، فالمؤمن يتعاون مع أخيه، وأخوه يعينه في يوم من الأيام، وكل واحد يتبادل مع أخيه منفعة المعاونة على الطاعة، وهذا هو العون الحقيقي، ولذا لم يقل الصحابي سلبياً أبداً في تعليم إخوانه الخير الذي عرفه.

ففي البخاري عن وهب بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، وهي المؤاخاة التي حصلت في المدينة المنورة بعد الهجرة فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة أي: رثة الهيئة، وهذا كان قبل فرض الحجاب فقال لها: ما شأنك؟ أي لماذا تعملين بنفسك هكذا؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، يعني: أن أخاه أبا الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة في أهل بيته، فلا حاجة لأن تتزين، فهي تعيش حياتها بهذا التبذل أو بهذه الهيئة الرثة، وعندما سمع سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه هذا الكلام عرف أن هذا البيت على شفى حفرة، فقرر أن يكون إيجابياً فينصح أخاه.

يقول الراوي وهب بن عبد الله رضي الله عنه يقول: فجاء أبو الدرداء، يعني: أن سلمان دخل البيت وأتاه أبو الدرداء فصنع له طعاماً، أي أن أبا الدرداء صنع لـ سلمان طعاماً، فقال له سلمان: كل، أي: كل معي، قال: فإني صائم، وأبو الدرداء كان يسرد الصوم قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل استحياء من ضيفه، ولأنه صيام تطوع، قال: فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم أي: يصلي صلاة الليل، قال له سلمان: نم، فنام قليلاً، ولم يستطع أن ينام، لأنه متعود على القيام، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، فقام مرة أخرى لكي يصلي فقال له سلمان: نم، ومرة أخرى أمره بالنوم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن أي: لما كان آخر جزء من الليل قال له سلمان: تعال نصلي القيام، فصليا، فقال له سلمان بعد أن أكملوا الصلاة - فـ سلمان يعلمه درساً في منتهى الرقي- إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، وفي رواية الترمذي قال: وإن لضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.

فكل واحد لابد أن يأخذ حقه، ولا ينفع أن تعطي الوقت كله لطاعة ربنا سبحانه وتعالى -على عظم هذا الأمر- ثم تترك أهلك من غير رعاية، أو تترك نفسك من غير رعاية، أو تترك ضيفك من غير رعاية، وكأن هذا الكلام لم يعجب أبا الدرداء، ولم يكن مقتنعاً، فهو يريد أن يعتكف طول حياته ليعبد ربه عز وجل، فذهب إلى الرسول ﷺ يشكو سلمان، وذكر له كل هذه القصة، فقال النبي ﷺ : صدق سلمان صدق سلمان، فأقر النبي ﷺ سلمان على هذا التعليم اللطيف الذي عمله مع أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين.

والشاهد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أعطى من وقته يوماً وليلة ليعلم أخاه درساً ينفعه، ولكي يحافظ له على بيته، وهذا من سلمان شيء في منتهى الروعة، وذلك أن الإنسان يوقف شغله ويوقف حياته ويوقف نظامه كله من أجل أنه يحافظ على بيت أخيه، أما أن يرى الأخ أو يسمع بمشاكل طاحنة في بيت أخيه وحياته لا تسير بصورة طبيعية، ثم لا يتدخل لحلها فليست بأخوة، فالأخوة مسؤولية، ولذلك لو اضطررت لأن تقطع حياتك يوماً وليلة من أجل أن تسافر إلى أخيك، أو تدخل مع أخيك في قضية من القضايا تحلها له فافعل.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-28-23, 08:20 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣0️⃣

ابن عباس وقيامه بحق الأخوة طلباً لثواب الله

أخرج الطبراني والبيهقي والحاكم وقال: صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله ﷺ ، ومعلوم أن المعتكف لا يخرج من معتكفه إلا لضرورة شديدة، فما بالك إذا كان معتكفاً في مسجد رسول الله ﷺ .
فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس إلى جنبه، وكان يظهر على الرجل الكآبة والحزن، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً، وفي هذا ينبغي للمسلم أن يطمئن على أحوال إخوانه وإن لم يتكلموا، قال: نعم،

يا ابن عم رسول الله ﷺ لفلان علي حق وحان أجله وليس معي ما يقضيه، أي: إن هناك ديناً علي، وليس معي ما يقضيه، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحببت أن أكلمه لك، فـ ابن عباس هنا يعمل شيئاً إيجابياً لينفع صاحبه، فهو لا يستطيع أن يساعده بالإنفاق، لكن يمكن أن يكلم الرجل الذي عنده دين فيصبر عليه قليلاً، فقال الرجل: نعم، لأنه مضطر لذلك، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما من اعتكافه ليقضي حاجة الرجل، فقال الرجل: أنسيت ما كنت فيه، أي: أنت في اعتكاف فكيف تخرج؟

فقال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت صاحب هذا القبر -هذا الكلام كان بعد موت الرسول ﷺ - يقول: (من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين) يعني: ظل مجتهداً في حاجته حتى قضاها، لأن الاعتكاف يعود نفعه على الفرد، وخدمة الآخرين تعود على المجتمع بأسره.

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-29-23, 07:47 AM
سلسلة_كن_صحابياً
9️⃣1️⃣

السعي في حاجات المسلمين كالجهاد والصيام والقيام في الأجر

ولذلك يقول الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الساعي على الأرملة والمسكين)، وهذا أمر قد يتساهل فيه بعض الناس، فقد يعطيهم نقوداً قليلة في السنة مرة واحدة ويكفي، لا، ثم بين الجزاء فقال: (كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل).


فتأمل تعظيم الناس لأمر الجهاد في سبيل الله -وهو أمر عظيم حقاً- وتعظيمهم للصيام والقيام، لكن ما مقدار ما يُعظِّم الناس السعي على الأرملة والسعي على المسكين! والسعي على الأرملة أو المسكين ليس فقط بأن تعطيهم بعض النقود كل سنة مرة، لا، فالساعي متكفل بالمسكين من أول ما يولد إلى أن يدخله الجامعة، وكذلك ينفق على الأرملة إلى أن يكبر عيالها، وهذا هو المجتمع المسلم الذي بني على أسس راسخة متينة.

وهذا لم يكن كلاماً فقط، بل كان أفعالاً متكررة في حياة الصحابة، وانظروا إلى موقف الرسول ﷺ عندما جاءه نعي جعفر، قال النبي ﷺ : (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لأن أهل جعفر عندهم مصيبة الموت، فقد مات جعفر رضي الله عنه (فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)، فانظر إلى الرفق والفقه والرحمة، وهذا على عكس ما هو منتشر في كثير من البلاد، حيث أن أهل الميت يصنعون طعاماً للناس التي تأتي إليهم، فتجتمع عليهم مصائب عدة: مصيبة الموت، ومصيبة الإنفاق ومصيبة التجهيز والتحضير واستقبال الناس، وهذا كله مخالف للسنة، فالأخوة مسئولية وبذل وعطاء، وليس المقصود أنك تذهب فتكسب من أخيك أو تستفيد من أخيك وانتهى الأمر.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-29-23, 07:48 AM
سلسلة_كن_صحابياً
9️⃣2️⃣

من نصر مسلماً أو ذب عن عرضه نصره الله في موطن يحتاج فيه إلى نصرته

الصحابي لم يكن يقبل أن يقال في حق أخيه وهو غائب كلمة قدح أو جرح، وإنما لابد أن يرد عنه في غيبته، وأن يدفع عنه.

فقد روى أبو داود وأحمد عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما أنهما قالا: قال رسول الله ﷺ : (ما من امرئ يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)، وفي المقابل (وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته)، هذا هو أحد المفاهيم التي ترسخت عند الصحابة.

وفي البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أحد المخلفين في غزوة تبوك أنه قال: (إن رسول الله ﷺ لما علم بغيابه في الغزوة قال: ما فعل كعب؟)، اطمئناناً منه ﷺ على أصحابه، فهو يسأل لماذا لم يأت كعب معنا؟ فقال رجل من بني سلمة -بكسر اللام- يا رسول الله! حبسه برداه أي: حبسته ثيابه، ونظره في عطفيه يعني: في حسن وبهاء الثوب الذي عليه، والمراد من ذلك: أن الدنيا قد شغلته عن القدوم إلى الغزوة.

فرد عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلاً: (بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً)، والشاهد أن معاذاً دافع عن أخيه كعب، وإن كان كعب متخلفاً عن أهم غزوة في حياة المؤمنين، لكن معاذاً عذر أخاه حتى يعرف سبب تخلفه عن هذه الغزوة هذه هي الأخوة الحقيقية وهذا هو المعنى الذي فهمه الصحابة عن الأخوة.

كذلك: لما وقع الناس في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حادثة الإفك المشهورة قالت أم أيوب لزوجها أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟

قال: نعم، وذلك الكذب، وتأمل كيف يدافع عن عائشة وهو جالس في بيته ولا أحد يراه،
ثم قال كلمة شديدة لامرأته أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب، يعني: أكنت تفعلين هذا الفعل الذي يقوله الناس على السيدة عائشة رضي الله عنها؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله،

قال: فـ عائشة والله خير منك، فهكذا قال أبو أيوب الأنصاري مدافعاً عن السيدة عائشة في غياب كل الناس، وهو قاعد مع امرأته فقط، ولذا كان من حق السيدة عائشة رضي الله عنها على أبي أيوب الأنصاري أن يدافع عنها في غيبتها، وبهذا فعلاً تُحفظ حرمة المؤمنين وحرمة المؤمنات من السوء.

والخلاصة: أن الأخوة مسؤولية وتضحية، ولن نستطيع أن نستفيض بذكر كل الروايات التي أتت في هذا الموضوع؛ لأن هذا يعني أننا سنتكلم عن حياة الصحابة من أولها إلى آخرها، لنرى مدى عملهم من أجل إخوانهم ومن أجل أخواتهم.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-30-23, 07:46 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣3️⃣

من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها تكون لكل مؤمن

المفهوم الثالث:
أن الأخوة لكل من آمن بالله العظيم رباً، وبرسوله الكريم ﷺ نبياً، وبدين الإسلام ديناً.

فهي لمن قرب ولمن بعد، وهي لمن كان عربياً أو كان أعجمياً، لمن كان حديث الإسلام أو سابقاً بالإيمان، لمن تعرف ولمن لا تعرف، فهي لكل واحد من المسلمين ممن يستحق كل حقوق الأخوة، حتى وإن كنت لا تعرفه قبل ذلك، وهذا شمول رائع في مفهوم الأخوة.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (يطرق الباب على رسول الله ﷺ في دار الأرقم يوم أن أسلم)، يطرقه وله تاريخ طويل ومؤلم مع المسلمين، تعذيب وإيذاء ومعاداة وكراهية، وفي آخر لحظة من لحظات كفره أراد قتل الرسول ﷺ ، وإذا به يطرق الباب فيقول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ثم دخل عمر وآمن بالله عز وجل.

فانظر مقدار ما حصل في حياة الصحابة، وكيف تحولت الكراهية الشديدة في قلوب المؤمنين التي كانت لـ عمر بن الخطاب إلى حب لـ عمر رضي الله عنه، وكيف رضوا أن يخرجوا خلف عمر بن الخطاب وخلف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما في صفين إلى الكعبة، وهو لا يزال قبل يوم أو يومين أو ثلاثة يحاربهم، وكيف أن قلوبهم تغيرت وتحولت، فهذه هي معجزة هذا الدين, وأصبح عمر أخاً لكل المسلمين يدافع عنهم ويدافعون عنه.

وهذه هي الأمة التي رضي الله عز وجل عنها، والتي أنعم عليها بهذه النعمة، أي: نعمة الأخوة، ولذا فقد استفاد عمر رضي الله عنه وأرضاه من هذا الدرس الذي فعله معه المؤمنون، وذلك عندما رأى المؤمنين كلهم يحبونه -رغم ما فعله بهم- بمجرد أنه أطلق كلمة الإيمان، وأصبح مقياس الحب والكره في قلب عمر مربوطاً بالإيمان.

وهذا مثال آخر: فعند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: في إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وثمامة بن أثال أسلم في أواخر حياة الرسول ﷺ ، وذلك بعد حياة طويلة من محاربة الرسول ﷺ ، فيروي أبو هريرة عن عمر بن الخطاب أنه قال: لقد كان -يقصد ثمامة بن أثال - والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنه في عيني الآن أعظم من الجبل، أي: بعد أن آمن بالله رباً اختلفت النظرة، وأصبح له كل حقوق الأخوة، وأولها الحب والبغض في الله.

وانظر أكثر فقد تحدث هذه العاطفة الأخوية الراقية مع مؤمن لم تره من قبل مطلقاً، فتشعر بهذه العاطفة القوية تجاهه، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: أتى رجل رسول الله ﷺ ، والرجل هذا لا أحد يعرفه، فقال: يا رسول الله! أصابني الجهد يعني: أنا فقير معدم لا أجد شيئاً آكله، وليس معي نقود لأشتري طعاماً فأرسل ﷺ إلى نسائه يطلب أكلاً لهذا الرجل فلم يجد عندهن شيئاً فهذا بيت رئيس المدينة المنورة، وزعيم الأمة الإسلامية في زمانه، ورغم ذلك لا يوجد في بيته طعام يكفي رجلاً واحداً فقط، ورغم ذلك لم ينس الرسول ﷺ القضية، وقال: أنا ليس معي شيء، ولا أستطيع أن أعطي.

لا، بل شعر بحقيقة الأخوة ولم يتركه، ثم قال: (ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله) فيطلب من الصحابة أن يضيف أحدهم هذا الرجل، والجزاء يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فذهب إلى أهله ودخل على امرأته -لوحده في المرة الأولى- فقال لها: ضيف رسول الله ﷺ لا تدخريه شيئاً يعني:

أي شيء عندك أعطيه إياه، فقالت المرأة -مفاجأة قاسية-: والله ما عندي إلا قوت الصبية يعني: ليس عندي أكل الذي يكفي الأطفال فقط، حتى أنا وأنت لا طعام لنا، فقال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم فالرجل أيضاً لم ييأس، فقال لامرأته: عندما يأتي وقت عشاء الأطفال اجعليهم ينامون، ونطعم ضيف رسول الله ﷺ ، وليس فقط ذلك، بل قال: وأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، حتى يشعر الضيف أن الطعام كثير، وأننا نأكل معه، وحتى لا يشعر أيضاً بالحرج، وفعلاً ناما جائعين، قال: ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، أي: أن المرأة وافقت زوجها في ذلك،

(ثم غدا الرجل على رسول الله ﷺ في اليوم الثاني فقال له الرسول ﷺ : لقد عجب الله عز وجل، صنيعكما بضيفكما الليلة)، فكان ذلك أمراً عظيماً من هذا الصحابي، ولمن؟ لشخص لا يعرفه وأصابه الجهد، وهذا هو مفهوم الأخوة عند الصحابة، وليس مهماً أن تعرف الإنسان، بل المهم أن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل، ولذا فإنه من أجل هذه الأخوة دون سابق معرفة فإن الله عز وجل رضي عن صنيعه وزوجه وأخبر نبيه ﷺ ليبشر الصحابي بإعحاب الله من صنيعهما.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-30-23, 07:47 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣4️⃣

من المفاهيم الأساسية التي ميزت نظرة الصحابة للأخوة أنها تورث السعادة في الدنيا والآخرة

المفهوم الرابع: أن الأخوة في الله نعمة من الله عز وجل نسعد بها في دنيانا وكذلك نسعد بها في آخرتنا، فالمسلم عندما يؤاخي أخاه في الله لا من أجل الثواب في الآخرة فقط، بل من أجل الحصول على السعادة في الدنيا، لأنه أن يكون أهل الأرض جميعاً يتصارعون على الدنيا ولا يجدون هذه السعادة التي يحس بها المسلم مع أخيه المسلم، وانظر إلى قول الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:103]،

فهذه نعمة واضحة أمامك، {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، فنعمة الأخوة في الله لا تعدلها أموال الأرض جميعاً ولا نعيم الدنيا كلها، وهذه ليست مبالغة أقولها، بل هذا كلام ربنا عز وجل، واسمع إلى كلامه في كتابه سبحانه وتعالى إذ يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]،

فهذه نعمة واحدة فقط، ولو أنفقت كل ما في الأرض لن تستطيع أن تعملها، فهي أغلى من كل ما في الأرض، ولا يدرك فضلها وقيمتها إلا الذي فقدها، لذا فإن أمم الأرض جميعاً تحسد المسلمين على هذه المنة العظيمة، والعجب أن كل من في الأرض يضحي من أجل إخوانه إلا المسلمين، قال الله عز وجل في حق اليهود: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]،

وقال في حق النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:14]، لكن أمة الإسلام شيء آخر، فهي تعيش في نعمة وسعادة في الدنيا بسبب هذه الأخوة، فكيف يمكن أن نفقد هذه السعادة! وكيف يمكن أن نضحي بهذه الأخوة! ليس ممكناً أبداً لمؤمن فاهم عاقل أن يضحي بهذه السعادة ويطلب أي نعيم في الدنيا أو أي مال في الدنيا في نظير هذه الأخوة، إن أعلى معدلات الاكتئاب النفسي التي توجد عند الرجال والنساء أو الأطفال الذين يعانون من الوحدة في البلاد التي يقولون عنها بأنها راقية عالية جداً، وراجعوا إحصائيات الاكتئاب النفسي الموجودة في أمريكا وإنجلترا والسويد والدنمارك وغيرها من البلاد التي يقولون عنها بأنها بلاد راقية جداً، وكل ذلك بسبب أنه ليس فيها أخوة، وليس فيها من يسأل عن الآخر،

فالابن عندما يكبر قليلاً ويصل إلى السادسة عشرة أو السابعة عشرة يترك بيت أبيه وأمه ولا يسأل عنهم أبداً، والكبار قد يضعوهم في دار مسنين ولا يسأل أحد عنهم، فتخيل مجتمعاً بهذه الصورة، وعلى النقيض تخيل مجتمعاً إسلامياً بالصورة التي ذكرناها، سعادة ما بعدها سعادة، فهذه نعمة الإسلام الكبرى، أعني: نعمت الأخوة في الله، ولذلك كان من المستحيل أن يضحي الصحابة بهذه السعادة من أجل أي شيء في الدنيا مهما كان كبيراً في أعين الناس.

والخلاصة: مفاهيم الصحابة عن الأخوة، وهكذا تعاملوا مع هذه المسألة الهامة في بناء الأمة الإسلامية، ففهموا أن الأخوة طريق للجنة، وأن الأخوة مسئولية لكل مؤمن مهما بعد أو قرب، عرفوه أم لم يعرفوه، وأن الأخوة تورث السعادة في الدنيا وفي الآخرة.

وأختم حديثي بالحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ ، قال الله تعالى: (حقت -وفي رواية: وجبت- محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتباذلين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتجالسين في).

أسال الله عز وجل حبه وحب من أحبه وحب عمل يقربنا إلى حبه، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
01-31-23, 07:35 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣5️⃣
الصحابة والدعوة

إن من أشرف وأعظم الأعمال التي يقوم بها المؤمن الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي وظيفة الأنبياء والمرسلين الأولى، ولا يستقيم أمر هذه الأمة إلا بنشر الدعوة بين الناس، وقد نقل لنا التاريخ صفحات بيضاء من حياة الصحابة في التضحية بالنفس والمال من أجل هذه الدعوة المباركة.

أهمية الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أشرف الأعمال التي يقوم بها المؤمن، فالله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، أي: أن كلمة الدعوة ستظل هي أحسن من كل الكلمات التي يمكن أن تنطق بها، هذه الكلمة العظيمة -كلمة الدعوة- هي وظيفة الأنبياء الأولى، يقول الله عز وجل في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]، لماذا؟

{لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، أي: ليوضح وليبلغ لهم، {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]، فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، ولا بد أن تصل الدعوة إلى العبد، والذي يوصل الدعوة إلى العباد هم الأنبياء، ثم بعد آخر الأنبياء محمد ﷺ يوصل الدعوة إلى الناس أتباعه، أي: المؤمنون بهذا الدين، والمسلمون به إسلاماً حقيقياً صادقاً، فهم الذين يتحركون بدعوة الأنبياء، لأنه ليس هناك نبي بعد رسول الله ﷺ ،

ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله ﷺ ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، ويقول تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، وغيرها من الآيات الكثيرة على هذا المنوال، وعلى هذا المعنى: فالذي يبين للناس الحلال والحرام، والذي يعرف الناس المعروف ويأمرهم به، والذي يبين للناس المنكر وينهاهم عنه، هو الذي يعمل بعمل الأنبياء، لذلك جعل الله عز وجل صفة الدعوة أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة لازمة لكل من حمل لقب مؤمن، فما دام وصفك مؤمناً فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، وإذا أردت أن تستثمر صفة الإيمان لا بد من الدعوة إلى الله عز وجل،

يقول سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].


لاحظ تقديم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مع أن من المعلوم أن الصلاة هي عمود الدين، بل هي أعظم شيء في هذا الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع ذلك يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمر الصلاة، وكذلك الزكاة التي هي من أحكام الإسلام الأساسية، قد قدّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها، لأن الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على أن لا يعيشوا لأنفسهم فقط، فلا ينفع أن تجلس تصلي وتزكي وتعمل أعمالاً فردية بينك وبين نفسك، وليس لك اتصال بالناس، أو شأن بالآخرين، لأنك إذا شعرت بعظم هذه الرسالة لا بد أن تنقلها إلى غيرك،

فهذه هي الغاية من هذه الأمة ومن هذه الرسالة، فلا يكفي أنك تستوعبها فقط، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن تنتقل بهذه الرسالة إلى من حولك من الناس ومن البشر، سواء كانوا من المسلمين أو كانوا من غير المسلمين.

ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف والجميل جداً على هذه الآيات فيقول: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]، أي: أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم ﷺ سيرحمهم الله عز وجل؛ لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، والجزاء من جنس العمل، ولأنهم لما رأوا الناس تتجه إلى هاوية سحيقة،

تتجه إلى النيران، تتجه إلى البعد عن الله عز وجل، تتجه إلى المعيشة الضنك، ما استراحوا إلا بعد أن أوضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، وطريق الله عز وجل، لذا كان لا بد أن يرحمهم الله عز وجل ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة وينالهم رضوانه عز وجل.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
01-31-23, 07:36 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣6️⃣
عظم أجر الدعوة إلى الله تعالى

لا شك أن المسلمين جميعاً يفقهون قيمة الدعوة، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن نحن في هذه المجموعة نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف تكون صحابياً في دعوتك؟

وكيف تكون صحابياً في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟

إنها قضية في غاية الأهمية، وأنا أعتبر هذا الدرس من أهم الدروس في هذه المجموعة، لأنه ليس هناك أمة يمكن أن تبنى من غير دعوة، نعم قد يوجد أفراد عظماء جداً من غير دعوة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لكن هو في حاله ومشغول بنفسه، فلا ينشر هذا الكلام إلى من حوله، لذا كان من المستحيل أن تقوم أمة بغير نشر الدعوة بين الناس وبين عموم المسلمين وغير المسلمين، وممكن أن يقوم فرد واحد، لكن أمه مكونة من أفراد كثيرين ومجتمع هائل من البشر، لا بد أن تصل الدعوة للناس جميعاً، وتعالوا بنا لنرى كيف كان الصحابة يفكرون في قضية الدعوة؟

وكيف جعلوها قضية أساسية تماماً في حياتهم؟


إنه ليس من الممكن أن تقرأ في سيرة أي صحابي إلا وتجد الدعوة ركناً أساسياً من أركان حياته، وليس من الممكن أن تجد عنده يوماً أو يومان أو عشرة أو عشرين أو سنة أو سنتين من حياته من غير دعوة، وإنما كل حياته موجهه إلى تعليم الآخرين، وكل حياته موجهة إلى دعوة الآخرين للإيمان بالله عز وجل وطاعته وطاعة رسوله الكريم ﷺ .

إن الشيء المهم جداً في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعلمون أن المستفيد الأول من عملية الدعوة هو الداعية نفسه لا المدعو، فالرجل الذي يقوم الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المستفيد الأول من الدعوة، وحتى ولو لم يستفد الشخص الذي دعاه ولم يسمع كلامه، فالداعية مستفيد أيضاً على كل الأحوال، فكما أنه يصلي ويصوم ويزكي ويجاهد في سبيل الله، ويقوم بأنواع الخير المختلفة، ويطلب من الله عز وجل ثواب هذا العمل، فهو أيضاً يطلب ثواب هذه الدعوة من الله عز وجل، وثواب الدعوة لا يمكن لعقل أن يتخيله، لأنه يمكن أن تتخيل ثواب الصلاة أو ثواب الزكاة أو ثواب الإخلاص في سبيل الله،

وقد أخبرنا ربنا عز وجل كثيراً عن هذه الطاعات وثوابها في كتابه الكريم، وكذلك نبينا محمد ﷺ في السنة، لكن ثواب الدعوة لا يمكن أن تتخيله؛ لأن الرسول ﷺ قال كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، فإذا دعوت شخصاً إلى الخير وعلمته الصلاة، وبدأ يصلي بعد أن دعوته إلى الله عز وجل، فكل الصلوات التي يصليها هذا الرجل والتي تخفى عليك تماماً هي في ميزان حسناتك، وسواء عاش عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة، فكل السنوات التي يعيشها ويصلي فيها فرضاً أم نفلاً في الليل أو في النهار يحصل لك من الأجر مثل أجره تماماً،

وإذا علم الرجل أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده في ميزان حسناتك أنت أيضاً، وإذا علم جيرانه الصلاة، فكل صلوات جيرانه في ميزان حسناتك أنت أيضاً، ثم بعد ذلك لو أصبح -الذي علمته الصلاة- داعية إلى الله في بلد آخر وفي أي زمان وفي أي مكان فكل الناس الذين سيدعوهم إلى هذا الأمر في ميزان حسناتك، وممكن أن هذه الدائرة ستظل تعمل بعد أن تموت بسنوات طويلة، بل قد تظل تعمل حتى قيام الساعة.

وهذا شيء عظيم أن تصل إليك حسنات من أناس لم ترهم ولم تعرفهم ولم تعش في زمانهم، وأعظم من ذلك أن هذا الأمر يستمر إلى قيام الساعة، ونحن الآن على مدى كل هذه السنين نضيف حسنات لمن دعوا هذه الأمة إلى هذا الخير الذي نحن عليه، كـ أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة والتابعين، وكذلك الناس الذين حملوا هذه الرسالة وأوصلوها إلينا، فكم من الخير يمكن أن يكون في أمر هذه الدعوة إلى الله عز وجل؟!

لأجل ذلك كان يضحي الداعية بعمره كله، لكن لا يضحي بأمر الدعوة أبداً إلى الله عز وجل، ولأجل ذلك كان يبذل النفس والروح والوقت والعرق والمجهود وأي شيء آخر، لكن لا يمكن أن يضحي بقضية الدعوة؛ لأن ثوابها لا يمكن أن يتخيله أحد أبداً، ومن هنا نستطيع أن نفهم كلام ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، من أحسن من هذا؟ مستحيل مهما قلت وعددت من الأعمال الصالحة: الذاكر لله عز وجل، والقائم يصلي، والقارئ للقرآن، وغيرها من الأعمال الفاضلة جداً، لكن تبقى قيمة الدعوة أعلى وأعظم، لأن الداعية لا يعمل هذه الأشياء فقط، بل يجعل غيره يعملها، وهذا فضل عظيم وكبير.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
02-01-23, 07:44 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣7️⃣

عقوبة ترك الدعوة إلى الله

وعلى الناحية الأخرى لو لم نقم بالدعوة، ماذا ستكون النتيجة؟

ليس مجرد أنه لا يوجد حسنات فقط بل ستكون النتيجة صعبة جداً، فسيُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أمر في منتهى المشقة على العبد وعلى الأمة؛ ويدل على ذلك: الحديث الذي رواه الترمذي رحمه الله عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (والذي نفسي بيده!)، وعندما يقسم الرسول ﷺ فهو يقصد شيئاً مهماً جداً؛ مع أننا نصدقه، لكن هو يريد أن يعمق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينا، فيقسم على أهمية هذا الأمر فيقول: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه)، وفي رواية: (عقاباً منه)،

إما هكذا وإما هكذا، إما أن تدعوا إلى الله عز وجل، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وإما أن يبعث الله عز وجل عليكم عذاباً منه، وبعد ذلك: (ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)، عندما تجد ربنا سبحانه وتعالى يؤخر إجابة دعوتك مرة ومرتين وعشرة ولديك أزمات كثيرة لم تحل، وأنت رافع يديك إلى الله سبحانه وتعالى، يمكن أن تكون هذه هي المشكلة المعيقة للإجابة،

يمكن أن تكون هذه هي المشكلة الكبيرة التي هي عند كثير منا أنهم يعبدون ربنا سبحانه وتعالى، لكن ليس لهم شأن بالناس، فجاره يكون بعيداً عن الله وليس له شأن به، وزميله في العمل بعيد عن ربنا وليس له شأن به، حتى أحياناً أن زوجته وأولاده وأمه وأباه وإخوانه بعيدون عن ربنا عز وجل، ومع ذلك ليس له شأن بهم! فهل أنت عايش لنفسك فقط؟! إن هذه ليست حياة وما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط، فالصحابة كانوا يعيشون لأهل الأرض أجمعين، وليس فقط لأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم وإخوانهم وقبيلتهم وعشيرتهم.

روى الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله ﷺ فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء) يعني: همه وأحزنه شيء، (فتوضأ ثم خرج فلم يكلم أحداً، فدنوت من الحجرات فسمعته يقول:) أي: بدأ يخاطب الناس في المسجد بخطبة شديدة قال فيها: (يا أيها الناس! إن الله عز وجل يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر)، وبعد ذلك يهدد تهديداً في منتهى الخطورة.

فيقول: (من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم).

أليس من الممكن أن إهمال المسلمين لقضية الدعوة هو السبب في حالة الانهيار الكبير الذي وصلت إليه الأمة اليوم؟ والذي نراه أمام أعيننا من أزمات طاحنة في الأمة الإسلامية في كل مكان، وتأخير النصر عنا، ونحن ندعو ربنا سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون عندنا مشاكل أخرى هي التي تؤخر النصر، فقد تكون في مرحلة الإعداد، -يجوز أن يكون هناك تقصير- أو في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من الممكن أن يؤخر قيام أمة، بل ويستأصل أمة بكاملها، لأنها لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، وهذه كانت أول مشكلة وقعت في بني إسرائيل،

حيث أن المؤمنين لم يقوموا بواجبهم على الوجه الأكمل، فكانت الهلكة لبني إسرائيل جمعياً، وتعالوا لنرى وصف رسول الله ﷺ لأمر بني إسرائيل وكيف سقطوا؟ يقول رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل)، أي: أول مشكلة ظهرت في بني إسرائيل، وكان بعدها الهلكة واللعنة لهم، (كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك)، أي: يأتي الرجل المؤمن فيرى رجلاً يقوم بمعصية ما، فيقول له: يا أخي اتق الله فإن هذا لا يحل لك أن تفعله، فيجده مرة يسرق، ومرة يزني، ومرة يقتل، ومرة يعمل كذا أو كذا من الموبقات والمعاصي، وينهاه عن هذا الفعل ويقول له: لا تعمل هذا، فإنه لا يحل لك في دينك، (ثم يلقاه من الغد)

أي: يأتي اليوم الثاني ويمشي المؤمن من جوار العاصي، (فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده) يعني: يأتي في اليوم الثاني ويلقاه على نفس المعصية والجرم الذي كان يقوم به، والذي نهاه عنه الرجل المؤمن قبل ذلك، ثم بعد ذلك تجد الرجل المؤمن الذي كان داعية إلى الله عز وجل لا يمتنع عن أن يأكل معه ويشرب معه ويقعد معه، وكأن شيئاً لم يكن، وليس هناك ثمة مشكلة، فهو نهاه مرة عن المنكر وأمره بالمعروف، ثم بعد ذلك نسي،

وعاشت هذه الأمة -بني إسرائيل- بهذه الطريقة، فماذا حصل عندما تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال رسول الله ﷺ : (فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } إلى قوله : { فاسقون }. ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا ".

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
02-01-23, 07:45 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣8️⃣

إصلاح الأوضاع من مهام هذه الأمة

إن هذه الأمة لا تُهلك بكاملها، ولا يستأصلها الله عز وجل بأجمعها؛ لأنها الأمة التي تحمل الرسالة الباقية إلى الخلق أجمعين وذلك إلى يوم القيامة،

ولكن من الممكن أن تستبدل -كلمة في منتهى الخطورة- فالله عز وجل يستبدل جيلاً بجيل آخر، فيذهب جيل فاسد ويأتي جيل صالح، وكذلك يذهب فرد فاسد ويجيء فرد صالح، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم من المسلمين أيضاً، لكن من المسلمين الذين فهموا دينهم جيداً، قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، أي: أن الأمة التي لم تستوف شروط الخيرية ستستبدل بأمة مسلمة ثانية، وذلك مثلما استبدل ربنا سبحانه وتعالى أمماً كثيرة من الأمم الإسلامية السابقة، فدول إسلامية قامت ودول إسلامية سقطت، وهذا السقوط كان متبوعاً بقيام أمة تحافظ على شروط الخيرية،

وأهم شروط الخيرية لهذه الأمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ومن أول صفات هذه الأمة الخيرية: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وتأمل هنا: مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله عز وجل، لكن الله سبحانه وتعالى قدمه لكي يُعظِّم قيمته، ولكي تعرف أنه من غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -حتى لو كنت تعمل عبادات كثيرة جداً- لا خيرية لهذه الأمة أبداً.


إن من مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض بكاملها، وليس فقط في بلاد المسلمين فحسب، بل من واجب هذه الأمة أن تُعِّلم كل الأرض، سواء الذين يعيشون في الصين، أو الذين يعيشون في روسيا، أو الذين يعيشون في أوروبا، أو في أمريكا واستراليا، أو الذين يعيشون في الجزر النائية في أعماق المحيطات، فواجب عليك أن توصل لهم هذا الدين وتعلمهم وتصبر على أذاهم إن حاربوك أو رفضوك فهذا هو واجبك، وأنت لا تتفضل عليهم بذلك، لأنك من أمة الخيرية المأمورة بذلك، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فاترك أمر الدعوة، لكن لا تقول: أنا خير أمة أخرجت للناس.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه -يصف أمة الإسلام- كما جاء في صحيح البخاري: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.

ويقصد بذلك: الفتوحات الإسلامية التي كان أول همها تعليم الناس، ودعوة الناس إلى الله عز وجل، وكان هناك أناس كثيرون جداً يكرهون الفتوحات الإسلامية، فغزت جيوش المسلمين هذه الأمم، وكانت ترفض دخول الجيوش الإسلامية إليها، لكن مع مرور الوقت دخل الناس في الإسلام، ويمكن أنها دخلت في بداية الإسلام،

لأن الإسلام دين عظيم وكبير ومهيمن على الأرض في ذلك الزمن، لكن بعد ذلك اكتشفوا عظمة هذا الدين، فأسلموا وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يدخلوا النار لو بقوا طول عمرهم يعبدون النار أو يعبدون المسيح أو يعبدون الشجر أو الحشرات كما كان يحصل في الهند، وقد كانوا عبدوا كل شيء إلا الله عز وجل، فكان واجب المسلمين أن يعلموهم ويدلوهم على الطريق الحق.
وانظر كم من خير؟!

تأتون بهم بالسلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وهذا هو سبب خيرية هذه الأمة، ليس لأنها أمة تقيم العدل في إطار توليها فقط، وفي إطار حدودها فقط، وتترك العالم من حولها يعبد ما شاء، ويعيش كما يشاء، ويظلم كما يشاء، ويسرق كما يشاء، ويعصي ربنا سبحانه وتعالى كما يشاء، لا، فهذه ليست مهمة أمة الإسلام، وإنما مهمة أمة الإسلام أنها تعلم جميع الناس الخير.

يقول الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل)، أي: الناس الذين آمنوا بدين الله عز وجل بعد حرب طويلة، فالمسلمون قد حاربوا أناساً كثيرين، وأسروا أناساً كثيرين، وهؤلاء الأسرى بعد أن جاءوا إلى بلاد الإسلام، ورأوا الإسلام على حقيقته أحبوا هذا الدين، ودخلوا في دين الإسلام، ودخلوا الجنة بعد ذلك، ولم يكونوا يريدون ذلك، لكن أمة الإسلام كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير جداً، لذلك قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم
02-02-23, 10:00 AM
سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣9️⃣

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيذان بفساد الأرض

الصحابة كانوا يفهمون هذه الحقائق جيداً، وكانوا يعرفون أنه إذا لم يحصل دعوة، ليس فقط سيخسر الداعية والمدعو، بل المجتمع كله سيخسر، وكذلك فهموا هذا الحديث الرائع للنبي ﷺ عندما ضرب مثالاً للناس بيِّن فيه حال تلك الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أو تلك التي لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر.
فقد روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) أي: أن هناك أناساًَ ركبوا سفينة ثم أقرعوا فيما بينهم، فصار بعضهم في أعلى السفينة والآخرين في أسفل السفينة، ثم قال النبي ﷺ : (فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم) فالماء موجود عند الناس الذين كانوا في أعلى السفينة،

والذين في أسفلها كلما أرادوا أن يشربوا لا بد أن يصعدوا إلى أعلى السفينة ويمشون من جوارهم، فقد يزعجونهم وهم نائمون، أو وهم مستيقظون، وفي كل وقت أزعجوهم، فعملوا لهم نوعاً من القلق، فأحبوا أن يحلوا هذا الموضوع بحسن نية، فقالوا: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا) يعني: يخرمون في السفينة خرماً من الأسفل حتى يشربون منه! فهم يفكرون في حدود تفكيرهم ونيتهم سليمة، لأنهم لا يريدون أن يضروا الناس الذين في الأعلى، فسيخرمون خرماً في أسفل السفينة ويشربون من ماء البحر مباشرةً، فيقول ﷺ : (فإن يتركوهم -الناس الذين في الأعلى- وما أرادوا هلكوا جميعاً)،

أي: عندما تغرق السفينة سيغرق الذين في الأعلى والأسفل وليس الأسفل فقط، ثم قال ﷺ : (وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)، فكل السفينة ستنجو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما كان يريد أن يوضحه النبي ﷺ للصحابة، والصحابة قد استوعبوه تماماً، وبدءوا يتحركون في حياتهم بهذا المفهوم.
إذاً: تولد عن هذه المشاعر التي دخلت في نفوس الصحابة إحساس عميق جداً، ألا وهو: إذا كنت مؤمناً لا بد أن تدعو غيرك إلى الخير، وأن تدعو غيرك إلى الإسلام، وأن تدعو غيرك إلى الله عز وجل، وليس مجرد تكثير حسنات وتثقيل ميزان فقط، وإن كان هذا شيئاً مهماً جداً،

لكن الأمر أعظم من ذلك، إنها وظيفة إجبارية، فلا ينفع أن لا تصلي وأن لا تزكي، بل لا بد أن تصلي ولا بد أن تزكي، وكذلك لا بد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لأن بدونها ستفسد الأفراد وتفسد الأمة، بل وتفسد الأرض بكاملها،
ولذلك كان هناك شيء مهم جداً في الدين اسمه: (فتوح إسلامية) فتوح فارس، فتوح الروم، فتوح شمال أفريقيا، فتوح الأندلس، فتوح الهند، وكل منطقة فتحت بالإسلام كان الغرض الأساسي أنك تعلم الناس الدين، والصحابة كانوا يرون هذا الشيء واجباً عليهم، وليس مجرد فضل من فضائل الأعمال.

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم
02-02-23, 10:01 AM
سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣0️⃣0️⃣

فهم الصحابة لأهمية دور المسلم في الدعوة إلى الله

موقف ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس

تأمل لكلام ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه -من صحابة رسول لله ﷺ الذين فتحوا فارس- وهو يكلم رستم -بفتح الراء وإسكان السين، وليس بضم الراء كما هو مشهور، فهو لفظ أعجمي عند الفارسيين وأتى بعد ذلك إلى العرب- كلاماً يدل على الفهم الدقيق لمهمة المسلم في هذه الحياة، فيقول: (لقد ابتعثنا الله)، وكلمة: (ابتعثنا) تدل على أنه ابتعثنا مثل الرسل، فالله سبحانه وتعالى كلفنا بمهمة كان الرسل مكلفين بها، وبما أنه لم يعد هناك أنبياء ورسل، فنحن الذين نتحمل هذه المهمة إلى يوم القيامة.

ثم قال: (لنخرج العباد) أي: أن كل العباد في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف الأزمنة والأمكنة مسئولية في رقبة كل المسلمين.

ثم قال: (من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)، فأهل فارس لم يكونوا يعبدون كسرى، وأهل الروم لم يكونوا يعبدون قيصر، لكن كان هؤلاء الزعماء كسرى وقيصر ومن كان على شاكلتهم يشرع لقومه، ويضع قوانين مخالفة لما أمر الله عز وجل به، فهذا التشريع هو عبادة لهم، فلما أتى الإسلام أمر الله عز وجل المسلمين أن ينتقلوا إلى هؤلاء ليعلموهم أن الله قال كذا وكذا وكذا، وأن الحكم لله عز وجل، وأن الأمر بيد الله عز وجل، وأن الناس أجمعين لا بد أن يسيروا على ما أمر به الله عز وجل، ويبتعدوا عن ما نهى الله عز وجل عنه، هذه هي العبادة الحقيقية،
والمسلمون لهم مهمة في منتهى الوضوح، وهي: إخراج العباد من عبادة العباد، -سواء كانت عبادة حسية أو كانت طاعة مخالفة لما أمر الله عز وجل به- إلى عبادة رب العباد.

وقوله: (ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي مهمة المسلمين التي كان يفهمها الصحابي الجليل الذي خاطب رستم في موقعة القادسية، وكان يفهمها كل الصحابة، وهذا هو الفهم الذي نريد أن نزرعه بداخلنا.

وهناك شيء آخر مهم جداً في قضية الدعوة عند الصحابة، ألا وهو: أنهم لم يكن عندهم يأس أبداً من قضية الدعوة، فتدعو الإنسان مرة وثانية وثالثة وعشرة وعشرين ومائة ولا تيأس، لأنه ليس هناك جهد ضائع كما يقولون، ولا أحد يقول: لا تضع وقتك مع فلان، فهذا لن يهتدي أبداً ف (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وأجرك ستأخذه في كلا الحالتين، سواء استجاب هذا المدعو لله عز وجل أو لم يستجب، فأجرك واقع على الله عز وجل ما دام أن الكلام قد خرج من فمك، وما دام أنك أخذت بكل الأسباب التي تستطيع أن تصل بها الكلمة إلى قلب ذلك المدعو، وبعد ذلك: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

إذاً: كل الناس بلا استثناء سندعوهم إلى الله عز وجل، وكل المسلمين البعيدين عن طريق الله عز وجل سيُدعون إلى الله عز وجل، وكل اليهود والنصارى والمشركين والمجوس والهنود سيُدعون إلى الله عز وجل، وهذه هي مهمة المسلمين جميعاً.

... يتبـــــــــ؏..


SEO by vBSEO 3.6.1