المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هـِجرة لم يلتفت فيها القلب !


عطاء دائم
06-20-23, 09:46 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

{ وليالٍ عشر } ..

الَّليلة الثانية

اسـأَل رِمالَ مكّة عن آلامِ خُطى هاجرَ و هي تتماسك ؛ كي لا تلحق بإبراهيم !

يَقولون يـا هاجَـر ..
إنَّ إحساسَ المرأة بالحزن و الألم ؛ يَعدِلُ ثمانيةَ أضعاف إحساس الرجل !

فكيفَ صَمتَ الوجعُ فيكِ ؛ و إبراهيمُ يرحـلُ عنكِ و عـن الرّضيـع ؟!

لا شيء كان يُخيف هاجرَ في هذه الصّحراء ؛ مثلَ مَغيبِ الشّمس في هذا المكان !

ترتعشُ هاجَـر في هذه الصّحراء الشاسعة ..
وماتدري أن اليباسَ تحت قدميه سيغدو سقاية الحجيج أبدا !

تهَرع إليه !
يـا إبراهيمُ ..
كيف تجمعُ عَلينا غِيابان ..
غيابكَ أنتَ ، و غيـاب الشّمس ؟!

هل نَذرتَنا للفَناء ؟!
صدّقني لا شَـيء يوحـي بغيـرِ ذلـك !

آاللهُ َأمرَكَ بذلك يـا إبراهيم ؟ فأجابَ : نعَـم !

كَـان اللهُ فـي عَليائِه يَشهدُ تِلكَ اللّحظـة ..
لحظة اختيارٍ بين خطوتَين ..
نَحو ابراهيم أو نحوَ الله !

لحظةً ..
سُجّلت لِهاجرَ في تاريخ الكون ، و بها اعتَلَت المَـرأةُ مكـان الشّمـس !

تسامَت على ضَعفِها ؛ حتى كأنَّها أُسطورةُ من خيال التاريخ !

أيُّ دينٍ هذا الذي يوقِظُ النِّساءَ ؛ كي يَصّعَدنَ من السَّفحِ الى حيثُ تُقيمُ النُّسور !

كَـي يُصبحنَ أيقونةَ الفِداء ..
كي يملأَنَ الصُّخورَ المتشقِّقة من الجَفافِ ؛ بماءٍ لا ينقَطِع !

كانت الدُّروبُ الصّامتةَ ؛ تَسمع وَقعَ أقدام ابراهيم مثقلة بالرَحيل !

{ ربّي إنّـي أسكنتُ مـن ذُريتي بوادٍ غيـرِ ذي زَرع } ..
كم مرةٍ تهدَّجَ صوتُك ، أو تقطَّعَ ، أو تحشّرَجَ يـا خليلَ الله بين الكلماتِ ؟

مَشهدٌ ..
تئنُّ لهُ السّماواتُ ؛ و لا تئنُّ له جارية في مُقتبل العُمر !

كَـان الرّعبُ يحيط بها ؛ الرعب في إنتظار العَتمَة الآتية ، و في بُكاءِ طفلٍ يُحرّكُ سُكونَ الصّحراء المخيفة؛ لتُلقي بأثقالِها في وجهِ الجارية !

تَنحني هاجرُ على الصغير فتبدو أمامها الحقيقة عاريةً ؛ لا شيء الا صُراخ الرّضيع !

تتشبّث بـاليَقيـنِ :
( أنَّ اللهَ لـَن يُضيّعَنا ) !

تَشُدّ اليَدَ الغارقة في عَرَقِ الخوفِ على حبلِ الثّقةِ بالله ؛ ومثلِ لِبؤةٍ مَفزوعة تَهرعُ بيـن الجَبَليـَن !
تهرعُ بين الصفا والمروة ..

ثمَّةَ ما يستَحِقُّ الحَّياة ..
ثَمَّةَ ما يستحِقُّ السَّعي ..
ثَمَّةَ حِكمة وراءَ كلِّ هذا الهَول !

كانت الأنفاسُ المُتلاحقة في هَروَلة الخطوات تَستبيحُ الصَّدرَ المُضطَّرب بالخوفِ المُشتَعِل !

هنا الوِحدة و الوَحشة ..
و مَـوتٌ يفتَرِسُ الطِّفلَ ..
و رَمـلٌ ينتَثِرُ في عَينَيها ؛ كأنَّهُ اللَّهَيب ..
و لا إبراهيمُ يُؤنِس الطَّريق !

ترى هَـل بَكـَت ؟
لم تُسجِّل ذاكرةَ الصَّحراء ؛ الا ارتفاعاً في صوت اليَقين !

هل كَتمَت صرخَتها ؟
لم تَشهد السَّماءُ ؛ الا صَمتَ المُوقِنين !

هل شَكَت ؟
لا ..
إذْ عَلَّمَها إبراهيمُ ؛ أنَّ النّورَ لا يَعبُر الا بعدَ اكتمالِ اللَّيل !
..وعَلَّمَها إبراهيمُ ؛ أن كل مايحجب الثقة بالله خطيئة !

تلك جراحٌ نزفت ..
فأضاءت للأمـّة الطريـق !

يـا هاجَـر ..
لو تَعلمين : أنَّ عَتمة الصّـحراء مـِن يَقينك تكادُ تُضـيء !

كَـانت زمـزم حينها ؛ تنتظـرُ ضَربَةَ قـَدَم الصَّغيـر ..
و كانَ لا بُدَّ لذلك من اكتمالِ مَشهَد التَّضحية ، و تقديمِ كلِّ القَرَابين !

(وعند انسـداد الفـُرَج ؛ تبدو مَـطالع الفَـرج ) !

تَسعى الحَجيجُ اليوم على الخُطى الجَليلة ..
على خُطى جاريةٍ ؛ كَتَبَت من خوفِها انتصار إرادةِ اللهِ عَبرَ امرَأة !

( هَـاجـَرُ ) ..
لكِ من اسمِك أوفر النَّصيب في هِجرَةٍ ؛ تَمَّت للهِ وَحدَهُ ..
هـِجرة لم يلتفت فيها القلب !

أيـا سَيِّْدَةَ المَعاني الكبيرة ..
[ مِنكِ تَستَلهِمُ المُرابطاتُ اليومَ في حَرَمِ الأقصى ؛ حكايَةَ النَّصرِ القَريب ..
ومِنك تستلهم الأسيرات في سُجون الظُلم ؛ مَعاني الثّبات ] !

من كتاب على_خطى_إبراهيم
د_كــِفاح_أبوهَنّـود
وليالٍ_عشر

حاشي نص استوى
06-20-23, 03:08 PM
بارك الله فيك

أوتار الأمل
06-21-23, 02:13 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ونِعم بالله دائماً طرح جميل / لافتة رائعة وتذكير أروع
بُوركت أناملك:0741:غاليتي / عطاء دائم
وجعل ماقدمتي بميزان حسناتك
الصالحة / تقبلي ودي ...
:
:MonTaseR_205:

عطاء دائم
06-21-23, 06:49 AM
بارك الله فيك

وفيك بارك الرحمن
شكرا لك على كرم مرورك

عطاء دائم
06-21-23, 06:50 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ونِعم بالله دائماً طرح جميل / لافتة رائعة وتذكير أروع
بُوركت أناملك:0741:غاليتي / عطاء دائم
وجعل ماقدمتي بميزان حسناتك
الصالحة / تقبلي ودي ...
:
:montaser_205:

اللهم آمين
شكرا لكِ غاليتي على كرم مرورك
ربي يحفظك ويرزقك كل خير

عطاء دائم
06-21-23, 06:53 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

{ وليالٍ عشر } ..

الَّليلةُ الثالثة
{ و إذ يرفـعُ إبراهيم القَواعـدَ مِـن البيت } ..
كم هوَ عُمرك يا إبراهيم ؟
هِجرات ثلاث ..
و سنوات ممتلِئَة بالتّضحيات ..
و بناء بيت للهٍ ..
و مشاهدَ لا تُحصى ؛ مـِن مواقفِ الثَّبات !
بهذا تُقاسُ الأعمارُ يا سيّدي ..
بِعُمقها ؛ و ليس بِطولها !
تسكـنُ قاماتُ النّخيل العراقيّ فـي عُمرك ..
و تتجذَّر أفعالك ؛ كأنَّها جُذور شجرة زيتونة مقدسيّة ..
و يتّسع عُمرك ؛ كأنـّه صحراء الجَزيرة التي بَنيْتَ للهِ فيها بيتاً ليس لهُ مثيل !
ما أطولَ عُمرك يا سيّدي ..
فَرُبَّ عُمر اتّسعت آمادهُ ، و كثُرت أمدادهُ ، و أمطرت غيماته الى قيام الساعـَة !
رَفَعْتَ بيتاً لله ؛ فَرَفَعَ اللهُ لك ذِكّرَكَ ، و رفَعَ مَقامك ..
فلم يَلقاكَ مُحّمدٌ ﷺ الا في السّماء السّابعة ؛ مُسنِداً ظَهرَك إلى البيتِ المَعمور ..
و وَحدكَ دُون الخلائِقِ ؛ امتلَكتَ هذا الشَّرف الجَليل !
مِـن عُمرك ؛ انبَثَقَت يَقَظةُ الإنسان يـا سيّدي ..
فأنتَ مَن نَزع الحُجُب عن العَقلِ ، و أثارَ كلّ تِلك التَّساؤلات ، و علَّمَنا كيف يكونُ الإيمان مبصِراً و واعياً !
كانت آمالُكَ كُلَّ مساء ؛ تَتَبخّر الى السَـّماء ..
تجمَعُها لك إرادةُ الله ، و تكتُب لك بها مَواعيدك مَع غيثٍ ؛ ستَرتوي منه البشريّة جمعاء !
كم هي المسافةُ بيننا و بينك ؟!
كما هي المسافةُ بين أصواتِنا و صوتك ؛ إذ تُؤذّن { في النّاس بالحَـج } .. فتخلو الآفَاق الا مِن صَـدَى كلِماتِك !
كم هي المسافةُ بين أعمارِنا و عُمرك ؛ الذي يزدَحِمُ بالأحداثِ ، و يَسهر كلَّ ليلةٍ على الأمنياتِ الجليلة ؛ حتى استحقَّ أن يُسطِّره اللهُ على صَفَحاتِ القُرآن !
كَـم كان عُمرك ..
يوم كنتَ ترفَعُ القواعدَ من البيتَ بِيدكَ التي أورقَت بناءً شامخاً ؛ لم تُغيّره الدُّهور !
لَم يكُن ابراهيم يَشيخُ ..
ولَم يكُن لديه وقتٌ للنّهايات الذابلة ؛ فقد كان يعيشُ بقلبٍ يَستمّد زَيتَه مـِن نُـورِ السّـماوات و الأرض !
كان ابراهيمُ موطناً لـ { رَحمةَ الله و بركاتـه عليكُـم أهْـلَ البَيـت } !
كانَ إبراهيمُ يخلَع من خُطوته كًلَّ التَّوافِه ؛ و يُبقي قَدمه على العَتَبات الثَّقيلة !
وكان وحدَه مَن يستحقّ أن يُقال له : ( مَرَّ وهذا الأَثَر ) !
يَـا إبراهيم ..
على قدرِ نِيّتك ؛ اتَّسَعت لَـك الأرض ..
فأَنتَ حاضرٌ اليومَ في صلاةِ الأمّة ، و في مناسِكِها ، و في كُلّ لحظةِ التقاء بالبيتِ العَتيق !
لِـخيرِ هَذه الأمّـة و خيرنا ..
أنتَ رَحلـت ..
و اعتَلَيتَ الصَّخرَ ؛ و بَنَيت ..
و كَتمتَ الدَّمع ؛َ و مَضَيت ..
و غادَرتَ العٍراق ؛ و ما جَزِعت ..
و تَركتَ للهِ جارية و طفلاً ؛ و ما انحَنَيت !
لِـخيرِنا ..
تطاوَلَت كَفّكُ ؛ حتى اغتالَت كُلّ أوثانِ الضّلال ..
و رَسَمَت لنا بعدَها ؛ ميلادَ أمـّةَ الهِـلال !
و لِـخيرنا ..
لَـم تنكسرَ نِصفين ؛ أمام هَولِ النـّار !
لِـخيرنا ..
لم تتمزّق أمامَ جَفاف الخَريف ..
و كنتَ كبيراً في حُزنك ، و في سُؤلِك ، و في انتظارِ الرَّبيع !
و اليوم
لِـخيرِنا يـا موطِنَ الخَليل ..
يـا بَقيَّةَ الخَليل ..
ابقَوا على الرِّبـاط ..
ابقَوا على الطريق ..
‏‎
من كتاب على_خطى_إبراهيم
د_كــِفاح_أبوهَنّـود

عطاء دائم
06-22-23, 06:39 AM
{ وليالٍ عشر } ..

‏‎ الَّليلةُ الرابعة

‏‎{ ربّي إنّي أسكنتُ من ذُريتي بِوادٍ غَير ذي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحرّم ربّنا لِيقيموا الصلّاة } ..
‏‎كـَانَ السّاكنُ ولداً واحداً ..
‏‎و كَـانَ الدُّعاء ؛ لِيقيموا " بواو " الجَماعة .. فكيفَ يتَّسِق ذلك ؟!
‏‎كيفَ يَصِحّ أن يودِعَ إبراهيمُ طِفلاً ؛ ثُمَّ يَنوي بِه فِعلَ الجماعة ؟!
‏‎الحقيقة ُ..

‏‎أَّنهُ لم يَكن لإبراهيم ساحِلَ في ُطموحه .. إذ رأى في الرّضيع ؛ فِعلَ أُمّة !
‏‎{ لِيقيموا الصلّاة } ..
‏‎ تُرى هل كانت تُؤرِقُكَ إقامةُ الصّلاة يـا إبراهيم ؛ في هذا الفراغ الهائل من الصّحراء الصامتة ؟

‏‎ بِمن سيُقيمُ إسماعيلُ الصّلاةَ ؟
‏‎ و على أيِّ قِبلةٍ سيتّجه ؟!

‏‎كان إبراهيمُ في دُعائِه ؛ يَنسَكبُ أنهاراً من الفَهم ..
‏‎ كان يُخبّىءُ مكنونَ أُمنية ؛ أن يصّطَفي اللهُ إسماعيلَ لِبناءِ البَيت !
‏‎و يُحّيي به مَواتَ الحَياة ..
‏‎ فتولدُ بِميلادِه خَيـرَ أُمـّة !

‏‎ما أبدعَ القُرآن ..
‏‎إذ تصّطَفُ الحَقائق فيه ؛ لِتُنهي عصراً كانت الأُمنياتُ فيه ضَئيلة !
‏‎إنّهُ يقولُ لك ..
‏‎ ما أوهنَ الذُّريّة ؛ وما أسرع ذُبولها يومَ تكونُ { زينَةُ الحَياة الدُّنيا } !
‏‎و للزّينة مَواسم ..

‏‎ و المواسمُ لا تَدوم !
‏‎ها هو يَقلِبُ التّاريخ ؛ و يصنع زمناً جديداً .. زمناً فيه معنى : { إنّي نَذَرتُ لَكَ ما في بَطني مُحرراً } ..

‏‎و مهمّة جَليلة : { ليُقيمـوا الصّـلاة } !
‏‎و مَقاماً في الحَياةِ رَفيعاً : { و إذ يرفعُ إبراهيمُ القَواعدَ مِن البَيتِ وإسماعيلُ } !
‏‎{ وإذ يرفعُ } ..

‏‎بِيَدٍ تَخّتَزِنُ دُعاء الأبِ الصّالح ، و تتّسع لِقدرٍ إختارها اللهُ لهُ ..
‏‎ " وبياءِ " المُضارع ؛ حتّى كأنَّ الفِعلَ لا زالَ حيَّاً !
‏‎سُبحان الله ..

‏‎أيّ حياةٍ هذه التي لا تَمـوت !

‏‎ حتّى كأنَّ دُعاءَ إبراهيم { رَبِّ اجعلني مُقيمَ الصّلاة و من ذُريتي } ؛ حُفرَ في مَسامِعِ السّماء .. فَلَم يبقَ الا أن تَنهمرُ لهُ السّماء إجابةً و عَطاء !

‏‎من يَقدِرُ ؛ أن يَنوي في الطِّفل القادم غَير فَرح نَفسه ؟!
‏‎ من يَقدِرُ ذلك ؛ يَجمعَ اللهُ له في الطّفل مَدائنَ الأَفـراح !
‏‎مالِحة هي النِيّات ؛ إن لَم تَكُن للغاياتِ الجَليلة ..

‏‎ نَتَجرّعها ؛ و لا نكادُ نُسيغُها !
‏‎و ربّما نَقطِفها ؛ مَثل عُمرِ الوَردِ القَصير ..
‏‎ربّما لم يَلمس إبراهيم يَدَ الصّغير ؛ و لم يُناغِيها ..
‏‎ لكنَّ اللهَ خَبَّأها لهُ ؛ ساعداً شَديداً ترفًعُ مَعَهُ أَعمِدةَ البَيت !
‏‎و يا للمُفارقةِ في التَّعبيرِ القُرآنيّ .. اذ يَصِفُ اللهُ سَريرةَ إبراهيم في إسماعيل بِقولهِ { ليِقيموا الصّلاة } ..

‏‎ و في الإقامةِ ؛ مَعنى رفع البِنيانِ حتّى يكتمل !
‏‎ثُمَّ يَصفُ فِعلَ إسماعيلُ : إذ كَبّر بِقوله { يرفعُ } ، {القَواعدَ} ..
‏‎ فَيظـَلُّ بِذلك { عنـدَ رَبـِّهِ مَـرضيّاً } !

‏‎لَكَأنَّ إبراهيمُ أرادَ من رَبّه طِفلاً لِكلّ العُصور ؛ و كلّ الدّهور ..
‏‎ طفلاً يَكبرُ ؛ فَتكّبُرُ مَعَهُ سَنابلُ القَّمحِ ، و يعرِفُ كيفَ يَنشُر العَبير !
‏‎يَـا إبراهيم ..

‏‎في سَريرتِكَ كُنتَ تصّنعُ لَنا إيقاعاً جَديداً ؛ لا نَعرِفُ عَزفَه ..
‏‎ و كنتَ تُعلّمنا ؛ أنَّ البُطولةَ أنْ تتفَرِدَ في إيقاعِك !

‏‎قيلَ يومـاً :
‏‎{ عُلوًّ في الحَياةِ و عُلوًّ في المَمَات } ..

‏‎وانا أقـولُ :
‏‎إنَّ عُلوَّ النِّياتِ ؛ يَنفي عـن صاحِبِها المَمَات !
‏‎ألا تَسمعُ صَوت زَمزم كَيفَ ظـَلُّ يفـور !

‏‎ألَا تَرى البَيتَ ؛ و هُوَ يَكّتَظُّ بِالحَجيج !
‏‎أَلا تُبصِرُ نَسلَ إسماعيل ؛ يَنساحُونَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميق !
‏‎مَن أرادَ صَهيلَ الخُلود في الملأ الأعلى ؛ فَليركب خَيلَ { كـانَ أُمَّـةً }

من كتاب على_خطى_إبراهيم
د_كــِفاح_أبوهَنّـود

عطاء دائم
06-24-23, 07:19 AM
{ وليالٍ عشر } ..

الَّليلةُ الخامسة

{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ..
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤمر } ..
مابين هذين الموقفين ألفُ تاريخٍ وقصّة .. مابينَ ليلةِ الإعترافِ لإسماعيلَ بِنيّةِ الذَّبح ؛ و بينَ مقام إبراهيم فَتىً بين يديّ أبيه يُناديه :
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مـِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُـونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } !
يالله هل كان يَظنّ إبراهيم بنفسه ؛ أن يَذبح ابناً صالحاً يقول له : { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } !
مَـا فعلها " آزَر " مَعـه !
و يَـا للمُفارقةِ في الأقدار ..
فَعَلى حين هُدِّدَ ابراهيم من أبيهِ بالرَّجم ؛ ها هو إبراهيمُ يَرجم إبليسَ الواقف عَقبةً في طريق ذَبحِ الطّفل الصالح الذي { اشتد َّ} حتى { بَلَغَ مَعهُ السّعي } !
ما الذي يَفعله اللهُ بإبراهيم ؟!
ما الذي يَفعله اللهُ بإبراهيم ؟!
تَتكـرّر المشاهـدُ فـي غَرابـةٍ عَجيبة ..
تدورُ كدوّامةٍ غامضة ..
يتصبّبّ الماضي ؛ عرقاً فـي جَسد الخليل ..
يشتدُّ الخفقانُ المرّ في قَلبه ..
و تتآكلُ قدميهِ مـن شـِدّة المَشـي !
تجفّ الكلمات في حَلقه :
ياهاجر .. كَم مرةٍ سَعَينا مـن أجلِ هـذا الوليـد !
كانت الأولى ..
بيـن الصّفا و المَـروة يـا ولـدي ؛ كَـي نَنِبش لكَ الحَياة !
و في الثّانية ..
نَسعى بكَ بين العَقبات ؛ كَـيْ نُهيّئك للمَـوت !
هل السّعي قَدرٌ لنا ؟
هل الهِجرة و الرِّحلة و السّير حكايتنـا ؟
متى سَتهدأُ الأقدامُ التي أكلَتها تضحيات الطَّـريق ؟
يَـا بُنيّ ..
قُـل لأبيك لا ؛ رُيّما أعتذرُ لك بها عند ربّـي ..
و لا تقلّ يا أبت ؛ِ فثمّة موت يَعتَريني كلّما ناديتَ !
للمرة الألف ؛ يقفُ إبراهيم أمام الإبتلاء وحيداً ..
فَقبلها النّار ، و بعدها النّفي ..
و لكنّها المرة الأولى التي تَرتفع يَدَهُ كي يرجُمَ الشّيطان ؛ حتَـى لا يُوقفه فـي مًنتصف الأمـر ..
ربّما كانت النّار أرحمُ لو عادت بها الأقدار !
تشتعلُ فتائلُ الحـُزن فـي الصّميـم ..
و تشهد له السّماء رغم ذلك ؛ أنّ إبراهيم لم يُراوح بين نعم و لا !
يالله هل يَحتملُ إبراهيم ؛ صَرخة إسماعيل عند الذبح ؟
أما كان يَكفي ؛ صُراخ الرّضيع في وَحشة المَجهول ؟!
فلا زال نَحيبُ ألمها في السُّويداء ؛ لم يَصمِت !
هل جرّبت أنْ لا يبقى بينك و بين إبنك ؛ إلا سِكّينة الذّبح ..
أن لا يَبقى من عُمره ؛ إلا انهمار الدّم ..
أن تَسوقه ؛ كي تَنثالَ على يَديـك قطَـراتُ رُوحـه و هـي تَئـِنّ !
كانت يَدُ إبراهيم تُقاوم اللّجام ..
و كان الإبتلاء ؛ ينثالُ عليه و يُصبُّ صبّاً ..
وكان ملكوتُ الله كلّه ؛ يشهدُ دويّ اللّحظة الأخيرة حين { أسلما و تَلّه ُللجَبين } !
ودّت الشّمسُ ؛ لو تتوقّف عن المَسير ..
و صمتَ الكَـونُ ؛ فقد كان الحَدث فوق طاقة الحياة !
انزَوَت الكائناتُ ؛ قبل أن تنكسر أُرجوحة الصّغير بِيَدٍ كانت تَفيض بالقَمح و السّلام ، و لم تَعرف إلا تكّسير الأصنام !
ماذا يفعلً الله بك يا إبراهيم ؟!
النّجمة التي اشتَهيتُها طويلاً وَوهَبتُها كلَّ الدّعاء ؛ هَـا أنـا أغمِضها للمَـوت ..
و سأُبصر دَمَها كلّ صباح ؛ٍ فـي أطباق الطّعام !
ما بين ليلة المَنام حتى لحظة النّهاية ؛ قَطَعَ إبراهيمُ ألفَ خَطوة بألفِ تَنهيدةٍ و تَنهيدة !
ووحده كان الله يسمع ..
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً } ..
ها أنذا أحتاجُ أن أرتّلها كثيراً ..
أحتاجُ ؛ أن أُقاتل الشّيطان بكلّ حجارة الدُّنيا !
ياللأقدار كيف نُبتلى بما نقول ..
و عند النّهاية قالت الحياة :
( ما ذَنبُ اليَمامة أن تَرى بِعينيها العُشّ مُحترقاً و تَجلس فوقَ الرّماد ) !
لِلمشهدِ بقيّة ..
فالمَقامات عِندَ الله ؛ِ لا تُورَّثُ ..
و لكنّها ؛ تُنـال بِسَبقِ القٌـلوب !

من كتاب على_خطى_إبراهيم
د_كــِفاح_أبوهَنّـود

عطاء دائم
06-24-23, 07:20 AM
{ وليالٍ عشر } ..

الَّليلةُ السَادسة

{ فَلمّا أسلَما } ..
هذه الآية ؛ هي عَرشُ الحَكاية !
{ فلما أسلما } ..
و ارتَدَيا ثِيابَ الخُروجِ من ذَواتِهما .. و َنَزعا حُليّ الحَياة ؛ و تَخلَّصَا كِلاهِما ..
فلا ألوانَ في عَينَيهِما ؛ إلا لون الحَقيقة ..
و أيقَـنَا ؛ ما ثمّ إلا الله !
ما ثمّ إلا هو ؛ كي يَقِلبَ النّار بَرداً وسَلاماً ..
ما ثمّ إلا الله !
هي لحظةُ الإعترافِ ؛ أنَّ الأمر كلُّه لله ، و أنَّ الهَزيمة نَصيبنا ؛ إن أَفلَتنا الحَبلَ المُوصول بالله !
كانَ اللهُ يُعلِّمُنا عبر مدرسة إبراهيم ..
أن لا عَقل ضَرير و لا مشاعرَ مُحايدة مع الله؛ بل هو إيمانٌ أبيض واضح لا مَناطق رَماديَّةَ فيه .. لا مناطق مترددة فية !
إيمان أبيض تماماً كَلونِ ثياب الحَجيج ..
يرى الحقيقة جليّة : أن مـا في الكون إلا الله !
إيمانٌ يَفهمُ ؛ أنَّ المُختارين لصناعةِ الحَياة هم قمم الحياة .. لذا لا بدّ أن تَغسلهم السَّماءُ ؛ فلا يَبقى فيهم شائِبة !
{ أسلَما } ..
هكذا إذن اطوِ نَفسك و استَوطِن أمر الله ؛ حتّى لو كان فيه نَحيبك و صوت وَجعِك !
{ أسلَما } ..
فماذا يَملِكان ؟
إذ لا مَفَرَّ منهُ إلا إليه !
في هُنيهة من الزَّمن ؛ انحنى الألمُ بين يديِّ الله ..
فقد كانت اللَّحظاتُ تَضيقُ وتَضيقُ؛ و لا تَحتملُ دَمعةً أخيرة !
{ أسلما } ..
حتّى أنَّ ذاكرةً بحجم الكونِ لن تُطيق أن تَفهم ؛ كيف َيستسلِم الأبُّ للسِّكين في يدهِ تَنهَشُ رَقَبَةَ الوَلَيد !
{ أسلَما } ..
بيقينٍ أن لا مَدَّ و لا جَزر ، و لا صيفَ و لا شِتاء ، و لا نَقصَ و لا اكّتِمال ؛ إلا بِه !
{ أسلَما } ..
حتّى تَراءى لَهُما أنَّ الأصوات يتيمةٌ بلِا صدىً ؛ إن لم يَنفخُ فيها الله !
و أنَّ الحَطب تهّجُره النَّار ؛ُ إن أرادَهُ اللهُ بلا معنى !
واهمٌ من يظنُّ ..
أن له حولاً أو قوة !
ربّما لأجلِ هذا ؛ أوصى الخَليلُ محمداً في رِحلة المِعراج أن يُعلّمنا : " لا حول و لاقوة إلا بالله " !
كم هو ثَمينٌ ..
أن نرى أسبابَ هَشاشَتِنا ..
أن نفهم أن قيود الحَياة ؛ مـن مالٍ و بنينَ و جـاه ..
هي أغلال الأرض التي تعُرقل صَعُودنا نَحوَ المَجد !
كم هو مُهم .
ٌّ أن نُرمِّمَ أنقَاضَنا ؛ إذا أَردنا أن نَبنِيَ بَيتاً لله !
الأشياء الصغيرة من متاعِ الدّنيا لها جاذبيةٌ مَخفيّة ؛ قد تَسحَبُنا الى أفراحٍ كثيرة ..
لكنّها تَزول !
و الله كان يُريد للمُصطفين حضوراً في الكونِ ؛ لا يَغيب !
هاهو الوقتُ في لحظةٍ من الصِّدق ؛ِ يَتوقَّفُ لا يأتي و لا يَمضي ..
و في لحظة من انبثاقِ إيمانٍ لم تُجرّبه الملَائكة ؛ يُولَدُ الهلال ، و يَكّبُر و يَستدير !
تنفَتِحُ بوابة من النَّعيم ..
تنفجرُ أنهارُ الجنّة ؛ بِغِناءٍ أُسطوريٍّ عَجيب ..
ينطفىءُ لهيبُ السِّكّين ؛ و يُفتدى الذّبيح !
فقد وصلت لحظةُ الوعي ؛ و بَلَغَ الاثنان تَسامٍ عَجيب !
كان اللهُ يعلمُ كل ذلك ..
لكنّه يريدُ ؛ أن يَسمع صوت إبراهيم بالتّسليم !
ثمَّةَ صوت سيمنحُكَ اللهُ إيّاه يا إبراهيم ؛ سيبلُغ كل الآفاق ..
سيأتونك بـه { مِـن كلِّ فَـجٍّ عَميق } ..
صوتٌ لابدَّ أن يُمَتَحَن ؛ كـي يَبلُغَ المقـام !
وتلك ضريبة الاصطفاء ..
وأنّى لكَ يا إسماعيل شَرف الدّهر ؛ إن لم تَترك لله بعض نَفسِك !
أن تتخلّص يا إسماعيل ؛ من مَتاهَة الذّاتِ ، و تكّتشف أنَّ لديك قوّةً ؛ يُمكن أن تُودِعَ بها نقاطَ ضَعفِكَ البشريّة ..
فذاكَ نوعٌ من الإنتصار ؛ِ يَستحقُّ كَبشاً من فوق سَبعِ سّماوات !
كان اللهُ يريدُ لك ؛ زمنـاً بلا حُدود و بلا نهاية ..
و يريدُ أن يُبقيكَ في التّاريخ ..
فقد كنتَ دعاءَ أبيك !
و قديماً في جاهلية عمياء قِيل :
( للبيتِ ربٌّ يَحمِيه ) !
و الحقيقةُ ..
أنَّ للبيتِ أهلٌ تَبنيه ..
يَصطَفيهم حين يُبرهِنون ؛ أنَّهم قاربوا مَرحلَةَ { وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بِكلماتٍ فأتمَهُنّ } !
وهنا يكمن الدرس الخفي ..
و اليوم ( لِلأقصى ) ..
أهلٌ تَحميه و تَبنيه ..
و على خُطى الخَليل و إسماعيل ؛ سَتُعليه !
فهذا زمنُ القَرابين المُباركة للبيوتَ التي ستَرتَفِعُ ؛ فلا تـزول .. لـو تَنتَبِهون !

من كتاب على_خطى_إبراهيم
د_كــِفاح_أبوهَنّـود


SEO by vBSEO 3.6.1