المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾


عبدالله الهُذلي
11-18-23, 08:34 AM
﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]


قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 8 - 10].



﴿ وَمِنَ ﴾ للتبعيض؛ أي: وبعض الناس، وهم المنافقون، ولم يصفهم الله تعالى بوصف لا بإيمان، ولا بكفر؛ لأنهم كما وصفهم الله تعالى في سورة النساء: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 143].



﴿ النَّاسِ ﴾ اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومرادفه: أناسي، جمع: إنسان أو إنسي؛ قال تعالى: ﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ﴾ [الفرقان: 49]، سُمُّوا أناسًا: من الأُنس؛ لأن بعضهم يأنس بعضًا، ويركن إليه؛ ولهذا يقولون: "الإنسان مدني بالطبع"؛ بمعنى: أنه يحب المدنية؛ يعني الاجتماع، وعدم التفرق.



﴿ مَنْ يَقُولُ ﴾ بلسانه، وفي التعبير بـ﴿ يَقُولُ ﴾ في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك غير مطابق للواقع؛ لأن الخبر المحكي عن الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه، وحُكيَ بلفظ ﴿ يَقُولُ ﴾، أومأ ذلك إلى أنه غير مطابق لاعتقاده، أو أن المتكلم يكذبه في ذلك؛ ففيه تمهيد لقوله: ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].



﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾، واقتصروا من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر حيدة منهم عن أن يعترفوا بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أُنزِل إليه، وإيهامًا أنهم من طائفة المؤمنين.



قال ابن عاشور: "وإنما اقتصر القرآن من أقوالهم على قولهم: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 8]، مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، إيجازًا؛ لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها، لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول؛ إذ الإيمان بالله هو الأصل، وبه يصلح الاعتقاد، وهو أصل العمل، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها، وفيه صلاح الحال العملي، أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول؛ لأنهم لغلوِّهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ استثقالًا لهذا الاعتراف، فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر؛ إيهامًا للاكتفاء ظاهرًا، ومحافظة على كفرهم باطنًا؛ لأن أكثرهم وقادتهم من اليهود.



﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]؛ أي: بقلوبهم، وفيه أن الإيمان لا بد أن يتطابق عليه القلب، واللسان، ووجه الدلالة: أن هؤلاء قالوا: "آمنا" بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم؛ فصحَّ نفي الإيمان عنهم؛ لأن الإيمان باللسان ليس بشيء.



﴿ يُخَادِعُونَ ﴾ الخداع: قيل: إظهار غير ما في النفس، وأصله الإخفاء، ومنه سُمِّي البيت المفرد في المنزل مَخْدَعًا؛ لتستُّر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه الأخْدَعان: وهما العِرْقان المستبطنان في العنق، وقيل: الخداع أن يُوهِمَ صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه.



والخداع فعل مذموم إلا في الحرب، والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع، وهو مذموم أيضًا؛ لأنه من البَلَهِ، وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة - إذا كانت غير مضرة - فذلك من الكرم والحِلْمِ.



وفي الحديث النبوي: ((الْمُؤْمِنُ غِرٌّ – ساذج - كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ))؛ [أبو داود]؛ أي: من صفات المؤمن الصفح والتغاضي، حتى يُظَنَّ أنه غِرٌّ، ولذلك عقبه بكريم؛ لدفع الغِرِّيَّةِ المؤذِنة بالبَلَهِ؛ فإن الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي، وطمس البصيرة؛ ألَا ترى إلى قوله: ((والسعيد من وُعِظَ بغيره))، مع قوله: ((لا يلدغ المؤمن من جُحْرٍ مرتين))، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله، وأما معنى المؤمن غر كريم، فهو أن المؤمن لما زَكَتْ نفسه عن ضمائر الشر وخُطُورِها بِبَالِهِ، وحمل أحوال الناس على مثل حاله، فعرضت له حالة استئمان تشبه الْغِرِّيَّةَ، فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي، ورقة القلب، فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.



﴿ اللَّهَ ﴾ مخادعة المنافقين اللهَ تعالى هو من حيث الصورة، لا من حيث المعنى؛ من جهة تظاهرهم بالإسلام الذي يعصمون به دماءهم وأموالهم، وهم مبطنون للكفر، قاله جماعة، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته، فظنوا أنه ممن يصح خداعه.



ومخادعة الله لهم؛ حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين، واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام، وإن أبطنوا خلافه.



﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ﴾ بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي؛ لأن الْمُضِيَّ يُشعِر بالانقطاع، بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة.



﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وفي مخادعتهم للمؤمنين فوائدُ لهم من تعظيمهم عند المؤمنين، والتطلع على أسرارهم، فيغشونها إلى أعدائهم، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية، وغير ذلك، وما ينالون من الإحسان بالهدايا وقسم الغنائم.



﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ﴾، وما ينفذ سوء الخداع إلا على أنفسهم؛ حيث منَّوها الأمانيَّ الكاذبة، فالحصر هنا يدل على أن خداعهم هذا لا يضر الله تعالى شيئًا، ولا رسوله ولا المؤمنين.



﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]؛ أي: يفطَنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجَوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا؛ وفي الآخرة يُقال لهم: ﴿ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ﴾ [الحديد: 13].



قال أهل اللغة: الشعور: إدراك الشيء من وجه يدِقُّ، مشتق من الشَّعر، والإدراك بالحاسة مشتق من الشِّعار، وهو ثوب يلي الجسد، ومشاعر الإنسان حواسه.



وقيل: شعرت بالشيء؛ أي: فطِنت له، ومنه الشاعر لفطنته؛ لأنه يفطَن لِما لا يفطن له غيره من غريب المعاني، ومنه قولهم: ليت شعري؛ أي: ليتني علمت، تُقال في التحير في علم أمر خفيٍّ، ولولا الخفاء لَما تمنى علمه، بل لعلِمه بلا تمنٍّ.



وفيه أن العمل السيئ قد يُعمي البصيرة، فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]؛ أي ما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم، و"الشعور" أخصُّ من العلم؛ فهو العلم بأمور دقيقة خفية؛ ولهذا قيل: إنه مأخوذ من الشَّعر، والشعر دقيق، فهؤلاء الذين يخادعون الله والرسول والمؤمنين لو أنهم تأملوا حق التأمل، لعَرَفوا أنهم يخدعون أنفسهم، لكن لا شعور عندهم في ذلك؛ لأن الله تعالى قد أعمى بصائرهم والعياذ بالله، فلا يشعرون بهذا الأمر.



﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ هذه الجملة جملة اسمية تدل على مُكْثِ وتمكُّن هذا المرض في قلوبهم، ولكنه مرض على وجه قليل أثَّر فيهم حتى بلغوا النفاق؛ ومن أجل هذا المرض قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ فالفاء هنا عاطفة، ولكنها تفيد معنى السببية: زادهم الله مرضًا على مرضهم؛ لأنهم - والعياذ بالله - يريدون الكفر، وهذه الإرادة مرض أدى بهم إلى زيادة المرض؛ لأن الإرادات التي في القلوب عبارة عن صلاح القلوب، أو فسادها، فإذا كان القلب يريد خيرًا فهو دليل على سلامته، وصحته، وإذا كان يريد الشر فهو دليل على مرضه وعلته.



قال الجنيد: "عِلَلُ القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن".



وقد تلخَّص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضًا؛ وهي: الرين، والزيغ، والطبع، والصرف، والضيق، والحرج، والختم، والإقفال، والإشراب، والرعب، والقساوة، والإصرار، وعدم التطهير، والنفور، والاشمئزاز، والإنكار، والشكوك، والعمى، والإبعاد بصيغة اللعن، والتأبي، والحمِيَّة، والبغضاء، والغفلة، والغمزة، واللهو، والارتياب، والنفاق.



وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معانٍ تحصل في القلب فتغلب عليه، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد والحسد، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار.



﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾، وزيادة المرض إما من حيث إن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئًا فشيئًا؛ وإلى هذا أشار بقوله تعالى: ﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾ [النور: 40]، أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهمِّ، بما يجدد الله سبحانه لدينه من علو الكلمة ولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر، أو لِما يحصل في قلوبهم من الرعب، وإسناد الزيادة إلى الله تعالى إسنادٌ حقيقي.



وفيه أن المعاصي والفسوق تزيد وتنقص، كما أن الإيمان يزيد وينقص.



وأن الإنسان إذا لم يكن له إقبال على الحق، وكان قلبه مريضًا فإنه يعاقب بزيادة المرض، وهذا المرض الذي في قلوب المنافقين شبهات، وشهوات؛ فمنهم من علِم الحق، لكن لم يُرِدْه/ ومنهم من اشتبه عليه؛ وقد قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 137]، وقال تعالى في سورة المنافقين: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3].



وفيه أن أسباب إضلال اللَّهِ العبدَ هو من العبد؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وقوله تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49].



﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ ﴾ عقوبة ﴿ أَلِيمٌ ﴾ أي مؤلم؛ فهو شديد، وعظيم، وكثير؛ لأن الأليم قد يكون مؤلمًا لقوته، وشدته، فضربة واحدة بقوة تؤلم الإنسان، وقد يكون مؤلمًا لكثرته، فقد يكون ضربًا خفيفًا، ولكن إذا كثُر وتوالى، آلَمَ، وقد اجتمع في هؤلاء المنافقين الأمران؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار، وهذا ألم حسي؛ وقال تعالى في أهل النار: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [السجدة: 20]، وهذا ألم قلبي يحصل بتوبيخهم.



﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، فالعقوبات لا تكون إلا بأسباب؛ أي: إن الله لا يعذب أحدًا إلا بذنب، وفيه ذمُّ الكذب، وأنه من أقبح الخِصال.

أوتار الأمل
11-18-23, 09:27 AM
:
جزاك الله خيرا
وجعله لك في ميزان حسناتك
دمت برعاية الله ..
...:رحيق:..

عطاء دائم
11-19-23, 07:13 AM
جزاك الله خيرا وتقبل منا ومنكم صالح الاعمال
يعطيك العافية اخي
يختم ل3ايام مع التقييم


SEO by vBSEO 3.6.1