المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجد والجدة


ربيع الحياة
11-28-15, 09:22 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهما كذلك ـ والله ـ فعلاً ولا ريب، الجد والجدة نور البيت وبهجتُه وفرحتُه، نورٌ على نور، فمن اجتمع له النوران فهنيئًا له الضياء وهنيئًا له السناء، إنهما أصل الأسرة، وإليهما ينتمي الأحفاد، وتلتف حولهما القلوب، وتستدفئ بحنانهما الصدور، (نور البيت) نور له أصل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ: إِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ ) حَدِيثٌ حَسَنٌ.

هذا تمهيد أدلف به إلى عشر وقفات:
أما الوقفة الأولى: فحقوقهما، فإن لهما من الحقوق ما للأب والأم الأقربَين، بل إن من وجهة نظري أنهما ربما كان البر بهما مضاعفًا حيث يجتمع في ذلك ثلاثة أمور أساسية:
ـ أولها: أنهما والدان، والله تعالى يقول: (وبالوالدين إحسانا).
ثانيهما: أن ببرهما تبر والديك، لأن البر بالأجداد يسر الآباء، فاجتمع بران في بر، والحمد لله على فضله!
ثالثهما: أنهما بلغا من العمر ما بلغا، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالكبير فقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا) رواه الترمذي وحسّنه..
ومن الإحسان إليهما أيضًا: صحبتهما بسفر أو نزهة إذا كانا قادرين على ذلك، من باب الترويح عنهما، وخصوصًا حينما يكون ذلك إلى أداء عمرة أو حج.

الوقفة الثانية: إن وجود الجدين في الأسرة يمنح الأحفاد شعورًا بدفء الحنان وغزارة المشاعر، لما يجده الأحفاد من الحب والألفة، وما ذاك إلا لما يتزين به كثير من الأجداد بالحلم والأناة والصبر وطيب الخاطر، أسوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أكرم الأجداد قاطبة ـ بأبي هو أمي ـ عليه الصلاة والسلام، فماذا كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم بحفيديه الكريمين الحسنِ والحسين رضي الله عنهما، إن من ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه وهذا على عاتقه وهو يلثم -أي يقبل- هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا، فقال: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني).

وعند أبي يعلى من طريق عاصم بن زر عن عبد الله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فإذا قضى الصلاةَ وضعهما في حِجره، فقال: مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ ) .


أما التفصيل فإني أرى للوالدين أثر بالغ في التربية، فتوجيههما في الغالب يلقى استجابة سريعة وقناعة من الأحفاد، لأنه في الغالب يصدر عن هدوء وأسلوب رفيق، بعيد عن الغلظة والشدة، وكلما ابتعد التوجيه عن الترهيب كلما كان أثره أبلغ وأسرع وأبقى، أما إذا رأى الوالد أن عطف الجدين زائد يصل إلى حد التدليل السلبي الذي يميل بالولد عن طريق الجد والتحصيل والاستقامة، فإن للوالد أن يوصل رسالته للجدين بكل رفق وأدب واحترام، مبينًا بعض الآثار المترتبة على هذا التعامل، ومذكرًا لهما مكانتهما في نفسه وأولاده، وبالمقابل يوصل مثل هذه الرسالة إلى أولاده، من دون تقليل من شأن توجيه الجدين، بل مع غرس لاحترامهما وتبجيلهما.

الوقفة الثالثة: إن وجود الجدة والجدة في البيت درس عملي للبر والإحسان، فالأحفاد يرون بشكل مباشر ماذا يصنع الآباء بوالديهم، يسجلون المواقف في ذاكرتهم، ويحللونها، ويوازنون بين أقوال الوالدين ـ في البِرِّ ـ وأفعالهم، وكما تدين تدان، والحكايات التي تروى في هذا الشأن كثيرة، تعيد المواقف نفسها، أو أصحابها يعيدونها !!

الوقفة الرابعة: على الوالدين ألا يتفردا ببر الجدين، بل عليهما أن يشركا أولادهما معهما في هذا الخير، ليوطنوهم على الإحسان إليهما، وحتى لا ينفروا من خدمة الكبير التي في الغالب تحتاج إلى مهارة عالية في التعامل والتمريض أيضًا، وحتى إذا صرفت الصوارفُ الأبناءَ عن برهم للجدين، كان الأحفاد قد تمرسا على ذلك، فيقومون بهذا الدور الجليل.

الوقفة الخامسة: وجود الجدة والجد في البيت، هو فرصة رائعة لنقل الخبراتِ المتوارَثةِ والمتراكمةِ عبر الأجيال، واختصارٌ لمسيرة إرثها، في تدبير الأمور، وإدارةِ الأزمات، والتعامل مع الشخصيات، والبيع والشراء، والعاداتِ والتقاليد والأعراف، فالجدان شخصيتان مرتا على ظروف متنوعة، فأكسبتهما الخبرةَ العميقة، وعلى الأولاد والأحفاد استثمارها وعدمُ التفريط فيها، ويكون ذلك بالمخالطة والمجالسة والسفر والصحبة في أزمنة وأمكنة وظروف مختلفة.

الوقفة السادسة: الجدان في المنزل صمام أمان للتمسك بالسمت والفضائل والأخلاق النبيلة، فلقد رأيت كم يهاب الأحفاد أجدادهم أكثرَ من والديهم ـ أحيانًا ـ حينما يعزمون على فعلٍ تأباه القيم، وترفضه المروءة، وهذا باب جليل القدر، لو تنبه له الوالدان فاستثمراه لفازا بثمره فوزاً عظيمًا، وهو التكامل التربوي بينهما وبين أولادهما، ولا ينقص ذلك من قدر الوالدين الأقربين مثقالُ ذرة أمام أولادهما، بل هي سلسلة عتيدة يمسك بعضها بعضًا، ترث الفضيلة أبًا عن جد.

الوقفة السابعة: الجدَّان..نور البيت، خيمة ظليلة على جميع أفراد الأسرة، بندائهما تجتمع النفوس، يتصدران الإصلاح بين الأولاد وأحفادِهم في حال الخلاف، وتغلق أبواب الفرقة، وتموت الفتنة في مهدها.

الوقفة الثامنة: أدرك الجدان المعاصران حياة التقنية التي لفّتنا في ليلنا ونهارنا، وفي نومنا وصحونا، والأولاد هنا يجب أن يدركوا أنه لا يصح أن ننشغل بهذه التقنية في برامجها التواصلية المذهلة عن واجب الوصل لأجدادنا، وخصوصًا حينما نكون بين أيديهم، وخصوصًا ـ أيضًا ـ حينما يكونا في غربة واقعية عن تقنيتنا !! فكم يحزننا أن نرى الأحفاد ناكسوا رؤوسهم عند أجهزتهم، هم في واد والجدَّانُ في واد آخر، ثم يحسبون لأنفسهم الزيارة والبر والإحسان! لقد أعجبتني تلك الجدةَ التي وضعت سلة بجانب الباب عند الدخول عليها، وكتبت عليها: (يا بني: ضع جوالك هنا..ثم تفضل بالدخول !)، ليكون بكليته إلى محياها، فإما لي، وإلا فأنت في حلٍ من زيارتي، هكذا كأنها تقول، ولله درها من جدة مربية، وإلا فأين أدب الإنصات والإصغاءِ والقرب والإدناء، فكم دنت منك ومن أبيك وأمك! فليس حقهما عليك البعدُ والانشغالُ والهِجران.

الوقفة التاسعة: إن البيت الذي يعيش أفراده مع جدين، حتمًا سيرى أفراده كيف هي دائرة الحياة العجيبة، التي حكاها الله تعالى بقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، يرى الحفيد كيف سيؤول إلى هذا الضعف من بعد قوته فلا يطغى بصحته وفتوته لأنه حتما إلى هذ المآل من الضعف والشكوى، فيعود المرء كما بدأ، (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ )، نعم..أفلا يعقلون، وهم يرون بأم أعينهم كيف ستدور عليهم الأيام دورتها كما دارت على هذين الجدين الحبيبين، فتجعل من بعد قوتهم ضعفًا وشيبة، ثم المآل إلى الله تعالى، فمرحلة الشيخوخة لا تعقبها إلا الآخرة، فيا لها من عظة ما بعدها عظة.

الوقفة العاشرة والأخيرة: كان الله في عون كل بيت عُمرت زواياه بالجدين الكريمين، أو بأحدهما، ثم فجأة، غاب القمر، وغربت الشمس، أي خسوف هذا الذي حصل، وأي كسوف حلّ! الذكريات، والحكايات، والابتسامات، والنظرات الحنونات، رحلت، ورحَلتْ معها القلوب، ومضت، وبقيت لنا الدعوات، فيا من ودع له جدة أو جدًا، تذكره بالاستغفار والدعاء له بالرحمة والمغفرة، وبرِ أصحابه، والتصدقِ عنه، واذكره بالخير، والعملِ بما أوصاك به من العمل الصالح، فإنَّ له مثل أجرك.
لقد رثا أخي د.محمود بن سعود الحليبي جدي ـ رحمه الله ـ بأبيات تفيض شجى، اخترت منها:

جداه..جداه..واجداه جداه --- وحلّقتْ عن دنايا الأرضِ عيناهُ
واستعبرتْ بالأذانِ الحرِ مئذنةٌ --- كانت تسامره واليومَ تنعاهُ
وأقفرَ البيتُ بعد الشيخ وانطفأتْ --- أنوارُ أُنسٍ تنامت في زواياه
وراح جدي، ولاحتْ للغروب يدٌ --- تحثو على القبر تبرًا حين واره
مات الذي إن دنا منك امتلأتَ هدىً --- وإن نأى أسعدتْ جنبيك ذكراهُ
حياته صفحةٌ بالخير عاطرةٌ --- ليهنأ الموت، مِسْكًا قد وهبناه
وراح جدي وصاحتْ في النخيل أسى --- فسيلةٌ كم سقتها الحبَّ كفاه
لا..لا تلمها، فراق الشيخ قاصمةٌ --- ما أفظعَ البين يا خلي وأقساه
فارحم إلهي فقيدًا سُلَّ من دمنا --- واجعل جنانَك مثوانا ومثواه([1])

أسأل الله تعالى أن يمد أعمار أجدادنا على الطاعة والصحة والعافية، وأن يعيننا على برهم والإحسان إليهم، وأن يغفر لمن توفاه الله منهم، فإن الله غفور رحيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحيه أجمعين.
كتبه: د.فيصل بن سعود الحليبي


---------------------------------------
([1]) القصيدة كاملة في ديوان (تقولين) لأخي د.محمود بن سعود الحليبي.

7moOod
11-28-15, 09:47 PM
وراح جدي وصاحتْ في النخيل أسى --- فسيلةٌ كم سقتها الحبَّ كفاه
لا..لا تلمها، فراق الشيخ قاصمةٌ --- ما أفظعَ البين يا خلي وأقساه

قد انتطفئ النورين من عيني
وبقى نورهم في قلبي متربعا مأبدا

مقال جميل جداً
فعلاً الجدين لهم الفضل الكبير
بعد الله في زرع الكثير من القيّم
والمبادى والأدآب فينا
رغم بساطتهم وتمسكهم بعقدهم
إلا أنهم يرسمون لنا الجميل
ويبدعون في تربيتنا
ويحبون إجتماعنا

حفظهم الله لمن هم عنده
ورحمهم لمن رحلوا عنه
اللهم آمين


رآقت لي الأبيات كثــيراً
أبيات قمّة في الروعهـ

يعطيك العافية ع الاختيار المميز

:ورد: تحيـاتي :ورد:

ناشي الغيم
11-30-15, 03:44 PM
يعطيك العافية أخوي
ربيع الحياة
طرح جميل ومتميز
تقبل مروري

جَســـــوُرْ..،
12-04-15, 09:41 AM
طرح جدا راقي ، و رحمهم الله ،

تحيتي ،


SEO by vBSEO 3.6.1