المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقلانية


حسين سلطان
06-28-18, 11:06 AM
لم يكن بإمكان العقل البشري أنْ يتجاهل المساءلة المُلحّة التي تفرضها عليه طبيعة الوجود من حيث هو الوجود الواقعي لهذا العالم من حوله بكل تعقيداته ذات التماسك والإتساق ، والوجود الإنساني في حدّ ذاته وما ينبني على ذلك من تفاعل يتسم بالدقة والا نضباط لدرجةٍ تلغي توهم احتمال الفوضى والمصادفة والاعتباطية .

من هنا بدأ العقل البشري في وضع مجموعة من الأجوبة تسعى إلى ( عقلنة العالم ) بمعنى تحقيق تصور منضبط يفسر الوجود بمعناه الشامل .

لكنّ الأمر لم يكن ليقف عند هذا الحدّ ، بل تجاوزه لينتقل النظر إلى مساءلة هذه الأجوبة ذاتها ؛ ذلك أنّ هذا الأجوبة جاءت مختلفةً ، بله متضاده في كثير من الأحيان تبعاً لاختلاف أو تضاد منازعها وآلياتها التي أنتجتها . وفي هذا دليل بيّن على عدم كفاية العقل البشري للقيام منفرداً بتحقيق معرفة حقيقية كليّة لهذا الوجود .

وخارطة المشروع الفلسفي الغربي داعمةٌ لهذا الزعم بكل وضوح ، فرغم القواسم المشتركة العريضة التي تجمع أعلام المدارس الفلسفية الغربية = وأقصد بها الشراكة في بيئة فكرية واحدة إجمالاً وميراث فلسفي مشترك وهذا من جهة العموم مع الاعتراف ببعض الفوارق التي تكاد أن تكون ثانويةً
= برغم كل هذا نجدها خارطةً فلسفية تلونها مظاهر التضاد والتناقض برغم اتحاد الموضوع المنظور والحقل الذي يتم عليه الاشتغال الفلسفي .

فالذي سبب هذا الاختلاف في تحديد أجوبة الأسئلة الوجودية الكبرى هو تحديد المنطلقات والمرتكزات التي تنبني عليها المعرفة فخرج المشكل من كونه أنطولوجيا إلى كونه إبستمولوجياً !

أي من مشكلة الوجود إلى مشكلة المعرفة كمعضلة فلسفية أولى بالتحقيق ..
ومن له أدنى دُربة في معالجة قضايا الفلسفة الغربية يجد أن العقلية الفلسفية الغربية وفي جيل واحد تحمل أطياف مدارس متناقضة ، وقد يكون هذا صحيا من جهة تفعيل الحراك الفلسفي ، غير أنّ الخطورة تكمن في تعلق هذا الاختلاف بأهم ما يخص الوجود الإنساني وهو سرّ خلقه ، والمهمة التي كُلف بها .

فالبحث الفلسفي دائرٌ منذ القدم على التساؤلات الوجودية الكبرى والبحث عن إجابة لمعنى الوجود الكلي ، ولكنّ التصورات جاءت انطلاقاً من فهم يحمل خصائص معرفية متباينة
ولذلك تجد كما هو الحال في مدارس العصر الحديث أنّ التأملات التي أنتجت : ديكارت وسبينوزا ولَيبنتز ثم كانت هي ذاتها التي أنتجت : هوبز وبيكون ولوك وهيوم ثم نيتشة وهايدغر وفوكو ودريدا !!


والذي نعتقده أنّ المساءلة الوجودية الكبرى الساعية لتحقيق معرفة فلسفية لكُنه الموجودات وطبيعة عملها تتوزع بين محورين :
1- محور الغاية
2- محور الماهيّة

وحين نتأمل التعليل الثلاثي القديم للوجود بـ علة المادة وعلة الآلة وعلة الغاية نجد أننا نستطيع أن ندرج العلتين الأوليين في محور الماهيّة بناءً على التقابل الوظيفي الذي يحكم تصورنا الإسلامي للوجود ، وأما محور الغاية أو العلّة الغائية بتعريف القدماء فهي نقطة حاسمة في تثبيت نظرية معرفية صحيحة وشاملة ، فهي قطب الرحى في مسألتنا هذه ، والقاعدة التي ترجع إليها أفراد المباحث المطروقة في هذا الباب .

فمحور الغاية إذن هو بمعنى العلّة من الوجود ، ولأي شيئ خُلق . وتحرير نظام معرفي بناءً على ضوء هذه الغاية هو السبيل الأوحد لتحقيق منهج معرفي صحيح ، وكلما كان حظ العارف به أوفر كانت معرفته بالوجود من حوله ، وبطبيعة ذاته أصوب ، فالعمى عن علّة الخلق الوحيدة مُشرعٌ أبواب العلل الأخرى على مصاريعها ومؤذن بوفرة الأجوبة المتناقضة ، خاصة وان مذاهب الفلاسفة تتغيّا استكناه الأوصاف والكشف عن العلل وهو مسلك يحتاج في كثير من أفراده إلى استحضار علّة الخلق .


أهم المدارس الفلسفية / الفكرية التي أثرت في العصر الحديث

جناحا الفكر الحديث :

يكاد الفكر الحديث ان يكون عبارة عن تجاذب بين مدرستين فكريتين، ولذا يرى الكثير من مؤرخي الفلسفة الحديثة أن بقية المدارس لا تخرج عن كونها تنويعات فكرية على إيقاع هذا التجاذب بينهما
وهما :

المدرسة العقلانية .. والمدرسة التجريبية

وسنبدأ بالعقلانية ، فالتجريبية كانت ردة فعل على هيمنة البعد العقلاني في الفلسفة وسعي لدحض مزاعمها وتفنيد حججها ، وإن كنا لا ننكر ماجاءت به التجريبية من أفكار أصيلة بذّت بها خصومها ، وأبدعت مبادئ كان لها أعظم الأثر في تطور مسيرة العلوم الطبيعية .


العقلانية :

رغم شهرة هذا المصطلح وكثرة تداوله بين المثقفين التنويريين وغيرهم ؛ إلا أن ثمت خلطاً في فهم الكثيرين له ..
قلة هم الذين يجيدون تحرير هذا المصطلح فلسفياً ، ولذلك تجد له استخدامات كثيرة ومتناقضة غالباً.

وكي نحرر مصطلح العقلانية فلسفياً لا بد أن نقسمه إلى مفهومين :

أولاً : العقلانية بمفهومها العام :

وهي بهذا المعنى يُقصد بها فحص جميع المقولات والأحكام بواسطة العقل أولاً دون الالتفات إلى مرتكزاتها خارج التعليل العقلي أو الحسي .. بمعنى : لا عصمة لمنظور يشتغل عليه العقل ، والنتيجة لا عصمة إلا للعقل .

وبهذا المفهوم العام كان يطلق وصف ( العقليّة - العقلانيّة ) على المذاهب التي تعارض بدعوى حكم العقل كلَّ الغيبيات دينيةً كانت أو أسطورية أو تاريخية الخ ..
ولذلك تجد وصف عقلاني بهذا المفهوم سمة لكل المعارضين في زمن الانقلاب على الوصاية الكنسية للإكليروس ، وكان الغالب على هؤلاء الإلحاد وإنكار وجود الخالق .

وبسبب عموميّة الإطلاق نجد منهم من كان يوصف بـ العقلاني بالمفهوم العام والتجريبي با لمفهوم الخاص ! .

وفي الفكر الإسلامي نجد إطلاق وصف العقلانية - العقلية على مذهب أو فردٍ ما داخلاً في هذا المعنى العام ، ذلك أن اي مذهب يقوم على تقديم العقل على النقل في الفكر الاسلامي فهو مذهب عقلي


ثانياً : العقلانية بمفهومها الخاص :

مراد الفلسفة الأسمى الذي تسعى إليه هو نشدان الحقيقة وتحقيق المعرفة ، وهذا يتم عن طريق البحث عن الحقائق الثابتة للظواهر الوجودية والمعرفية بكافة أشكالها .

ولكن ..
أيّ نوع من من المعرفة تبحث عنه ؟
بمعنى : ما هو المعيار الذي على أساسه يصدُق على مُعطى ما وصف ( المعرفة )
وبخاصة من وجهة نظر المذاهب العقلانيّة ؟

إن أهم ما نجده في هذا الصدد هو : التفريق بين ما يصح أن يكون معرفةً ومالا يصح أن يكون معرفة ، وهذا تفريق حاسم وجوهري من أجل فهم المذهب العقلاني وتحريرمصطلحه فلسفياً .

فالمعرفة لا بد أن تكون مساوية للحقيقة ، بمعنى : أن الاشتغال الفلسفي العقلاني لا بد أن يكون على تحديد المعارف ذات الصحة ( المطلقة ) التي لا يجوز عليها أن تكون قابلةً للخطأ والصواب
فالموضوعات الحقيقية للمعرفة لا بد أن تكون متصفةً بالثبات لا التغير ، والمطلقيّة لا النسبيّة ، أو بحسب المعيار الديكارتي تجاوزاً ( الوضوح والتميّز )

ولذلك نجد عند رائد العقلانية أفلاطون تمييزاً حاسماً بين المعرفة والمعتقد ؛ وهو التمييز الذي رسّخ ملمحاً هاماً من ملامح المذهب العقلاني بمعناه الاصلاحي الخاص .

ونتاج التقسيم هو : تحديد صنفين من القضايا :
1- قضايا معرفية
2- قضايا اعتقاديّة

فالقضايا المعرفيّة تتميز بكونها حقيقية وصادقة ، أما القضايا الاعتقاديّة فهي احتماليّة ؛ لأنها قد تكون موافقة للواقع ليس إلا .

وقد أحدث هذا التفريق الحاسم بين المعرفة والعقيدة نشوء مذاهب فكرية شكيّة وأخرى دوغمائية
وعلى سبيل المثال يقول الفيلسوف اللاهوتي الدنمركي الوجودي ( كير كيغارد ) : " جوهر الدين ليس الاقتناع بحققيقة العقيدة ، وإنما الالتزام بموقف يتأصل فيه العبث ، الذي يسبب نوعاً من الإهانة . فنحن نكتسب هويتنا من خلال تصديقنا لشيئ ينتهك عقولنا بشدة .. ولكي نوجد ينبغي علينا أن نصدق شيئاً يصعب بشكل مروّع تصديقه .. ذلك هو الانعطاف الوجودي الذي يربط الايمان بالهويّة وليس بالدليل البرهاني " أهـ .

لذلك تجد أن عراب الفلسفة العقلانية أفلاطون يحاول تثبيت المعرفة بشكل مطلق ، بمعنى تحديد خواص جوهرية لا عرضية تمثل ما يمكن للإنسان معرفته أو العلم به ، بحيث لا يكون من الممكن بناءً على هذه الخواص أن يختلف النظر العقلي إلى هذه المعطيات بين عقل وآخر وهذا معنى قولهم ( المعرفة ضرورية )
وعليه فإذا كان للمعطيات المعرفية خصائص حقيقية ثابتة فلا بد أن تكون الآلية التي أكتشف بها هذه الحقائق ذات طبيعة موائمة لها !

فالحقائق التي يسعى لإدراكها العقل البشري من وجهة نظر عقلانية ثابتة لا تتغير بالنسبة لجميع العقول وفي كل الأحوال ، وهذه خاصية تمتاز بها المعارف ولا تمتلكها المعتقدات من وجهة نظر عقلانية . ويستشهد أفلاطون في محاوراته على هذا المعنى بأننا نجد في الواقع اعتقاداً معيناً تختلف فيه وجهات النظر ؛ فقد يراه بعضهم خيرا ويراه بعضهم شرا ، وقد يكون الشيئ صحيحاً في ذاته ونجد من ينكره ! ..
فهل العلة في الشيئ المعلوم نفسه ؟
الجواب بالتأكيد .. لا
إذن فالسبب في هذا الاختلاف هو اختلاف الطرائق والآليات التي تم عن طريقها اصدار هذين الحكمين المختلفين ..
تُفهم هذه الفكرة بشكل أوضح عند الرجوع إلى مفهومي : العرَض والجوهر
فالجوهر خصائص ثابتة ، والعرض أوصاف متغيرة ، فمثلاً لو أخذنا من وجهة نظر افلاطون مفهوم ( الجمال ) فإننا نجد مفهومين :
- الجمال بالمعنى الفردي المتعين
- والجمال بالمعنى الكلي

فليلى - وما أهلكنا غيرها - جميلة في نظر قيس ، وقد تكون قبيحة في نظر دنجوان !
فالجمال عند تعيينه يكون معتقداً تختلف فيه وجهات النظر ، ولكن الجمال كمعنى كلي غير متعيّن في أفراده محل اتفاق بين كل العقول السليمة ..

إذن -من وجهة نظر عقلانية - لا يصح أن يكون موضوع البحث الفلسفي هو جمال ليلى ( المعينة )
بل يجب أن يكون متعلق البحث الفلسفي العقلاني هو ( الجمال كفكرة عامة وكلية )
فهو معطى معرفي ثابت لا يمكن تغيره وهذا الذي لا بد أن تشتغل عليه المعرفة الحقيقية من أجل تحديد معرفي صحيح وعقلاني
وثمت مثال آخر نجده عند رائد العقلانية بعد افلاطون الفرنسي ( رينيه ديكارت ) وهو المثال الشهير بمثال الشمع :

فلو أخذنا قطعة شمع مثلاً من خلية نحل لوجدنا أن بها طعم عسل ، ولها رائحة النبات ، ولها لون يدركه البصر ، ولها حجم ، ولها ملمس ندرك به كثافة جرمها وصلابته .. ولكن ما أن نترك قطعة الشمع هذه بجانب النار حتى تتلاشى كل هذه الأوصاف ( الأعراض ) فسوف تذهب رائحتها ، ويختلف طعمها ، ويزداد حجمها ، وتستحيل من جامدة باردة إلى حارة مائعة .

إذن فمن غير المجدي أن يتعلق البحث المعرفي بهذه الأوصاف غير الثابتة ؛ لأنها بتغيرها لا يمكن أن تؤسس معرفة حقيقية ثابتة !

لذلك يبحث العقلانيون عن حقيقة ثابته نستطيع ان نبني عليها معرفتنا بهذه القطعة من الشمع
وعليه يقترح ديكارت أن تكون ( خاصية الامتداد ) التي تمثل حقيقة جوهرية ثابتة .
فالذي لا يمكن أن يتغير من حقيقة الشمع عندما يكون قريبا من النار هو انه شيئ متمدد بأبعاد التمدد الثلاثة : الطول والعرض ، والعمق ، وهذا التمدد قد يأخذ ما لا يحصى من الأشكال الهندسية التي لا يمكن أن يحيط العقل بها مسبقاً ، ولكنه يدرك في جميعها خاصية الامتداد !



بهذا التحديد لطبيعة المعرفة عند أبرز اسمين للمدرسة العقلية : إفلاطون - ديكارت وهذا الأخير مرحلة مفصلية في انتقال المنهج العقلي من الكلاسيكية إلى العصر الحديث ونتاجه أكثر ثراءً من سابقه
أقول بهذا التحديد نستطيع ان نحرر المصطلح العقلاني فلسفياً بمعناه الخاص وفق الآتي :

أولاً : المواضيع الحقيقية للمعرفة ذات خصائص جوهرية وهي كما مر معنا معاني ( كلية عقلية )
أو بمعنى آخر ذات طبيعة تجريدية عقلية محضة .

ثانياً : المعاني المجردة الكلية لا يمكن إدراكها إلا بطريق العقل ، فهي معاني عقلية محضة ، والعقل مزود بالقدرة على إدراكها .

ثالثاً : ماتدركه الحواس الخمس ( السمع البصر اللمس التذوق الشم ) هو الأعراض لا الخصائص الجوهرية العقلية ، فالمعقولات من عمل العقل ، والمحسوسات من عمل الحس .
وعليه فالعقل مستقل بإدراك المعرفة بمعزل عن الحواس بما يمتلكه من خواص، بل وصل الأمر إلى رفض الحواس كطريق مأمون للمعرفة ومن باب أولى الطرق الغيبيه كالوحي والالهام الخ ..

الكــــايـــد
06-30-18, 03:51 AM
`


شكراً من القلب النقل الرائع و ماتم طرحه
وعلى التنوير في مصطلح ((العقلانيه))
وعلى هذه المعلومات الثمينه

أسأل الله أن يجزيك خير الجزاء

تقبل مروري بود

دمت كمآ تحب..~`

عذب القصيد
06-30-18, 01:09 PM
" يعطيك العــــافيه " .

حسين سلطان
06-30-18, 04:51 PM
`


شكراً من القلب النقل الرائع و ماتم طرحه
وعلى التنوير في مصطلح ((العقلانيه))
وعلى هذه المعلومات الثمينه

أسأل الله أن يجزيك خير الجزاء

تقبل مروري بود

دمت كمآ تحب..~`

العفوو
نوورت

حسين سلطان
06-30-18, 04:52 PM
" يعطيك العــــافيه " .

الله يعاافيك


SEO by vBSEO 3.6.1