كانت ليلة صعبة جداً ، أسوأ مما سبقها ،
بلغت فيها النوبات المفزعة حد الإختناق لم يستطع بعدها العودة
للنوم كما كان يفعل من قبل ،
استيقظ وقد هم بغسل وجهه بالماء وهو يتمتم
" اللعنة على هذه النوبات ، لم يتبقى طبيب ولم أزره " ،
والجميع يردد .. لا شيء ، صدرك سليم !
يبدوا أنه لم يعد هناك سوى تلك العيادة وذلك الطبيب ،
كان قد أبقى ذلك الطبيب كحل أخير ،
إذ يعتقد أنه سيكون كالصعق الكهربائي في مثل حالته ..
سأذهب في الصباح ، أو عندما تشرق الشمس فلا يمكن أن يُطلق على ذلك الوقت
صباح سوى من اكتفت عيناه من النوم !
ارتدى ثيابه وخرج نحو العيادة بخطى مترددة
لم يكن يعتقد يوماً أنه سيكون من زوارها ،
استقبلته موظفة بوجهٍ جميل وبإبتسامة مصطنعة ترسمها مكرهة
كعادت ممن يوضع في مكان كهذا ،
ألقى التحية وهو يحدث نفسه " هذه المرأة تشبه هذا الصباح " !
اخذت منه بياناته ثم طلبت منه الإنتظار مشيرة بيدها
ناحية المقاعد دون أن ترفع عينيها تجاهه ..
كانت المقاعد شبه فارغة ماعدا من مقعد واحد فضل الجلوس بجواره
كعادة إلتقاء الغرباء الخائفين ،
أهلاً .. من الغريب جدا أن يكون المكان فارغ من المراجعين
رغم صيت الطبيب وتداول احاديث الناس عن ازدحامه بالمراجعين ..
قال ذلك وعيناه تجوب المكان بإتساع المندهش المتسائل ..
أبداً ، المكان مزدحم لكنهم مختبئين بين الممرات وداخل دورات المياه خوفا
من أن يتعرف أحد عليهم ،
لا أحد يرغب أن يصبح مختلاً لكونه يراجع طبيباً نفسيا ً !
انظر إلى بطاقة الكشف في يدك لن تجد فيها إسمك ،
فقط رقم انتظارك ،أنت تُعرف هنا بالمراجع رقم 25 فقط !
حتى لا يتعرف أحد ما عليك ،
وحتى لو سقطت منك هذه الورقة وسافرت بها الرياح
إلى حيث تسافر فلن يعرف منها أحد أنك كنت هنا يوماً ما ..
في هذه المدينة ياصديقي عيادتين لا يُنادى فيها بالأسماء ..
الطب النفسي وعيادات الضعف الجنسي !
قاطعتهما الموظفه وهي تنادي بصوت جهوري ،
المراجع رقم 25 !
هذا أنا ! ألم يكن من المفترض أن تسبقني ؟
كلا ، لست هنا من أجل المراجعة ،
فقط أختبر مدى جرأتي في الدخول يوماً ولا أعتقد أني سأفعل ..
تفضل أنت ..
طرق الباب وقد هم بالدخول نهض الطبيب من مقعده
وصافحه عند الباب ودعاه للدخول وهو يرتدي بنطالاً من القماش
وقميصاً أبيضاً وسترة رمادية وبنظارة بإطار مذهب يمتد من كلا طرفيها
سلسال يلتف حول عنقه لكيلا تسقط ،
دعاه للجلوس ثم توجه ناحية منضدة وقال له :
سأعد لنا فنجالين من القهوة ..
وهو يجلجل الملعقة ليذيب القهوة ..
قال : يبدوا أنك بخير !
نعم .. لذلك أنا هنا !
كيف ؟
إنني احتفظ بكل مايسيئني فلا يملأ منه شيء وجهي ،
إن من يستطيع أن يجهد انفعالاته هو فقط من يبقى
داخله معافى لذلك ليس بحاجة للقدوم هنا ..
-صحيح !
أرى أنك تحمل حقيبة. هل تدرس .؟
كلا .. هذه أجندتي التي أكتب فيها ،
ماذا تكتب ؟
كل ما أرغب القيام به ،
وهل قمت بما تكتب ؟
لا ، انتظر الفرصة ..
حمل فنجالا القهوة وهو يدير بوجهه ناحيته ،
اعتقد أن الفرص تأتي بعد أن تبدأ وليس قبلها ..
هذا فنجالك ، تحدث ..
لقد مللت ، لم يبقى لدي ما يمكنني الرهان عليه
ازدحم صدري بالخسائر وكأنه مسقط رأسها
كل مسوغات الفرح تفوح ثم ماتلبث أن تتلاشى
كالتحول الرهيب بين رائحة النضج والإحتراق ،
ورغم أني مازلت أدعي أني بخير لكن قلبي يتأكل كالخردة ..
يختبيء ويتقوقع خلف هذا الوجه الجامد كالسلحفاة ويبكي ..
يبكي حتى يبتلعه الحزن ..
أنا حزين ، حزين جداً
وحزني هذا ليس على حجم الخسائر فهذا أمر قد ألفته ،
حزني أني لا أستطيع أن يكون وجهي مرآة قلبي ،
حزني على أني لا أملك صديق واحد يبكيني عندما تتراكم الغصة في حلقي ،
أوتعلم أين يكمن الإعجاز في كون هذا القلب عضلة ؟
لأنه يكبر وينمو كما العضلات تكبر لكن بصورة غير مرئية ،
ينمو تجاه العمق الذي تضيئه المصالحة والسلام ،
أما وقد أرهقني هذا العمق بظلامه ،
أما وقد أرهقتني المسارات الخاطئة والإضاءات السراب التي تبرق من الوهم .،
القضية ليست بأني لم أعد أستطيع النوم ،
أزمتي أني أصبحت غير صالح لممارسة الحياة كما يجب ،
لم يعد بإمكاني العودة لي متى ماتوجب ذلك ..
أعتذر على مقاطعتك .. ولكن الساعة المتاحة لمراجعتك انتهت ..
لا بأس ، من الجيد أن يستمع إليك أحد ما دون أن
يُشعر بالشفقة تجاهك حتى لو كان أجيراً !
هذا الروشتة الخاصة بك ..
روشتة .؟! وهل ستعيد لي هذه العقاقير ماخسرته ؟
كلا .. لكنها ستجعلك على الأقل تنام دون أن تزعجك تلك النوبات البغيضة ،
ثم إنه لن يعود لك ماخسرته أبداً ،
أنت فقط القادر على تدارك ما هو قادم ..
احتضنه مودعاً وهمس في إذنه
" كن شرساً تجاه ماترغب ،
يجب أن يحتفظ هذا العالم ببعض الإحترام لرغباتك "

أهلاً بمداد النجوم
ممنون لهذا الحضور والقراءة جداً

لا أذكر لك حضور باهت أو عادي
دائما حضورك ملفت وكثير ، كثير جداً
ودائما ماأقول . إسمى على مسمى
اشكرك جداً