هناك قاعدة علمية قد قعدوّها العلماء الحكماء فقالوا : ((من كان معلّمه كتابه ، كثر خطأه وقلّ صوابه ، (( وقالوا كذلك : لا تأخذ الفتوى عن مصحفي ولا عن صحفي)) ، والمصحفي هو قارئ القرآن وحافظه ، وكل من كفّر الأمة وكفّروا الامام على بن أبي طالب وخرجوا عليه وعلى الأمة الى اليوم ، هم من هذا النوع ، الحفظة للقرآن الجهلة ، وهذا ما نهر عليه الفاروق ابن عباس ـ عندما جاء أمير البحرين وقال : لقد حفظ أهل البحرين القرآن جميعهم ، فقال : ابن عباس ، هنا قد أختلفوا فنهره عمر ، فسكت ، فعندما نهض المجلس ، سأله لما قلت ذلك ، قال : يا أمير المؤمنين اذا حفظوه كلهم ـ لم يبقى جاهل يطلب العلم ، فقط يتفرغون لبعضهم البعض فيحصل الخلاف فيضيع الدين فتأتي البدعة ، فقال الفاروق : لله درّك ، وكذلك الصحفي هو المثقف بمعلومات اسلامية قاصرة كخريج الجامعة اليوم ويفتي بغير علم ، ـ كذلك أنا أقول : ((لا تستفتي بخيل في صدقة ، ولا جبان في جهاد)) .
نعم لا بدّ من قدوة علمية واستاذ متخصص تنطلق منه الى آفاق العلم ، وإلّا وقعت فيما وقع فيه كثير من الذين أسسوا مذهباً خاصاً بهم ، فكانوا جريئينا على علماء زمانهم ومن سبق زمانهم ـ كابن حزم الظاهري ، والشيخ الألباني ـ والنبهاني مؤسس حزب التحرير الاسلامي ، والشيخ محمد الغزالي الأخير لا الأول ، على جلالة قدرهم ، فإن من لم يجالس العلماء ويأخذ عنهم ، لا يعرف قدرهم ولا يحترمهم ، كذلك يستخف بهم ، وربما بسبب هذا فاته علم كثير ، فقد سأل أحد طلبة العلم الامام أحمد بن حنبل ، أأكتفي بعلماء بغداد يا شيخ أحمد ، أم أرحل في طلب العلم خارج بغداد؟ ، فقال له رحمه الله : بل لا بد من الرحلة ومشاممة العلماء ، لكي تفرق بين معرفة نصوصهم ، وأختلاف مصطاحاتهم ، وكذلك تعلم الفرق بين ، نصّ العالم ومتن الحديث ، ومتن الأصول العلمية. انتهى ، فافهم أخي القارئ الكريم ، فمن هنا لا بد وأن نفرق بين الثقافة والعلم ، فالثقافة تفيد الظنّ ولا تحتاج الى استاذ البتة ، فقط مجرد حصولك على الملكة العلمية فأنت قادر على تثقيف نفسك بنفسك ، وأما العلم فإنه يفيد اليقين ، واليقين لا بد له من تلقي عن استاذ ـ كما تلقى النبي الكريم من ربه عن جبريل عليه السلام ، فها أنا أقرب مثال لك ـ لا أملك من الدراسة المنهجية إلّا الثانية متوسط ـ ودبلوم الألكترونيات ـ وهذا تخصص فني لا صلة له بالعلم أو الثقافة ، وإنما إبتدأت طلب العلم لدى شيخ مذهبه على غير مذهب البلد ، ولم أكن طالباً ملتزم معه في حلقته لأسباب ، وإنما كنت أقرأ وأعود اليه في البحث والتفقه فيما أقرأه على يديه ، ولكني لم أسلّم عقلي لا له ولا لغيره ، فعندما وصلت الى مرحلة التسائل والاستفهام بدأ الشيخ يتبرّم باسئلتي ، فبدأت أستغرب ذلك وخصوصاً عندما لا أجد جواب ـ وغالباً ما يحير بجوابي ، فهذا أخطر مرحلة في الطلب وأخطر مرحلة على المسلم في عقيدته وعقله ، فلم أستسلم ، فذهبت الى آخر ، فوجدته بحر متلاطم الأمواج في العلم ، فما سألت سؤالاً في أي باب إلا ووجدت جواب ، فعلمت أن فوق كل ذي علم عليم ، كما ورد بالنص الشرعي ، وعلمت كذلك أن العلماء لديهم اسرار علمية لا تُعطى إلا لمن يستوعبها ، وفتاوى تُقصر عن قاصر العقل والفكر ، فخذ مثالاً ـ سألت شيخنا هذا الأخير رحمه الله ـ مسألة في ذات الله تعالى ، وكنّا في مجلس عام ، فنهرني ، فاضطرب المجلس ، وكل من فيه كان يرمقني بعيني ساخط ، وكأنني أتيت بكفر بواح ، وهذا من جهلهم بالعلم وأصول الفتوى ، فلو كان كلامي حراماً ، لأفتى في ذلك الشيخ ووجب عليه ذلك ولم ينهرني البتة .
ولكني حينما غادر المكان تبعته ، وسألته لما نهرتني ولم تفتيني ؟ فقال : نعم يا بني مثل هذه المسائل العقدية الحساسة ، لا تناقش أمام العامة ـ فهات ما عندك .
فمن هنا ـ هناك كما أسلفت فرقاً بين العلم والثقافة ـ والتخصص الفني ـ فالثقافة : هي نوع من المشاركة في فنون كثيرة من المعلومات : فكثير ما يقول العلماء : فلاناً مشارك في الحديث ، يعني له تحصيل في علم الحديث لا يصل الى العلم باليقين ، وأما التخصص فلابد له من استاذ ـ كالطب والنفسية كما تقدمت بذلك السيدة مطر الفجر ، وهناك فرق بين العلامة ـ وبحر العلم ، والطالب المجتهد بحر المعلومة ـ فالعلامة هو الحافظ لجميع العلوم والتخصصات وهذه برع بها علماء مسلمين كثر ، وبحر العلم هو من تبحّر في علوم الاسلام وآلاتها ، كالشعر والأدب واللغة ، والتاريخ والأنساب ، وما زاد عن ذلك فهو العلّامة ـ والطالب المجتهد وبحر المعلومة هو كالشيخ عائض القرني حفظه الله تعالى ، والشيخ سلمان العودة كذلك ، وأمثالهم .
فأي طبيب نفسي يقول لك مجرد انك تقرأ 60 كتاباً نفسياً تصبح فاهم التخصص ـ فالمفروض مثل هذا الطبيب ، يوقف عن قتل الناس بالهلوسة ومرض الانفصام ، لانه من الواضح أنه وصل الى المرحلة الخطيرة والمعروفة ((بالنرجسية)) وهذا أخطر مرحلة على الطبيب النفسي وعلى مرضاه ، فالنرجسية لا تأتي للانسان الا من منطلق الجهل ، أو الكبر المركب في الشخصية من قبل طلبها للعلم فقط لا غير .
هذا ما حبيت أن أشارك به الاخوة ـ والسلامة للجميع .