منتديات مسك الغلا
 


موضوع مُغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-08-16, 09:03 PM   #1
ياقوته

آخر زيارة »  08-09-16 (09:22 AM)
الهوايه »  ستايلي جمالي

 الأوسمة و جوائز

افتراضي في معنى الصوم



في معنى الصوم

الصوم لغةً: هو الإمساك، وشرعاً: هو الإمساك عن المفطِّرات مع النية، والإمساك: هو الكفُّ عن أيِّ شيءٍ قد يرغب فيه الإنسان. يقال: أمسك عن الكلام أو عن المشي يعني تركه. وكذلك الإمساك عن المفطِّرات في الصوم أو لأجل الصوم، إنما هو تركها. والصوم تطبيقياً أو عملياً ليس إلا مجموعة تروك، ولا يحتوي على معنى إيجابيٍّ أو عمليٍّ إلا النية.
ومن هنا كان له أهميةٌ خاصةٌ على عدة مستويات, نذكر منها ما يلي:
المستوى الأول: إنَّ الصوم مع اقترانه بقصد القربة إلى الله عزَّ وجل، يعني رمزيةً واضحةً عن الإمساك عن اللذائذ المحرمة وكفِّ النفس عنها والصبر على تركها، سواءٌ منها اللذائذ المحرمة على مستوى الفرد الإيمانيِّ، أو اللذائذ والإندفاعات النفسية التي يكون في تركها تكاملٌ معنويٌّ مرضٍ لله عزَّ وجل.
ولهذه التروك عدة مستوياتٍ قد تصل بنا مع عمق درجة الإيمان وصفاء القلب، إلى ترك التوكل على غير الله، وترك الخوف مما سواه, وترك ذكر غيره من الأسباب والمسببات، وترك التوجه إلى كمال غير ما يوجبه عطاؤه، مع ترك التوجه إلى حبِّ الدنيا وطلب لذائذها وزخارفها ومغرياتها بطبيعة الحال. وكلُّ فردٍ ينال من ذلك بمقدار ما أوتي من ثقافةٍ ووعيٍ وإيمان، وما أوتي من توفيقٍ وتسديد.
ولذا ورد: [إنَّ الدنيا للمؤمن صوم يوم]. ويراد بالصوم الإمساك عن اللذائذ, وباليوم الحقبة الزمانية المعينة التي يكون الفرد فيها يعيش الحياة الدنيا. وإفطاره يكون في الجنة.
وفي نحو ذلك ينسب إلى رابعة العدوية:
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحـبِّ إرباً لما مال الفؤاد إلى سواك ا[[504]]
المستوى الثاني : إنَّ الصوم يكاد أن يكون هو العبادة الوحيدة التي يمكن أن تبقى مكتومةً عن غير الله سبحانه وتعالى، لانعدام المظهر الخارجيِّ للصوم، لأنه لا يحتوي على أيِّ حركةٍ أو تصرف، بينما الصلاة تحتوي على حركةٍ وتصرف. كما لا يحتوي الصوم على طرفٍ آخر، وإنما يستقلُّ به الفرد لنفسه، بينما كثيرٌ من العبادات كالزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف بل والحجّ أيضاً، تحتوي على طرفٍ آخر، بل لا يمكن إنجازها إلا بذلك.
فالزكاة فيها الفقير الذي تعطيه المال، والأمر بالمعروف فيه المذنب الذي تنهاه عن المنكر، والحجُّ فيه الرفيق الذي يدلك على الطريق، بينما الصوم لا يحتوي على شيءٍ من ذلك.
والمعاملات كلها على الإطلاق تحتوي على أكثر من طرفٍ واحد, سواءٌ منها العقود أو الإيقاعات. فالعقود كالبيع والإجارة, فيها الطرف الآخر كالمشتري والمستأجر, والإيقاعات كالعتق والطلاق، فيها الطرف الآخر كالزوجة والعبد.
وإنما الفرق بين العقود والإيقاعات: أنَّ العقود لا تكون إلا برضا أكثر من فردٍ واحد، بينما الإيقاع ينفذ من شخصٍ واحد، ويؤثر في الآخر, سواءٌ رضي أم غضب، وسيأتي الحديث عن جهاتها الأخلاقية في محلها من هذا الكتاب بحسن التوفيق إن شاء الله تعالى.
هذا، بينما نرى الصوم خالياً من أيِّ طرفٍ آخر. ومن هنا يمكن أن يكون عبادةً سريةً عن كلِّ البشر, لايطلع عليها إلا خالقها سبحانه وتعالى. وفعلاً نجح الكثيرون ممن يودون كتم عباداتهم بالإسرار بهذه العبادة المباركة.
ومن هنا ورد في الحديث القدسيّ: [الصوم لي وأنا أجزي به][[505]].
أما أنَّ الصوم لله سبحانه, فلأنه يمكن أن يكون مكتوماً عمن سواه كما عرفنا, فيتمحض لله عزَّ وجل، ويكون خالياً من الرياء والدوافع الدنيوية جميعاً. وأما سائر العبادات فقد لا تكون لله, أو لا تتمحض له عزَّ وجلَّ بالشكل التامِّ المرضي له تعالى, لأنَّ لها مظاهرها الخارجية التي يمكن أن يطلع عليها الآخرون.
صحيحٌ أنَّ الصوم يمكن أن يعلن، كما أنَّ الصلاة يمكن أن تكتم أو أيَّ عبادةٍ أخرى, إلا أنَّ الأفضلية مع ذلك تبقى للصوم, لأنه أسهل كتماً من غيره, ولا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ يمكن الإطلاع عليه.
وأما قوله في الحديث القدسيّ: أنا أجزي به, فقد نقرؤه بالبناء على الفاعل، وقد نقرؤه بالبناء على المفعول المبنيِّ للمجهول.
أما إذا بنيناه على المعلوم، فيكون لهذه الفقرة عدة أساليب من الفهم, نذكر بعضها:
الأسلوب الأول : إنَّ الله سبحانه يجزي عن الصوم بمعنى أنه يعطي الثواب عليه, وبهذا لا يفترق الصوم عن غيره من العبادات التي يعطي الله عليها أنواع المثوبة.
ومعه تكون هذه الفقرة غير خاصةٍ بالصوم، والفقرة الأولى خاصةً به.
الأسلوب الثاني : إنَّ الله سبحانه يستقلُّ دون عباده وخلقه من الملائكة أو الأولياء أو غيرهم، بإعطاء الجزاء للعبد. فبينما يكون جزاء العبد في سائر العبادات على الخلق وبواسطتهم، فإنه يكون في الصوم على الله عزَّ وجلَّ مباشرةً.
وهذا يعني عدة أمور، منها: كثرة العطاء, لأنَّ العطاء الوارد من الله سبحانه لا شكَّ أجزل من العطاء الوارد من المخلوقين، وإن انتسب إلى الله في نهاية المطاف.
ومنها: كتم العطاء على الآخرين. فكما أنَّ العبد يعطي لربه عبادةً مكتومةً هي الصوم، كذلك الله يعطي لعبده ثواباً مكتوماً عن الآخرين، وهذا فيه للعبد لذةٌ معنويةٌ لا يعرفها إلا ذووها.
هذا إذا بنينا الفقرة في الحديث الشريف للفاعل المعلوم.
أما إذا بنيناها للمجهول، فستكون المسألة ألطفَ وأعجبَ, لأنَّ معنى قوله: وأنا أُجزى به، أنَّ الصوم بنفسه سيكون جزاءاً من العبد لربه على نعمه وأفضاله.
والله سبحانه غنيٌّ عن العالمين, لايمكن أن يصل إليه النفع والجزاء من أحد، وإنما هو معنىً مجازيٌّ يمثل أهمية الصوم إلى درجةٍ تصلح أن تكون جزاءاً لله عزَّ وجلَّ بإزاء نعمه اللامتناهية وآلائه المتواترة المستمرَّة.
ومن هنا نرى أنَّ في الحديث تفخيماً للصوم من جهةٍ أخرى، وهي أنَّ آلاء الله غير محدودة، فلا يمكن أن يكون جزاؤها عبادةً محدودةً مهما كانت صفتها، وإنما إعطاء التفخيم والأهمية للصوم إلى هذه الدرجة، جعله الله بكرمه ورحمته كذلك.
ولكن لا ينبغي أن ننسى، أنَّ ما جعله الحديث الشريف جزاءاً لنعم الله سبحانه ليس كلّ صوم، بل الصوم المكتوم حين قال: الصوم لي، يعني: الذي لا يعلمه غيري.
ومن الممكن القول بهذا الإعتبار: أنَّ العبادة مع تمحضها لله عزَّ وجلَّ ستكون من الناحية المعنوية غير محدودة، بخلاف العبادة التي تشوبها الشائبة أو الشوائب، فإنها بذلك ستكون عبادةً محدودة, أو بالأحرى هزيلة، لا تصلح أن تكون جزاءاً لنعم الله العظيمة.
إذن، فالصوم المكتوم لا محدود، فيمكن أن يكون جزاءاً للنعم غير المحدودة. ولا يخفى على أيِّ حالٍ أنَّ في هذا تسامحاً ورحمةً من جهة الله سبحانه على عبده، أكثر من استحقاق المورد مهما كان عظيماً، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يمكن حقيقةً أن تجازى آلاؤه أو تشكر نعماؤه أو يطاع حقَّ طاعته، كما ورد ذلك في الأخبار [[506]].
وإنما هذا الباب من قبيل ما ورد[[507]]: إذا رضي الله عزَّ وجلَّ عن العبد رضي منه بالقليل من العمل.
المستوى الثالث : من مصالح الصوم العامة.
أنه يذكر بجوع يوم القيامة وعطشه.
فإنَّ أكثر طبقات الناس في يوم القيامة، سوف يوقفون طويلاً للحساب، ويعانون الكثير من الحرِّ والجوع والعطش، حسب استحقاقهم في الحكمة الإلهية, وإن كان هذا ليس عاماً لكلِّ واحد، فهناك من يحشر إلى الجنة بغير حساب، وهناك من يحشر إلى النار بغيرحساب، باعتبار أنه مستغنٍ عن الحساب, وواضح النتيجة قبل التصدي لحسابها. غير أنَّ أغلب الناس سوف لن يكونوا كذلك, بل سوف يحاسبون على أيِّ حال، إما حساباً يسيراً، وإما بسوء الحساب، أو بأيِّ نحوٍ آخر, كلٌّ حسب استحقاقه.
والمهمُّ: أنَّ الجوع والعطش خلال الصوم، مما يحصل غالباً لأيِّ فرد, فيذكره بذلك الجوع والعطش. كما أنَّ الحرارة التي يعانيها الصائم إن كان الوقت صيفاً، يذكره بحرارة يوم المحشر وحرِّ النار، أعوذ بالله من كلِّ ما لا يرضي الله سبحانه.
غير أنَّ إنتاج هذه النتيجة تحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: أن يعاني الصائم فعلاً، ولو قليلاً من الجوع والعطش، وأما إذا بات وطعامه وشرابه ذو أنواعٍ كثيرةٍ وأصنافٍ عديدةٍ مما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، فهذا ممن زاد بطراً وغفلةً وتمسكاً بدنياه في حال صومه عن حال إفطاره، فإنه في حال الإفطار لم يكن يتناول مثل هذه الأطعمة، فما حداه أن يفعل ذلك في الصيام؟.
وفي مثله من الصعب جداً أن يكون صيامه منتجاً لمثل هذا المستوى من الفكر، أعني مذكراً بجوع وعطش يوم القيامة.
الأمر الثاني: إنَّ مجرد التذكر لجوع وعطش يوم القيامة بنفسه ليس فيه فائدةٌ كبيرة، ما لم ينزل إلى حيِّز التطبيق, فيصحِّح به سائر أعماله، فيترك غير المرضيِّ ويسلك السلوك المرضيّ، ويتوجه إلى ربه حقَّ التوجه. وعندئذٍ يكون قد أنتج صومه لله النتيجة المطلوبة على هذا المستوى.
المستوى الرابع: من مصالح الصوم العامة:
إنه يذكِّر بجوع الفقراء وعطشهم, وبالتالي يذكر بمجمل أحوالهم لمن لم يكن منهم.
وهذا أيضاً ينبغي أن يقترن بما يشبه الأمرين السابقين للمستوى السابق لكي يكون منتجاً، فهو يتوقف على عدم الإسراف في الطعام والشراب إلى حدٍّ يزداد على حال الإفطار، وإلا كان من الصعب الإلتفات إلى حال الفقراء، مضافاً إلى أنه لا يكون منتجاً، ما لم يكن له نتيجةٌ عملية، وهي مساعدة المحتاجين ورفع حاجة المعوزين، وأما إذا التفت الفرد الموسر إلى حالة الفقراء، فاستمرَّ على بخله وإعراضه وتكبره، فسوف يزداد سوءاً ولعنةً وبعداً عن الإيمان، وسوف يكون صومه منتجاً لضرره لا نفعه.
وأما إذا كان حين ذكر الفقراء أبرَّهم وأكرمهم، إذن، فقد أضاف إلى إحسانه إحساناً وإلى لطفه لطفاً. ويكون صومه منتجاً لنتيجته الجيدة على هذا المستوى.
المستوى الخامس : لمصالح الصوم:
إنه يذكِّر بأحوال الدنيا لمن كان غافلاً عنها، وما أكثر الغافلين، فإنَّ الدنيا نزولٌ وصعودٌ وأحوالٌ متقلبةٌ وصفاتٌ مختلفة، لا تستقرُّ بحالٍ، ولا تدوم فيها الأحوال. فالفرد تارةً يجوع وتارةً يشبع، وهو مرةً يصحُّ وتارةً يمرض, وهو مرةً يشبُّ وأخرى يشيب, وهو تارةً يثرى وأخرى يفقر. إلى غير ذلك كثير.
وأيام الصوم كذلك، فإنَّ الفرد خلال صومه يعاني الجوع والعطش غالباً، بينما نراه في الليل شابعاً راوياً يسعد بالراحة واللذة النسبية، فقد رأى تحول الأحوال في يومٍ واحد، فكيف بتحويلها في الأيام المتعددة والسنين المتمادية.
المستوى السادس: أنَّ الصوم بما فيه من كفِّ النفس عن الطعام والشراب، وغيرها من المفطرات يمكن أن يعوِّد الفرد على درجةٍ مهمةٍ من قوة الإرادة والتحمُّل والصبر في المعاناة, الأمر الذي يسهل عليه تحمل معاناةٍ أخرى وأخرى، مما تتطلبه الحياة الدنيا.
فإنَّ في الدنيا بلاءاً، وفيها مصاعبُ شخصيةٌ, ومصاعبُ أسريةٌ، ومصاعبُ اجتماعيةٌ, ومصاعبُ دينيةٌ, وغير ذلك، فإنها لا تصفو لأحد، ولا يستقرُّ حالها بأيِّ زمانٍ ومكان.
والفرد يحتاج إلى قوةٍ في الإرادة والصبر لتحمل هذه المصاعب، والمطلوب دينياً، ليس هو كلُُّ صبر، بل الصبر الذي معه رضا وتسليمٌ وشكرٌ لله عزَّ وجل. والا فما أكثر الناس الذين يواجهون المصاعب بصبرٍ ولكنه صبرٌ معه مكرٌ وحيلةٌ وغدرٌ, بل معه اعتراضٌ على قضاء الله وقدره, وكفرٌ بنعمائه وآلائه. فهذا الشكل من الصبر ليس مطلوباً دينياً، بل هو يضرُّ صاحبه في الآخرة بكلِّ تأكيد.
والمهمُّ، أنَّ الصوم بصفته طاعةً لله عزَّ وجل، سوف يربي الإرادة والصبر إلى الجهة الصحيحة المطلوبة دينياً. وعندئذٍ سيكون الفرد صابراً محتسباً راضياً شاكراً لتكون آخرته آخرةً فاخرة.
المستوى السابع : إنَّ الصوم موجبٌ لغفران الذنوب السابقة, مع اجتماع الشرائط فيه. وهذا أحد المعاني الأساسية للحديث الشريف القائل: [الصوم جُنةٌ من النار][[508]], أي مانع عنها. فإنَّ الذنوب توجب العقوبة بالنار, والصوم يوجب غفران الذنوب والمنع عن العقاب.
المستوى الثامن: إنَّ الصوم يوجب تطهير القلب وصفاء النفس على عدة مستويات:
منها: أنَّ الطعام والشراب قد يحتوي على شبهاتٍ ومحرمات, الأمر الذي يوجب قسوة القلب وظلمانية النفس. فإذا جاء الصوم وأمسك الفرد عن مثل هذا الطعام والشراب، أوجب ذلك قلةً في القسوة وانكشافاً من الظلمانية.
ومنها: أنَّ ثقل المعدة بالطعام والشراب، موجبٌ للثقل في السير المعنويِّ في طريق الإيمان واليقين. وكلما كانت المعدة أخفَّ كانت الروح أكثر شفافيةً والنفس أسرع طيراناً إلى عالم النور.
وهذا من أهمِّ تفسيرات الحديث القدسيِّ الشريف: [من جاع بطنه وكفَّ لسانه آتيته الحكمة][[509]]. إلخ. وكذلك هو من أهمِّ تفسيرات الحديث الشريف [الصوم جُنةٌ من النار][[510]]، إن قصدنا من النار: نار الشهوات والجحود.
وأعتقد أنه يكفينا هذا المقدار من مستويات المصالح لهذه الفريضة المقدسة: الصوم. مع العلم أننا لم نلمَّ بمصالحها إلا قليلاً، بمقدار ما يوفق الله من مقدار الحكمة في تشريعه الجليل. وكما قال المثل: إنَّ ما خفي عليك أكثر.
على أنَّ لهذه المستويات التي ذكرناها أنفسها تطبيقاتٍ عمليةً ونظريةً عديدةً، يمكن أن توصل القارئ اللبيب إلى سعةٍ في التفكير، أكثر مما تحويه العبارات.
الفقرة (2)
في معنى الإفطار والمفطرات

يحتوي الإفطار على معنى قطع الصوم، بأيِّ معنىً أخذناه، وبأيِّ رمزٍ رمزناه. وذلك لوضوح أنَّ الصوم هو الإمساك عن المفطرات، فإذا حصل الإفطار انقطع الإمساك، وإذا انقطع الإمساك انقطع الصوم، لأنَّ الجزء الأساسيَّ من حقيقته يكون قد انتفى، وقد عرفنا أنَّ حقيقته مركَّبةٌ من الإمساك والنية.
فإذا كان الصوم، كما هو كذلك في الفقه، هو الإمساك عن المفطرات المشروحة هناك، كالطعام والشراب والنكاح، كان ممارسة شيءٍ منها عمداً مزيلاً للصوم. فإن كان واجباً فقد عصى الواجب، وإن كان مستحباً فقد فوَّت المستحبّ.
وإن أخذنا الصوم بمعنى الإمساك أو الإعراض عن لذائذ الدنيا المحرمة، كان معنى الإفطار ممارسة شيءٍ من ذلك، وهو إفطارٌ محرمٌ بطبيعة الحال، لأنه إفطارٌ على محرَّم.
وإن أخذنا الصوم بمعنى الإمساك أو الإعراض عن لذائذ الدنيا عموماً، أو إسقاط أهميتها عن نظر الإعتبار كان معنى الإفطار ممارسة بعض تلك اللذائذ.
والحكم فيه أنه ليس محرماً من الناحية الفقهية بطبيعة الحال، لأنَّ ترك اللذائذ عموماً غير واجب.
نعم، يكون هذا الإفطار مفوتاً للغرض الذي من أجله التزم الفرد بترك اللذائذ وأعرض عن حبِّ الدنيا. وهو قد يكون غرضاً أو هدفاً شريفاً مهماً، يفوت نيله بهذا الإفطار، كما قد يتأخر الوصول إليه في كثيرٍ من الأحيان.
ولعلك يخطر في ذهنك قوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ][[511]]. وإنَّ هذه الآية الكريمة بمنزلة عرض اللذائذ غير المحرمة على المؤمنين, وإنها تعطيهم الضوء الأخضر، من جهة تناولها واستخدامها.
فإذا أضفنا إلى ذلك: أنَّ الطعام والشراب ونحوه مما يقوّي الجسم، فيكون معيناً على طاعة الله سبحانه، فلماذا يكون هذا المؤلف الحقير داعياً إلى الزهد والإنصراف عن اللذائذ، وعن الحياة الإجتماعية الإعتيادية؟!.

غير أنه يمكن الجواب على مثل هذا السؤال على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنَّ ما قاله السائل صحيحٌ مئة بالمئة على مستوى ظاهر الشريعة، من تربية الأكثرية الكاثرة في المجتمع ممن يقتصر على واقعه الإيمانيّ، ولا يريد الزيادة.
المستوى الثاني: إنَّ الخطوة الجديدة نحو الزيادة لا تتضمن بحالٍ حرمة الإلتزام أو التناول من اللذائذ, ولذا يبقى قوله تعالى: ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ[ ساري المفعول. كلُّ ما في الموضوع: أنَّ الزيادات الإيمانية لا يمكن أن تستهدف بغير تضحيةٍ وتنازلات. وقد قال الشاعر:
ومن طلب العلى من غير جدٍّ أضاع العمر في طلب المحالِ
ومن الواضح للجميع: أنَّ الزهد هو الخطوة الأولى لتلك الأهداف لا محيص عنه ولا مجال لغيره. نعم، هو ليس هدفاً نهائياً، بل مقدمةٌ مؤقتةٌ لنيل ما بعده. وقد ورد في الدعاء: [اللهمَّ أخرج حبَّ الدنيا من قلوبنا][[512]]. وورد: [اللهمَّ لا تجعل الدنيا غاية همِّنا, ولا مبلغ علمنا][[513]].
المستوى الثالث: إنَّ هذا الزهد لا يعني غالباً, البعدَ عن المجتمع، والإنصراف عن الإختلاط بالناس، وإن كان ذلك قد يحدث أحياناً، وبصورةٍ مؤقتةٍ لبعض الأشخاص.
غير أنَّ الصحيح هو أنَّ الطعام والشراب من ناحية, واللباس والسكن من ناحيةٍ ثانية، والإختلاط بالمجتمع من ناحيةٍ ثالثة، كل منها لها أحكامها وترتيبها في الشريعة، ولا يمكن خلط بعضها في بعض, وتحميل حكم بعضها على بعض. فإذا حكمنا مثلا برجحان الزهد في المطعم والملبس لايعني الزهد من ناحية العلاقات الإجتماعية.
المستوى الرابع: إنه يمكن أن نقدم للآية الكريمة خطواتٍ من الفهم بحيث لا يكون مؤداها بعيداً عن المفهوم العامّ.
الخطوة الأولى: إنَّ قوله تعالى: [مَنْ حَرَّمَ] استفهامٌ استنكاريٌّ يفيد النفي، وقد يراد به أنه لا أحد غير الله حرمها، إذ ليس لأحدٍ حقُّ التشريع سواه.
الخطوة الثانية: إنَّ قوله تعالى: [زِينَةَ اللَّهِ] لا يراد به الطعام والشراب، بل ولا اللباس والعطور، وإنما يراد به أمورٌ معنويةٌ بعضها ظاهرٌ كمنظر الوقار والرشد، أو بهاء الوجه، وبعضها نفسيٌّ أو قلبيٌّ لا يراه العامَّة.
الخطوة الثالثة: إنَّ قوله تعالى: [الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ]. لا يراد بها الطيب أو اللذة الدنيوية في النظر أو الشمِّ أو الذوق, لأنَّ كلَّ الطيبات الدنيوية لا شكَّ أنها منوطةٌ ومخلوطةٌ بالكدر والنقصان والمصاعب، وإنما الطيبات الحقيقية هي الطيبات المعنوية النورية التي لا كدر فيها ولا ظلام, فتلك هي الطيبات من الرزق التي أعطاها الكريم سبحانه إلى عباده المؤمنين، بنصِّ الآية الكريمة.
الخطوة الرابعة: إنَّ قوله تعالى: [خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. يعطينا فهماً على أنَّ هذه الطيبات المشار إليها في الآية ليست خالصةً في الحياة الدنيا، وإنما هي مشوبةٌ.
وهذا له عدة تفاسير منها:
أولاً: إنَّ المراد بالطيبات: اللذائذ الدنيوية، لأنها هي المشوبة كما قلنا دون المعنوية.
ثانياً: إنَّ المراد بالخلوص في قوله: )خَالِصَةً( ليس هو [التكامل] بل هو [التمحض]. بمعنى أنَّ هذه الطيبات في الحياة الدنيا ليست متمحضةً للمؤمنين، بل هي مشتركةٌ بينهم وبين غيرهم من الكفار، في حين ستكون في يوم القيامة متمحضةً لهم.
ثالثاً: إنَّ المراد بالطيبات ـ كما سبق ـ: الجانب المعنويّ منها, وهي تصل إلى المؤمن في الدنيا، ولكنها لا تصل وصولاً كاملاً ومستمراً، بل يكون مشوباً بالإلتفات إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة أحياناً أو في كثيرٍ من الأحيان.
ومقتضى سياق كلامنا هو اختيار هذا الفهم الثالث، وهو إنما يتعين بالقرائن التي نستطيع إقامتها في الخطوات السابقة أو اللاحقة لهذه الخطوة، وحسبنا هنا أننا أشرنا إلى إمكان فهمه، وإن كان الوجدان الإيمانيُّ للفرد يحكم بصحته دون ما سواه، بغضِّ النظر عن أيِّ شيءٍ آخر.
الخطوة الخامسة: إنَّ قوله تعالى: [خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ] يثير التساؤل عما يكون هو الخالص يومئذ، هل هو طيبات الدنيا، أو اللذائذ المادية, أو هو الطيبات المعنوية؟.
وهنا لا يحتمل أن يراد بها الطيبات المادية, لأنها جزماً لا تكون متوفرةً في يوم القيامة. فإن كانت تتوفر ففي الجنة للمؤمنين، لا في يوم القيامة، كما تنصُّ الآية الكريمة. ولا نستطيع أن نفهم من يوم القيامة دخول الجنة, لأنه خلاف الظاهر جزماً، فيتعين أن يراد بها الطيبات المعنوية.
وقد يخطر في البال: إننا لا بدَّ أن نفهم من يوم القيامة في الآية دخول الجنة، لأنَّ ذلك هو الظرف المناسب لأن يكون أيُّ نوعٍ من الطيبات خالصاً للمؤمنين. وأما في يوم القيامة، فيكون الناس مشغولين بالكتاب والحساب والعذاب، فكيف ستكون الطيبات خالصةً لهم يومئذ؟!.
وإذا فهمنا من يوم القيامة دخول الجنة أمكن أن نفهم من اللذائذ نوعها المادِّيّ.
وجواب ذلك: إنَّ انشغال الناس يوم القيامة، لا يكفي قرينةً على أن نفهم منه دخول الجنة، لوضوح أنه ليس كلُّ الناس منشغلين بذلك المعنى. نعم، يكون المنشغل خالياً من الطيبات بأيِّ معنىً كان. ولكنَّ عدداً لا يستهان به سيكون ناجياً من ذلك، وهم الذين يحاسبون حساباً يسيراً أو لا يحاسبون على الإطلاق، أو تنالهم الرحمة أو الشفاعة بسرعةٍ ونحو ذلك, كل حسب استحقاقه. وهؤلاء هم المؤمنون المشار إليهم في الآية الكريمة, وهم لن يكونوا منشغلين عن تلقي الطيبات، مهما كان نوعها. فإذا علمنا ـ كما علمنا فيما سبق ـ أنَّ الطيبات المادية غير موجودةٍ يوم القيامة جزماً, إذن يتعين أن يراد بها الطيبات المعنوية بطبيعة الحال. ويكفي في ذلك ما أشرنا إليه من زوال الحساب أو كونه يسيراً, أو تلقي العفو والغفران, أو الشفاعة, أو إعطاء المزيد من الثواب أكثر من الإستحقاق, وغير ذلك من الأمور.



 


قديم 08-09-16, 08:44 AM   #2
ساحر القلوب

آخر زيارة »  09-11-17 (09:32 AM)
المكان »  السعودية
بتسم وأضحك وخل الهم يتكدر وأرسم على خدك ورود لا تقول ما اقدر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي





 


قديم 02-07-17, 11:55 PM   #3
Beso hasanat

آخر زيارة »  02-11-17 (12:58 PM)
المكان »  عمان / الاردن⁦����⁩

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



جزاك الله خيرا على الموضوع الرائع و المميز


 


قديم 04-05-17, 10:54 PM   #4
رجل تحت المطر

آخر زيارة »  02-21-18 (08:36 AM)
المكان »  الاردن
الهوايه »  الكتابة &

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



جزاك الله الجنه ونعيمها

ننتظر جديدك الطيب طيب الله قلبك في الدارين


 


قديم 04-19-18, 08:23 AM   #5
همسة حنين

آخر زيارة »  05-19-18 (03:13 AM)
المكان »  في مقهى "فكر الحرف"
الهوايه »  "قلبــي &قلبـه "

 الأوسمة و جوائز

افتراضي




"يعطيك ربي ألف عــــــافيه "

موضوع أستفــــدت منه .


 


موضوع مُغلق

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are معطلة
Pingbacks are معطلة
Refbacks are معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع : في معنى الصوم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اداب الصوم إحساس طفله منتدى الخيمة الرمضانيه
16 05-11-16 12:10 AM
صديقات السوء :( مشكلتي همومنا ومشاكلنا وإحتياجاتنا الشخصيه ( مشكلتي ) 14 05-16-15 08:26 PM
مراتب الصوم نسمة الغلا منتدى الخيمة الرمضانيه
5 07-02-13 03:17 PM
كلمة كانت بالأمس لها معنى واليوم معنى آخر بَرآءهْ ()" قسم العام للمواضيع العامه •• 8 02-18-11 05:55 PM
هل هو شهر الصوم آم شهر الآكل ..~~/// wa7dh.-.mo0on قسم الحوار والنقاش الجاد •• 0 08-08-10 11:20 PM


| أصدقاء منتدى مسك الغلا |


الساعة الآن 07:17 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.6.1 al2la.com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
بدعم من : المرحبي . كوم | Developed by : Marhabi SeoV2
جميع الحقوق محفوظه لـ منتديات مسك الغلا