••
الجزء الأول ••🥀
الوقت مساء ، و الفصل شتاء .. و أنا أحاول تدفئة جسدي مشياً في هذه الغرفة البائسة .. رائحة القهوة عمت المكان ، شربت كوباً و حضرت آخر .. أفرك يديّ و أنا أنتفض ..
السماء أثلجت يوماً كاملاً .. و الأرض غصت بالبياض .. كل شيءٍ موحش في الخارج ، و كذلك في غرفتي التي باتت الإنارة سيئةً فيها ..
كتبي متناثرة على الأرض ، بعضاً منها على طاولتي .. عدت منذ ساعاتٍ من الجامعة و أخذت حماماً ساخناً ..
و نمت ساعةً و استفقت .. ستحين ساعة عملي و أنا لم انهي واجباتي الجامعية !
أشعر بالازدحام و ضيق الوقت ، فمن الصعب أن توفق بين عملك و دراستك .. لكنها الحاجة !
أنا هنا بمفردي في هذا المكان ، أعتمد على نفسي لأجل العيش و الدراسة ..
أشعر بالأيام تركض .. و معها تزداد متاعبي ..
تمنيت لو أني أملك المال الكافي دون اللجوء للعمل الآن !
ارتشفت آخر قطرةٍ في الكوب ، و لففت وشاحي
على عنقي و حملت حقيبتي و غادرت السكن .
كان الطريق صعباً و الثلج يغطي كل شيء !
تعطل الطريق و عمّ الازدحام .. و كان الطريق للمطعم الذي أعمل فيه يضج بالسائقين العالقين و العابرين .. يا ألهي سأتأخر !
بصعوبةٍ وصلت إلى المطعم ، و فوق ذلك .. وصلت متأخرة .
فتحت الباب و دخلت ، كان المكان دافئاً مقارنةً بالخارج .
ذهبت إلى المدير فوراً لأعتذر .. فقد تأخرت مدةً تزيد على النصفِ ساعة !
وقفت أمامه و أنا ألهث من التعب :
- هاقد جئت .. و أعتذر لتأخري .
نظر إليّ بعينيه الغاضبتين و قال بصوتٍ عالٍ :
- أينَ كنتِ ؟!.. هل تعرفين كم الساعة الآن ؟
قلتُ و قد دبّ الخوف بداخلي .. رغم تنبؤي بغضبه :
- ذلكَ كان خارجاً عن إرادتي ، فالطريق تعطل بسببِ ..
قاطعني ، لم أستطع الاستمرار في التبرير ..
- كان عليكِ الخروج مسبقاً لتصلي مبكراً .
صمتت و أنا أنزل عيني إلى الأرض ، فقال بنبرةِ تهديد
- تغضبيني دائماً يا ( كريستينا ) ، إن تكرر ذلك فلن يكون لديكِ عملٌ عندي .. و سأرميكِ خارجاً .
أحسستُ بشعورٍ سيء ، هذه المرة الثانية التي أتأخر فيها ، و قبلها قد تسببت في كسرِ أربعةِ من زجاجاتِ الشراب الغالية الثمن ! .. لا أريد أن أخسرَ وظيفتي هذه ، لا أريد أن أتوه من جديد أو أن أعود أدراجي دون دراسةٍ و لا عمل .
صاح بي :
- أغربي الآن لعملك .
استدرتُ عنه خجلةً و متألمة .. و قد كان ذلكَ بادٍ على وجهي ..
ذهبت عند الاستقبال ، فقالت لي زميلتي ( غلوريا ) مواسية :
- لا تأبهي كثيراً ، و الآن اذهبي و انظري ذلكَ الرجل على الطاولةِ رقم عشرة .
- حسناً .
ذهبت حيث أمرتني ، و أخذت طلبَ الزبون و أنا قاطبةُ الجبين ، و بقيت طيلةَ ساعات عملي حادةَ المزاج .. أريد أن أنهي عملي و أغادرُ فوراً إلى فراشي .. علّني أحظى بقليلٍ من الراحة .
مضى الوقت أخيراً و صارت الساعة الواحدة .. غادرَ غالبية الناس المطعم ، عدى واحداً .
بدأنا بترتيب المكان و تنظيفه ، و حينَ انتهينا .. همست لي ( غلوريا ) و هي تنظر إلى الرجل :
- اطلبي منه المغادرة ، سنغلق الآن !
نظرت إليه من بعيد ، يبدو في الأربعين من عمره .. خالط البياض شعره ، ساكن الملامح .. يجلس في هدوءٍ شديد ، و بيده سيجارة .
اقتربت منه و وقفت عنده قائلة بلطف :
- سيدي !.. سنقفل المطعم الآن .
رفعَ بصره إلي ، و استقرت عيناه الزرقاوتين عند عيني .. نظر إليّ ملياً .. ثم قال بهدوء :
- سأنتظركِ خارجاً .
و همّ بالنهوض ..
تعجبتُ من قوله !.. حسبتني لم أسمعه جيداً فقلت بتركيزٍ أكثر :
- عفواً ؟!
نظر إليّ و أعاد قوله :
- سأنتظركِ خارجاً .
و ابتعد .. و وقفت بتعجبي للحظة ، ترى ماذا يريد مني ؟!
=========
أغلقنا المطعم و غادرناه ، و توقفنا جميعاً حينَ وجدنا الرجل واقفاً ينظر الثلج المتساقط من السماء .
تحرك كل زملائي مبتعدين .. إلا أنا .
استدار إلي ، فاقتربت منه قائلةً بفضول :
- هل لي أنْ أعرف ماذا تريد ؟!
لم يتكلم سريعاً ، كان يحملق في وجهي و كأنه يفكر .. ثم بدأ الكلام :
- قد تستغربينَ طلبي أيتها الفتاة ، لكني وجدتكِ الفتاة المناسبة ..
اتسعت عيناي ، الفتاة المناسبة ؟!.. لأي شيء !؟
بينما تابع :
- ما اسمك ؟
- ( كريستينا ) .. لكن ، لأي شيءٍ يمكن أن أكونَ مناسبة ؟..
و أضفت ضاحكة :
- هل هناك عملٌ ما ؟
- تتمنينَ ذلك ؟!..
صمتت و قد شعرت بالإحراج ، ثم قلت بصوتٍ منخفض :
- كنتُ أتساءل فقط !
- أريد الزواج بكِ .
اتسعت عيناي من جديد دهشةً .. و قلت غير مصدقة :
- الزواج بي ؟!
- نعم .
ضحكت بسخرية ، و نظرت إليه ملياً دونَ أن استوعبَ جديتهُ في الأمر .. فسألني بذات الهدوء
- كم عمرك ؟
- مازلتُ طالبةً في الجامعة .
- جيد .. يبدو عليكِ ذلك .
اعتدلتُ في وقفتي و سألته بجديةٍ أكثر :
- أصدقني القول ، ماذا تريد مني ؟
ابتسمَ ابتسامةً وقورة و قال
- الزواج و حسب ، و سأهديكِ الحياة الكريمة .
علاني السكون فجأةً ، الحياة الكريمة !
أتراه لاحظَ معاناتي و غضبي ؟.. أم سمعَ ذاكَ المتزمت و هو يصرخ بي ؟!..
تمعنتُ إليه جيداً ، يبدو ثرياً من ثيابه و معطفة .. و من جودة السيجارة التي كان ينفث دخانها منذ قليل .. لكن لما يرغب بالزواج مني ؟!
قطعَ أفكاري ، و قال معرفاً عن نفسه و كأنه فهمَ تساؤلاتي :
- اسمي ( إدوارد ) ، أعمل طبيباً جراحاً و أملك عياداتي الخاصة ، أبلغ من العمر خمساً و أربعين .. لم أتزوج من قبل ، لسبب انخراطي في عملي ، و لسببِ أني لم أجد الفتاة المناسبة .
قد أثارني هذا الرجل !.. إنه كبيرٌ جداً مقارنةً بي !
رغمَ وسامته و قامته ، و هو طبيب !.. ذلكَ يبدو .. مناسباً لي ، فكم تمنيت أن أحظى بالمال الكافي بدل العناء و العمل في مثل هذا المكان .
لاحظَ صمتي و تفكيري ، فقال :
- لا تقلقي بشأن دراستك ، ستتابعين الدراسة حتى التخرج ، سأساندك .
قلت بتساؤل :
- لماذا أنا دونَ غيري ؟.. أعني .. رجلٌ ثري كما هو واضحٌ عليك .. لما لا يتزوج من فتاةٍ من طبقته ؟!
- أحبُّ الفتياتِ العفويات .. اللاتي لا يهتممنَ بالعلامات التجارية و الحفلاتِ و التسوق .. مظهركِ لا يدل على ذلك ، لا تبدينَ من ذلك النوع .
و أضاف و هو ينظر إلى عيني :
- كما أنَّ لكِ وجهٌ جميل .
اكتسحني بعبارته الأخيرة فخجلت .. و أنزلت عيني دونَ أن أعقب ..
فقال :
- ماذا قلتِ ؟
رفعتُ عيني إليه ، و همست :
- احتاج للتفكير .
أخذَ نفساً و قال :
- لكِ ذلك ، سأكون بانتظار جوابكِ .
و أخرجَ بطاقةً من جيب معطفه و أعطاني إياه قائلاً :
- سأنتظر اتصالكِ ، رقمي الخاص هنا ، و كذلكَ رقمي في العيادة ..
و قال مشدداً :
- أنا .. أنتظركِ .
التقطتُ البطاقةَ منه ، فاستدار عني و ذهب إلى سيارته الفارهة و غادر .
تمعنت في البطاقة ، و نظرت لما كتب ، و إلى أرقامه .. ثم ابتسمت ، و فكرتُ في داخلي .. يبدو أنّ الحظَ ابتسمَ إلي ..