لكُلّ الأُمْنيات.. ﴿إنك كنتَ بنا بَصِيرا﴾.. و ﴿إنّك أنتَ الوهّابُ﴾.. هذا التّعبير غارقٌ في العاطفة.. ومُسهِب بالشعور: ﴿وأَسْلمتُ مع سليمان لله﴾.. وكأنها تقولُ، إذ تُقدّمُ معِيّةَ سليمان أوّلا: "أريدُ هذا الطريقَ.. ولكنّني أُريدُه مَعَه.." لما اعترفت زليخا ﴿أنا راودته﴾؛ ذكرت علّتين: خوفَها من الله ﴿وأن الله لا يهدي﴾، وحرصَها على أن يعلم يوسفُ بصدقها، ومكانتِه عندها ﴿ذلك ليعلم﴾؛ فالإنسان يحب أن يعبر.. أن يصل شعورُه.. وألا يبقى حبيسا في نفسه.. حتى وإن لم يترتب على ذلك شيء.. يكفي أن تبقى المعرفة في عالَم الروح.. "الله لا يبيّن غلاك".. والتي تعني بشكل آخر "أرجو ألا أفقدك".. تذكرني بما كتبه الرازي من أن الحكمة من تشريع الرجعة بعد الطلاق ﴿فإمساك بمعروف﴾؛ هي أن المحبةَ تظهر بعد المفارقة.. تَمثّلت هذه العبارةُ، حرفيا ومجازيا، في أمّ موسى: ﴿وأصبحَ فؤادُ أم موسى فارغا، إن كادتْ لتُبدي به﴾.. من الصدق اعتراف الإنسان بأن نجاحه ليس نتيجة اجتهاده فقط ﴿أوتيته على علم﴾. نعم؛ للاجتهاد دور، ولكن هناك أسباب معقدة، خارجة عن السيطرة، أوصلته لما هو عليه؛ هذا "الحظ" (الذي نسميه التوفيق الإلهي)، واضح في القرآن: نجاة موسى ﴿وجاء رجل من أقصا﴾، وخروج يوسف من البئر ﴿وجاءت سيارة﴾. جلد الذات مُتعِب نفسيّا.. ومنه الشعور بأنك "لا تكفي" مهما فعلت.. ولذلك.. ﴿فلا تذهبْ نفسُك عليهم حسرات﴾.. فكرة إحياء الأرض ﴿أن الله يحيي الأرض بعد موتها﴾.. تشقق الحجر ﴿وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء﴾.. إلانة الحديد ﴿وألنا له الحديد﴾.. وإنزال الغيث من بعد القنوط ﴿ينزل الغيث من بعد ما قنطوا﴾؛ كلها قبسات من نور نستضيء بها في متاهة الدنيا وإحباطاتها.. ولا تيأسوا من روح الله.. بعض الأشخاص.. إنما هم تجلياتٌ لرحمة الله في هذا الوجود.. ﴿ووَهبْنا له "من رحمتنا" أخاه﴾.. ربما لا نقدر على تغيير شيء.. أو مساعدة من يشتكون إلينا، ويبثون همومَهم.. ولكننا نقدر على أن نكون مستمعين جيدين.. "فالحضور" بنفسه له أثر كبير.. ﴿فلما جاءه وقصّ عليه القصصَ؛ قال: لا تَخَفْ﴾ .. أنا فقط اشتقت.. اشتقتُ للغد الجميل.. الذي طالما آمنت أنه آت.. من بعيد.. ﴿وللآخرةُ خير لك من الأولى﴾.. يخيل إليّ أنَ رسالة قوله ﷻ ﴿يحسبهم الجاهلُ أغنياءَ من التّعفّف، تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافا﴾= هي تفقد هؤلاء الناس، والتحسس منهم؛ أتذكر هنا كلمات عبدالوهاب مطاوع: "عيني تتجاوز دائما الصف الأول في أي احتفال وتستقر على أهل الصفوف الخلفية .. تتسلل لتبحث عن أهل الظلّ.." من التصالح مع الذات.. والرضا عن الله ﷻ.. أن تُدرك أنك لن تحصل على كثير من الأشياء والأحلام بالطريقة التي تريدها أنت: ﴿أرني أنظر إليك﴾.. وإنما بما هو مناسبٌ لك وظروفك: ﴿لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل﴾.. القرآن العظيم حين يحكي لنا عن أولئك ﴿الذين ينفقون في السراء والضراء﴾.. والذين يصبرون ﴿في البأساء والضراء﴾؛ هو بذلك يُؤسّس بالإشارة -فيما أظن- لفكرة سامية جدا.. العطاء غير المشروط.. أن نحبّ من حولنا حُبّا غير مشروطٍ.. وأن نُعطي بلا انتظار. "أَعْرَفُهم بالله.. أرحَمُهم بالناس.." العلاقة التي تبدأ وتصمد في الشدة، وتستمر رغم الابتلاء= أقوى وأعمق؛ يقول جبران: "فرابطةُ الحزن أقوى في النّفوس من رَوابط الغبطة والسرور، والحبّ الذي تَغسله العيونُ بدموعها يظل طاهرا وجميلا وخالدا".. وربما يستأنس لهذا المعنى بقصة موسى ﴿قال ما خطبكما؟﴾، إذ جمعت بينهما ظروف قاسية.. أرى في هاتين الآيتين إشاراتٍ كثيرةً.. ﴿مرج البحرين يلتقيان • بينهما برزخٌ لا يبغيان﴾.. كأنّ فيهما رمزا للمخالطة مع الحفاظ على الجوهر.. كيف تقترب كثيرا من غير أن تتأثر.. أن الصداقة القريبة لا تعني "الذوبان" في الآخر.. وأن العزلة الشعورية ممكنة.. قيل في تفسير ﴿الطارق • النجم الثاقب﴾؛ إن "الطارق" نجم يسكن السماء السابعة وحيدا.. لا يَسْكُنُها غَيْرُهُ.. السعادة تشعر بها في نفسك.. ربما لا تتوقّف على أحد.. ولكنك تحتاج لمَنْ يفرح معك.. وكأن قدرَ السعادة أن تُشارَك.. ﴿فيقول: هاؤُم "اقرَؤُوا" كتابيه﴾.. كل يوم تتكشّف لي هذه الآية أكثر.. ﴿وربك يخلق ما يشاء "ويختار"﴾.. كل يوم أرى مصداقها في هذه الحياة.. في الأحداث والأشخاص.. العوامل كثيرة ومعقدة.. ولكن أحيانا ترى "الاختيار" الإلهي.. أبرز وأكثر وضوحا.. لم يَكُن يحلم بقَمَر فقط.. لا.. وإنما بقَمَر تامّ النور.. وضَوء كامل.. فَفَضلُ الله واسع.. ﴿والقمر إذا اتّسَق﴾.. لربّما اتّفقَ شخصان في معنى أو فكرة.. حدّ التطابق.. رغم أنهما لم يلتقيا قط، ولا سمع أحدُهما بالآخر.. إنه تشابُه القلوب والأرواح الذي عبّرَ عنه القرآن حين قال: ﴿تشابَهَتْ قلوبُهم﴾.. وأكّدَ عليه بقوله: ﴿أَتَواصَوا به﴾.. حفظ المودة قد يكون أولى من الانتصار للنفس، وإظهار التّفوق، ولو كنت محقّا.. ومراعاة وحدة القلوب مقصد ربما يرجح على غيره من المقاصد الدينية وغيرها؛ هو معنى تفطّن له هارون بقوله: ﴿إني خشيتُ أن تقول فرّقتَ﴾.. وقيل إن الشافعي صلّى الصبحَ قريبا من مقبرة أبي حنيفة فلم يقنُت تأدبا معه. من آثار فكرة التوحيد في القرآن؛ توحيدُ القصد، والهدف، ووضوح الرؤية.. ويشهد لهذا المعنى ما رُوي عنه ﷺ "من جعل الهم همّا واحدا كفاه اللهُ هم دنياه".. وقد كان الفيلسوف إقبال يقول: إذا أردتَ أن يُسمعَ صوتُك في هذه الدنيا؛ فلتكن روحُك مسكونةً بفكرة واحدة.. اللهم فاجمع شتاتَ أرواحنا..