عرض مشاركة واحدة
قديم 03-01-17, 04:36 AM   #42
مجرد إنسان

آخر زيارة »  03-07-18 (05:44 AM)
المكان »  المدينة المنورة
الهوايه »  الرسم - كتابة الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي






تابع قصة موسى الكليم عليه السلام



فلما قامت الحجج على فرعون، وانقطعت شبهه، ولم يبق له قول سوى العناد، عدل إلي استعمال سلطانه وجاهه وسطوته.


{ قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء
مبين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
(سورة الشعراء:29ـ33)


وهذان هما الرهانان اللذان أيده الله بهما، وهما العصا واليد، وذلك مقام
أظهر فيه الخارق العظيم، الذي بهر العقول والأبصار، حين ألقى عصاه، فإذا هي
ثعبان مبين، أي: عظيم الشكل، بديع في الضخامة والهول، والمنظر العظيم
الفظيع الباهر، حتى قيل: إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه، أخذه رعب شديد وخوف
عظيم، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، وكان قبل
ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوماً إلا مرة واحدة، فانعكس عليه الحال.

وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها، أخرجها وهي كفلقة
القمر تتلألأ نوراً يبهر الأبصار، فإذا أعادها إلي جيبه واستخرجها رجعت إلي
صفتها الأولى. ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ـ لعنة الله عليه ـ بشيء من
ذلك، بل استمر على ما هو عليه، وأظهر أن هذا كله سحر، وأراد معارضته
بالسحرة، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته، ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته،
ثم حضوا بعضكم بعضاً على التقدم في هذا المقام؛ لأن فرعون قد وعدهم ومناهم
وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.


{ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا،
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة
موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا، إنما
صنعوا كي ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى } (سورة طه:65ـ69)


لما اصطف السحرة، ووقف موسى وهارون عليهما السلام تجاههم، قالوا له: إما أن
تلقي قبلنا، وإما أن نلقي قبلك (قال بل ألقوا) أنتم، وكانوا قد عمدوا إلي
حبال وعصى فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال
والعصي اضطراباً يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك،
فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وألقوا حبالهم وعصيهم، وهم يقولون:


{ بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } (سورة الشعراء:44)


وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها، صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره
غير واحد من علماء السلف، وعنق عظيم وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس
انحازوا منها وهربوا سراعاً، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه من
الحبال والعصي، فجعلت تلقفه واحداً واحداً في أسرع ما يكون من الحركة،
والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها، وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم
وحيرهم في أمرهم واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت
صناعتهم وأشغالهم، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس
بسحر ولا شعوذة، ولا محال ولا خيال، ولا زور ولا بهتان ولا ضلال؛ بل حق لا
يقدر عليه إلا الحق؛ الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق، وكشف الله عن قلوبهم
غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهدى، وأزاح عنها القساوة، وأنابوا
إلي ربهم وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين، ولم يخشوا عقوبة ولا
بلوى: (آمنا برب هارون وموسى).


قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة والأوزاعي وغيرهم: لما سجد
السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم
يلتفتوا إلي تهويل فرعون وتهديده ووعيده.


وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في
الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك، ورأى أمراً بهره، وأعمى بصيرته
وبصره، وكان فيه كيد ومكر وخداع، وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله، فقال
مخاطباً للسحرة بحضرة الناس: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) أي: هلا شاورتموني
فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي؟! ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد، وكذب
فأبعد قائلاً: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر). والمقصود أن فرعون كذب
وافترى وكفر غاية الكفر في قوله: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وأتى
ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله:

{ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون } (سورة الأعراف:123)

وقوله: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) يعني: يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه،

{ ولأصلبنكم أجمعين } (سورة الأعراف:124)

أي: ليجعلهم مثلة ونكالاً لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته، وأهل ملته، ولهذا
قال: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي: على جذوع النخل، لأنها أعلى وأشهر


{ ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى } (سورة طه:71)

يعني: في الدنيا.

{ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات } (سورة طه:72)


أي: لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات (والذي
فطرنا) قيل: معطوف، وقيل قسم (فاقض ما أنت قاض) أي: فافعل ما قدرت عليه
(إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي: إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا،
فإذا انتقلنا منها إلي الدار الآخرة صرنا إلي حكم الذي أسلمنا له واتبعنا
رسله،


{ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } (سورة طه:73)


أي: وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب، (وأبقى) أي: وأدوم من هذه الدار الفانية، وفي الآية الأخرى:


{ قالوا لا ضير إنا إلي ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا } (سورة الشعراء:50ـ51)


أي: ما اجترمناه من المآثم والمحارم


{ أن كنا أول المؤمنين } (سورة الشعراء: 51)


أي: من القبط، بموسى وهارون عليهما السلام.


والظاهر من هذه السياقات أن فرعون ـ لعنه الله ـ صلبهم وعذبهم رضي الله
عنهم قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة،
فصاروا من آخره شهداء بررة!. ويؤيد هذا قولهم:


{ ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين } (سورة الأعراف:126)


قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج
إلي عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له، وإنما
كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم. وأمرهم
الله تعالى ـ فيما ذكره أهل الكتاب ـ أن يستعيروا حلياً منهم، فأعاروهم
شيئاً كثيراً، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد
الشام، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع
في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم.


قال الله تعالى:

{ وأوحينا إلي موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون * فأرسل فرعون في المدائن
حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون
فأخرجناهم * من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأوروثناها بني
إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا
لمدركون * قال كلا، إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلي موسى أن أضرب بعصاك
البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا
موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم
مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (سورة الشعراء:52ـ68)


قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده، طالباً بني إسرائيل يقفو
أثرهم، كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل: كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم،
وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف. فالله أعلم. والمقصود أن
فرعون لحقهم بالجنود، فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان ولم يبق ثم
ريب ولا لبس، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم يبق إلا
المقاتلة والمجادلة والمحاماة، فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: (إنا
لمدركون) وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلي البحر فليس لهم طريق ولا محيد
إلا سلوكه وخوضه، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم
وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم، وعاينوه في جنوده
وديوشه وعدده وعدته، وهم منه في غاية الخوف والذعر، لما قاسوا في سلطانه
من الإهانة والمكر.