عرض مشاركة واحدة
قديم 03-27-20, 06:09 AM   #313
أعيشك

الصورة الرمزية أعيشك
غيّمُ السّلام.

آخر زيارة »  يوم أمس (05:56 PM)
المكان »  عاصِمة النساء.

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



منذُ أن مرّت علي هذه العبارة من فيلم " Contagion " :
" الإنسان الطبيعي يلمس وجهه من 2000 إلى 3000
مرة في اليوم "، وأنا أخوض ما يشبه التحدّي.
مدفوعة بعدم التصديق أو صعوبة الإستيعاب.
إذْ بدأتُ أُراقب يديّ بارتياب من يشتبه في أهل بيتي،
مُحاولًا اقتناص أدنى شاردةٍ وواردة تصدُر عنهما،
ومُحصيًا المرات التي ترتفع فيها أيَّ منهُما لتلمس وجهي.
وقد بلغتُ من التفاني في مُهمّتي حدّ أني لم أعرف إن كُنت
أفعلها خوفًا من التقاط العدوى، أو لمُجرد الشعور بالضجر.
في الأيام الثلاثة الأولى بقيت يداي مُستمّرتين في ظل هذا
الإنتباه الطارئ، وكأنّ الستار رُفع عنهما في لحظةٍ مُخلّة،
لكنني لم أمنعهُما تمامًا من لمس وجهي، وإنما قيّدت
حركتهما لتُصبحا في إطلاق سراحٍ مشروط.
فحين يأمر دماغي يديّ بأن يفرُك جفني،
تبرُز خطوة تحقّق إضافة قبل التنفيذ،
كخاصية الأمان في تطبيقات الهاتف.
إذ تطلب يدي في أجزاءٍ من الثانية إذنًا ثانيًا
مني قبل أن تُنفذ ما أُمرت به، وهكذا ... .
أُضيف شخطةً إضافية إلى خانة الإحصاء :
( 137 لمسة لهذا اليوم ).
في الأيام التالية لخصت إلى مُعظم الحالات التي
ألمس فيها وجهي مُباشرةً تنحصر في التالي :
حكّ العين أو الأنف - غسل الوجه والوضوء - هشّ الذباب -
تناول الطعام - إسناد الذقن والخد أثناء الشرود -
فتل الشعر - لمس الجبين تأثيرًا بالصُداع - عضّ عظمة
الأصابع أثناء كتابة تعبير - وبعض من اللمسات العارضة
اللاإرادية مثل حكّ الذقن لحظة التفوه بكذبةٍ بيضاء - ووقت
الضجر، وبالطبع اللمس الذي يحدُث أثناء نومي ولا أعرف عنه.
وقت عزمت على إيقاف هذه اللمسات
العبثية أو تقليلها إلى حد أدنى.
فصرت قاطعة طريقٍ بين يدي ووجهي،
وبنهاية اليوم السابع أوشكت أن أسجّل رقمًا غير مسبوق :
( 20 لمسة فقط ! ).
لولا أنّ رجُلًا وسيمًا أستوقفني
بينما كُنت أمشي على حافة الرصيف،
وسألني ما إذا كُنت أملك ولاعة،
ولا أدري لمَ وضعتُ يدي في حقيبتي وأنا لا أُدخن،
ولمَ ارتفعت يدي الأُخرى لتلمس وجهي ببلاهةٍ وبدون سبب،
قبل أن أعتذر منه وأمضي.
في تلك الليلة سمحتُ ليدي بأن تُصفعني على وجهي،
لكنني تقريبًا ..
لم أشعُر بشيء.
وضعتُ لنفسي هدفًا :
( عدم تجاوز 10 لمسات في اليوم ).
وتبعًا لذلك كيّفت نفسي على تقليص مرات الوضوء،
وتناول الطعام بالملعقة عوضًا عن اليد،
وتجاهُل الرغبات الملحّة بحك أجزاء مُتفرقة من الوجه.
بدأ دماغي يفهمني.
وذبلت يداي في جيوبي.
أما وجهي فصار مكانًا مُنزهًا.
تغشاه السكينة.
كرأس جبلٍ توارى خلف السُحب.
ولاحظت أنه يزداد خفّة وتطلُّعًا وكأنه يوشك أن ينفلت.
كان يكفي أن أنظُر إلى نقطةٍ بعيدة لأشعر أنه
يتحرّر مني مثل غزالةٍ تعدو وتختفي في الأُفق.
في تلك الفترة كُنت منشغلة بنفسي أكثر من أي وقتٍ مضى.
أمشي بحذرٍ وبصري في الأرض.
ولا أنتبه لمن يُناديني من أول مرة.
وكُنت أعلم أن هذا اليوم ( الخامس عشر ) سوف يأتي،
إذ قرّرت ألا ألمس وجهي أبدًا لـ 24 ساعة كاملة،
ولم يعُد الأمر بدافع الوقاية أو التحدّي،
بل لأنني أصبحتُ أشعر بمهابةٍ تتعاظم يومًا بعد يوم
إتجاه وجهي، وأدركتُ أنه يملك حياته الخاصة،
وكلّ لمسةٍ تعُد تدخلًا سافرًا في شؤونه.
عزلتُ نفسي في غُرفتي كالمُعتاد وظللتُ دون نوم
لـ 24 ساعة، ودون تناول أي طعامٍ أو شراب.
وحين استلقيتُ على ظهري،
انفصل وجهي عني كنفثة دُخان،
وظلّ طافيًا فوقي للحظات قبل أن يُغادرني إلى الأبد.
أعلم أن كثيرين ما زالوا يرون وجهي في مكانه،
لكن قد يخفى عليهم أنّ ما يرونه ليس سوى أثر،
مثل نسخةٍ باهتة من أوراق الكربون،
أما الوجه الأصل فله روحه المُستقلة.
وقد يُغادرك حين تدعه وشأنه.
ولن يفهم ما أعنيه إلا قلةٌ ممن عاشوا نفس تجربتي.
كان أبي أول من لاحظ شحوبي،
وأرجع ذلك إلى سوء تغذيتي موبّخ إياي على إهمالي.
وحين كان أحدهم ينظر إليّ في الشارع أو مكانٍ ما،
أشعُر أن نظراته تسقط في هاويةٍ كان وجهي يسترها من قبل.
أما الحكّة التي تعتريني فجاءةً في أنفي أو خدي،
فصارت مُجرد تنميلٍ لشيءٍ لم يعُد موجودًا.
أحيانًا كُنت أقف أمام المرآة وأتأمّل انعكاسي الواهِن،
وأتساءل أين يُمكن أن يكون وجهي الآن ؟.
وما الذي يفعله ؟.
لعله يتشبث بغيمة،
أو يطفو على سطح المُحيط،
أو يسكنُ شُرفة رجُل وحيّد،
أو يخوضُ حربًا.
ولا أستبعد أن يكون قد التصق بوجه فتاةٍ أقلّ شرودًا مني.
وكثيرًا ما كُنت أُحاول أن أتذكّر ملمسة دون جدوى،
فلم يبقَ لي منه سوى إسفنجةٍ منزوعة الروح،
تزداد انكماشًا يومًا بعد يوم.
وذات ليلة استيقظت من نومي مُنتقضة وشاعرة بحنينٍ
جارف لشيءٍ لا أعرفه.
وعلمت على يقين أنّ وجهي عاد إليّ،
تمامًا مثلما علمت أنه غادرني من قبل.
خفق قلبي بشدّة،
وهممتُ أن ألمسه لأول مرةٍ منذُ شهر،
لكنني ..
لم أجد يدي.