عرض مشاركة واحدة
قديم 01-21-21, 01:15 PM   #438
أعيشك

الصورة الرمزية أعيشك
غيّمُ السّلام.

آخر زيارة »  يوم أمس (05:56 PM)
المكان »  عاصِمة النساء.

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



تتراقص زخات المطر الخفيفة،
هاربةً من قطن السماء مُعكر اللون،
لتقرع زجاج النافذةِ بِخفة،
فتُعيد عزف نوتاتٍ لمقطوعاتٍ قديمةٍ،
كانت قد خُزنت في متاهات ذاكرتي العتيقة.
لا أعلم حقًا كيف لوقع إيقاعات المطر تلك القدرةُ
في نبش سراديب الذاكرةِ التي قد دُفِنت منذُ زمن،
وكيف أنها لا تنتقي إلا المُخرج منها بالمشاعر
المُلبدةِ بالحزن والسواد،
تنتقي تلك التي ستُعيد عليك نفس طقوس الوجع
والضعف التي عانيتَ منها في تلك المُدة.
ولم يكُن من ذاكرةٍ لشخصٍ يجلس وسط الظلام
على نور فانوسٍ باهت أمام مكتبهِ الصغير في غرفته،
بينما يراقب من نافذتها ذلك الحفل الذي يُقام
على شرف نبش قبور الذكريات المريرةِ والأوهام،
إلا أن تستخرج جثة ذكرى متحللةٍ لتستعرضها أمام ناظريّ.
كنت واقفةً على ظهر باخرةٍ أنظر في شرود بإتجاه اليابسةِ،
أودع بقايا سرابها الذي تخلصت من كل آلامي وجراحي
عليه قبل الهروب، أو هذا ما ظننته.
فعندما ضاقت بيّ الأرض،
وباتت همومي تنافس أنفاسي لتخنقني،
قررتُ أن ألوذَ للمحيط اعتقادًا مني أن له
القدرة على بلع الظلام الذي يستكين دواخلي،
على خلاف الأرض الصلبةِ التي تصدهُ لترده لي مضاعفًا.
شعرتُ بالهواء يتسلل ببطء لرئتيّ،
حالما اختفى آخر أثرٍ لليابسةِ في الأفق،
أخذتُ تنهيدةً عميقةً،
وها أنا ذا لأول مرةٍ منذ زمن أشعر بالهواء يتغلغل بداخلي،
فكل ما كان يصلني طوال الفترةِ الماضية ماهو إلا بقايا ذراتِ
هواءٍ تنازع للوصول إلى حنجرتي فتصتدم
بصخرةٍ تسدُّ المجرى لتعيقها عن المواصلة.
شعرتُ بأنني ولدتُ من جديد،
فها قد تخلصت من كل شيءٍ سيء
حسب اعتقادي في ذلك الوقت،
وكأنني أرى السماء والغيوم، الشمس والبحر للمرة الأولى.
وبسبب غبائي ونشوتي بالحرية في تلك اللحظات،
نسيتُ أن للسعادةِ حدود،
وأن هذهِ الراحة ماهيَّ إلا كِذبةٌ ستظهر
جليةً على أوجه الساعات والدقائق.
إلتقطت كتابي المُفضل من حقيبتي،
وبدأت في الإستمتاع بالغوص فيه،
كما لم أفعل منذ مدةٍ ليست بالقصيرةِ على الإطلاق،
لم أشعر بالوقت حينها،
والذي مرَّ سريعًا ليخطف نور الشمس،
ويقدمهُ كمقبلاتٍ لغسق الدُجى مع ضيفةِ الظلام،
وقفتُ أراقبهم بِصمت وكل براكين الأرض تتأجج بداخلي،
وعلى خلاف كل ليله،
كُنتُ مُتحمسةً للأمسيةِ التي ستقام في هذه،
دقات طبول قلبي تتناغم مع إيقاعات مراسم استقبال " ليل "،
وكلي أملٌ في أن هذه الليلة ستكون مختلفةً عن سابقاتها،
وقد كانت مختلفةً بالفعل!.
لطالما كنت أحب الليل بسكونه،
ولطالما كان يبث فيَّ أحاسيسًا لا أستطيع ترجمتها،
هي فقط تجعلني أشعر بالإنتشاء،
وكأنني في عالمي الخاص الذي لم يُخلق لغيري،
عالمي اللذيذ والشهي.
لكنه وفي الأونةِ الأخيرةِ كان كالجحيم بالنسبةِ لي،
فما إن يُسدل الظلام رداءه حتى يبدأ الليل
بِمُمارسة طقوس الوصي الخاص بهِ عليّ،
ولكم كان الليل طريقًا طويلاً شاقًا غير معبدٍ،
بشق الأنفُس أنتهي من عبوره،
وأنا بلا زادٍ ولا مدد.
لذا فالليلة ليست كأي ليلة..
الليلة سأراقب النجوم بشغفٍ،
وهي تتباها بإنعكاساتها على سطح المُحيط الساكن.
الليلة ستُعزف السماء ترنُمات السلام
والطمأنينة لتُغلف بها الأرض،
الليلة ستكون كما لم تكُن أي ليلةٍ من سابقاتها،
فهذه الليلة سَتُخَلَدُ ذكراها في ثنايا ذاكرتي حتى الموت،
وقد كنت مُحقة في حدسي هذا،
فذكراه لم يُفارقني حتى اللحظة.
كانت ليلةً داكنة،
لا قمر ولا نجوم،
حتى البحر يعيش حالةً من الذهول،
كنت أتأمل ما حولي بِوجوم،
فبدلاً عن كل ذاك الحماس الذي كان يعتريني قبل لحظات،
هُنالك غلافٌ من الرهبةِ والتوجس يلتف حول قلبي،
الهواء بدأ بالتناقص وشعور الإختناق جاء يُراودني عن نفسي،
ولكم كنت غبيةً عندما ظننتُ بأن للبحر القدرة في بلعِ الظلام،
فما رأيته هو أن له القدرة في نشر الظلام أكثر،
بينما هو بارعٌ في بلع جزيئات الأكسجين.
شعرت بأنني مُجرد مُغفلة إستمرت بِخداع نفسها بالأوهام،
عصفت أعاصير هوجاء بداخلي،
وألمٌ شديدٌ بدأ ينهش صدري لأمسك مكان الألم،
بينما أرخي بنفسي لأسقط على ركبتيّ،
صريرٌ حادٌ يصُمُ أذنايّ،
ولا شيء بعدها سوى السكون..
أغمي عليّ في ذلك اليوم من شدةِ ما أعتراني،
أدركتُ كم كنت ساذجة حينها،
وأيقنتُ بأن لا قدرة لمكانٍ معين،
كالحديقةِ والشاطئ، أو حتى منتصف محيط.
في أن يمتصَّ ماضيك المرير وأوجاعك الحالية،
بل إنه بإمكان زقاقٍ نتن أن يجعلك تشعر بتحسنٍ،
مادُمت تملك فيه بعضًا من الذكريات اللطيفة،
ولستُ أعتب على سذاجتي وغبائي في كثيرٍ من المواقف،
بل أنا شاكرةٌ لهما!.
فلولاهُما ما استطعت النظر للأشياء من أوجهٍ أخرى.