عرض مشاركة واحدة
قديم 03-01-21, 10:49 AM   #12
الفيلسوف

آخر زيارة »  05-07-24 (05:23 AM)

 الأوسمة و جوائز

افتراضي







يءٌ مريحٌ جداً أن تقول: إذا شاء الله أمراً فعله,

((فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))

[أخرجه مسلم في الصحيح]


أي أنك أيها الأخ حينما تكون مؤمناً, تلغي من قاموسك كلمة (لو)، فكأنها غير موجودة، الشدة النفسيَّة تأتي من الندم؛ فلا ندمَ، ولا تمنيَ، ولا حسرةَ، ولا حزنَ، كل هذه المعاني غير موجودة، فهذا حديث مهم جداً، أحياناً التعليم عن طريق الأفعال أقوى من الأقوال ، لغة العمل أبلغ من لغة القول .
كان من الممكن ألا يقع هذا الحديث، لأكثر من عشرين سبب، لكن الأحداث التي وقعت في عهد النبي, أحداثٌ مقصودةٌ لذاتها لتكون تشريعاً، ولتكون السيدة عائشة قدوةً لكل امرأةٍ في الأرض أصيبت بسمعتها- .
قالت: فأخذوا الهودج, وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه، ورجعتُ إلى العسكر, وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس.
-معنى ذلك: أنها ابتعدت، فلما رجعت مكان الهودج, رأت الناس قد ارتحلوا، لا سميع ولا مجيب, ولا قريب- .
قالت: فتلففت بجلبابي, ثم اضطجعتُ في مكاني الذي ذهبت إليه، وعرفت أن قد لو افتقدوني رجعوا إلي, فو الله إني لمضطجعة, إذ مرَّ بي صفوان بن المعطَّل السُلَمِيّ .
-أنا أريد أن أزيد من قناعة الأخ الكريم؛ أن كل شيءٍ وقع أراده الله, لحكمةٍ بالغةٍ بالغة: يجب أن تعلموا علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن كل شيءٍ أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلِّقةٌ بالخير المطلق .
هذا الصحابي الجليل مرَّ بها, وكانت مضطجعةً, قد تلففتْ بجلبابها في مكانها الـذي تركوها فيه، وقد كان تخلَّف عن العسكر لبعض حاجته .
نشأت له حاجة, فتخلَّف عن العسكر، فلو لم تنشأ له حاجة, لما تخلَّف عن العسكر, ولما كان حديث الإفك، لو لم يتأخر, لافتقدوها بعد حين، رجعوا إلى المكان فوجدوها, فحملوها وانطلقوا، فلم يكن هناك حديث إفك- .
قالت: فلم يبت مع الناس في العسكر، فلما رأى سوادي, -لم يُر منها شيء، ملفَّفةً بجلبابها- أقبل حتى وقف عليَّ فعرفني, وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون, أظعينة رسول الله؟ وأنا متلفِّفةٌ بثيابي، قال: فما خلفكِ رحمك الله؟ قالت: فما كلَّمته ثم قرَّب البعير حتى أركبني، حتى قال لي: اركبي رحمك الله واستأخر عني، قالت: فركبت, وجاء فأخذ برأس البعير, فانطلق بي سريعاً, يطلب الناس .
-هل يستطيع هذا الصحابي الجليل أن يفعل غير هذا الذي فعل؟ صحابي جليل يرى أم المؤمنين، يرى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، يرى ظعينة رسول الله متخلِّفةً عن الركب وحدها، متلفِّفةً بثيابها، هل يستطيع أن يتركها ويمضي؟ مستحيل- .
قالت: فو الله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا ، طلع الرجل يقودني، فقال: أهل الإفك ما قالوا؟ -رأوا زوجة رسول الله على بعير صفوان بن المعطَّل السلَمي- فارتجَّ العسكر، فو الله ما أعلم بشيءٍ من ذلك، ثم قدمنا المدينة, فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيءٌ من ذلك، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وإلى أبويَّ، ولا يذكران لي من ذلك قليلاً ولا كثيراً .
-فلماذا لم يذكر النبي لها قليلاً ولا كثيراً, ولا أباها ولا أمها؟ لثقتهم الكبيرة بأنها طاهرة، فأصعب شيء أن تتهم إنساناً بريئاً، شيءٌ لا يحتمل، ظلمٌ شديد أن تفتري على إنسانٍ افتراءً لا أصل له- .
قالت: إلّا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بعض لطفه بي، إن كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك, فأنكرت منه، كان إذا دخل عليّ, وأمي تمرِّضني, قال: كيف تيكم, ولا يزيد على ذلك؟ أما من قبل كان إذا دخـل عليَّ وأنا مريضة, يقول: كيف عويش ؟ .
-عويش من ألفاظ التحبُّب لاسم عائشة، فهناك أسماء يُتحبب بها بتعديلها، تصغيرها، أو اختصارها، أو ترخيمها، كان عليه الصلاة والسلام يقول: كيف عويش؟ أما الآن يقول: كيف تيكم؟- .
قالت: أنكرت منه ذلك، حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني, فقلت له: يا رسول الله, لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرَّضتني، قال: لا عليك اذهبي إن شئتِ, فانتقلت إلى أمي, ولا أعلم بشيءٍ مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضعٍ وعشرين ليلة .
قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكُنُف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، وإنما كنا نخرج في فُسَح المدينة، وإنما كان النساء يخرجن كل ليلةٍ في حوائجهن ، فخرجت لبعض حاجتي, ومعي أم مسطحٍ بنت رهمٍ بن المطلب، وكانت أمها بنت صخرٍ بن عامرٍ خالة أبي بكر .
قالت: فو الله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها, -أي في كسائها- فقالت: تعس مسطح .
-الآن أول خبر يصل إلى عائشة، هيَ ماذا رأت؟ رأت النبي يجافيها، ولكن ليس جفاء مطلقاً بل جفاء نسبياً، كيف عويش؟ سابقاً، كيف تيكم؟ فالإنسان الحسَّاس الذي عنده مشاعر رقيقة, يشعر بأدق التغيُّرات، فاستأذنت النبي أن تنتقل إلى بيت أهلها فأذن لها، وهي في طريق قضاء حاجتها, قالت لها هذه المرأة: تعس مسطح- .
قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجلٍ من المهاجرين قد شهد بدراً, -هي لا تعلم ماذا حدث؟
صحابي جليل رأى أم المؤمنين في الطريق، أركبها على جمله، وقادها إلى الركب-.
قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتي بالذي كان من قول أهل الإفك .
-اتهمت بالفاحشة مع صفوان بن المعطَّل السلَمي, يمكن أن يُلغى حديث الإفك، ولكن الله أراده، دليلٌ هذا قولُ الله عزَّ وجل:

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾

[سورة النور الآية: 11]

قس على هذا أيها الأخ الكريم، قس على هذا الحديث أنه إذا أصابك شيءٌ تكرهه، اقرأ قوله تعالى:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 216]

الله عزَّ وجل لطيفٌ لما يشاء؛ فالله عزَّ وجل ينقل الإنسان من حال إلى حال، من مستوى إلى مستوى، من منزلة إلى منزلة، من مقام إلى مقام، يؤدِّب، يهذِّب، يشجِّع، يقوي، يعين، يعطي خبرات عميقة، ما الإنسان الناضج؟ مجموعة خبرات، كل خبرة تعني أن فيها مأساة، هناك مشكلة، وهناك خبرة مؤلمة ألمَّت به .
مرَّة قال سيدنا موسى بالمناجاة: يا رب لا تُبقِ لي عدواً، قال: يا موسى هذه ليست لي, ليست لله عزَّ وجل، أليس هناك أعداءٌ لله عزَّ وجل، فوطِّن نفسك أنك لا تجد إنساناً إلا وله أعداء، لأن معركة الحق والباطل معركةٌ أزليةٌ أبديَّة، إن كنتَ مع أهل الحق فأهل الكفر والفسوق يعادونك، وإن كنت مع أهل الإيمان فأهل الكفر يعادونك- .
قالت: وقد كان هذا؟! -استفهام إنكاري- قالت: نعم, والله لقد كان, -هذا الذي حصل.
هذه الكلمة التي ألقيت على مسامع السيدة عائشة كأنها قنبلة- قالت: فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدِّع كبدي .