عرض مشاركة واحدة
قديم 12-22-22, 03:26 PM   #1
أثر

الصورة الرمزية أثر
وما زلتُ عابرًا

آخر زيارة »  05-05-24 (12:56 PM)
المكان »  حافة الحروف
الهوايه »  النثر / القص

 الأوسمة و جوائز

افتراضي العمر الآخر // مشاركتي




بني :
‏
قبل 35 سنة، عندما أكملتَ في رحمي تسعة أشهر و أثناء حساسية هذه المرحلة من الحمل ، وأتتني فرصة زيارة الحرم النبوي الشريف نصحني الكثيرون بالامتناع فأصررت، ويكفي أن أقول بأنني كنت تواقة لنيل هذه الفرصة التي قد لا تتكرر أبدا .
جهًّزت بعض الطعام لرحلة العمرة الذي لا يخلو من البروتينات كاللحم وبعض الفاكهة …

بدت لي البغال في البداية كالراقصات، وكنت أشعر بنشوة في النظر إليهن، ولكن سرعان ما استحالت النشوة إلى حزم متذبذبة من الآلام والأوجاع والتي شعرت بأنها ليست في وقتها .
فكرت في الرجوع ، ولكن أي رجوع هذا وقد قضينا أياما وليالي وانتصف الطريق، أحسست بشيء وسرعان ما صدق الإحساس، أسررت لزميلاتي في القافلة وسرعان ما شاع الخبر، توقفت القافلة على الفور ،التفّت النسوة حولي ،ساعدتني إحداهن على الوضع.. ولا أخفي عليك فقد كنت قاب قوسين أو أدنى من شبح الموت ، كنت متوقعة قدوم المولود ،ولكن ما لم أتوقعه قدوم مولودين في آن واحد ..
فكيف - تحت هذه الظروف القاسية وسط الصحراء الشرسة - استطيع الاعتناء بمولود فضلا عن اثنين احتضنتهما على مضض وأنا مجردة من حيلة في الحفاظ عليهما سويا.
‏وصل الخبر إلى ذوي الخبرة في القافلة، علمت ذلك من نقاشاتهم الساخنة ، وسرعان ما أتى أبوك الذي بدأ غبار الصحراء يكسو وجهه ومعه راعي القافلة :
- يا أم زيد ، إن ذوي الخبرة أجمعوا أن الحفاظ على المولودين في هذه الصحراء القاحلة أمر مستحيل، إنك لن تستطيعي إدرار لبن للمولودين في آن واحد ، وقد بقي من الطريق نصفه.
وعقّب على كلامه صاحب القافلة الذي بدا واثقا من كلامه كالعادة :

- شهدتُ مثل هذه الحادثة عدة مرات في حياتي ، وقد لاحظت أنه في كل مرة تصر الأم على حضانة الاثنين دفعة واحدة ، فإنها تخسرهما كليهما، وحدث مرة أن لحقت الأم بالطفلين بعد وفاتهما.
بني..
‏تحت إلحاح الجميع بدون استثناء قررت ترك أحد المولودين، وكان أخوك التوأم أكثر منك حيوية وأنمى عافية فكنت أنت الضحية التي تركت وسط الصحراء المليئة بالذئاب تحت شجرة صحراوية قادتني حماقتي إليها لتظلل عليك ، ظنا مني أنها ستطيل عمرك الفاني قريبا.
‏استطعت الحفاظ على أخيك معافى طول الطريق، ولم أستطع الحفاظ عليه من آفة كانت شائعة في المنطقة المحيطة بالحرم النبوي الشريف- آنذاك- قضت عليه، وأعتقد أن جميع عبارات الندم والأسف في لغات العالم تعجز عن وصف أحاسيس أم فقدت مولوديها رغما عنها ، خلال فترة وجيزة، كان سلاح الضعيف الوحيد هو الدموع والشكوى لله، وهذا ما فعلته، ولم يراود ذاكرتي أخوك بمثل ما راودتها أنت ، ذاك أني كنت أشعر بأني قتلتك بسلاح الحماقة.

شددنا الرحال راجعين للبلاد ولا زال قلبي معتصرًا، وكان أن توقفنا قرب البقعة التي هجرتك فيها، توجهت إلى حيث تركتك تحت الشجرة لعلي أملأ عيني من بقايا رفاتك، فأعفر خدي بها،مسحت عيني، دعكتها عدة مرات، والعقل لا يستطيع تصديق رؤيا العين، كنت نائما مبتسما، وقرب رأسك ذئبة تدر لك من ثدييها، وعندما أبصرتني بعين الرحمة والشفقة، نهضت من مكانها، وكأنها انتهت من أداء
 واجب رباني، فانقضضت عليك أحتضنك ، وها أنت ذا في العمر الآخر..


 


رد مع اقتباس