الموضوع: رحله مع كتاب
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-22, 09:09 AM   #215
عطاء دائم

الصورة الرمزية عطاء دائم

آخر زيارة »  اليوم (08:18 PM)
المكان »  في بلدي الجميل
الهوايه »  القراءة بشكل عام وكتابة بعض الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



مراجعة رواية العمى للروائي البرتغالي جوزيه_ساراماغو

كانت هذه الرواية أوّل لقاءٍ لي مع الكاتب جوزيه ساراماغو، قرأتُها منذ زمنٍ مضى في ليلة أرقٍ مُضنية، إذ ليس من السهل أن تقرأ رواية ديستوبيا عن عمىً يهيمن على مدينة دون أن يُضنيك هذا المدلول بشواهده المُحزنة وواقعه الكابوسي الأليم.

والآن وبعد مُضي حوالي عشرين عاماً على تلك القراءة الأولى عاودتُ قراءتها مرّةً أخرى فاسترجعني ذلك الألم المخزون في الذاكرة، وغمّني فَرَقٌ من أن تحلّ علينا مثل هذه الرزايا فتكشف لنا وجوه الناس على حقيقتها!! وواقع الحال أنّ نالنا -في سورية- ما هو أبشع وأشنع؛ حربٌ لارحمة فيها ولاهدنة دامت أزيدَ من عشر سنوات، وقد أيقظت هذه الحرب طاقاتٍ إجراميةً كانت كامنة عند كثيرٍ من الناس خانوا وطنهم وخرجت منهم شراسةٌ تجهل كلّ اعتدال بعد أن حسبناهم غلطاً أنّهم معيارُ الخير والفضيلة.

في الرواية يُصابُ سائقٌ بعمىً مُفاجِئٍ عند إشارات المرور، فتنطلق أبواق السيارات من خلفه تستحثّه على المسير؛ حتى إذا درُوا بالمصيبة التي حلّت به يتطوّع أحد الرّاجلين مرافقته إلى البيت، لكنّه يحتفظ بمفتاح السيارة ليسرقها فور نزوله!

ينتقل هذا العمى الطارئ إلى زوجة الرجل، وإلى سارق السيارة، وإلى طبيب العيون الذي ذهب الأعمى ليكشف على بصره عنده، وإلى الممرّضة، وإلى بقية المُراجعين المرضى، ومنهم إلى غيرهم ضمن متواليةٍ أشبه بالعدوى الفيروسيّة دون أن تُعرف آلية انتقاله وأسبابه، ولم يُعرف لِمَ هو عمىً يجعلُ المصابَ يرى بياضاً مُطبقاً لا سواداً يطمس عينيه!!.

وقبل أن تُعلن الدولة عجزها عن احتواء الداء، رأت أنه من الأجدر بها احتواء المرضى أنفسهم كي لاتزداد عدوى العمى انتشاراً بين الناس؛ فزرَبَت المعيان ومُخالطيهم في مشفىً للمجانين ووضعت آليّة عملٍ كي لايُزاحم العميانُ غيرهم من مشرفي المشفى والجند الذين يتولون الحراسة فيعدونهم بالداء عن غير قصد؛ وهنا تبدأ الرواية أروع فصولها وأكثرها إيلاماً.

تعاملت الدولة مع العميان كقطيعٍ من البشر، أما العميان أنفسهم فقد فشلت كل محاولات تنظيم بعضهم بعضاً، ثم مالبثت أن خرجت الغوغائية والحيوانية الكامنة في داخلهم. كان أوّل ما فقدوا من بشريّتهم النظافة والإيثار، صاروا يتغوّطون أينما اتفق، ويستأثرون بالطعام ولو بقي غيرهم جائعاً. فقدوا حياءهم إزاء بعضهم وتنكّروا لكلّ فضيلة. وفي هذه المنظور أضع لكم نقاطاً ورؤىً تستحق الوقوف والنقاش:

- يصوّر الكاتب إجرامية الدولة تجاه العميان رأباً لصدعٍ كبيرٍ يجتاح الأمة، رغم أنّه ألمح غير مرّة إلى أنّ الدولة لم تتوانَ عن إمدادهم بالطعام والدواء والمنظفات. أرى من وجهة نظري أنّ تصرّف الدولة محمود العاقبة طالما هدفه الصالح العام، وهل كان الأصوب أن تتجاهل الحكومة داءً مستطيراً يعمّ الناس دون أن تتخذ إجراءً منطقياً!! من المؤكد أنّ ساراماغو استخدم ذكاءه الروائي لكسب تعاطف القارئ مع جملة المصابين لا مع النظام الحاكم رغم براءة هذا النظام من كل ما حصل، وهذه براعةٌ أحبّها منه لأنها تطرح في النصّ مزيداً من العمق والتحليل وهو الغرض الأول من كلّ عملٍ أدبيٍّ يحترم قارئه.

- امرأةٌ واحدة وكلبٌ يبقيان مبصرين بعد أن تعمى الدولة كلها وتنقلب إلى غابةٍ يسكنها الوحوش، وهما وحدهما (المرأة والكلب) يحافظان على معانٍ من الخير والرأفة والإحسان لدرجة أن الكلب يكفكف دموع الباكين ويواسيهم حتى أسماه الراوي "كلب الدموع"!!. أيُّ معنى يريد أن يوصله الكاتب هنا؟!

- ربما أبرّر همجية بعض البشر وهم في محنتهم تلك، أليس تصرفهم الغوغائي منبعثٌ من صون الحياة والخوف من الموت، هل يمكن لبشريٍّ أن يُبقي على خصاله الحميدة وهو في مستعمرةٍ من العميان يتناوشون كسرة الخبز وبينهم وبين الموت جوعاً خطوات؟.

- يُلمح الكاتب إلى أنّ عمى العين حدثٌ طارئٌ لكنّ عمى البصيرة دائمٌ مستحكم، وهو عمىً مستخفٍ يخرج إلى العيان عند فقداننا أدنى نعمةٍ كنّا اعتدنا عليها، وهي إشارةٌ بالغة الأهمية إلى هشاشة السمة الأولى للإنسانية.

- ترك الكاتب شخصيات الرواية وأماكنها دون مسمياتٍ محدّدة، بل إنه صرّح في متن النص أنّ الأسماء هنا لا داعٍ له، فالشخصيات رغم بشريتهم سينقلبون إلى حيوانات؛ والحيوانات لا تتعرّف ببعضها بعضاً إلا بالصوت والرائحة وكذلك العميان في هذه الرواية.

- تحتفظ الرواية بكثيرٍ من المعاني، وربّما قرأ غيري في النص ما لم أقرأ؛ لذلك أعيرُ قلمي لمن قرأ هذا العمل أن يكتب لنا ما استبصرته حصافته وخلاصة رأيه.

صدرت الطبعة الثالثة من نسختي العربية عن دار المدى عام 2013 وتقع في 318 صفحة من القطع المتوسط، وقد قارنتُ خلال القراءة بترجمتين مختلفتين (علي عبد الأمير صالح عن منشورات الجمل، ومحمد حبيب عن دار المدى) فوجدتُ أنّ ترجمة محمد حبيب أفضل وأبلغ. وبالمجمل هي رواية جميلة رغم سوداويتها، كأنّما بالكاتب ينعى الفضيلة والأخلاق البشرية بهذه المرثيّة الروائية الرائعة. وهي مسك ختام قراءات هذا العام.



 

رد مع اقتباس