عرض مشاركة واحدة
قديم 04-27-23, 11:55 AM   #1
مولانا

الصورة الرمزية مولانا
𝐌ỚђᾂммĚĐ

آخر زيارة »  اليوم (08:15 PM)
المكان »  حافة الأشياء
الهوايه »  القراءة، المشي، التأمل، البكاء «أحيانًا»

 الأوسمة و جوائز

افتراضي أولاد الصَّرمَة |غراميات افتراضية



في عام 1932م استلم الأديب اللامع إبراهيم المازني (ت1949م) خطابًا من فتاة تقوله فيه: “سيدى الكريم: أحييك تحية القلوب الرفيعة يسودها الحياء والوفاء، وأبعث إليك من أعماق نفسى بآيات الإعجاب بأدبك العالي وثقافتك السامية…الخ”، واسترسلت في الإشادة بأسلوبه، والتعبير عن إعجابها الشديد به، وأشارت إلى أنها تكتب رواية، وتأمل أن يهديها بعض كتبه وقصصه لكي “تأنس بها في تربية ملكة الأدب الذي أتعشّقه”، ثم ختمت رسالتها باسمها: (فاخرة).

لم يتأخر المازني في الردّ، وكتب بأن أسلوب رسالتها “من أرقى ما عرفتُ من أساليب الرسائل النسوية.. إنها أرقى من رسالتي هذه مثلًا!”، وأرسل إليها نسخًا من مؤلفاته عبر وسيط أرسلته هي، فردّت تشكره، وتعبّر عن أملها في أن تراه، وهنا بدأ قلب المازني يتقافز، واستمر يبادلها الرسائل ويسألها عن روايتها، ويطلب رأيها في مسرحية أرسلها لها من تأليفه.

وفي أثناء ذلك شعر المازني بشيء من الريبة بسبب المستوى الرفيع لـ”فاخرة”، والذي لم يكن معهودًا ويكاد يصعب تصوره بالنسبة لفتاة في ذلك العهد، فأخذ يسألها عن مصدر ثقافتها وصلاتها، فكتب لها مرةً: “أظن أنك حيرتني إلى حدّ -لا تضحكي من فضلك- إلى حدّ أني بدأت أظن أن الذي يراسلني ليست آنسة ذكية القلب، نافذة البصيرة، بل هو شاب داهية، يكاتبني باسم آنسة ليتفكّه بي ويسخر مني، فما رأيك في هذا الخاطر؟”، ثم أفصح عن سبب آخر لشكّه، فكتب: “السبب أنى كنتُ -وما أزال- أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أية حال من الأحوال أن يعجبها إبراهيم المازني، ولست أقول ذلك تواضعًا أو على سبيل المزاح، ولكني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت النتيجة إني تحاشيت أن أحاول التحبّب إلى أية امرأة، ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبي لها، وذلك أني أخشى أن أتلقّى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي، وقد أعذّبها معي”.

لم تتوقف المراسلات بينهما، بل إنه تجرأ وطلب منها -كما يمكنك أن تتوقع- أن تريه صورتها، بعد أن أرسل إليها عبر الوسيط صورة شخصية له، فأرسلت تقوله له أن صورته جميلة، فأطربه ذلك، وكتب لها: “صورتي جميلة.. يالله! أفهم بالطبع أن المقصود أنك ترين في الوجه معنىً يروق لك، معنىً مؤلفًا من فكرة مكونة في رأسك البديع الإنتاج.. الحمد لله الذى أرضاك عني”. ثم عاد يلحّ عليها أن ترسل صورتها، ويفيض في الإفصاح عن غرامه الذي لم يعد يخفيه، فختم إحدى رسائله بقوله: “إجلالي وحبي وأشواقي لك يا فاخرة”، ثم وضع بجوار اسمها xxxx، وهذه العلامة x تشير إلى القُبْلة في عرف شبّان ذلك الزمن، قبل اختراع “الإيموجي”.

وأخيرًا أرسلت إليه صورتها الفاتنة، وأخبرته أنها جاءت إلى مكتبه في جريدة السياسة الأسبوعية فلم تجده، فكاد يجنّ، وكتب إليها باندفاع شديد: “يا فاخرة، يا فاخرة، إنك مسئولة عني، مسئولة أمام الله وأمام ضميرك، وأمامي، عن مصيري وعن جنوني، وعن التياعي وخبلي، لا عذر لك بعد أن أوقدت في صدري هذه النار، وأشعلتها حامية مزغردة.. لا عذر لك إذا أنت جنحت إلى الصدّ، وملت إلى إهمالي واطّراحي، نعم فقد صرتُ أحسّ بأن قلبي مزدحم بحبك، كما ازدحم رأسك بهذا الشعر الذهبي الساحر، فماذا تنوين أن تصنعي بي؟”، وتفاقم ما به فقال: “لستُ أسألك شيئًا إلا الرحمة.. إلا الترفّق بفؤاد مصدوع، ومهجة مكلومة، وكبد جريحة”، وشرع يعدد لها ما يعانيه، ثم قال: “كل هذا وأنا أكتب إليك.. فبالله كيف أكتب.. ألستُ مسكينًا يا فاخرة؟ اعترفي أني مسكين، وأني محتاج إليك، وأنى معذور إذا جننتُ، ولكني سأحتفظ ببقية عقلي من أجلك”، ثم أعاد إليها صورتها لأنها اشترطت عليه ذلك، وتوسل إليها أن ترسل صورتها مع كل رسالة وسيعيدها هو مع الجواب. وبعد مدة من المراسلات قالت له أنها لن تزعجه بكثرة الرسائل لانشغاله، فأدركه الهلع من جراء ذلك، وكتب إليها:” أنا محتجّ، محتجّ جدًا، أرجو أن تعدلي عن قرارك فإن فيه من القسوة ما لا أظنك تعنينه، إلا إذا كنت تريدين تمتحني صبري، واعترف بأن لا صبر لي على هذا، فاصنعي معروفًا لخادمك المطيع، واعدلي عن القرار”.

وبعد جملة من الأحداث اقترحت هي فكرة الزواج، وقالت بأن والدتها لاحظت الرسائل، واعترضت فهي لا تقبل علاقة من هذا النوع بلا زواج، ولكن “فاخرة” كتبت له أنها لن تقبل بالزواج منه إلا بشرط أن يطلّق زوجته أم أولاده، وهنا يبدأ الفصل التراجيدي من الحكاية، فقد حطّم هذا الطلب قلب المازني، وكتب في ذلك رسالة تذوب رقّة وحنانًا، يقول: “أقسم لك أن هذا الحديث قد أثّر في قلبي فأضعفه، وسـبّبَ له اضطرابًا، أرجو أن تكون عاقبته سليمة، مجرد اقتراح التطليق، كان وحده كافيًا لذلك”، وأكّد ذلك مجددًا:

“أعترف لك أن هذه الأحاديث (أحاديث الزوجة والأولاد) أزعجتني جدًا، ومزّقت أعصابي وأتلفت قلبي، ونبهتني إلى مستقبل أولادي، والحقيقة أني قصّرت إلى الآن في حقّهم ، ولكن لن أقصر بعد اليوم، سآكل عيشًا وملحًا، وأحمد الله عليهما، وأدخر لهؤلاء الأطفال المساكين الذين ليس لهم بعد الله سواي، وكم يعيش قلبي في هذه الدنيا؟ لا يطول عمر أمثالي ، لأنى كالزوبعة -والزوابع قصيرة العمر -.. لقد صرتُ بعد هذا الحديث؛ إذا داعبتُ أطفالي أو نظرتُ إليهم وهم يلعبون أحسّ باختناق في حلقي، وبالدمع يكاد ينحدر من عيني فأردّه بجهد.. فکّري معي في هذا ، ولا تسأليني عما أعني ، فإن ما أعنيه واضح، وأنا يا فاخرة لستُ حيوانًا، معذرة، أنا إنسان، يحسّ ويدرك، ويتألّم ويستعذب الألم مادام يسعد غيره، نفسي لا تهمني.. إنما يهمني أن لا أكون حيوانًا، ولا مخادعًا، لهذا رجوتُ ورجوتُ أن تقابليني، وأنت نفسك كيف تريدين هذا لنتكلم بطريقة جدية ولنتفاهم.. ولكن هكذا الدنيا.. المثقل بالهموم يحطّ عليه الدهر كل ما يستطيع أن يحط عليه.. لا بأس! فقد تعوّدت أن تحط الأيام على كاهلي ما شاءت، لقد خلقني الله منحوسًا سيء الحظ، فلأبق منحوسًا سيئ الحظّ”.

لا أخفي عليك أن عينيّ اغرورقت بالدموع حين قرأت هذه الرسالة أول مرة قبل سنوات. وهكذا انقطع ما بينهما منذ ذلك الحين.

(2)

المؤسف في كل ما مضى أن المازني كان بالفعل ضحية بائسة لـ”شاب داهية، كاتبه باسم آنسة ليتفكّه به ويسخر منه” كما شعر ذات مرة، فلم تخلق “فاخرة” قطّ، وصورتها بشعرها الذهبي كانت صورة عشوائية انتزعها المخادع من إحدى المجلات وهي تعود لممثلة أجنبية..

من مقال غراميات افتراضية لعبدالله الوهيبي.


 


رد مع اقتباس