الموضوع: رحله مع كتاب
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-05-23, 07:37 AM   #223
عطاء دائم

الصورة الرمزية عطاء دائم

آخر زيارة »  اليوم (08:21 PM)
المكان »  في بلدي الجميل
الهوايه »  القراءة بشكل عام وكتابة بعض الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



السفينة_البيضاء للكاتب القيرغيزي الكبير جنكيز أيتماتوف. بقلم: حسين قاطرجي.
هذه الرواية ستجعلك تهتف "ياللروعة" مع كلّ فقرةٍ من فصلٍ تمرّ بك. هي رواية واضحة، بسيطة، غير مثقلة بالأسرار، لكنها مليئة بالمفارقات الدّالة والإشارات الموحية والعميقة.

في الرواية: يعيش طفلٌ يتيمٌ في السابعة من عمره مع جدّه مأمون ويتقاسمان معاً حياةً مغمّسةً بالفقر وسوء الحال. لم يكن للطفل أصدقاءٌ حقيقيون، بل جلّ أصدقائه من غير البشر، صخورٌ يُطلق عليها مسمّياتٍ تشاكل أشكالها، وحيواناتٌ عديدة أبرزها الغزالة الأم وأبناؤها، والكلب بالطيك، أمّا صديقته الأحبّ إلى قلبه فهي تلك الحقيبة المدرسية التي يساررها همومه الصغيرة والتي اشتراها له جدّه من بائعٍ جوّال، وبها افتتح الكاتب روايته.

لايعاني الجدّ مأمون -وهو شريك البطولة الروائية- من شيخوخةٍ جسديةٍ أو نفسيّة رغم كبر سنّه، لكنّه يعاني من عزوف قومه عن احترامه. كان الرجل طيب القلب، خيّراً بشوشاً بسكينةٍ صوفيّةٍ وصفاءٍ وجداني، وكل من ينظر إليه يقرأ في عينيه عبارة "ماذا يلزمك لأساعدك" كان مستعداً لتقديم المؤازرة والمعونة لأيٍّ كان ومهما بلغ به التعب. كان بالفعل ينبع طيبةً وإنسانيةً؛ ولأجل هذه الطيبة والعفوية كان قومه يحسبونه ساذجاً ويعاملونه على هذا الأساس!.

يعمل الجد مأمون عند صهره أرازكول المتنفّذ في البلدة والماهر في نشر جوره على الناس، وكان أرازكول يعامل حماه معاملة سوءٍ أيضاً، وكذا يعامل زوجته بيكي التي لم تنجب له أبناءً، ويحدّثها كلّ ليلةٍ بلسانٍ زنخٍ قذرٍ بلغميٍّ قبل أن يشرع بضربها لأجل عقمها الذي لاتملك له سبباً ولا حلاً. أما الطفل بطل القصة فلم يكن يتيماً بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ كان أبواه منفصلان ويعيشان في بلدتين بعيدتين دون أن يتواصلا معه، لكن كلّاً منهما ينوي أن يضمّ ابنه لاحقاً إلى أسرته الجديدة. والطفل يقتات خبز هذا الأمل.

في البحيرة البعيدة تمخر سفينةٌ بيضاء يراها الطفل بمنظاره الصغير، كان يحسب أنّ أباه يعمل هناك، ولطالما حلم الطفل بأن تحمله الغزالة إلى شاطئ البحيرة وهناك يصير سمكةً يسبح نحو السفية ليرى والده ويحدّثه عن زوج خالته الظالم وجدّه المسكين وأصدقاءه من الصخور والحيوانات. هذه الفكرة من الرواية تصل بالقارئ إلى التخوم القصوى من العاطفة. إذ ليس في الوجود ألمٌ يشابه بحث طفلٍ عن الأمان ويلوب على حضنٍ دافئٍ يعوّضه غياب الوالدين الملوّع.

تحتلّ الطفولة والحيوانات حيّزاً واسعاً في أعمال جنكيز إيتماتوف، فكما تتمحور روايته النطع حول الذئاب، ووداعاً يا بوليساري حول الخيل، نلاحظ في السفينة البيضاء حضوراً جليّاً للغزالة الأم وأبنائها. ويسخّرها الطفل بأفكاره وظنونه لتكون منقذاً وحامياً له من مفاسد البشر وسوء معاملتهم له ولجدّه.

يضع الكاتب الطفل في المرتبة الأولى ويجعله هو وأشياؤه الصغيرة التي يلاعبها ويحدثها محور الحكاية وأساسها، ويحشد في حوار الطفل المتخيّل مع والده تورّداً وذبولاً في آن؛ تورّد الطفل بلقاء أبيه، وذبول الأب بلقاء ابنه.. تلك المسؤولية التي لايريدها. ولا أحدّثكم هنا عن العذاب المحتوم الذي سيتولّد عند القارئ لغياب الحبّ المقدّر بين الأب وابنه، ومقابلة براءة الطفولة بالجلافة.

صدرت الترجمة العربية من الرواية عام 2016 عن دار علاء الدين للنشر والتوزيع وبترجمة موفقة من الدكتور ماجد علاء الدين، وتقع في 203 صفحات من القطع المتوسط. وبالمجمل هي رواية رائعة لاتريد أن تحسوها دفعةً واحدة؛ بل تتناولها جرعة إثر جرعة وبغير عجلة أو رغبة في الانتهاء.



 

رد مع اقتباس