الموضوع: صرخة ( إبداعي)
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-09-23, 09:37 AM   #1
أثر

الصورة الرمزية أثر
وما زلتُ عابرًا

آخر زيارة »  05-01-24 (03:56 AM)
المكان »  حافة الحروف
الهوايه »  النثر / القص

 الأوسمة و جوائز

افتراضي صرخة ( إبداعي)



لا تدري لمَ لمْ ترفض ولم تقل حتى حرفا واحدا قبل عشرين عاما،عندما سئلت صرخت بصمت من الداخل ، ثم استسلمت لقرار العائلة، وبعد عشرين عاما تشجعت فصرخت وهي تتلذذ بصراخها وتمزق ما بقي من خلاياها المهترئة طاعة والمحشوة قناعة، لا تدري لمَ لمْ تختزل الزمن بين هاتين الصرختين.
ولا تدري كيف عاشت جارية في قصره المنيف الذي تزينه التحف والنفائس وتكمله التماثيل الآدمية، ولا تدري كيف انطوت صفحات تلك السنين بين حكايا شهرزاد وجبروت شهريار وأكثر من ألف ليلة .
حقا كانت مميزة في قصر زوجها فهي أجمل وأروع وأقدر تمثال يمارس السمع والطاعة وهي أسهل من أن تحركها أيادي السيد التي تمسح على شعرها الأسود الطويل فيما هو يغتصب صمتها في الليلة ألف مرة ومرة.
ومضى الزمن وهرمت ليال وماتت أخرى إلى أن فاجأتها بغفلة عنها عوامل التعرية فاجتاحت زوايا نفسها وتغلغلت في العمق وتآكلها المرض وسكنتها العلل من كل نوع وصنف حتى أصابتها بالخواء ومزقت روحها ثم طفحت نافرة على سطح جسدها الرائع تغتال جماله بقسوة الزمن الذي مضى.
اشتعلت الرقية وبخرت التعاويذ، لكن السحر عجز، وفشلت تمائم الكهان والعرافات، فامتلأ السيد حقدا واشتعل غضبا على أجمل تماثيله الآدمية، فثار وأرعد ثم صفق لجبروته وفرك قوته وإذا بصوت بداخله يأتيه واضحا:
لبيك عبدك بين يديك، طلباتك أيها السيد!!
فيهتز طربا ويصرخ على المارد بداخله صائحا:
أبعد هذا التمثال العتيق العليل من هنا، مشيرا إلى جمال زوجته التي كانت وما زالت روعتها خافية عن بصره الأعمى.
ويعود الصوت مرددا من داخل نفسه:
أمرا وطاعة يا سيدي!
وهو يبعد عنه وبقسوة عشرين عاما من الجمال والفتنة والصمت والطاعة، ويقهقه فرحا لهذا الخيار الأخير .
فجأة وفي ليلة ظلماء يفوح من عتمتها العتق ويتخللها الوجع ويختبئ تحت ثناياها الندم، تتفتق الظلمة عن يد حانية رقيقة تحاول أن تزيل غبار الزمن عن ذاك التمثال الرائع الحزين وتداوي علله، فتخرج السوس من أحشائه المريضة وتملأها دفئا وتغذيه حبا، لحظات وترتعش عروقه المتيبسة والمنسية خلف عتمة الزمن وقهر الليالي البارزة، وتدب فيها حرارة لذيذة لها رائحة العشق ومتعة المرة الأولى، لترتسم ابتسامة شاردة هاربة على الشفتين المزرقتين عطشا ورغبة فتتورد الوجنتان وتسري الحرارة في الأوصال الباردة، فينتفض التمثال الصامت بداخلها ، وترجف الحياة في يديها المعروقتين وهنًا فتمدهما بارتعاشه للقادم الجديد، مرددة بغنج أنثى ودلال امرأة كادت أن تنسى الأنوثة.
من أجل عينيك ..سأصرخ!
وتتحرك برغبة مجنونة وسرعة محمومة في ظلام تلك الليلة يهتز جسدها تمردا تحت غلالتها الليلية وتصرخ روحها خلاصا.. وبإصرار تتجه إلى بلاط السيد، ومع صوت موسيقى زرياب التي تصدح مناجية خيوط الفجر أن تنفلق.. ومع صوت الطرب الذي يشق انبهار السحر أمام التمثال الآدمي الجديد والذي يتثاءب مللا وضجرا في حضن السيد ومع اهتزاز الفوانيس المضيئة وخيالاتها ورسوم أشباح العتمة.. ومن بين الصخب والعنف يرتفع ذلك الصوت العميق عمق السنين العشرين بشموخ وعزة ونفور، يصرخ مفتتا صبر القرون مطالبا بحقه في التقازم :
- أيها السيد.. أريد حريتي؟! والآن!!
ثم يقهقه من بين حرائق حيرته وبنبرة غريبة يكمل:
- لماذا؟! ومن أجل من؟!
وقبل أن يأتيه الجواب وبلحظة يفور الليل وتتمخض العتمة فيتوالد فجر عقلها مشرقا بالنور ، ثم ينبثق من رحمه طيف غريب يهز التمثال العتيق ويحتضن الروح الرائعة التي يغلفها.
يتوقف الموت، وتدب الحياة.. وبلحظة عشق مجنونة..
تصرخ الأنثى من داخل التمثال ملتفتة بكل قوامها الجميل صوب السيد وممتلئة بالطيف الذي سكنها :
-من أجل عينيه!
في هذه اللحظة تتبعثر قطع التمثال المتعفنة في كل الزوايا!!


 


رد مع اقتباس