الموضوع: رحله مع كتاب
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-11-23, 07:16 AM   #232
عطاء دائم

الصورة الرمزية عطاء دائم

آخر زيارة »  اليوم (07:58 PM)
المكان »  في بلدي الجميل
الهوايه »  القراءة بشكل عام وكتابة بعض الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



مراجعة رواية الأنفس الميتة للروائي الروسي الكبير نيقولاي_غوغول

في هذه الرواية يبهر غوغول قرّاءه بحسّه الفكاهي الساخر ويتركهم يحتضرون من فرط الضحك (ليس حرفيّاً). يقدّم الكاتب نقداً لاذعاً لممارسة روسيا القيصرية لبيع الأقنان الفلاحين الأحياء الأموات؛ وكي لا يذهب فكر القارئ نحو "الزومبي" فإنّ المقصود بالأحياء الأموات هم طبقة الفلاحين العبيد الرّازحين تحت سيطرة الإقطاع والذين ماتوا خلال العام ولكنّهم لايزالون أحياءاً في سجلات الدولة، ولايتم تصفية قيودهم إلا بعد إجراء المسح في العام الموالي.

يتفتّق ذهن الماكر المتلاعب بطل الرواية "تشيتشيكوف" عن فكرةٍ لاتخطر على بال، وهي شراء الأقنان الأموات من مالكيهم بسعرٍ زهيد (كونهم أمواتاً) وتسجيلهم في حسابه، وكلما زاد عددهم كان خيراً له، لأنّه سيحصل في نهاية المطاف على قرضٍ سخيٍّ من البنك بصفته إقطاعيّاً يحوز على مئات الأقنان، وريثما يأتي موعد الأحصاء التالي واكتشاف الحكومة أنّ أقنانه أمواتاً يكون قد قبض المال من البنك وهرب إلى حيث لايعرفه أحد مستمتعاً بالخير الوفير!

يبدأ "تشيتشيكوف" رحلته مدفوعاً بالرغبة لاكتساب مكانةً إجتماعية بالطواف حول قرى الريف الروسي، ويتعرّف على رجال الدولة المتنفّذين وكبار مالكي الأقنان الروس، ويغريهم بشراء الأنفس الميتة منهم طالما أنها لاتزال مُدرجة في لوائح الدولة، وعلى المالكين دفع الضرائب عنها حتى إغلاق قيودها في الإحصاء التالي، وعليه فإنّه يُريحهم من أعباء مالية هم في غنى عنها.

يرى بعض الإقطاعيون أنّ فكرة بيع الأقنان الأموات فرصةً ذهبيةً لتخفيض نسبة الضرائب عنهم، في حين يتعجّب آخرون من غباء هذا الرجل الذي يشتري أنفساً ميّتة، أما الفئة الثالثة فأدركوا أنّ في هذه القضية حكايةً ما؛ فأحجموا عن إتمام صفقة البيع حتى يفهموا السبب وكي لا يفوّتوا على أنفسهم أرباحاً متوقعة.

هنا وفي هذا الجزء من الرواية وهو الغالب الأعم فيها ينزع غوغول الصفة الإنسانية عن الطبقة العليا من المجتمع الروسي ويكشف عورتها ويسلط الضوء على طبيعتها الفاسدة المتمثلة بمعاملة الأقنان (الفلاحين العبيد) معاملةً قاسية لاتنمّ عن حسٍّ إنساني، وأنّ هؤلاء ليسوا إلا مجرّد سلعٍ رخيصة تُشترى وتُباع بالتفاوض على سعرها. وأنّ طبقة النبلاء مستعدّةٌ للتغاضي عن الأخلاقي واللاأخلاقي لكسب المزيد من المال!.

يطرح الكاتب من خلال روايته سؤالاً هاماً غير مباشر: من هم الأنفس الميتة؟ لاشكّ أن القارئ سيُدرك الجواب قبل الفصل الأخير. إنّ شخصيات الرواية -وغالبيتهم من طبقة المالكين والنبلاء- المفلسون أخلاقياً والمستعدّون لفعل كل ما يلزم للحفاظ على ثرواتهم ومكانتهم يخفّض مستواهم الإنساني إلى الصفر ويضعهم على رأس قائمة الموتى.. موتى الأخلاق والضمير.

يؤخذ على نيقولاي غوغول انفكاكه عن المنطق وتحيّزه ضدّ المرأة -سنلاحظ موقفه هذا في أعمالٍ كثيرةٍ له- يبقى موقف غوغول من المرأة محل جدل ويعزو كثيرٌ من دارسي الأدب الروسي موقفه هذا إلى اضطرابه النّفسي. كما يُؤخذ عليه إرساؤه الصورة النمطية للفلاحين الأقنان بأنّهم جهلةٌ سُذّج يستحقون ما يعانون منه.

يعترف غوغول في مستهلّ روايته -والتي أصرّ على تسميتها قصيدة!- بأنّ بوشكين محضه فكرة الرواية وطلب منه كتابتها، وأنّه استجاب لرغبة أستاذه الكبير. ويذكر مؤرخو الأدب الروسي أن غوغول وضع جزء الرواية الأول في ثمان سنوات، وخلال السنوات العشر التالية كتب جزءها الثاني لكنّ وضعه النفسي الذي أخذ بالتأزّم حال دون نشره، بل أحرقه الكاتب وجعله رماداً ثمّ صام عن الطعام والشراب حتى وافاه الموت وهو في جفافٍ عقيم!!

في سيرة حياة نيقولاي غوغول وأعماله الخالدة ما يستحق أن يُحكى، وأمّا هذه الرواية فستبقى أيقونةً للثورة الروسية ومحرك شرارتها الأولى. صدرت الرواية عن دار رادوغا عام 1989، وتقع في 432 صفحة من القطع المتوسط، وبترجمة محترفة من غائب طعمة فرمان، وهي رواية يُنصح بها، يكفي أنها من إبداع الكبير غوغول أحد أبرز قامات الأدب الروسي الشاهقة...



 

رد مع اقتباس