الموضوع: رحله مع كتاب
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-04-23, 07:45 AM   #241
عطاء دائم

الصورة الرمزية عطاء دائم

آخر زيارة »  اليوم (04:39 PM)
المكان »  في بلدي الجميل
الهوايه »  القراءة بشكل عام وكتابة بعض الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



مراجعة رواية بيت الأمتار الستين للروائية زينب عز الدين الخيّر

عندما عادت نجوى رفقة وفدٍ حكوميٍ إلى مسقط رأسها جبلة؛ لم يخطر لها لحظةً أنّ هذه الزيارة ستكون بمثابة مبعوث إعصارٍ يبدّد سكون ذاكرتها التي كاد أن يطويها النسيان.
لقد استباحت هذه الزيارة ذكرياتٍ خاملة عندها، فانشغلت بتعريفنا بصولة طفولتها وشبابها في جبلة، انسجاماً مع تعريف ضيوف الوفد الذي يرافقها بالمدينة التي أدرجتها منظمة اليونيسكو إلى قائمة التراث العالمي.

وهناك، في جبلة، ومع كل معلمٍ من معالم المدينة العتيقة ينهضُ لها شخصٌ وحزمة ذكريات وشيءٌ من التاريخ لتصير الرواية حكايةَ أفرادٍ ومدينة ترويها نجوى وكأنها بقايا حلمٍ كانت تراه..
وقد قرأت الرواية في ساعاتٍ ثلاث صرفتها راضياً بالمتعة التي جنيتها منها، وسجّلت خلال ذلك النقاط الآتية:

توحي الكاتبة من خلال عنوان الرواية (بيت الأمتار الستين) أنّ فضاء الحكاية محصورٌ مقيّد، ولكن القارئ يكتشف، على الضدّ من ذلك، أنّ في الرواية حديثاً يستغرق أجيالاً ثلاث وأكثر، وشيئاً من تاريخ المدينة وأحداثها التي وقعت بها وحولها وتفاعل شعبها المعدّ أصلاً وتربيةً للمراس والمعاناة، وجمال الطبيعة فيها التي يتغنّى ساكنوها وزوّارها بها أوقات الصفاء.

أبو رامي (وهو أبو الراوية نجوى) رجلٌ كأنما انحصرت مسرّاته في النسل وحده فأنجب بناتاً وبنيناً كثر، ولكل واحدٍ منهم طباعٌ وصفات مختلفة، تأتي الكاتبة على ذكرها تباعاً في توظيفٍ سرديٍّ ممتع.
أمّا الأم التي تحوط أبناءها بالرعاية والاهتمام وترى فيهم منتهى الحب، نجدها متضوّرةً مهمومةً بعد رحيل زوجها، وتلقى من أبنائها تصرفاتٍ تنعكس عليها بمعانٍ من السرور والحزن أبرزها الابتعاد طوعاً أو قسراً عن بيت العائلة والاشتياق لعودتهم دون مناص.

شخصيات الرواية كثيرة: فعدا عن الأب والأم والأبناء وهم كُثر، يعمّ السردَ حديثٌ عن الأعمام والأخوال وزوجاتهم وأبنائهم، ثمّ الأجداد وآباء الأجداد، غير الجيرة والقرابة البعيدة؛ إنّ المواقف الذي تتخذه الشخصيات تصوغ علاقةً جديدةً وفاعلة مع القرّاء وكلّ هذا يجسّد دوائر دلالية تتشابك وتتضافر فيما بينها ليرى القارئ نفسه ممثلاً بإحدى تلك الشخصيات ومعبّراً عنه، بل ويحكي بلسانه..

من الشخصيات المؤثرة: رامي المسجون لدواعٍ سياسية أبرزها انتماؤه لتيارٍ دينيٍّ متشدّد، والذي يؤثر اعتقاله على نهج أخته هالة فتقرر ارتداء الحجاب ودراسة الشريعة في جامعة دمشق باعتبار ذلك ردّة فعلٍ حادةٍ وانتقامية ممّن اعتقلوه.
ماهر الحالم بركوب البحر قبطاناً على سفينة، لكنّ حلمه الذاوي أبى التحقّق فعمل طباخاً على سفينةٍ باعتباره خطوةً لهدفٍ أبعد.
ندى الأخت الأصغر لنجوى، فتاة جريئة، في روحها فتنة وفي جسمها خلاعة، ترى أنّه لايصلحها إلا التغنّج والدلال. ورشدي وعاطف والعم نزار الطيب والخال عطا الله الذي خطب نجوى لابنه محمود فرُفض طلبه لاشتراط الحجاب على الفتاة. وموفّق ابن عمّ نجوى وحبّها الأول المستعصي على النسيان، وغير ذلك كثيرٌ من الشخصيات التي لايمكن اعتبارها شخصيّاتٍ روائية بقدر ما هي تجلٍّ لشرائح تشبهنا من هذا المجتمع.

يُعلي شأن الرواية أيضاً تطرقها لحالة مُصاهرةٍ بين أسرتين من مرجعية دينية متباينة سنّيّة وعلويّة، ومدى تقبّل ذلك في مجتمعٍ مغلق، أعجبتني هذه التجربة الروائية وتذوقها ومعرفة فلسفتها ومحاورها كونها ولدت من قلم كاتبة هي ابنة البيئة والأقدر على استجلاء الحالة وتوصيفها وتصويرها.

أستخلص من الرواية عبرةً رائعة أظنّ أنّ الكاتبة زينب عز الدين الخيّر أرادتها وألمحت إليها وهي أنّ جراح الفرد إنّما هي جراح الجماعة، وأنّ أصوات الزمان الغابر لاتتبدّد؛ بل يتكفّل التاريخ بعودتها على شكل نغماتٍ متباينة تؤثر في حياتنا وواقعنا. وأنّ بيت الطفولة مهما كان صغيراً ومزدحماً ومتعفّفاً على فقره، لكنه وسيعٌ رحبٌ بألفة سكّانه. ووقتٌ “كان في البال” قضيناه فيه سيبقى أجمل ساعات الحياة.

صدرت الطبعة الأولى من الرواية عن دار دال للنشر والتوزيع عام 2018، وتقع في 245 صفحة من القطع المتوسط،



 

رد مع اقتباس