الموضوع: رحله مع كتاب
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-18-23, 08:12 AM   #243
عطاء دائم

الصورة الرمزية عطاء دائم

آخر زيارة »  اليوم (12:14 PM)
المكان »  في بلدي الجميل
الهوايه »  القراءة بشكل عام وكتابة بعض الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



مراجعة رواية الكراكي للكاتب الكبير حسن حميد

لايكفّ الروائي حسن حميد عن إدهاشي، وكلما قرأتُ له عملاً أزداد إصراراً على أنّه لايكتب أدباً ذي قيمةٍ جُلّى فحسب؛ بل يخلق مجتمعاً من خيالٍ محض لكنك تحسبه أنه الحقيقة كلها.

لاتعجز مقلة عين القارئ -مهما تكن حسيرةً أو كليلة- عن اكتشاف مواطن الجمال في متن النصّ وأسلوب كاتبه ونسيج لغته. فإذا خرجنا عن التشكيل الجمالي لنناقش الدلالات والإسقاطات والأسئلة الكثيرة التي تثيرها البنية السردية لرواية الكراكي، لرأينا أن بين أيدينا نصٌّ يسعى للتمرّد على الجمال ونضوج الفكرة إلى ما هو أجمل وأبدع.

في الرواية: يعيش الطفل عبد الله (عبودة) ميعة صباه رفقة أمه هدلة التي يتركها زوجها دون مبرّر (غياب 1)، فيكفله راعي الكنيسة الأب طانيوس الذي تُختطف زوجته في ظروفٍ غامضة (غياب 2)، ويستفحل حبٌّ كان مخبوءاً عن كلّ عينٍ بين عبودة وماريا ابنة طانيوس لكنّه حبٌّ مبتورٌ لايصلح لغير الثرثرة ولايدخل في طور العلاقة الجادة بسبب غياب ماريا المفاجئ المدهش (غياب 3).

ثم تحطّ في الضيعة قوافل الغجر، ويتنبّؤون بإيمانٍ راسخٍ يزرعه فيهم الكاهن العجوز الذي يبجّله القوم كلهم بأنّ خليفته القادم يقيم في الأرجاء وعليهم أن يجدوه (غياب 4)، وتظهر أمارات النبوءة على الصبي عبودة ويُشاع خبر خلافته؛ فيندلع الناس من فضاء الأرض نحوه ويملؤون عليه بيته وأمه فكانت هذه النبوءة عليهما أسوأ مجلى من مجالي الشر كآفة لكثرة ما يختلف الناس إلى بيتهم طلباً للمسة عطفٍ أو نظرةٍ ميمونةٍ من الصبي المبروك.

يتقاطع مع هذه الأحداث حكاية الزهروري ابن القرية الذي يقع فريسة حبٍّ يملأ عليه قلبه تجاه الغجرية فضّة التي يأفل وجهها الصبوح عنه وتحتجب متواريةً بين البيوت (غياب 5). ويختتم الكاتب الكبير حسن حميد روايته الكراكي بنهاياتٍ تعزّز هذه الغيابات وتؤكد على مرارها غير المُستطاب.

في خضمّ هذه الأحداث تبقى خراف السماء، طيور الكراكي، الأنيقة ببياضها وقوامها الممشوق حاضرةً بين البيوت وعلى ضفاف بحيرة طبرية، لاتخشى الناس ولاتهاب حضورهم، ويستغلها الكاتب لتمرير إسقاطاتٍ واضحة حول الهجرة والقضية الفلسطينية والإنتماء للبيت والوطن.

يكتب د.حسن حميد أعماله بلغةٍ كأنها القريض، لغته قصيدة غزلية هاربة من سالف الزمان، أيام أمجاد العربية، ويستخدم مفرداتٍ ومترادفاتٍ يظنها القارئ ابنة البيئة المحض، لكنّه بالعودة إلى معاجم اللغة يرى أنها فصيحةٌ من أصل اللسان العربي. على سبيل المثال: مُسمّيات أدوات الطبخ والأطعمة ومكوناتها، وهي كثيرةٌ في الرواية.

صدرت الرواية عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2019 وتقع في 318 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية مُلهمة ناضجة بكل عناصرها. ولا أبالغ إن قلتُ حقيقةً صرت منها على قناعةٍ تامة، هي أنّني أُشفِقُ على كلّ قارئٍ لم يقرأ بعد لحسن حميد.



 

رد مع اقتباس