الموضوع: رحله مع كتاب
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-06-23, 07:24 AM   #255
عطاء دائم

الصورة الرمزية عطاء دائم

آخر زيارة »  اليوم (01:47 PM)
المكان »  في بلدي الجميل
الهوايه »  القراءة بشكل عام وكتابة بعض الخواطر

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



مراجعة رواية تغريبة_القافر للروائي العُماني زهران القاسمي الحائزة على جائزة البوكر 2023.

تجسّد رواية تغريبة القافر للروائي والشاعر العُماني زهران القاسمي لوناً من التراث القصصي العربي، هي رحلة نحو ما يدحر وحشة العطش، وبحثٌ مستمرٌّ عن الماء الذي يُقام به أود الحياة.

في الرواية: تُصاب مريم بنت حمد ود غانم بألمٍ نابضٍ في دماغها (داء الشقيقة) لاينجع معه إلا أن تطرح رأسها في الماء، وقد زاد مُصابها حتى صارت تهذي وتسمع أصواتاً تناديها؛ كان آخرها صوتاً جاءها من بئرٍ بعيدة فاستجابت له بعقلٍ مغيّب فوجدت نفسها صريعةً غريقةً في القعر.

احتشد القوم عند فم البئر وانبرى الوعري لإنقاذ المتردّية، وعندما صارت بين أيديهم قالت خالتها عائشة أنّ في بطن مريم جنينٌ حي، فاختلف الحاضرون بصدق حدس الخالة حتى قامت إليها إحداهنّ وبقرت بطنها وأخرجت منه صبيّاً موفور الصحة ينبض بالحياة؛ فأسموه سالماً تيمّناً بسلامته وكفِلته عمة الغريقة كاذية بنت غانم حتى صار رجلاً.

كان لسالم بن عبد الله حاسة سمعٍ رهيفة تصل به إلى لباب الأشياء وجوهرها، كان يسمع خرير الماء وجريانه في أفلاج الأرض حتى صار تُكلان أهل القرية عليه أيام المحل ليقتفي لهم مواطن تجمّع الماء في صدوع الغبراء اليابسة. وهكذا مضى اسمه بين الناس القافر.

في عباب فضاء الرواية قصص حبٍّ شتى، حبّ المرضعة آسيا بنت محمد لزوجها الذي هجرها ثم حنّ لمعشرها بعد طول فراق. والحب العذري الكتيم بين كاذية والوعري والذي ظلّ مطويّاً لايعترف به أحدهما لصاحبه. وحبّ سالم لزوجته نصرا بنت رمضان والتياعه بانتظار نظرة قبولٍ من وجهها الفاتن الخلّاب. وغيرها كثير من قصص الحبّ، لكنّها بالمجمل لا تجعل من ثيمة الرواية حكاية عشق بقدر ما هي هجرانٌ وصدٌّ وبحثٌ دؤوبٌ عن الماء في براري الأرض وسهوبها. الماء الذي هو أسُّ الحياة ومعناها.

في الرواية أيضاً قفزاتٌ زمنيةٌ حادة درجة أنّنا نلحظ مرّ السنون المثابرة على الإنقضاء بين فصلٍ وآخر، وجميلٌ ما سيجده قارئ الرواية من أنّ زمن الأحداث مرتبطٌ بحضور الماء وغيابه، وأنّ أعمار النّاس تحددها التجارب وعقبات الحياة لاتوالي الأيام.

لايسع المتأمّل في الرواية إلا أن ينبهر باللغة الحكيمة التي استخدمها الكاتب. هي لسانٌ ينطق من وحي البيئة، ويبدو أن زهران القاسمي توخى تخيّر المفردات ذاتها التي اصطلح أبناء المنطقة على توارثها حتى لو استعصى على غير العُماني فهمها، كما زيّن نصّه بمفرداتٍ عاميّة لم تزعج النص ولم توغل كثيراً في المحكي. ولم يحرص على استخدام لغةٍ شاعرية ولو أراد لفعل ونعلم أنّ في رصيده دواوين شعرٍ عدّة.

هذه الرواية وأمثالها تشكّل إضافةً مُنتظرة للمكتبة العربية، من حيث أصالة موضوعها وطريقة معالجته الأدبية والدرامية، كما هي أرشفةٌ لمفرداتٍ محكيّةٍ كاد يُخشى عليها من الاندثار لزوال المهنة التي ارتبطت بها. وصريح القول أنّ الرواية تستحق جائزة البوكر التي نالتها، كما يستحق كاتبها الاحتفاء والتكريم لأنه قدّم مغامرةً -أدبيّةً- شكليّةً وتجريبيةً تغطي على الاستهتار الأدبي الذي أنهك الرواية العربية خلال العقدين المنصرمين؛ لكنّه عملٌ بديعٌ يتيم ضمن جوقة نشرٍ شديدة القتامة والدمامة، والزهرةُ لاتصنع ربيعاً.

صدرت الرواية عن دار مسكلياني وتقع في 230 صفحة من القطع المتوسط، وبالمجمل هي رواية لاتمارس على القارئ مهنة الواعظ المتفلسف، بل تنقل له وقائع صادقة من بيئةٍ تغشاها أطوارٌ من السلام والتعب تماماً كما السماء التي تجود علينا طلّاً، أو تقلع فتلد سنيناً عِجاف..




 

رد مع اقتباس