عرض مشاركة واحدة
قديم 05-08-10, 08:29 PM   #7
M.ahmad

الصورة الرمزية M.ahmad

آخر زيارة »  اليوم (03:18 AM)
المكان »  في مكانٍ ما قريبٌ من السماء
الهوايه »  لا تقيدني هوايه
حمامة السلام
مقصوصة الجناح
شفها السقام
تبكي من الجراح

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



ها أنا ذا..

فأين هو ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق لأيّ عربي أن عرض فيها لوحاته قبلي. أين هو الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيدٍ واحدة..

ذلك الذي لم أسأله يوماً ماذا فعل بيدي الأخرى!

وها هي "حنين" لوحتي الأولى، وجوار تاريخ رسمها (تونس 57) توقيعي الذي وضعته لأول مرة أسفل لوحة. تماماً كما وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميلادك الجديد، ذات خريف من سنة 1957، وأنا أسجِّلك في دار البلدية لأول مرة..

من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك اللوحة لأول مرة..

لوحة في عمرك.. تكبرينها _ رسمياً _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر لا غير.

لوحة كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لأبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم وقفت أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر...

على مفكرة ملأى بمواعيد وعناوين لا أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ذلك اليوم: نيسان 1981، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية الأيام. قبل ذلك اليوم، لم أجد في سنواتي الماضية ما يستحق التميز.

فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر. وكنت املأها غالباً كي لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائماً عندما يكون على مساحة ورق.

ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن فيها ما يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة واحدة لا تاريخ لها سوى الغربة. غربة كنت أحاول أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات إلى ثماني مفكرات لا غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق الأخرى... مسجلة لا حسب تواريخها الميلادية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي الاختيارية.

أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك الدائرة. كأنني أطوقك وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى الأبد.

كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفاً للذاكرة؛ كأنه سيكون ميلادي الآخر على يديك. وكنت أعي وقتها تماماً أن الولادة على يدك كالوصول إليك أمر لن يكون سهلاً.

يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تكن تحمل في النهاية سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم هاتفك في لقائنا الأول أو صدفتنا الأولى تلك.. وبأي مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلّ الأسباب تبدو ملفّقة عندما يطلب رجل من فتاة جميلة رقم هاتفها؟

كنت أشعر برغية في الجلوس إليك.. في التحدث والاستماع إليك.. عساني أتعرّف على النسخة الأخرى لذاكرتي. ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه لأول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية للغرباء بضمير الجمع.. فلا أملك إلا أن أجيبك بنفس كلام الغرباء بالجمع..

كانت الكلمات تتعثر يومها على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة لا أعرفها.. بلغة لا تعرف شيئاً عنّا. أيعقل بعد عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية محايدة..

- Mais comment allez-vous mademoiselle?

فتردين عليّ بنفس المسافة اللغوية:

- Bien.. je vous remercie..

وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو.

تكاد ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة لاحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينية افتقدتها..

- واشك..؟

آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة منِّي.. كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في معصمها سواراً كان لأمي؟

دعيني أضمّ كلّ من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد ملامح (سي الطاهر) في ابتسامتك ولون عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في طلّتك. ما أجمل أن تعود أمّي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في مقدمك. وما أجمل أن تكوني أنت.. هي أنت!

أتدرين..

(إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال.. رغب في البكاء..)

ومصادفتك أجمل ما حلّ بي منذ عمر.

كيف أشرح لك كلّ هذا مرّة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا الأعين والأسماع؟

كيف أشرح لك أنني كنت مشتاقاً إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك دون أن أصدق ذلك؟

وأنه لا بد أن نلتقي.






أجمع حصيلة ذلك اللقاء الأول..

ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في الواقع أحاول أن أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث.

كنت سعيداً وأنا أكتشف شغفك بالفنّ.. كنت على استعداد لمناقشتي طويلاً في كل لوحة، كان كل شيء معك قابلاً للجدل. وأمَّا أنا فكنت لحظتها لا أرغب سوى في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير شهيتي للكلام.

ولأنه لم يكن في الوقت متسع لأسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة مع قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثلاث عن علاقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك الأولى.. وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك!

اخترت جملي بكثير من الاقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات كثيراً من نقط الانقطاع.. لإشعارك بثقل الصمت الذي لم تملأه الكلمات.

لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك في يوم واحد على عجل.

كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي ثانية. وعندما سألتني "هل ستكون موجوداً هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في أول امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي لا علاقة له بزلازلي الداخلية:

"سأكون هنا بعد الظهر في أغلب الأحيان.." ثم أضفت وأنا أكتشف أن جوابي قد لا يشجعك على زيارة قد أكون غائباً عنها:

"ومن الأرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع الصحافيين والأصدقاء..".

كان في ذلك الكلام شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطراً للبقاء طوال الوقت في المعرض. كنت فقط أحاول ألا أجعلك تعودين عن قرارك لسبب ما.

قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة الأصدقاء القدامى:

"قد أعود لزيارة المعرض يوم الاثنين القادم.. إنه اليوم الذي لا دروس لي فيه. في الحقيقة أنا حضرت اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث إليك أكثر..".

تدخلت ابنة عمك، وكأنها تعتذر، وربما تتحسر لأنها لن تكون طرفاً في ذلك اللقاء:

"خسارة.. إنه اليوم الأكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن يمكنني أن أرافقك، ولكن قد أعود أنا أيضاً في يوم آخر." ثم التفت نحوي سائلة:

"متى ينتهي المعرض؟"

قلت:

"في 25 نيسان.. أي بعد عشرة أيام..".

صاحت:

"عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى.."

تنفست الصعداء.

المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح كلّ شيء أسهل.

تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن تنسحبي.

كان في عينيك دعوة لشيء ما..

كان فيهما وعد غامض بقصة ما..

كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ المحبب.. وربما نظرة اعتذار مسبقة عن كل ما سيحل بي من كوارث بعد ذلك بسببهما.

وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون الأبيض يوليني ظهره ملتفّاً بشال شعره الأسود.. ويبتعد عني تدريجياً ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء رأيتك أم لم أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى الأمر.

غادرت القاعة إذن مثلما جئتِ.. ضوءاً يشق الطريق انبهاراً عند مروره.. متألقاً في انسحابه كما في قدومه.

يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيلاً من مشاريع الأحلام.

ما الذي أعرفه عنك؟

شيئان أو ثلاثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة مرات، لأقنع نفسي أنك لم تكوني "نجماً مذنباً" عابراً كذاك الذي يضيء في الأمسيات الصيفية، ويختفي قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم، والذي يسمونه في قواميس الفلك.. "النجم الهارب"!

لا.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس وأزقتها المتشعبة بهذه السهولة. أعرف على الأقل أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا للدراسات، وأنك في السنة الأخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ أربع سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عينّ في باريس أي منذ سنتين. معلومات قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي للعثور عليك بأية طريقة.

كانت الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين تبدو طويلة وكأنها لا تنتهي. وكنت بدأت في العدّ العكسي منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها القاعة، رحت أعدّ الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين. تارة أعدّها فتبدو لي أربعة أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة الذي كان على وشك أن ينتهي، والاثنين الذي سأراك فيه، فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على التحمل، إنها يومان فقط هما السبت والأحد.


يتبـــــــــع....