عرض مشاركة واحدة
قديم 05-08-10, 08:32 PM   #9
M.ahmad

الصورة الرمزية M.ahmad

آخر زيارة »  اليوم (04:58 PM)
المكان »  في مكانٍ ما قريبٌ من السماء
الهوايه »  لا تقيدني هوايه
حمامة السلام
مقصوصة الجناح
شفها السقام
تبكي من الجراح

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداً مع ساعتي الجدارية في انتظار يوم الاثنين.

ورغم أنّ كاترين ظلّت معي حتى عشية يوم الأحد، فإن الوقت بدا لي طويلاً، وربما بدا لي أكثر لأنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل ذهابها وكأنني سأخلو بك عند ذلك.

كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد..

ماذا أقول لك لو انفردت بك يوم الاثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. وكيف أقصّ عليك تلك القصة العجيبة، قصّتنا؟

كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيّتها؟

صباح الاثنين، لبست بدلتي الأجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري المفضّل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة.

كان أمامي متَّسع من الوقت لأشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة، وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل العاشرة.

عندما دخلت القاعة، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من أضواء موجهة نحو اللوحات، ولا أيّ ضوء كهربائي يضيء السقف.

ألقيت نظرة خاطفة على الجدران.

ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة ولا مساحيق ولا "رتوش".

هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية صاخبة.

اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك.

"صباح الخير قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلّق منذ ربع قرن؟".

ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة.

فابتسمت لها بتواطؤ.

إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!"

وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة!

رحت بعدها أتلهّى ببعض المشاغل التي كانت مؤجّلة منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، والتفرّغ لك فيما بعد. وكان صوت داخليّ يلاحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين، ويمنعني من التركيز على أي شيء.

ستأتي..

ستأتي.. ردّد الصوت ساعة وساعتين وأكثر.. ومرّ صبح ومرّ مساء ولم تأتِ.

حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية كثيرة، حاولت أن أنسى أنني هنا لانتظارك..

قابلت صحافياً وتحدثت لآخر دون أن تفارق عيناي الباب. كنت أترقّبك في كل خطوة..

وكلما تقدّم الوقت زاد يأسي.

وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف!

نهضت إليه مسلّماً وأنا أخفي عنه دهشتي. تذكَّرت أغنية فرنسية يقول مطلعها "أردت أن أرى أختك.. فرأيت أمّك كالعادة..".

- ع السلامة يا سيدي.. عاش من شافك!

قالها وهو يحتضنني ويسلّم عليّ بحرارة. وأعترف برغم خيبتي أنه لم يحدث أن شعرت بسعادة وأنا أسلّم عليه مثل تلك المرة.

وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدّم لي ذلك الصديق المشترك الذي كان يرافقه:

- شفت شكون جبتلك معايَ؟

صحت وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:

- أهلاً سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة..

قال بمودة وهو يحتضنني بدوره:

- واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإلا كيفاش؟

رحت أجامله وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري أنّ في مرافقة سي الشريف له وفي مبالغته في تكريمه دليلاً على أنه مرشح لمنصب وزاري ما كما تقول الإشاعات.

عاتبني سي الشريف بودّ أحسسته صادقاً:

- يا أخي.. أيعقل أن نسكن هذه المدينة معاً دون أن تفكّر في زيارتي مرّة واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين وعنواني معروف عندك.




تدخّل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين المزاح والجد:

- واش راك مقاطعنا.. وإلا كيفاش هاذا الغيبة..؟

أجبته بصدق:

- لا أبداً.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته الغربة أن يجمع أشياءه هكذا ويعود.. في الحقيقة "المنفى عادة سيّئة يتخذها الإنسان" وقد أصبحت لي أكثر من عادة سيئة هنا..

ضحكنا.. وتشعّب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا إليها عبوراً ومجاملة فقط..

وكان لا بد أن يتوقّفا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات وهما يقومان بجولة لمشاهدة المعرض. لأفهم سرّ زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود لكونه يريد أن يشتري لوحة أو لوحتين منّي. قال:

- أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى.. ألا تذكر أنَّك بدأت الرسم يوم كنّا معاً في تونس؟ مازلت أذكر حتَّى لوحاتك الأولى.. لقد كنت أول من أريته لوحاتك وقتها.. هل نسيت؟

لا لم أنسَ.. وكم كنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. شعرت بشيء من الإحراج وهو يستدرجني لتلك الفترة..

كان سي مصطفى صديقاً مشتركاً لي ولسي الشريف منذ أيام التحرير. فقد كان ضمن المجموعة التي كانت تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، وكان واحداً من الجرحى الذين نقلوا معي للعلاج إلى تونس، حيث قضى ثلاثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى الجبهة، ليبقى حتى الاستقلال في صفوف جيش التحرير، ويعود برتبة رائد.

كان يومها بشهامة وأخلاق نضالية عالية. وكنت في الماضي أكنُّ له احتراماً وودّاً كبيرين. ثم تلاشى تدريجياً رصيده عندي.. كلما امتلأ رصيده الآخر بأكثر من طريقة وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض بتقسيم مدروس للوليمة..

ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان رفيق سلاحي لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل صغيرة جمعتنا في الماضي ولا يمكن للذاكرة رغم كلّ شيء أن تتجاهلها.

لعلّ أكثر تلك التفاصيل تأثيراً، تلك المصادفة التي جعلت الممرِّضة في تونس تعطيني وأنا أغادر المستشفى ثيابه التي وصل بها، والتي جف عليها دمه منذ عدّة أيّام.

كان في جيب سترته يومها بطاقة تعريفه التي تكاد لا تقرأ، من آثار بقع الدم عليها. والتي احتفظت بها لأعيدها إليه فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك إلى الجبهة دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي، وربما دون أن يسأل عنها. فقد كان ذاهباً إلى مكان لا يحتاج فيه إلى بطاقة تعريف.

سنة 1973 عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن أوراقي القديمة. وكنت آنذاك أجمع أشيائي استعداداً للرحيل..

تردّدت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها إليه، فقد كنت أدري أنَّ تلك الهوية لم تعد في الواقع هويته. ولكنني كنت أريد أن أواجهه بالذاكرة.. دون أيّ تعليق.

وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب المنفى أن أنهي علاقاتي بتلك البطاقة التي رافقتني منذ 1975 من بلد إلى آخر، وكأنني أنهي علاقاتي بالوطن، وأضعه أخيراً هو وأشياءه خارج الذاكرة..

يومها دهش سي مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي تلك البطاقة وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة.

أهو الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟

شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئاً كان ملتصقاً بصدري؛ شيئاً منّي، ربما ذراعي الأخرى، أو أيّ شيء كان لي..

كان أنا!




ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه لي بذلك العنفوان الأول الذي جمعنا يوماً، مكافأة للذاكرة ووهماً ما بإمكانية إيقاظ ذلك الرجل الآخر داخله.

ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي وأتأمله. لقد مات فيه الرجل "الآخر".. فكيف راهنت يوماً عليه؟

في هذه اللحظة، لا شيء يعنيه سوى امتلاك لوحة لي؛ وربما كان مستعداً أن يدفع أيّ ثمن مقابلها. فمن المعروف عنه أنه لا يحسب كثيراً في هذه الحالات، مثله مثل بعض السياسيين والأثرياء الجزائريين الجدد الذين شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، لأسباب لا علاقة لها غالباً بالفنّ، وإنما بعقلية جديدة للنهب الفنيّ أيضاً.. وبهاجس الانتساب للنخبة.

وربما كان أكثر سخاءً معي أنا بالذات، للأسباب نفسها التي تجعلني اليوم أكثر رفضاً له.

لقد قرّر أن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة (أكواريل) يفاخر بها.. فهل يتساوى الدم بالألوان المائية.. ولو بعد ربع قرن!

سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي الشريف دون أن يأخذا على خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك المبدأ الذي حدث أن جعت بسببه. فلا يمكن لي أن آكل من الخبز الملوّث. هناك من يولدون هكذا بهذه الحساسية التي لا شفاء منها تجاه كلّ ما هو قذر!

كنت في الواقع على عجل. أريد أن أنتهي منهما بسرعة.. خشية أن تأتي في تلك اللحظة ويكونا هناك.

وكنت قلقاً ومبعثراً بين الأحاسيس التي استدرجتني إليها سي مصطفى بعد كلّ تلك السنوات.. وبين هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ أيام.. ولكنك لم تأتي.. لا أثناء ذلك ولا بعده.

من أين هجمت عليّ كلّ تلك الكآبة بعد ذلك؟

وإذا بقدميّ تقودانني بخطى مثقلة، محبطة، إلى البيت، بعدما كانتا قد حملتاني إلى هنا، على أجنحة الشوق الجارف.

ماذا لو لم أرك مرّة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم تعودي؟.

ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة، أخذتها أنا مأخذ الجد؟

كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنّب الهارب؟

وحدها تلك البطاقة التي أعطاني إيّاها سي الشريف وهو يودّعني كانت تبعث شيئاً من الأمل في نفسي. فقد كنت أعرف أخيراً الأرقام السرية التي توصلني إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر هاتفي قد يجمعني بك. ولكنّ الحب عندما يأتي لا يبحث له عن مبرر، ولا يأخذ له موعداً.. ولذا ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة وأجلس في الصالون لأطالع جريدتي، حتى رأيتك تدخلين.

كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهاراً بك.

وكان الحبّ الذي تجاهلني كثيراً قبل ذلك اليوم.. قد قرر أخيراً أن يهبني أكثر قصصه جنوناً..