الموضوع: حفيفُ شجرة .
عرض مشاركة واحدة
قديم 01-18-15, 02:46 AM   #1
بيلسان

الصورة الرمزية بيلسان

آخر زيارة »  05-20-19 (03:58 AM)
المكان »  المملكة العربية السعودية (جدة)
يَاحَي يَاقَيُّوْم ..
بِرَحْمَتِك اسْتَغِيْث .. اصْلِح لِي شَأَنِي كُلِّه
وَلَا تَكِلْنِي الَى نَفْسِي طَرْفُه عَيْن
MMS ~

 الأوسمة و جوائز

افتراضي حفيفُ شجرة .



.









سَأبدأ من أسوار قريتي ، من هناك حيثُ الجدرانُ الهرمة .
من هناك ، حيثُ الشقوق والصدوع التي توسّعت رغمًا عن القصائد المحشوّةِ بها .
الجذوع الميّتة ، التي أصبحتْ مقعدًا لأطفال قريتنا .
من جداري اليتيم سَأبدأ .
هناك في قريتنا التي أصبحت محطّ أنظار كبير المنطقة .
ذاك الرجل الأبيض الممتلئ وجهه بالشيب وعيناه بالطمع والقسوة .
قرّر أن يهدمها بسرعة دون أن ينتبه للطير المنحوتِ على الجذع الميت الذي أخبرتكم عنه في السطور الأولى .
دونَ أن ينتبه للأسماء والقصائد والزهور التي أكل عليها الدهر وشرب فما عاد وجودها فيزيائيًا يُشاهدُ ويُحسّ .
نسيَ ان يسألني ماذا سيحدث إن أصبحتْ هذه القرية خراب ؟
جاء إلينا بِثوبٍ مرتب ، في يدِه اليمنى عصًا يتكئُ عليها .
ينظر بعينه الصغيرة لتفاصيل القرية , ويرسمُ بعصاه دائرةً صغيرة على الأرض وكبيرةً في عينيه .
يقول بصوتِه الرديءِ جدًا : كلها كلها اهدموها .
ويضجُّ في صدري الصراخ : لا أيها السيّد لا .
ولأنني بلا صوتٍ أصرخ فهم لا يسمعون .
ماذا عن جدّي الذي مات هنا ؟
ماذا عن عبقهِ الذي يملأ غرفةَ جدتي ويؤنس وحشتها ؟
ماذا عن ثيابه التي لازالت معلّقةً في خزانتها ؟
وفراشه الذي تنام جدتي في صدره منتظرةً لحظةَ الموتِ بشغف واشتياق ؟
وأنا ، ماذا عني ؟
وعن جداري الذي كتبتُ على صدرهِ القصص مع أصدقائي الميتين أيضًا !
ولأنني فتاة ، عليَّ أن أبقى صمّاء وأن لا أتفوّه بشيء .
كنتُ مُزحمة بالوجع ، وتفاصيل الغربةِ تنهش من جسدي النحيل لتقوّس منكبيه .
والشتاءُ البارد لا يكفّ عن تبليل يدي بماء الحنين الباردِ جدًا .
الحنين إلى عائلتي ، التي كنت مُضطرّة للابتعاد عنهم ، فالدراسة جرّتني للطريق المعوج الطويل .
الدراسة القاسية .
وبينما أنا كذلك , أكابدُ الغربةَ بين جدرانِ القرية الآيلة للسقوط لم أفكّر في طريقةٍ جيّدة لمنعهم من هدم شيء .
لأنني عاجزة .
وصوتي إن امتدّ فهو لن يغيّر في الواقع شيئًا .
بل سَيُغضبُ أمّي التي تحب أن أبقى مُهذبَة دائمًا ورغمًا عن كلّ ظرف .
وحين أسقطتني كلّ هذه الظروف القاسية انفجرتُ بالنصوص .
كتبتُ كل الأشياء التي اختلجتني وغرست في صدري الشوك لتصنع الكثير من الثقوب .
وبينما أنا كذلك : أسدُّ الثقوب بالنصوص محاولةً النهوض ، نهضتُ صلبةً جدًا .
متصلبةً على أحد الأرصفة كشجرة .
أتساقط كلّ خريف ، دون أن ينتبه المارّة لتساقطي .
يتكؤون ويأخذون معاطفهم في كلّ ليالي الشتاء التي عقبت فصلُ التساقطِ المرّ .
لم يتركوا لي واحدًا أرتديه كلّما اشتدّت عليّ الريح .
وبينما أنا كذلك : " أكتب لأبقى واقفة "
التقيتُ صدفةً بجذع صلب على أحد السطور المرّة .
التقينا نصوصًا ، لم نلتقِ بشرًا ولم يخبر أحدنا الآخر عن ماهيته : أقصد الجذع والشجرة .
تحدّثنا بلغةِ القصائد عن كل القصص : المرّة والحلوة أيضًا .
لم يعبر هذا الجذع كبقيةِ العابرين ، ولم يترك لي معطفًا أيضًا كما كنتُ أريد .
لقد كان معطفي الدافئ جدًا , كان فوقَ ما أريد .
أزاح عن وجهي لون الأرق , وعن صدري الشوك , وسدّ الثقوب بالياسمين الأبيض .


صنع لي من الموسيقى فُستانًا وارتديته .
وأصبحتُ الشجرة المائلة التي تُجيدُ تحويلَ الحفيفِ إلى أغنيةٍ قديمة .
الشجرة التي إذا اشتدّت عليها الريح تمايلت راقصةً غيرَ مبالية لما يحدث فهناك جذعٌ صلب يحيط بها من كلّ جانب .
أبعد عن عيني البلل ، وعن لساني مرارةَ الغربة وعن الطريق المسافة .
كنّا نحلم حلمًا سماويًا : " لا ينتمي للأرض " كما يقول بصوته الخشبي .
كنّا نريدُ أن نتعانق كغيمتين لنهطل غيثًا شفافًا يسقي صدورنا التي أجدبتها المسافة .
والتقينا في اصبع وتجعيدةَ ابتسامة ، وعدنا أشجارًا مُتصلبة .
نغني دون أن نحلمَ بِلقاء .
نغني ونبتسم رغمَ كلّ رجفةِ خوف ارتدتها أصواتنا ، ونبضت بها قلوبنا .
إننا الجذع والشجرة , الواقِفَيْنِ بجانبِ بعضيهما دون عناق .
دون أن نلمس بعضنا ، لقد قدّستنا الظروف وأصبحنا كمعبد يرتادهُ الحب دون أن يقرّب جسدينا لبعضيهما .
إنه يبكينا في كلّ اختناق .
ويعيدنا نحيلَيْن ، منحنييَن .



راقت لي ..