منتديات مسك الغلا | al2la.com

منتديات مسك الغلا | al2la.com (/vb/)
-   صور من حياة الأنبياء والصحابه والتابعين (https://www.al2la.com/vb/f89.html)
-   -   سلسلة كن صحابياً ... (https://www.al2la.com/vb/t124990.html)

عطاء دائم 01-08-23 07:50 AM

سلسلة_كن_صحابياً

4⃣9⃣
الصحابة والدنيا

الدنيا حلوة خضرة، وقد استخلفنا الله سبحانه فيها للابتلاء والامتحان، فالكيس من عمرها بما يقربه إلى مولاه، والعاجز من عمرها واغتر بشهواتها وملذاتها، وقد فقه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ذلك المعنى، فجعلوها مزرعة للآخرة، وقدّموا فيها صالح الأعمال ليوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

نظرة الصحابة إلى الدنيا

فيا ترى ما هو مفهوم الصحابة للدنيا؟
وما هي نظرة الصحابة إلى الدنيا؟

في الحقيقة إن نظرة الصحابة إلى الدنيا كانت نظرة عجيبة جداً، فقد كانت نظرة متوازنة بشكل ملفت للنظر، فهم من جانب لا يُعطون لها قيمة تُذكر في حياتهم، فيتنازلون عنها بسهولة وببساطة شديدة، وكأنها لا تساوي درهماً، ومع ذلك هم من جانب آخر يعملون فيها بجد واجتهاد، فيزرعون ويتاجرون ويتكسّبون المال، ويعمّرون الأرض، فكان منهم الأغنياء الذين لا تُحصى أموالهم، والمُلّاك الذين تجاوزت أراضيهم مئات الأفدنة، فالدنيا في أعين الصحابة لم تكن غاية ولم تكن هدفاً، بل كانت وسيلة إلى إرضاء الله عز وجل،

ومعبراً إلى الآخرة، ومن ثم كانت وسيلة إلى تنفيذ كل ما أمر الله عز وجل به، فالله عز وجل أمر بإعمار الدنيا، فليكن الإعمار، والله عز وجل أمر بكفالة الأسرة والزوجة والأولاد والآباء والأمهات، فليكن العمل في الدنيا لتحصيل المال لكفاية هؤلاء، والله عز وجل حض على الجهاد بالمال، فلا بد من وجود المال حتى يجاهد به، والله عز وجل حض على الوقوف في وجه الكافرين، فلا بد من العمل في الدنيا لإعداد العدة لمواجهة الكافرين.

إذاً: فأنا أشتغل في الدنيا لإرضاء الله عز وجل، فأكسب المال لإرضاء الله، وأتزوج لإرضاء الله، وأخلّف لإرضاء الله، وأعمل كل شيء في الدنيا لإرضاء الله، ومن الممكن أن أكون من أغنى الناس في الدنيا، وفي نفس الوقت أرضي الله عز وجل بهذا المال، وفي نفس الوقت أيضاً لا يوجد عندي مانع أن أترك الدنيا بكاملها وأصبح أفقر واحد فيها إرضاء لله سبحانه وتعالى.

إذاً: فهذه علاقة تفاعلية رائعة فقهها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومعادلة صعبة جداً حققوها بسهولة ويسر، عندما ساروا على منهج الله عز وجل.
إن الدنيا في حقيقتها لا تساوي عند الله شيئاً، ومن ثم فهي لا تساوي عند المؤمنين بالله شيئاً، فلا يجوز التصارع من أجلها، ولا يجوز التشاحن والبغضاء من أجل جزء منها ولو كان عظيماً في أعين الناس، وفي ذات الوقت لا يجوز اعتزالها وتركها وإهمالها، ولا يجوز التأخر فيها، ولا يجوز تركها غنيمة في أيدي أعداء الدين.
إذاً: لنتأمل كيف فقه الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟ وكيف حققوا هذه المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟

إن هناك من الناس من يقول لك: إما دنيا وإما آخرة، ولا ينفع أن تعمل للدنيا والآخرة في نفس الوقت!

وعليه فكيف تكون من طلاب الآخرة، وأنت تعمل في الدنيا وتكافح وتتزوج وتكسب وتفرح وتضحك!؟

إن الصحابة الكرام وصل إليهم هذا الفقه العميق والدقيق عن طريق معلمهم ﷺ ، ومعلم البشرية أجمعين ﷺ ، فوصل إليهم عن طريق كلماته وأفعاله ﷺ ، وعن طريق ما نقله عن رب العزة سبحانه وتعالى من آيات ومعجزات القرآن الكريم، فقد كانت حياته ﷺ تطبيقاً حياً دقيقاً لكل كلمة قالها ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 01-08-23 07:51 AM

سلسلة_كن_صحابياً

5⃣0⃣
الصحابة والدنيا

حقيقة الدنيا،
ما هو حجم الدنيا الحقيقي؟

روى مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بن سعيد إلى السبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع)، وانظر إلى ما ترجع به الإصبع.

فهذا هو حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، فالدنيا بأموالها وأملاكها وأرضها ومتعتها وزهرتها ما هي إلا قطرات في الآخرة، والدنيا بكل ما فيها من جنيهات ودولارات وريالات، وكل ما يتعلق به القلب لا تساوي إلا قطرات قليلة بالنسبة لليم إذا قورنت بالآخرة، هذا هو حجم الدنيا، فهل نحن نفهم الدنيا بالحجم هذا، أو أنا أعطيناها حجماً أكبر من هذا الحجم الطبيعي.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة)، أي: أنه جلس في فترة القيلولة تحت ظل شجرة، ثم قال: (في يوم صائف، ثم راح وتركها)، فحياتك على الأرض كفترة القيلولة التي أخذتها تحت ظل شجرة في صحراء واسعة جداً مررت بجانبها في يوم من أيام حياتك، واليوم قد مضى وانتهى من زمان، فقارن عمرك في الأرض بالفترة التي سوف تعيشها في القبر بعد ذلك، وقارن كل هذا بالخلود في الآخرة، فهناك أناس في قبورهم منذ ألف سنة أو ألفين أو خمسة آلاف، وأنت مهما عشت فكم سوف تعيش؟


ما بين ستين سنة إلى مائة سنة، وبعد هذا العمر ما الذي سيحصل؟
تذهب وتترك هذه الدنيا، وعند البعث يوم القيامة كيف سيكون الوضع؟
لا يوجد موت آخر، وإنما خلود ولا موت، وعيشة إلى ما لا نهاية، إما جنة وإما نار، وأي شيء فيه ما لا نهاية فكم سيساوي؟

يقول علماء الرياضيات: يساوي صفراً، أي: أنه عندما تقول: حياتك على وجه الأرض كما لو كان أحد يأخذ قيلولة فقط تحت ظل شجرة في يوم من الأيام، فهذه مبالغة؛ لأن هذا كثير جداً، فأنت أقل من هذا، فهذه الفترة تساوي صفراً؛ لأنها تقاس إلى ما لا نهاية يوم القيامة.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهما: (أن رسول الله ﷺ مر بالسوق، والناس كنفتيه أو كنفيه)، روايتان في ذلك، يعني: أن الناس يحيطون به، من هؤلاء الناس؟ إنهم الصحابة، هذا الجيل الذين نريد أن نقلدهم، فأراد الرسول ﷺ أن يعلمهم درساً عملياً: (فمر ﷺ بجدي أسك ميت)، أي: أن أذنيه صغيرتين، والجدي ذو الأذنين الصغيرتين يكون جَدياً معيباً، والناس لا تشتريه حتى وإن كان حياً فكيف إذا كان ميتاً؟ (فتناوله ﷺ فأخذ بأذنه)، أي: أنه مسك بالأذن ليعرّف الصحابة بأن هذا الجدي فيه عيب، ثم قال ﷺ : (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، أي: من يشتري هذا الجدي الذي به عيب وهو ميت أيضاً بدرهم؟

اسأل نفسك نفس السؤال لتعرف ماذا كان رد الصحابة: أتريد أن تشتري جدياً ميتاً في الشارع سواء كان معيباً أو غير معيب بجنيه أو بنصف جنيه؟ (فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟

ثم قال ﷺ : أتحبون أنه لكم؟ -أي: بدون أي مقابل من المال- قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟)، فهم ظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعرف بالعيب، فأرادوا أن يوضحوا له الرؤية فقالوا له: إنه لو كان حياً فلن نأخذه، فما بالك وهو ميت؟ والرسول ﷺ يعرف أن الجدي أسك وفي نفس الوقت ميت، فقال ﷺ : (والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: أن الدنيا كلها أهون على الله من هذا الجدي المعيب الميت، فلماذا نحن نتصارع من أجل هذه الدنيا؟

ولماذا نخسر بعضنا من أجلها؟
ولماذا نظلم بعضنا من أجلها؟ ولماذا نجد أناساً يكافح مدة عمره فيظلم ويغش ويعصي من أجل أن يكسب كرسياً أو شقة أو وزارة أو ملكاً في هذه الدنيا؟
مع أن الدنيا كلها أرخص من جدي أسك ميت لا يساوي درهماً ولا أقل من درهم.
أترون كيف كان المثل الذي ضربه الرسول ﷺ للدنيا؟ فلماذا كل هذا الصراع على الدنيا؟

لأن الناس لم تفهم قيمة الدنيا، فهي مشغولة بالمظهر عن المخبر، ولا تعرف حقيقتها، ولم تعمل المقارنة بين الدنيا والآخرة، وذلك هو الجهل والحمق والغفلة، والمهم أن الناس ضائعة؛ لأنها لا تستطيع أن تفهم القيمة الحقيقية للدنيا، ولو فهمت فعلاً لم يكن هذا هو حالها أبداً.

روى الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، أي: أن الدنيا لا تعدل بعوضة كاملة، بل لا تعدل ولا تساوي جناح بعوضة، لكن نحن نرى الكفار يشربون ماء في طست من ذهب.
أليس هذا حالنا؟!

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 01-09-23 07:49 AM

سلسلة_كن_صحابياً

5⃣1⃣

قصة قدوم أبي عبيدة بن الجراح من البحرين بالجزية

تأملوا إلى هذه القصة اللطيفة التي رواها الإمام البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يقول: (بعث رسول الله ﷺ أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين)، أي: ذهب إلى البحرين ليأتي بالجزية، والبحرين شرق الجزيرة، وليس المقصود بالبحرين مملكة البحرين حالياً.

وكان يعيش هناك مجوس يدفعون الجزية لرسول الله ﷺ ، فذهب أبو عبيدة بن الجراح إلى هناك وأتى بالجزية إلى رسول الله ﷺ ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي ﷺ ، والمدينة المنورة لها ضواح كثيرة، وكل ضاحية فيها مسجد يصلي الناس فيه؛ لأن بيوتهم كانت بعيدة عن مسجد رسول الله ﷺ الذي في وسط المدينة المنورة، فلم يكونوا يصلون الصبح والعشاء مع رسول الله ﷺ ، بل كانوا يصلونها في مساجدهم، ويأتون فقط في الأمور الجامعة، أي: أنه من الممكن أن يأتوا في صلاة الجمعة أو في صلاة العيد أو عندما يكون هناك استنفار لأمر ما، فهم في هذه المرة سمعوا بقدوم أبي عبيدة فوافوا رسول الله ﷺ في مسجده في صلاة الصبح، فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له، أي: أنهم اعترضوا له في الطريق والرسول ﷺ خارج من صلاة الصبح،
وهو يرى أن هؤلاء الناس ليس من عادتهم أن يصلوا الصبح معه في مسجده، فلما رآهم النبي ﷺ وعرف سبب مجيئهم تبسم رسول الله ﷺ في وجوههم وقال: (أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟

قالوا: أجل يا رسول الله! قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم) أي: أنه سوف يعطيهم ما يشاءون، لكن في نفس الوقت سيعطيهم درساً تربوياً في غاية الأهمية، فهو ﷺ يستغل الفرصة لذلك، ففي البداية ابتسم لهم وقال لهم: أبشروا وأملوا، ومن ثم أعطاهم الدرس فقال ﷺ : (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا)، أي: أن الذي يخاف عليهم منه هو الدنيا، ولو بقوا فقراء فإنه لا يخاف عليهم، لكنه يخاف عليهم من المال، ويخاف عليهم من الدنيا، تجد الفقراء مستريحين، لكن الأغنياء غير مستريحين،
فتراهم يتساءلون: بكم الدولار في هذا اليوم؟

لماذا الناس تطمع فيِّ؟
فلان هذا يريد أن يكون أفضل مني، فلان أمواله كثرت على أموالي، فكيف أن أنافسه؟
كيف أضربه في السوق؟
كيف أدفعه من أمامي؟
كيف أتملك وأسيطر؟

فالغني لا يستطيع النوم ولا الراحة؛ لأنه في قلق وحيرة وهم، والفقير ينام في الشارع وهو في منتهى الأمان، بينما الملك أو السلطان يحيط به الحراس الكثيرون من الجنود والكتائب ومع ذلك ينام وهو خائف، فهو يتلفت يميناً وشمالاً، يا ترى هل أحد سوف يعمل لي أي شيء؟ هل هناك من يدبر لي أي شيء؟ تجده في خوف وجزع وهم.

فهذه هي الدنيا، وانظر إلى الفقير كيف هو فيها، وانظر إلى الغني كيف هو فيها أيضاً.

إذاً: ما هي السعادة؟
وكيف يمكن أن يكون الشخص سعيداً وهو حيران كل هذه الحيرة، وقلق كل هذا القلق؟

(فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم)، ما الذي سوف يحصل إن بسطت علينا الدنيا؟
تأمل هذا الكلام الحكيم، يقول: (فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم)،

فنجد هنا أن الرسول ﷺ يخاف علينا من الدنيا، ولم يكن هذا التحذير مرة أو مرتين في حياة الرسول ﷺ ، بل كان كثيراً جداً؛ فقد كان كلما جلس مع الصحابة خوفهم من أمر الدنيا.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 01-09-23 07:50 AM

سلسلة_كن_صحابياً

5️⃣2️⃣

تحذير النبي ﷺ لأصحابه من الدنيا

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فلم يكن يخاف عليهم من فارس أو الروم، ولم يكن يخاف عليهم من المشركين أو اليهود؛ لأن هذه الأشياء يستطيعون أن يتصرفوا معها، وإنما الخوف عليهم هو من الدنيا.

فانظر إلى نفسك في حياتك، فمن المؤكد أنها قد مرت بك ظروف أو مرت بك أمثلة في الدنيا، فرأيت شخصاً كان مريضاً وكان طائعاً لربنا سبحانه وتعالى، وعندما أغناه سبحانه وتعالى ما الذي وقع؟ كثير منهم ابتعدوا عن طريق الله عز وجل، ونحن نرى هذا كثيراً جداً، وربما يكون قد حصل معنا شخصياً، نسأل الله السلامة.

وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إن الدنيا حلوة خضرة)، أي: أن الدنيا حلوة، وشكلها أخضر كالنبات الجميل الزاهي، لكن هل هناك نبات مهما كان جماله يبقى على الدوام؟ مستحيل، فكل نبات مصيره إلى الفناء ومصيره إلى أن ييبس؛ وهكذا الدنيا حلوة خضرة وسوف تنتهي، ثم يقول: (وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون)،

وانظر إلى هذا الفهم العميق، فالله عز وجل قد استخلفنا في هذه الدنيا وهو مراقب لنا في كل خطوة، وما الدنيا إلا اختبار وابتلاء وامتحان، وهذا هو الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبداً، فنحن في اختبار دائم، ونحن في اختبار مستمر، والدنيا عبارة عن استخلاف للابتلاء والاختبار، فكل حركة لك في الدنيا ينظر إليها الله، فهل أنت مشيت يميناً أم شمالاً،

فلو قال لك: امش يميناً فمشيت فلك حسنة، ولو مشيت شمالاً عليك سيئة، وعُدَّ على هذا جميع خطوات حياتك، فالدنيا اختبار، ولهذا سيأتي في نفس الحديث القليل في كلماته والعميق جداً في معانيه، يقول: (فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) قد يُفتن الإنسان أولاً بالمال أو بالمنصب أو بالسلطة أو بالصحة أو بالقوة أو بأي فتنة أخرى، ثم تأتي جميع الفتن عندما يقع في فتنة من هذه الفتن، نسأل الله السلامة.

إذاً: مع أن الحديث قليل جداً في كلماته لكنه عميق جداً في المعنى الذي يوضحه، فالدنيا شكلها جميل ومبهر لكنها إلى زوال، والله سبحانه وتعالى جعلها هكذا جميلة في مظهرها الخارجي؛ لتكون اختباراً حقيقياً للناس، فاحذر يا مؤمن أن تنشغل بجمال الدنيا عن امتحانها، الغاية أنك تدخل الامتحان، وليست الغاية أن تنبهر بالجمال الموجود في الدنيا، والمثال يوضح ذلك: فلو أن طالباً دخل قاعة الامتحان، ثم وزعت بعد ذلك ورق الامتحان، فجلس مبهوراً بحلاوة شكل الورقة وطريقة طباعتها، ونوع المادة التي صنعت منها الورقة، ولون الطباعة والتخطيط الذي في الورقة، وبقي على هذه الحال ساعة وساعتين وثلاثاً حتى انتهى الوقت، ثم قال له شخص: انتهى الوقت ولا يوجد وقت إضافي، عند ذلك لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، فما هو رأيكم في هذا الطالب؟

أنا لا أريد منكم استغرابكم من هذا الطالب؛ لأن كثيراً منا مثل هذا الطالب، وكثيراً منا من ينبهر بشكل الورقة وينسى الامتحان، وكثيراً منا من ينبهر بشكل الدنيا وينسى الامتحان، ثم يأتي في وقت ينتهي فيه الامتحان ولا يوجد هناك رجوع ولا يوجد وقت إضافي، وكذلك عندما تنتهي الدنيا تنتهي، سواء كانت هذه النهاية بنهايتك شخصياً أو بنهاية الأرض كلها، ولا يوجد أحد في هذه الأرض سيخلّف: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].

وقال تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] لا يمكن ذلك، فهذه الحقائق لا بد أن نعيها جيداً، والرسول ﷺ قد اجتهد مرة ومرتين وثلاثاً وعشراً وعشرين على أن يعلمها الصحابة ويعلمنا بعد هذا، فانتبه يا مسلم! أن تنسى هذه الحقائق.
وتأملوا إلى الرسول ﷺ وهو يمشي خارج المدينة مع أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فأخذا يمشيان حتى وصلوا إلى جبل أحد خارج المدينة،

روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي ﷺ في حرة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟

قلت: أحد، فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين)، يعني: امتلاك جبل من الذهب ليس من أسباب السعادة والسرور، لكن أنا أحتاجه فقط في حالتين: الحالة الأولى: (إلا شيئاً أرصده لدين)،

والحالة الثانية: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه)، أي: أنه يوزع هذا الجبل.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 01-10-23 08:02 AM

سلسلة_كن_صحابياً

5⃣3⃣

حال النبي ﷺ مع الدنيا
لم يكن الرسول ﷺ يحذر الناس من الدنيا ثم يتنعم هو بها، أبداً، فانظروا إلى الصحابة كيف كانت تصف حياة الرسول ﷺ ؟

روى مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه واللفظ لـ ابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (رأيت رسول الله ﷺ يلتوي من الجوع ما يجد من الدقل -والدقل: رديء التمر- ما يملأ به بطنه)، فكيف من الممكن بعد هذا أن تَكْبُر الدنيا في عيني عمر بن الخطاب وفي عيون الصحابة، لكن تعال وقل ألف كلمة وألف خطاب وألف مقال عن الزهد من غير تطبيق، ليس من الممكن أن يكون لها أي قيمة، فالذي جعل لكلام الرسول ﷺ قيمة كبيرة جداً أن حياته كانت مثالاً عملياً لكل كلمة يقولها ﷺ .

وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله ﷺ على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)، أرأيتم ما الذي حصل بعد هذا؟ لقد تغيرت الدنيا على الرسول ﷺ ، ذاك الذي كان مُطارداً ومُشرّداً ولم يجد أحداً ينصره، لقد أصبح رئيس دولة، وأصبح مُمَكَّنٌ في الأرض، وأصبح عنده بيت مال، وتأتي له الغنائم والجزية من أماكن كثيرة جداً، فكل الدنيا قد تغيرت من حوله، لكن عليه الصلاة والسلام لم يتغير إلى أن مات، وتأمل عند موته ما الذي حصل؟

فقد روت السيدة عائشة ذلك فتقول: (توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد)، يعني: أي خلق من إنسان أو حيوان، فهو يشمل جميع الخلق، (وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي)، أي: كل الذي كان عندي هو شطر شعير في رف لي، وأين ذلك؟ في بيت زعيم الأمة وقائد الدولة،

ولا تستغربوا من ذلك فالرسول ﷺ يعرف قيمة الدنيا، والذي يستغرب منه حقاً هو الذي يؤمن بالآخرة وحجمها ولم يعمل لها، وهو الذي يعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة في الدنيا وهو يعلم أنها زائلة، وما أنفق في سبيل الله ساعة وهو يعلم أن الآخرة باقية!!

هذا الذي بالفعل يستغرب منه، ولا يستغرب من واحد يعرف أن الدنيا كلها قطرات، ولهذا لم يأخذ منها شيئاً وتركها، فهو سائر عمره يركز على أمر الآخرة.
ومع كل هذا الوصف لحياة رسول الله ﷺ ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يعيش حياة متوازنة، فكان يعمل ويتكسب المال، وكان إذا أفاء الله عليهم بفيء كان له خمسه، والفيء: هي الغنيمة التي تأتي من غير قتال، وكان يتزوج النساء، وكان يُنجب الأطفال، وكان إذا حضر الطعام وفيه شاة أكل من كتفها، وكان إذا أُهديت له بردة من الصوف لبسها ﷺ ، ولم يكن يعتزل الناس أو يعتزل الحياة أو يعتزل الدنيا مع كل هذا الكلام عن الدنيا، وكان يجعل أصحابه على الولايات، وكان يعطيهم من الأموال، وكان يأمرهم بالعمل، وينهى ﷺ عن الكسل والخمول والدعة فقد كان يعمل في الدنيا أي عمل مهما كان بسيطاً،

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي ﷺ : (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس)،

وفي راوية: (خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) فانظر إلى هذا التوجيه النبوي، فلو عملت حمّالاً أو بيّاعاً للحطب فليس عيباً ولا حراماً، فهذا خير من أن تمد يديك إلى الناس، وتأمل إلى الجمال في التعليم النبوي: (فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق)، فليس فقط يأكل، لكنه يأكل ويتصدق، فيُصبح له فضل على غيره، فبدلاً من أن تمد يديك إلى الناس اعمل وتصدق على الناس، ولا تقعد في البيت عاطلاً؛

فالرسول ﷺ كان يشجع الناس على العمل، ومع كل هذا التخويف من أمر الدنيا إلا أنه يأمرك ألا تقعد في البيت من غير شغل.

فهذا هو التوازن الذي كان يقصده الرسول ﷺ في حياته، وبهذه النظرة المتوازنة انطلق الصحابة في أرض الله عز وجل يعملون ويتكسبون، وينفقون على أنفسهم وأهليهم، ويتاجرون، ويزرعون، ويجاهدون في سبيل الله، ويُصيبون الغنائم، ويتولون المناصب والقيادات، ويخالطون الناس وغير ذلك، ومع ذلك لم تمثل لهم الدنيا شيئاً في أعينهم، فما أسهل بذلهم لها في سبيل الله، وما أيسر تنازلهم عنها لإخوانهم، حتى لمن لا يعرفون.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 01-10-23 08:03 AM

سلسلة_كن_صحابياً

5⃣4⃣

نماذج من تعامل الصحابة مع الدنيا وقصة عزل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه.

تعالوا لنعيش مع الصحابة في تعاملهم مع الدنيا، ونتعلم من الصحابة كيف كانوا يتعاملون مع الدنيا، وسنتحدث عن قصة سبق وأن تحدثنا عنها بالتفصيل في فتوح الشام، وأعطينا لها درساً كاملاً، إنها قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما عزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول توليه للخلافة، عزله وهو في قمة انتصاره الساحق على جيوش الإمبراطورية الرومانية الرهيبة،

وكان ذلك بعد موقعة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد كان عدد الروم مائتي ألف رومي، وعدد المسلمين تسعة وثلاثين ألفاً.
ولننظر إلى عظمة جميع المشاركين في هذا الحدث، وهو حدث عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، ورضي الله عن صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.

موقف سيدنا عمر بعد عزله لسيدنا خالد رضي الله عنهما

تعالوا لننظر إلى عظمة عمر بن الخطاب الذي عزل خالد بن الوليد، قال عمر بن الخطاب: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخشيت أن يوكلوا إليه ويُفتنوا به، فتأمل إلى فهم وتفكير عمر بن الخطاب، فقد كانت فتوح الشام وسيلة لدخول الناس الجنة، لكن إن كانت هذه الوسيلة ستبعدنا عن الجنة فليس من الضروري فتحها؛ لأن القضية في حياة المسلمين ليست معركة أو موقفاً أو جيشاً، لا، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فالناس قد فُتنت بـ خالد رضي الله عنه، واعتقدت أن النصر من عنده وليس من عند الله عز وجل، فكلما كان خالد بن الوليد موجوداً ينتصرون، وإذا كان خالد بن الوليد في مكان آخر يُغلبون.

إذاً: فالنصر جاء من عند خالد !
وهذا الفهم في منتهى الخطورة على عقيدة الناس، ولأن سيدنا عمر بن الخطاب حريص على حياة الناس في الجنة وليس على حياتهم في الشام عزل خالد بن الوليد وهو في أشد الاحتياج إليه، فجيوش المسلمين موزعة بين فارس والروم، ونصر خالد نصر لـ عمر بن الخطاب، وكل الأراضي التي أدخلها خالد بن الوليد في ملك المسلمين، هي في ملك عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فليست المشكلة أن الأراضي تزيد، ولا الانتصارات تتوالى، وإنما القضية قضية دنيا وآخرة، فيا ترى هل هؤلاء الناس الذين سيكسبون المعركة من أهل الجنة أم من أهل النار؟

هذه هي القضية التي شغلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعزل خالداً من أجل مشاكل شخصية أو خلافات قديمة، كما يقول بعض المستشرقين، أو بعض الناس التي فُتنت بمناهج المستشرقين، وليس عمر الذي يضحي بجيشه من أجل أشياء كانت بينه وبين خالد رضي الله عنه وأرضاه، ويُعلم أيضاً من سيرة عمر بن الخطاب أن الدنيا قد غيّرت في حياة كثير من الناس، لكنها لم تغير شيئاً في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: فالقضية أن حسابات الدنيا في ذهن عمر لا تساوي شيئاً إلى جوار حسابات الآخرة، فنأخذ الجيوش ونفتح البلاد، ونأخذ الغنائم والسبايا، ونعيش في الدنيا، لكن ليس على حساب الآخرة أبداً، فأوقف عمر الفتوح في فارس سنة سبع عشرة للهجرة؛ لسبب عجيب، وأنا أعتقد أنه لم يتكرر في الأرض ولا مرة إلا في تلك المرة فقط، ألا وهو كثرة الغنائم، فقد فُتن الناس بالدنيا وتغيروا، فأوقف الفتوحات والانتصارات وحافظ على المسلمين من الدنيا؛ لأنه لم ينس كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا)، فهو على حذر تام طيلة حياته من الدنيا، ولهذا عزل خالد بن الوليد لكي لا يُفتن الناس بالدنيا.

فانظروا إلى هذا الفهم العميق الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظروا إلى هذه التضحية العظيمة، فقد ضحى بعزل أكبر قائد من قواته وفي أحرج اللحظات، فهذا هو القائد الناجح، وهذا هو القائد المسلم الذي ينفع أن يكون قائداً في المسلمين.

... يتبـــــــــ؏..


الساعة الآن 08:31 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.6.1 al2la.com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع الحقوق محفوظه لـ منتديات مسك الغلا