منتديات مسك الغلا | al2la.com

منتديات مسك الغلا | al2la.com (/vb/)
-   صور من حياة الأنبياء والصحابه والتابعين (https://www.al2la.com/vb/f89.html)
-   -   سلسلة كن صحابياً ... (https://www.al2la.com/vb/t124990.html)

عطاء دائم 12-14-22 09:02 AM

سلسلة كن صحابياً ...
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

https://www2.0zz0.com/2022/12/14/06/541473674.jpg


جيل فريد. 1️⃣

اختار الله لنبيه محمد ﷺ أصحاباً كراماً بررة، فأخذوا عنه الدين وبلغوه لمن بعدهم من الأجيال، وزكاهم الله في كثير من آي القرآن الكريم، واستحقوا بذلك أن يكونوا أفضل جيل على الإطلاق، وقد أمرنا باتباعهم والسير على نهجهم، فهم أبر قلوباً، وأعمق علماً، وأقل تكلفاً، والطعن فيهم طعن في الدين، وتكريمهم وتعظيمهم تعظيم للدين.

منزلة الصحابة في الإسلام

يقول المؤلف راغب السرجاني حفظه الله هذه المجموعة هي مجموعة من المحاضرات، وقد أطلقت عليها اسم: (كن صحابياً)،

وهي محاولة للاقتراب جداً من جيل الصحابة، هذا الجيل الراقي رفيع المستوى، الذي ما تكرر مثله في التاريخ، سواء في السابق لجيل الصحابة أو بعده، وقد أخبر رسول الله ﷺ أنه لن يأتي جيل مثله إلى يوم القيامة، فعظمة هذا الجيل وقيمته تأتي من كون هذا الجيل بأكمله يتصف بصفات معينة، من سلامة العقيدة، وكمال الأخلاق، وأمانة النقل، وصفاء القلب، وقوة العزيمة، وحب الجهاد، فكان بأكمله جيلاً على هذه الدرجة الراقية من الأخلاق والصفات.

وقد يظهر إنسان نابغة في زمان من الأزمان، أو تظهر مجموعة من الأمناء الصادقين الأبرار في جيل من الأجيال، أما أن يكون جيل الصحابة بكامله على صورة معينة من النقاء والبهاء فهذا هو الغريب حقاً، وهذا هو الأمر الملفت للنظر، فلو أنه في زمن من الأزمان ظهر رجل كـ عمر بن الخطاب مثلاً، فهذا من سعادة هذا الجيل، ومن سعادة هذا الزمن، وكذلك لو ظهر شخص مثل أبي بكر الصديق، أو مثل طلحة بن عبيد الله، أو مثل خالد بن الوليد، أو مثل أبي هريرة وهكذا، لكن أن يظهر كل هؤلاء في زمن واحد فهذا هو الأمر العجيب حقاً، والأمر الفريد حقاً، ولذلك فليس الغرض من هذه المجموعة من المحاضرات أن نسرد الأقوال والأفعال التي قام بها الصحابة،

يعني:
ليس مجرد سيرة ذاتية للصحابة،
وكذلك ليس الغرض أن نتعرض إلى كل الأحداث التي مر بها الصحابة،
ولكن الغرض أن نتعلم كيف نقلد جيل الصحابة؟
كيف نكون كجيل الصحابة؟
كيف نسير في طريق الصحابة؟
كيف نصل إلى ما وصل إليه الصحابة،
سواء في الدنيا أو في الآخرة؟

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-14-22 09:04 AM

سلسلة_كن_صحابياً
2️⃣

قبل أن نتعلم كيفية وصول الصحابة إلى هذا المستوى الراقي، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟

وقبل أن نتعلم كيف يمكن أن نسير في طريقهم؟

أريد في هذه المحاضرة أن أتحدث عن قيمة هذا الجيل في ميزان الإسلام، وقيمة هذا الجيل في ميزان التاريخ، بل وقيمة هذا الجيل في ميزان الله عز وجل، فهو الجيل الوحيد في الإسلام الذي تستطيع أن تعرف قيمته في ميزان الله عز وجل؛ لأن هذا لا يتأتى ولا يمكن معرفته أبداً على وجه اليقين إلا بإخبار من الله عز وجل في كتابه أو عن طريق رسوله الكريم ﷺ أما عموم البشر بعد هذا الجيل فلا يمكن الجزم أبداً بأن هذا الجيل جيل ثقيل في ميزان الله عز وجل، أو يمكن أن نرجح أن هذا الإنسان إنسان فاضل أو إنسان يسير على طريق الهدى، لكن لا يمكن الجزم بأنه فعلاً على طريق الله عز وجل؛

لأن التقييم الإلهي للفرد لا يعتمد فقط على ظاهر الأعمال التي نراها نحن بأعيننا، وإنما يعتمد أيضاً على القلب وعلى النوايا، وهذا ما لا يمكن للبشر أن يتيقنوا منه أبداً، نعم قد يكون هناك شواهد تشير إلى فضائل الرجال والنساء، لكن هذا كما ذكرنا لا يمكن أن يكون على وجه اليقين، فنحن يمكن أن نرى رجلاً حسناً من ظاهره، لكن من داخله مختلف تماماً، ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.


لكن تعالوا نرى جيل الصحابة، وماذا قال الله عنهم، يقول الله عز وجل عن أصحاب بيعة الرضوان: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] أي: أن الله قد رضي عنهم، وقضي الأمر وانتهى، ثم قال: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}
[الفتح:18]،

فهذه الآية لم تذكر في حق صحابي أو مجموعة صحابة، لا، بل ذكرت في حق ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واسمع إلى قوله سبحانه

وتعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117]،

وهذه الآية قيلت في حق ثلاثين ألفاً من الصحابة الذين اشتركوا في غزوة تبوك، ولذا فمن المستحيل بالنسبة للأجيال التي تلت جيل الصحابة أن نصل إلى اليقين، وأن الله عز وجل قد تاب على إنسان بعينه، مهما بلغ ذلك الإنسان من العمل في الدنيا، فلا نستطيع أبداً أن نجزم بخيريته عند الله،

أو بمكانته عند الله، أو بدرجته في الجنة، أو بنجاته الحتمية من النار، من أجل هذا نستطيع أن نفهم المعنى اللطيف الذي زرعه الرسول ﷺ في صحابته.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-15-22 08:25 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣

من أسباب رقي الصحابة:

السبب الأول: اختيار الله عز وجل لهم

أن هذا الجيل جيل مختار من الله عز وجل، أي: أن هؤلاء الصحابة بأعيانهم خلقوا ليكونوا أصحاب النبي ﷺ ، فكان لازماً أن يكون أبا بكر موجود رضي الله عنه، لأن له دوراً لا بد أن يقوم به، ولن يستطيع أن يقوم به غيره، وكذلك عمر يكون موجوداً، وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبلال وخالد والسيدة خديجة والسيدة عائشة، فكل الصحابة لا بد أن يكونوا موجودين بأعيانهم، وكما يصطفي الله عز وجل رسله من الملائكة ومن البشر فكذلك يصطفي أصحاب رسله عليهم الصلاة والسلام:

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75].
وتأمل إلى الله سبحانه وتعالى وهو يتكلم على أصحاب عيسى عليه السلام إذ يقول:
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا} [المائدة:111]،

يعني: أن أصحاب عيسى عليه السلام قد خاطبهم الله عز وجل عن طريق الإلهام أو الوحي غير المباشر، واختيار الله عز وجل لأصحاب رسله لا بد أن يكون ذلك بطريقة معينة،

وهذه الطريقة قد تكون عسيرة وصعبة، كأصحاب موسى الذين اشتهروا بالشر والأذى وسوء الأدب، ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم في كتابه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} [الدخان:32 - 33].

أما عن أصحاب رسول الله ﷺ فقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: (فقد النبي ﷺ ليلة أصحابه -يعني: أن الصحابة فقدوا النبي ﷺ وكانوا إذا نزلوا أنزلوه أوسطهم) يعني: إذا كانوا في سفر وأرادوا النوم في ليلتهم تلك جعلوا رسول الله ﷺ في وسطهم؛ حماية له ﷺ ،

(فلما استيقظوا من نومهم في جوف الليل لم يجدوا رسول الله ﷺ ، يقول عبادة بن الصامت: ففزعوا وظنوا -وانتبه لهذه الكلمات- أن الله تبارك وتعالى قد اختار له أصحاباً غيرهم، فإذا هم بخيال رسول الله ﷺ ، فكبروا حين رأوه، قالوا: يا رسول الله أشفقنا أن يكون الله تبارك وتعالى اختار لك أصحاباً غيرنا، فقال رسول الله ﷺ : لا، بل أنتم أصحابي في الدنيا والآخرة).

فالصحابة مختارون؛ لأن على أكتافهم تبعة حمل هذا الدين كاملاً من فم رسول الله ﷺ إلى أهل الأرض أجمعين، وليس هناك بعد رسول الله ﷺ رسول، فماذا لو كان أصحابه يتصفون بكذب أو خيانة أو كسل أو فتور أو حب لدنيا وانغماس فيها؟!
وماذا سيكون حال الأرض إلى يوم القيامة لو نقل إلينا الدين مشوهاً أو مغيراً أو مبدلاً؟!

ولذلك تحتم أن يختار الله عز وجل من البشر من يستمعون إلى رسول الله ﷺ بإنصات، ويستمعون إليه بإمعان وتقدير، ثم ينقلون هذا الذي استمعوه إلينا جميعاً، فيقيمون بذلك الحجة على أهل الأرض أجمعين، وإلا فكيف سيحاسب الله عز وجل أهل الأرض؟!

وكيف سيحاسب من يأتي من البشر بعد رسول الله ﷺ وقد قال الله عز وجل في كتابه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].

إذاً: لا بد أن يوجد جيل يحمل الأمانة، ويحمِّل الأجيال التي تأتي من بعد رسول الله ﷺ هذه الأمانة، وكأن النبي ﷺ حيٌّ بينهم، وهذا هو السبب الأول الذي من أجله استحق أن يكون هذا الجيل جيلاً فريداً، وهذا الجيل جيل غير متكرر، وهو جيل قد اختاره الله عز وجل بعناية لصحبة رسوله الكريم ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-15-22 08:26 AM

سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣

من أسباب رقي الصحابة:

السبب الثاني:

مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

أن هذا الجيل قد مر بتجربة فريدة تماماً، فوجدت عنده خبرات لم يرها أحد من المسلمين وتعالوا لنرى تجربة هذا الجيل الفريد فيما يأتي:

رؤية الصحابة للنبي ﷺ وتعاملهم معه

أولاً: أنهم قد رأوا رسول الله ﷺ بأعينهم، واجتمعوا به وتعاملوا معه وصلوا خلفه، واستمعوا لحديثه، وهذا أمر عظيم في حد ذاته، فالمؤمن منا بعد جيل رسول الله ﷺ وإلى جيلنا الآن، بل وإلى يوم القيامة إذا رأى رسول الله ﷺ في المنام اعتبر ذلك حدثاً عظيماً، وهو بالفعل كذلك، والرسول ﷺ يهتم جداً بهذا الحدث،

ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)،

وأعظم من ذلك ما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)، وفي رواية: (فكأنما رآني في اليقظة)، وهذا أمر جميل جداً، فما بالكم بمن كان يره بعينه وفي كل يوم وفي كل لحظة؟ وليس فقط في المنام بل في الحقيقة، وليس فقط ساعة أو ساعتين بل العمر كله.

وتخيل معي هذا الأمر: فلو أن إنساناً وصف لك شخصاً آخر بأنه قد فعل فعلاً حميداً في فلان، فإنك تحبه بمجرد ذلك الإخبار والوصف عنه، ويزرع في قلبك حب هذا الشخص، فماذا لو كان الفعل معك أنت شخصياً؟!

وأنا لا أقول لك: فلان عمل كذا وكذا مع فلان، بل أنت ذاتك مر عليك هذا الأمر، إذاً فكيف يكون حالك معه؟ فمثلاً: عندما تسمع أن النبي ﷺ كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فهذا أمر يزرع المحبة له في قلبك، فما بالك لو أنت ذاتك كنت الذي تأخذ منه، وأنت الذي كان يعطيك ﷺ بنفسه؟!

واسمع إلى قول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه كما عند الترمذي: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله ﷺ .

فهذا الأمر عندما تعرفه تزرع محبته ﷺ في قلبك، فما بالك أيضاً لو أنك أنت الذي يبتسم الرسول ﷺ في وجهه، وأنت الذي ترى وجهه ﷺ وهو يبتسم إليك؟! وعندما أقول لك: إن الرسول ﷺ كان يعود المرضى ويشهد الجنائز، فما بالك لو كنت أنت المريض الذي يعودك ﷺ في بيتك؟!

أو لك قريب مات فجاء ﷺ وشهد جنازة هذا القريب؟! فكيف تكون علاقتك مع رسول الله ﷺ ؟

وكيف تكون درجة إيمانك به؟

وهذا غير النظر في وجه الرسول ﷺ ، أما مجرد النظر إليه فله تأثير خاص جداً،
واسمعوا لكلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه عند الترمذي وقال: صحيح، قال: (فلما استثبت وجه رسول الله ﷺ عرفت أن وجهه هذا ليس بوجه كذاب)، يعني: مجرد رؤية وجه رسول الله ﷺ تترك في القلب أثراً لا ينسى، وغير رؤية خاتم النبوة مثلاً،

فكثير من الصحابة قد رأوا بأعينهم خاتم النبوة بين كتفيه ﷺ ، ومنهم: سلمان الفارسي وعبد الله بن سرجس وعمرو بن أخطب وغيرهم كثير، فالذي رأى خاتم النبوة ترك في قلبه أثراً لم يتركه من سمع فقط عن خاتم النبوة.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-16-22 08:21 AM

سلسلة_كن_صحابياً

5️⃣

من أسباب رقي الصحابة:

مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

معايشة الصحابة الكرام للقرآن الكريم

ثانياً: أنهم كانوا يعايشون القرآن، فنحن نقرأ القرآن ونسمع عن أسباب النزول، أما الصحابة فقد عاشوا أسباب النزول، ورأوا القرآن ينزل على رسول الله ﷺ في الحوادث المختلفة، وهذا لا شك أنه يرفع من درجات إيمانهم إلى أكبر درجة يمكن أن تتخيلها،

وتأمل وتخيل معي تلك المرأة التي جاءت تجادل رسول الله ﷺ في أمر زوجها الذي ظاهر منها، وتخيل تفاعل هذه المرأة مع الآيات التي نزلت في حقها شخصياً، وتخيل أنها تصلى بسورة المجادلة، أو تسمع سورة المجادلة، أو تقرأ سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، إنه من المؤكد أن تفاعلها مع كل كلمة مختلف تماماً عن تفاعل بقية المسلمين مع نفس الآيات،

وتخيل أيضاً تفاعل زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه مع الآيات، وتخيل وهو يستمع إلى التحذير الإلهي: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2]، وأكيد وهو يستمع إلى هذه الآيات غير أي واحد منا يستمع إليها، فهو عاش جوار هذه الآيات، وعايش الآيات حال حدوثها وحال نزولها،
وتخيل تفاعل الجيران للسيدة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وأرضاه وهم يقرؤون صدر سورة المجادلة وهم يعلمون أنها نزلت في جارتهم هذه بعينها، وتخيل تفاعل المجتمع المسلم بكامله مع هذه الآيات،

فقد ورد أن خولة بنت ثعلبة كانت تمشي في الطريق فقابلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع أناس كثيرين معه، فاستوقفته السيدة خولة بنت ثعلبة فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش بسبب هذه العجوز -وهو لا يعرفها- فقال: ويحك، أتدري من هذه؟

قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، ووالله لو لم تنصرف حتى يأتي الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، فانظر تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمر هذه السيدة لمجرد نزول هذه الآيات فيها، وضع هذا المفهوم على كل آيات القرآن الكريم، فكل آيات القرآن قد نزلت في حوادث معينة أو في ظروف معينة أو في وقت معين.

وتخيل نفسك أيضاً وأنت تشارك في غزوة بدر، ثم تسمع سورة الأنفال بعد هذه المشاركة، من المؤكد أن إحساسك بالآيات سيكون مختلفاً تماماً عن إحساس عامة المسلمين الذين يقرءون سورة الأنفال، ويتخيلون مجرد ما حدث للمسلمين في بدر، لكن الصحابة لم يكونوا يتخيلون ذلك؛ لأنهم بالفعل قد عايشوا التجربة بكاملها، فعايشوا غزوة بدر من أولها إلى آخرها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]،

فتذكر الصحابي للذي حصل عند تقسيم الأنفال أو عند المشادة التي حدثت بينهم بأمر الأنفال مختلف تماماً عن النصيحة بإصلاح ذات البين لمن لم يعش هذه التجربة بعينها: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}
[الأنفال:7]، فالصحابي عندما يقرأ هذه الآيات يتذكر ويقول: نحن كنا نريد غير ذات الشوكة، كنا نريد القافلة، ولم نكن نريد الجيش، ومع ذلك أراد الله عز وجل أمراً آخر، فيعيش مع كل كلمة من كلمات الله عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]
والنعاس قد نزل على بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وتكرر ذلك في غزوة أحد كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران:154]،

قال أبو طلحة الأنصاري: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف، والحجف جمع حجفة، وهي: الترس أو الدرع، لذا فسيدنا أبي طلحة الأنصاري عندما يقرأ هذه الآيات: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران:154]،

ويكون هو من الناس الذين نزل عليهم النعاس في هذه الغزوة، فإنه يتفاعل مع ذلك تفاعلاً غير الناس الذين حوله، ويقول تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:44]، فهذه الآيات

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-16-22 08:22 AM

سلسلة_كن_صحابياً

6️⃣

من أسباب رقي الصحابة:
مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

رؤية الصحابة للنبي ﷺ عند إخباره بالغيب

ثالثاً: أن الصحابة رأوا إخبار رسول الله ﷺ بالغيب، ونحن أيضاً نسمع عن ذلك، ولكن ليس من رأى كمن سمع، فالذين يعيشون في الحدث ويتشوقون لمعرفة ما يحدث على بعد مئات أو آلاف الأميال، غير الذي يسمعه بعد مائة سنة أو مائتين أو ألف.
ولنتأمل الصحابة الكرام وهم واقفون في المدينة المنورة حول رسول الله ﷺ وهو يصف لهم ما يحدث في غزوة مؤتة على بعد مئات الأميال من المدينة المنورة، وهو يقول: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر الراية فأصيب،

ثم أخذ ابن رواحة الراية فأصيب، وعيناه ﷺ تذرفان الدمع، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله عز وجل ففتح الله عليهم)، والمراد بسيف الله هو: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وبعد ذلك يرجع الجيش المسلم إلى المدينة، ويعرف المسلمون في المدينة المنورة أن كل كلمة قالها النبي ﷺ كانت كلمة صدق وحق، عند ذلك قدر ماذا يكون إيمان الصحابة بهذا الرسول وبهذا الدين؟ لا شك أنه عظيم جداً، ونحن أيضاً نسمع فنصدق ونؤمن بذلك، لكن هم عاشوا إخبار رسول الله ﷺ بالغيب.

وتأملوا أيضاً عندما يأتي رسولا عامل كسرى إلى رسول الله ﷺ فيطلبان منه أن يذهب معهما إلى كسرى فارس، فيقول لهما النبي ﷺ : (إن ربي قد قتل ربكما هذه الليلة)، والكلام هذا كان في ليلة الثلاثاء في العاشر من جمادى الأولى للسنة السابعة للهجرة، ومرت مرت الأيام وعينوا الليلة،

وعُلِم فعلاً أن كسرى فارس كان قد قُتِل في تلك الليلة، فنحن نسمع في هذا الوقت عن ذلك الحدث، لكن الصحابة عاشوا فيه، وانتظروا الأيام تمر حتى عرفوا أن كسرى فارس قد قُتل تلك الليلة المحدودة، وهذا أمر يرفع الإيمان العظيم في قلوب الصحابة.

والصحابة أيضاً شاهدوا المعجزات الحسية التي نسمع عنها في هذا الوقت، نعم القرآن أعظم معجزة بين أيدينا، لكن هم فوق ذلك شاهدوا مثلاً انشقاق القمر، وحُكي ذلك من روايات عدة، ففي البخاري وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فقالوا: انظروا السفار -يعني: الناس المسافرة التي تأتي من خارج مكة- فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ﷺ ،

وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، فسألوا السفار وكانوا قد قدموا من كل جهة -يعني: أكثر من مكان- فقالوا: رأينا -أي: شاهدوا انشقاق القمر- فأنزل الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1])
وأنا أريدك أن تتخيل نفسك وأنت عايش مع النبي ﷺ في داخل مكة، وترى القمر ينشق إلى فرقتين، نصف على جبل ونصف آخر على جبل آخر، وهذا لا شك أنه يزرع إيماناً عجيباً وقوياً جداً في قلوب الصحابة.

وشاهدوا أيضاً حنين جذع النخلة إلى رسول الله ﷺ ، فعند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي ﷺ كان يخطب إلى جذع، فلما صنع المنبر تحول إليه فحن الجذع -أي: صدر له صوت حنين وألم لفراق رسول الله ﷺ فأتاه الرسول ﷺ فاحتضنه فسكن، وقال صلى الله عليه وسلم: لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة)،
وفي رواية جابر بن عبد الله يقول: (حتى سمعه) أي: سمع حنين الجذع (أهل المسجد)، فتخيل نفسك وأنت جالس في المسجد وقد سمعت بأذنيك حنين جذع النخلة لرسول الله ﷺ .

وشاهدوا كذلك البركة في الطعام والشراب والسلاح والصحة، وأمثلة كثيرة وعجيبة لا تحصى، ومن ذلك: موقف جابر بن عبد الله في الأحزاب، وذلك عندما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه جوعاً شديداً برسول الله ﷺ ، فدعاه سراً ليأكل في بيته من طعام صنعه له، وكان قليلاً جداً، حتى أن جابر بن عبد الله سماه طعيم، قال: (يا رسول الله عندي طعيم، تعال أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك،

قال جابر بن عبد الله: فدعا رسول الله ﷺ أهل الخندق جميعاً -وتخيلوا أتى بكل أهل الخندق- فجاء من سمع النداء وكانوا قد تجاوزوا الألف -ألف شخص جاءوا إلى بيت جابر بن عبد الله - فأكلوا جمعياً من الطعام وشبعوا -وهذه قصة مشهورة- وبقيت بُرمة الطعام ملأى بما فيها، حتى أن رسول الله ﷺ أمر زوجة جابر أن توزع على جيرانها)، فأنت تسمع هذه القصة في هذا الوقت والحمد لله مؤمن بها، لكن تخيل

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 12-17-22 08:15 AM

سلسلة_كن_صحابياً

7️⃣

من أسباب رقي الصحابة:
مرورهم بتجربة فريدة من نوعها

تبشير النبي ﷺ للصحابة بالجنة

رابعاً: أن الصحابة بشروا بالجنة بأسمائهم، فالواحد منهم كان يمشي على الأرض وهو يعلم علم اليقين أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على الحياة؟!
وهذا ليس فقط في حق العشرة المبشرين بالجنة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعيد بن زيد، بل كثير من صحابته ﷺ بشروا بالجنة وهم أحياء،

فمثلاً روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي ﷺ قال لـ بلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) ودف نعليك، يعني: تحريك نعليك أو صوت نعليك في الجنة، قال بلال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار -يعني: لم أتوضأ أي مرة- إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي، يعني: أن بلالاً كان يعيش في الدنيا وهو يعرف أنه من أهل الجنة، ولذلك من أجل هذا عند موته كانت زوجة بلال تبكي وتصرخ فقال لها: لماذا تبكين؟ غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه، وانظروا كيف حال بلال وهو مقبل على الموت! إنه إقبال بفرحة؛ لأنه على يقين أنه ذاهب إلى الجنة، فقد أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ .

وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما رآه الصحابة وهو يصعد شجرة للإتيان بعود أراك أو تمر من نخلة على اختلاف في الروايات فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال الرسول ﷺ : (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)،

فتخيل عبد الله بن مسعود وكيف يكون حاله في الدنيا وهو عارف أنه أثقل في ميزان الله عز وجل من جبل أحد؟

وكذلك: الحسن والحسين رضي الله عنهما، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وأيضاً هنا: كيف تكون قيمة الدنيا في عين الحسن أو الحسين وقد علما أنهما سيدا شباب أهل الجنة؟

وأيضاً: السيدة خديجة رضي الله عنها، ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ وقال له: اقرأ عليها السلام -أي: اقرأ على خديجة السلام- من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب -والقصب هو: اللؤلؤ- لا صخب فيه ولا نصب)، أي: لا ضوضاء ولا تعب في هذا البيت، فالسيدة خديجة تعرف أنها من أهل الجنة، وليس فقط ذلك، بل إن ربها قد أقرأها السلام، ومن جبريل أيضاً، وبشرها بقصر في الجنة من لؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب،

إذاً فكيف يمكن أن تكون متعلقة بالدنيا!
وكيف يمكن ألا تخشع في الصلاة!
وكيف يمكن ألا تجاهد بمالها!
وكيف يمكن ألا تشتاق إلى جنات الرحمن!

وأيضاً عندما تحدث رسول الله ﷺ عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال له عكاشة بن محصن - عكاشة: بتشديد الكاف أو تخفيفها-: (ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم، فقام رجل آخر يطلب نفسه الطلب، فقال له رسول الله ﷺ : سبقك بها عكاشة)،

لذلك نفهم كيف جاهد عكاشة حياته كلها، وجاهد كل حياته، وشهد مع رسول الله ﷺ المشاهد كلها، واستمر على ذلك بعد وفاة رسول الله ﷺ حتى استشهد في اليمامة في حرب المرتدين، وهو عارف أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على حياة الدنيا؟!

وكل هذه التجارب نقلت الصحابة من المرتبة الإيمانية المسماة بعلم اليقين إلى المرتبة الإيمانية الأعلى المسماة بمرتبة عين اليقين: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5 - 7]، وعلى كل فالصحابة كانوا يرون كل شيء بأعينهم، حتى أمور الغيب رأوا كثيراً منها بأعينهم وقت رسول الله ﷺ .

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-17-22 08:16 AM

سلسلة_كن_صحابياً
8️⃣

من أسباب رقي الصحابة:
تصريح النبي ﷺ بخيريتهم

السبب الثالث:
أن النبي ﷺ قد صرح بأن هذا الجيل هو خير الأجيال على الإطلاق،
فقد روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)
فهذه شهادة من رسول الله ﷺ ، وقضي الأمر بذلك،

قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله ﷺ بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟
يعني: هل قال: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاث؟
لكن المهم أن خير الأجيال وخير الناس هو قرن رسول الله ﷺ ، أو جيل رسول الله ﷺ .

وروى البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، قالها مرتين، ثم قال: فوالذي نفسي بيده لو أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)،

وتخيل لو أنك تملك ذهباًَ كجبل أحد، ثم أنفقته كله في سبيل الله، فإن ذلك لا يساوي ما أنفقه الصحابي، وإن كان ما أنفقه كمقدار المد، أي: مد الكفين، وتخيل واحداً من الصحابة ينفق ملء الكفين فقط يساوي قدر جبل أحد من الإنفاق، لأن لهم أجر السبق في الإسلام، فهم الذين علمونا الإنفاق، وهم الذين علمونا الجهاد في سبيل الله، وكيف يمكن أن نقهر النفس ونصرف الأموال في سبيل الله عز وجل،

وهذا يعطيهم الأجر العظيم والدرجة التي ذكرها رسول الله ﷺ بالتصريح أنهم خير الناس وخير القرون وخير الأجيال.

من كل ما سبق يتضح لنا أننا نتعامل في هذه المجموعة مع أرقى جيل في الوجود، مع الجيل الذي يصلح تماماً أن يتخذ قدوة كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.

يعني: نحن نرى أناساً كثيرين وعظماء يعيشون بيننا، لكن الله أعلم بمن سيثبت منهم على الحق، ومن فيهم الذي سيغير ويبدل، لكن الذي قد مات علمنا أنه قد مات على الحق وبالذات جيل الصحابة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أولئك أصحاب محمد ﷺ ، كانوا أفضل هذه الأمة.

ولا أحد يقول: إن هذا يزكي أو يُعظِّم نفسه، لا، فهو يذكر حقيقة لا بد أن يعلمها كل المسلمين، وإذا علموها استفادوا منها استفادة جمة؛ لذلك وجب عليه أن يذكر بهذا الأمر، وكتمان هذه الحقيقة كتمان لعلم مهم جداً، ألا وهو علم تقدير الصحابة وتعظيم الصحابة وتكريم هذا الجيل بأكمله؛ لأنهم جيل القدوة، ثم يقول عبد الله بن مسعود: أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

لذلك في هذه المجموعة سنجعل هدفنا إن شاء الله أن نتعلم كيف نكون مثل الصحابة؟

كيف أننا نريد أن نتعلم مثلهم؟
كيف أننا نكون مسلمين حق الإسلام؟
كيف نؤمن بالله عز وجل حق الإيمان؟
كيف نحب رسول الله ﷺ حق الحب؟
كيف نفهم هذا الدين حق الفهم؟

دراسة حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هي دراسة الإسلام، والسير في طريق الصحابة هو السير في طريق الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، في صحبة نبينا وحبيبنا محمد ﷺ : {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 12-18-22 08:12 AM

سلسلة_كن_صحابياً

9️⃣

جيل الصحابة جيل فريد عظيم، لا يمكن أبداً أن يتكرر، فقد اصطفاه الله عز وجل لصحبة خير البشر وخاتم النبيين والمرسلين ﷺ ، فهو الجيل الفريد الذي تربى على عينه ﷺ ، ولا يعني هذا أننا لا نقتدي بهم أو نقلدهم، بل قد قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا).

شروط الصحابي في مصطلح الحديث

اليوم سنطرح سؤالاً قد يستغرب منه أناس كثيرون ألا وهو: هل أنت صحابي؟
في مصطلح أهل الحديث هذا مستحيل، لأن الصحابي أو الصحابية هو: رجل أو امرأة عاش في حقبة معينة من الزمان توافرت فيه أو فيها شروط معينة، وهذه الحقبة من الزمان مرت ولا يمكن أن تعود، فهذه الشروط من المستحيل أن تتوافر فينا.

وشروط الصحابي في مصطلح أهل الحديث هي:

الشرط الأول: أن يكون قد رأى النبي ﷺ في حياته أو اجتمع به،
يعني: أنه لابد أن يكون قد رآه بعينه، ولا يكفي أن يكون معاصراً لرسول الله ﷺ ، فيكون في بلد والرسول ﷺ في بلد آخر، ولذلك النجاشي رحمه الله تعالى ليس صحابياً، مع أنه كان معاصراً لرسول الله ﷺ ، وقد آمن به في حياته لكن لم يره.
أما قولهم: (أو اجتمع به) يعني: حتى يدخل في ذلك من اجتمع برسول الله ﷺ ولم يره لفقد نعمة البصر، كـ عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه، فقد اجتمع بالرسول لكنه لم يره؛ لأنه كان ضريراً رضي الله عنه وأرضاه.

الشرط الثاني: أن يكون قد آمن برسول الله ﷺ في حياته، ولا يكفي أن يكون معاصراً له وقد ظل كافراً سنوات طويلة إلى أن مات الرسول ﷺ ، وبعد أن مات رسول الله ﷺ آمن الرجل، حينها لا يكون من الصحابة، وممكن أن يكون من التابعين الذين تعلموا على أيدي الصحابة.

الشرط الثالث: أن يكون قد آمن برسول الله ﷺ في حياته ورآه، ثم مات على هذا الإيمان، ولم يرتد وبقي على ردته.

فهذه الشروط الثلاثة لو تحققت في أي واحد سيصبح صحابياً، والصحابة كثيرون جداً، فقد بلغ عددهم أكثر من مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، ونحن لسنا منهم؛ لأننا لم نعاصر رسول الله ﷺ ولم نره، ولم تمر بنا هذه التجربة كما ذكرناها في هذه الكلمات.

كيف تكون صحابياً؟

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-18-22 08:14 AM

سلسلة_كن_صحابياً

🔟

كيف تكون صحابياً؟

إذا كان مستحيلاً في مصطلح أهل الحديث أن تكون صحابياً،
فكيف تكون صحابياً في عقيدتك في إيمانك في أفكارك في فهمك لهذا الدين في طموحاتك وأهدافك في حميتك للإسلام في غيرتك على حرمات المسلمين،
في التطبيق لكل صغيرة وكبيرة في هذا الدين؟
المقصود في هذه المجموعة أن نفقه الأسباب الحقيقية التي جعلت من الصحابة صحابة،

فليس فضل الصحابة فقط أنهم عاصروا رسول الله ﷺ ، وعاشوا معه في نفس الفترة الزمنية، فقد عاصره أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وغيرهم من المشركين،

وإنما يرجع فضل الصحابة إلى التزامهم بتعاليم هذا الدين التزاماً حرفياً، واتباعهم لرسول الله ﷺ اتباعاً دقيقاً، وحبهم لهذا الشرع حباً خالصاً صادقاً حقيقياً.
والمقصود في هذه المجموعة أن نكون قوماً عمليين، لا أن يكون همنا فقط أننا نسمع الحكايات ونتندر بالروايات،
وإنما همنا أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العمالقة أو قريباً مما وصلوا إليه، هذا هو المقصود من كلمة: كن صحابياً، وهذا هو المقصود من

السؤال
هل أنت صحابي؟

وقد قال لي أحد أصحابي شيئاً غريباً جداً، ولعل ذلك الشيء الغريب هذا هو سبب تحضير كل هذه المجموعة من المحاضرات، قال: إنني كلما قرأت قصص الصحابة أو استمعت إليها أصابني اليأس والإحباط.

فقلت: سبحان الله! هذا عكس المراد تماماً، فنحن نقرأ سير الصحابة والصالحين لكي نتحمس للعمل ولكي ننشط عند الفتور،

ثم قلت له: لماذا تشعر بهذا الإحساس؟

قال: لأنني كلما قرأت عن الصحابة وجدت لهم أعمالاً يستحيل علينا فعلها، ووجدت إصراراً على الجهاد، ووجدت ثباتاً على الإيمان، ووجدت عزيمة على الصيام والقيام والبذل والعطاء، ووجدت مواصلة لأعمال البر والخير، ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً،

ليس هناك فرق بين مرحلة الطفولة ومرحلة الشباب ومرحلة الكهولة أو الشيخوخة،

فالجهد كله لله عز وجل، والمال كله في سبيل الله، والفكر كله في سبيل الله،
وتستطيع أن تقول: الحياة كلها في سبيل الله،
فعندما أجد ذلك أشعر بضعفي الشديد وبُعدي عن طريقهم، فيسيطر عليَّ الإحباط واليأس.

انتهى كلام صاحبي هذا.

فقلت له: والله أنا معك في نصف كلامك وأتفق معك فيه تماماً،
وأما النصف الثاني فأنا أختلف معك فيه اختلافاً جذرياً، فكما تقول: إن الصحابة جيل فريد، وحياة عجيبة، وعطاء ما انقطع لحظة،

ولذلك فقيمته عالية وغالية جداً، ويكفي أن تسمع إلى قول الله عز وجل وهو يقول في حق المهاجرين والأنصار: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]،

وانتبه فالله عز وجل لم يذكر شرط الإحسان في عمل الصحابة، وإنما شرط الإحسان في التابعين لهم، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]؛

لأن الصحابة كلهم قد عملوا بإحسان، وهذا معلوم ضمناً من حال الصحابة، فتأمل الدرجة كيف هي عالية وغالية عند الله سبحانه وتعالى وعند الرسول ﷺ وعند كل المؤمنين، وهذا هو الذي أتفق فيه معك، لكن ما أختلف فيه معك هو الشعور بالإحباط واليأس عند سماع هذه الحكايات وعند قراءة هذه السيرة، فبدلاً من الإحباط واليأس هناك شيء أفضل من ذلك، ألا وهو أن نشغل أنفسنا بمعرفة كيف سبق السابقون؟ وكيف اللحاق بهم؟

والمسألة بالعقل، وتعالوا لنُفكر معاً، فنقول: ما دام أن الصحابة قد ساروا في طريق معروف وواضح، وهذا الطريق موصوف لنا كما وصف لهم، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله الكريم ﷺ ، إذاً فالتعرف على الطريق والسير فيه يضمن لنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه، والمثال يوضح ذلك: فلو قلت لك: امش في هذا الطريق ولا تتجه يميناً ولا يساراً، وستجد نفسك في الإسكندرية، طريق مستقيم من هذه النقطة إلى تلك النقطة، وأي واحد سيسلكه سيوصله إلى الإسكندرية، وكذلك الصحابي مشى في الطريق ولم يتجه يميناً ولا يساراً، حتى وصل إلى ما كان يريد أن يصل إليه، والذي منا سيمشي في نفس الطريق من غير أن يتجه يميناً ولا شمالاً سيصل إلى نفس الذي وصل إليه الصحابة،

ولذلك فإن المشكلة أننا كثيراً ما نتجه يميناً ويساراً، فمرة تريد أن تستكشف طرقاً جانبية فتبتعد عن الطريق المستقيم، ومرة تفكر أنك أذكى من الشرع تستطيع أن تأخذ طرقاً مختصرة لتصل سريعاً، بينما الأصل أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وطريق الشرع هو دائماً الطريق المستقيم من غير يمين ولا شمال، وانظر إلى ربنا وهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، تقولها سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم في صلاتك، وذلك حتى تتربى وتتعلم.

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-19-22 08:08 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣1️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

نريد أن نقف وقفة تحليلية حول الإحباط واليأس عند سماع قصص الصحابة، أقول: لا داعي للإحباط ولنكن عمليين، ولنبحث عن أسباب الإحباط لكي نعالج المسألة علاجاً متكاملاً، والحقيقة أنني قد وجدت بعض الأسباب التي أورثت في اعتقاد كثير من المسلمين أنه يصعب عليه جداً تقليد الصحابة،
وهذه الأسباب تتلخص فيما يلي:

أولاً: عدم وجود النبي ﷺ بيننا؛

لأنه هو الذي ربى الصحابة، وعليه فغير ممكن أن نكون مثل الصحابة،
وهنا سأسألك سؤالاً في غاية الأهمية: هل وجود الرسول ﷺ حتمي للدلالة على الطريق الصحيح؟

أي: هل من أجل أن نعرف الطريق الذي يريد الله عز وجل منا أن نمشي فيه أن يكون الرسول بيننا؟
إذا كان حتمياً فلا أمل في الوصول؛ لأنه ﷺ قد مات ولن يعود إلى يوم القيامة،
وإذا لم يكن حتمياً فهناك أمل في أن نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، وتعالوا بنا لنرد على هذا السؤال بهدوء، ونرى ما هي الإجابة عليه؟

بداية لا ينكر أحد أهمية وجود النبي ﷺ في هذا الجيل الأول، بل لا يكون هناك دين من غير رسول الله ﷺ ؛ لأن الرسول ﷺ هو الذي كان يتلقى عن رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم إنه كان القدوة الكاملة الحسنة في كل شيء لكل المؤمنين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]،

واسأل نفسك الآن؟

هل اختفت القدوة النبوية من حياتنا بعد وفاة رسول الله ﷺ ؟ أبداً،
فما زالت سنته وطريقته وكلماته حية بين أظهرنا، وستظل حية إن شاء الله إلى يوم القيامة، وقد أنكر الله بشدة على أولئك الذين فتروا عن العمل، عندما غاب عنهم رسول الله ﷺ ، يقول سبحانه تعليقاً على غزوة أحد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]،

فهذه الآية نزلت عندما أشيع يوم أحد أن رسول الله ﷺ قد قتل، وعند ذلك أحبط بعض الصحابة فجلسوا في أرض القتال، وفقدوا كل حمية للقتال، وفقدوا كل رغبة في النصر، وكل أمل في الحياة، والحياة بالنسبة للصحابة في الأرض ولو ساعة واحدة مع الرسول ﷺ أفضل من الخلود في الأرض بغير رسول الله ﷺ ، فكانت مصيبة كبيرة جداً فقدان الرسول ﷺ ، وكانت المصيبة على الصحابة أشق بكثير من المصيبة علينا؛ لأنهم عاشوا مع رسول الله ﷺ ، فخالطوه وتعاملوا معه وصلوا خلفه واستمعوا لحديثه، عاشوا حياة كاملة مع رسول الله ﷺ ، ثم بعد ذلك قيل: قد قتل ﷺ ، إنها مصيبة عظيمة جداً،

ومع عظم هذه المصيبة لم يعذرهم ربهم سبحانه وتعالى في عدم العمل بنفس الحمية حتى مع المصيبة الثقيلة، واعتبر أن ما فعله هؤلاء الصحابة كان قصوراً في الفهم يستحقون عليه اللوم الشديد والتهديد المرعب، فقال تعالى: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144].

وعلى العكس من ذلك تماماً،
فهذا الصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه عندما مر على هؤلاء الذين قعدوا بعد إشاعة مقتل رسول الله ﷺ فقال لهم: إن كان محمد ﷺ قد قتل، فإن الله حي لا يموت، فقوموا وقاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد، فـ ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه رجل مؤمن، ورجل واقعي يتعامل مع الواقع الذي يعيشه بكل ظروفه وملابساته، فيعمل في وجود رسول الله ﷺ وفي غيابه، ويتأقلم بسرعة مع الأحداث فيعمل بكل طاقته فيها، وليس هناك أمر تتمناه مستحيل الحدوث، وليس هناك معنى لكلمة (لو) في حياة المسلم، فيقول أحدهم:

والله لو كنت في زمان رسول الله ﷺ لفعلت كذا وكذا، ولكن قدر الله وما شاء فعل،
فأنا لست صحابياً، لذلك لن أستطيع أن أعمل مثل الصحابة.

هذا وهم، (فإن لو تفتح عمل الشيطان) كما جاء عنه ﷺ في صحيح مسلم، ثم ما أدراك أنك إذا كنت في زمن النبي ﷺ أنك تتبعه؟ فقد كان هناك آلاف من المشركين الذين كانوا معاصرين للنبي ﷺ ، ومع ذلك حاربوه عليه الصلاة والسلام، وكذلك فقد كان هناك آلاف من المنافقين عاشوا في المدينة، وصلوا في مسجد رسول الله ﷺ خلفه مباشرة، ومع ذلك ما آمنوا به.

أيضاً ما أدراك أنك كنت ستتغلب على فتنة ترك دين الآباء، وفتنة اتباع نبي من قبيلة أخرى، وفتنة المحاربة من أهل الأرض أجمعين، وفتنة التعذيب والتجويع والهجرة؟ اعلم أن ما اختاره الله عز وجل لك هو الأفضل، لذا لا يُقبل من المسلم أن يتعلل بغياب رسول الله ﷺ في أنه لا يفعل مثل الصحابة، بل يكون حاله وفهمه كفهم ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، وأعظم منه كان موقف أبي بكر رضي الله عنه.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-19-22 08:09 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣2️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

رفع الرسول ﷺ والصحابة فوق دائرة البشرية

السبب الثاني: الخروج بالصحابة عن دائرة البشرية، فالناس تعتقد أنهم طراز مختلف من البشر، وخلق آخر ليست لهم النوازع الإنسانية المزروعة داخل نفوسهم، وهذا كلام ليس بصحيح، ودعنا لنتأمل في حقيقة الصحابي، بل في حقيقة رسول الله ﷺ ، فهو نفسه بشر كبقية البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينجب ويحب ويكره ويفرح ويحزن ويتألم، فهو بشر بنص كلام الله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، فهو مثلنا تماماً، وإنما يختلف عنا عليه الصلاة والسلام في أنه يوحى إليه، فالرسول ﷺ بشر نزل عليه الوحي، {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110]،

ماذا يعمل؟ ما هو الطريق؟
{فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]،

فلا تنشغل عن العمل بأي أعذار، ولا تقل: الرسول رسول ولن أستطيع أن أقلده، لا، فالرسول ﷺ بشر مثلنا، وهذه لحكمة ظاهرة هي حتى نستطيع أن نقلده، ولو كان غير بشر لكان عندنا عذر في أننا لا نستطيع أن نقلده؛ لذلك سبحانه وتعالى لم ينزل علينا ملكاً بالرسالة، ولو قام ملك بالشرائع لقال الناس: إنما يستطيع ذلك؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيعه، وإذا امتنع الملك عن المعاصي قالوا: إنما يمتنع؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيع؛ لذلك لابد أن يكون الرسول من جنس من يرسل إليهم، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95]،

فالأرض ليس عليها ملائكة وإنما عليها بشر، لذلك كان الرسول بشراً؛ لكي نستطيع أن نقلده، وليس من المعقول أن نضيع الحكمة من كون الرسول ﷺ بشراً فلا نقلده، بزعم أنه رسول ونحن غير مرسلين، فإذا كان هذا الكلام يصح مع رسول الله ﷺ فمن باب أولى يصح مع الصحابة الكرام، وإذا كان الرسول ﷺ بشراً وجب تقليده واتباعه، فعلم يقيناً أن الله عز وجل ما أوجب شيئاً إلا وكنا عليه قادرين.
إذاً: أليس اتباع الصحابة بعد فهم هذه الحقيقة أمراً ممكناً؟

فالصحابة بشر لهم أجساد كأجسادنا، ولهم فطرة كفطرتنا، ولهم غرائز كغرائزنا، ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ومع كل هذه الأمور البشرية والنوازع الإنسانية إلا أنهم قهروا أنفسهم على اتباع الحق وإن كان مراً، وعلى السير في طريق الله عز وجل وإن كان صعباً أو وعراً، وليس معنى ذلك أن أقول كما يقول أولئك الذي قلَّ أدبهم، وانعدم حياؤهم، فقالوا: الصحابة رجال ونحن رجال، وسوغوا لأنفسهم بذلك الطعن في الصحابة وانتقاص بعضهم، أبداً،

فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود عكس ذلك بالضبط، فنقول: هم أعظم البشر مطلقاً بعد الأنبياء، وكونهم أعظم البشر لا يلغي ذلك بشريتهم ولا يقلل من شأنهم، وإنما العكس، فيرفع جداً من قيمتهم؛ لأنهم انتصروا على أنفسهم في امتحان عسير ما استطاعت السماوات والأرض والجبال أن يدخلن فيه أصلاً، فحملوا الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، فتقليدهم ممكن، بل وضروري جداً؛ لأنهم بشر نجحوا في امتحان وضعه الله عز وجل، وهو أعلم بقدرات البشر، ومع ذلك فأنا لا أدعي أننا سنكون مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإنما أقول: إنما يجب أن نتخذهم قدوات عملية، قدوات صالحة، وإننا نستطيع بإمكانياتنا البشرية وبمنهج الإسلام الواضح أن نسير في نفس الطريق الذي ساروا فيه، ونصل بإذن الله إلى ما وصلوا إليه، وهذا إذا كنا نريد أن نمشي في هذا الطريق فعلاً.

إذاً: السبب الثاني في إحساس بعض المسلمين أن تقليد الصحابة عسير: هو نسيان هؤلاء المسلمين أن الصحابة بشر لهم كل طبائع البشر، وليسوا خلقاً خاصاً، فليسو جناً ولا ملائكة، وإنما هم بشر نجحوا في حمل الأمانة.
وقبل أن أترك هذه النقطة أحب أن أشير إشارة سريعة، ألا وهي أن بعض الدعاة يساهمون في هذه المشكلة بذكرهم مبالغات شديدة في حق الصحابة، وهذه المبالغات إما أن تكون غير صحيحة أصلاً، ومن باب أولى ألا تذكر هذه المبالغات مطلقاً، وإنما يذكر الصحيح في حق الصحابة والحمد لله يكفي، والصحابة الكرام ليسوا محتاجين إلى المبالغة لكي نعظمهم، فهم عظماء بأحوالهم الحقيقية،

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 12-20-22 08:21 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣3️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

النظر إلى إمكانيات الصحابة على أنها إمكانيات رجل واحد

السبب الثالث: أنهم ينظرون إلى إمكانيات جيل الصحابة بأكمله على أنها إمكانيات رجل واحد أو امرأة واحدة منهم، وهذا ليس بصحيح، صحيح أن الصحابي أو الصحابية شخصية متكاملة؛ لكنه لم يكن متفوقاً في كل المجالات بدرجة واحدة، وإنما كان يبرز في مجال ويتفوق عليه غيره في مجال آخر،

فهناك من تفوق في جانب الجهاد كـ خالد بن الوليد رضي الله عنه والقعقاع بن عمرو التميمي والزبير بن العوام رضي الله عنهم أجمعين،

فكانت عبقريات عسكرية فذة، لكن في نفس الوقت كان خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يحفظ من القرآن كثيراً، فكان إذا صلى بالناس أخطأ في القراءة، فكان يلتفت إلى الناس بعد الصلاة ويعتذر منهم ويقول: إنما شغلت عن القرآن بالجهاد، لكن تعال للقرآن وعلوم القرآن تجد زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبا موسى الأشعري علماء أفذاذاً رضي الله عنهم، لكن تفوقهم في المجال العسكري غير بارز.

وتعالوا لننظر مجال الأحاديث وحفظها، وطلب العلم ونقله، تجد أبا هريرة أسطورة علمية ومكتبة حافظة وكمبيوتر متحرك، لكن في مجال الإفتاء والأحكام الشرعية تجد غيره أبرز منه، فتجد عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب.

وتعالوا لننظر مجال الإنفاق، فـ أبو بكر الصديق وإن كان أبو بكر الصديق قد تفوق في كل المجالات، كذلك تجد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.

وتعالوا لننظر أيضاً في الإدارة تجد عمر بن الخطاب، وفي إدارة الأمور تجد معاوية رضي الله عنه، فكل واحد متفوق في شيء، وكل واحد بارز في شيء، ونحن أيضاً منا من ينفق في سبيل الله ببساطة وبسرعة، ولكن حظه من العلم قليل، وواحد خطيب مفوه، لكن ليست له في السياسة خبرة، وواحد بارع في علوم القرآن، لكن ليس بارزاً جداً في القضاء، فهناك إمكانيات مختلفة في مواهب مختلفة،

وحصيلة علمية مختلفة، وتربية مختلفة، توجد ثغرات كثيرة جداً، ونحن محتاجون لكل هذه المواهب لسد كل هذه الثغرات، وعليه عندما تنظر إلى جيل الصحابة بهذه الصورة فإنك وإن كنت ستتخذ كل الجيل بصفة عامة قدوة، إلا أنك ستتخذ من بينهم قدوة خاصة في المجال الذي أنت بارز فيه، فلو أنك قائد في الجيش سيكون قدوتك خالداً، ولو أنك إداري سيكون قدوتك عمر وهكذا، وبذلك يصعب تسلل الإحباط إلى قلبك.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 12-20-22 08:23 AM


سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣4️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

إغفال أخطاء الصحابة

السبب الرابع والأخير وإن كان هناك سبب خامس، لكن إن شاء الله سنتكلم عنه في الدرس القادم: أن كثيراً من الدعاة والعلماء يغفل عمداً أخطاء الصحابة؛ لأنه يخاف على اهتزاز صورة الصحابة، فلا يتحدث عن ذنوبهم ولا يتحدث عن اجتهاداتهم التي تخطئ أحياناً، أو يحاول أن يتعسف في إيجاد المبرر للخطأ، وهذا كله غير صحيح وغير حكيم، وهذا كله لمحاولة إلغاء بشرية الصحابة، ولا يعيب الصحابة مطلقاً أن نتحدث عن بعض أخطائهم، أو عن بعض الهفوات في حياتهم، وكفى بالمرء خيراً أن تعد معايبه.

فقد كانوا سريعي العودة إلى الله عز وجل، وسريعي التوبة من ذنوبهم، ومع ذلك انتبهوا معي فعند ذِكْرِ هذه الأخطاء يجب أن يراعى الأدب الكامل والاحترام العظيم لمقام أولئك الأخيار، فهذه سيئات تذوب في بحار حسناتهم، وإن شاء الله سنفرد في هذه المجموعة محاضرة خاصة بعنوان: (الصحابة والتوبة) وسنتكلم فيها بالتفصيل عن هذا الموضوع، وفي مجموعة كاملة تكلمنا فيها عن الرسول ﷺ وأخطاء المؤمنين،
ويمكن أن تعودوا لها لو أردتم أن تتعمقوا في هذا الموضوع.
إذاً: فهذه أربعة أسباب، واحتمال أن هناك غيرها أدت إلى إحباط بعض المسلمين من سماع قصص الصحابة المثالية، وخلصنا إلى أن تقليد الصحابة ليس فقط أمراً ممكناً، ولكنه أمر مطلوب شرعاً، ومن هنا كانت هذه المجموعة بعنوان: كن صحابياً.

وهذا المعنى إذا سئلت: هل أنت صحابي، تستطيع أن تقول: نعم، أنا صحابي في الفهم، صحابي في الجهاد، صحابي في التوبة، صحابي في الأخوة وهكذا، ونستطيع بعد ذلك أن نقرأ قصص الصحابة بفكر جديد، وبفكر البحث عن الطريق الذي وصل بالصحابي إلى هذه الدرجة العالية، وفكر الاجتهاد الحقيقي المخلص في السير في نفس الطريق الذي سار فيه الصحابة.

غربة الدين
قبل أن أختم هذه المحاضرة أحب أن أنقل إليكم حديثين رائعين لرسول الله ﷺ ، وكل أحاديثه ﷺ رائعة.

الحديث الأول: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله ﷺ : (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباًً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله ﷺ عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن، فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها، ويستنكر تعاليمها، ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن، وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية، وأصبح الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غريباً وسط الناس، والذي يقول: لا داعي أن نبيع الخمر يكون غريباً،

والذي يقول: الربا حرام يكون غريباً، والذي يقول: العري في الأفلام والمسرحيات والإعلانات وغيرها حرام يكون غريباً،

والذي يقول: فلسطين كلها ترجع للمسلمين يكون غريباً أمام الناس فرجع الإسلام فعلاً غريباً كما بدأ، لكن البشارة: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا، فطوبى للغرباء)، أي: سيكون هناك غرباء مثل الصحابة، يكافحون ككفاحهم، ويجاهدون كجهادهم، ويدعون إلى الله عز وجل كدعوتهم، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحبون الدين كحبهم له، ويحبون سنة الرسول ﷺ لحبهم لسنة النبي ﷺ ؛ لأن هذا دين ربنا سبحانه وتعالى، وهو الذي يسخر أناساً يدافعون عن دينه ويحملون الأمانة.

وفي رواية عند الترمذي عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه هناك زيادة لطيفة جداً سأله الصحابة-: (من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، فلماذا لا نكون نحن من هؤلاء الغرباء؟ لو صرنا من الغرباء الذي يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ سنصبح مثل الصحابة، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

أيام الصبر على الدين
الحديث الثاني: روى الترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وأرضاه، وهو حديث طويل جاء في آخره كلام عجيب لرسول الله ﷺ ، يقول النبي ﷺ : (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، فصعب جداً أن تتمسك بدينك وكأنك تمسك في يديك جمرة ملتهبة، لكن انتبه وانظر إلى بقية الحديث، يقول ﷺ : (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)، أي: أجر خمسين رجلاً يعملون مثل أعمال الصحابة؛

لذلك استغرب الصحابة فقالوا: (يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم)، فالذي يتمسك بدينه الآن له أجر خمسين من الصحابة، وعليه فلا يوجد هناك أناس محبطة من أنها تقلد صحابياً؛ لأن عندها فرصة لأن تكون مثل خمسين صحابياً، ولا يستغرب أحد، فالله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة، وفوق ذلك هو الكريم سبحانه وتعالى، ففرق كبير جداً بين الصحابي الذي يعيش في معسكر إيماني كامل، كلما سار في اتجاه رأى مؤمناً، بل يرى رجالاً الواحد منهم يوزن بأمة كاملة، فإذا سار هنا رأى الصديق والفاروق وعثمان وعلياً، وإذا سار هناك رأى أبا عبيدة وسعداً والزبير،

وإذا دخل المسجد المسجد وجد سعد بن معاذ وعبد الله بن مسعود، وإذا حضر درس علم سمعه من فم رسول الله ﷺ ، وجلس فيه إلى جواره أبو هريرة ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك، ويصلي الجماعة مع أبي ذر وأبي الدرداء، ويسمع الأذان من بلال، وإذا جاهدت جاهد تحت قيادة خالد بن الوليد، وإذا سافر سافر مع أبي موسى الأشعري.

أما الآن فهو يعيش في مجتمع لا يجد فيه على الخير أعواناً إلا القليل، ومع ذلك يصبر على طاعة ربه، ويصبر على الدعوة، ويصبر على الإسلام صبراً كأنه يقبض على الجمر، نعم والله تماماً كما وصف رسول الله ﷺ ، وقارن بين الصحابي الذي يعيش في مجتمع قلما تقع فيه عينه على معصية، وقلما يسمع منكراً، وبين هذا الذي يطيع ربه ويقبض على دينه في مجتمع تقتحم فيه المعاصي عينيه اقتحاماً، فيمشي في الشارع فيجد المعاصي، ويفتح التلفاز فيجد المعاصي، وينظر على الجدران في الشوارع فيجد المعاصي، ويدخل الجامعة والمستشفى، بل ويذهب للعزاء فيجد المعاصي، وفي كل مكان يجد المعاصي، وليس هناك اعتبار لعلم ولا لمرض ولا للموت.

إذاً: عند هذه المعاصي أنت تقبض على دينك كما تقبض على الجمر، وعلى قدر ما كان رسول الله ﷺ يبجل ويعظم ويقدر من يعمل حسنة أو فضيلة، فنحن في هذا الزمان على قدر هذا الأمر يحارب الدعاة، على قدر هذا الأمر هناك إهانة وتشريد وتعذيب للدعاة؛ من أجل أنهم أمروا بالذي كان يأمر به رسول الله ﷺ :
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56]، ما هي الجريمة؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، فهذه هي مشكلة أهل الخير في زماننا، فعلى قدر ما كان الرسول ﷺ يعظم الصحابي إذا عمل خيراً، على قدر ما الداعية في هذا الزمان يحارب ويطارد، ولذا عندما تضع كل هذه الملابسات والظروف في ذهنك، وأنت تعلم أن الله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة تستطيع أن تفهم بشارة رسول الله ﷺ : (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً ويعملون مثل عملكم، فقالوا: منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم).

إن هذه المجموعة من المحاضرات غرضها أن نكون من هؤلاء القابضين على الجمر، من هؤلاء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ ، من هؤلاء الغرباء الذين لا يعتبرون بنظر الناس إليهم، وإنما فقط يعتبرون بنظر الله عز وجل لهم، من هؤلاء الذين يحلمون أن يكونوا صحابة، بل من أولئك الذين إذا عملوا أجروا، ليس فقط كأجر صحابي، بل كأجر خمسين من الصحابة.

نسأل الله عز وجل أن نكون منهم، وأن يجمع بيننا وبين حبيبنا وقائدنا وقدوتنا رسول الله ﷺ وصحابته الكرام، إن الله عز وجل على كل شيء قدير.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].


... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-21-22 08:04 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣5️⃣

صناعة الرجال

إن من معجزات الإسلام العظمى أنه أخرج لنا رجالاً سادوا البلاد والعباد، فبنوا لنا حضارة ما عرف التاريخ مثلها، واختفت عندهم الذلة والسلبية، والأنانية والغلظة، وحقارة الأهداف وتفاهة الطموح، وأصبح الواحد منهم يوزن بأمة بأجمعها، وكان الفوز والفلاح باتباع أثر هؤلاء الرجال، والوصول إلى ما وصلوا إليه.

نتابع أسباب الإحباط من إمكانية تقليد جيل الصحابة
سبق لنا أن تحدثنا عن موضوع أسميناه: القابضون على الجمر، والقابضون على الجمر هم: المسلمون الذين يتمسكون بدينهم في زمان كثر فيه الشر، وانتشرت فيه المعاصي، وتعددت فيه الفتن.

القابضون على الجمر هم: الذين يسيرون في طريق الصحابة حتى بعد ألف وأربعمائة سنة أو أكثر من انتهاء جيل الصحابة، وهم لا يأخذون من الأجر كأجر صحابي واحد، بل يأخذون كأجر خمسين صحابياً، وعلى النقيض من هذه الطائفة الرائعة من المسلمين، أعني: طائفة القابضين على الجمر، هناك طائفة أخرى من المسلمين تعاني من مشكلة أعتبرها خطيرة، ألا وهي مشكلة الإحباط من إمكانية تقليد جيل الصحابة، أو التعامل معه كقدوة عملية نستطيع أن نعمل مثلها، فهؤلاء يعتقدون أنه من المستحيل علينا أن نفعل مثلما كان يفعل الصحابة، أو نفكر مثلما كانوا يفكرون، أو نعبد الله عز وجل كما كانوا يعبدون، لماذا يا ترى هذا الإحساس في داخل بعض المسلمين؟
سبق وأن ذكرنا فيما مضى أربعة أسباب لهذا الأمر نذكرها باختصار: أولاً: الاعتقاد بأن وجود النبي ﷺ بين ظهراني الصحابة كان سبباً في وصولهم إلى هذا المستوى الراقي، وقد ذكرنا أن وجود رسول الله ﷺ كان مهماً جداً، لكنه ليس حتمياً لتطبيق شرائع الدين، وإلا لما أمر الله عز وجل اللاحقين بنفس التكاليف التي أمر بها الصحابة، والموضوع فيه تفصيل كثير، والذي يريد أن يعرف التفاصيل فليرجع إلى الدرس السابق.

ثانياً: رفع الصحابة رضوان عليهم فوق بشريتهم، والحديث عنهم بشيء من المبالغة التي تؤدي إلى استحالة التطبيق.

ثالثاً: الاعتقاد بأن كل الصحابة تفوقوا في كل المجالات بصورة واحدة، ونسيان أن كل صحابي قد تفوق في مجال من المجالات، وتفوق عليه غيره في مجال آخر، ولن تستطيع كإنسان أن تحصّل إنفاق أبي بكر مع إدارة عمر مع جهاد خالد مع علم عائشة مع فقه عبد الله بن عباس مع حياء عثمان مع قضاء علي، فذلك مستحيل، فالناس التي تنظر للجيل كله كوحدة واحدة صعب عليها أن تقلد كل الجيل، وإنما تقلد واحداً تشعر أنت أن إمكانياتك وقدراتك ومواهبك تتوافق مع المجال الذي هو كان متفوقاً فيه.

رابعاً: تعمد بعض العلماء إغفال أخطاء الصحابة الناتجة عن كونهم بشراً، والبشر جميعاً يصيبون ويخطئون، فالعلماء عملوا ذلك منهم بحسن نية، وحرصاً على تنزيه الصحابة، لكن هذا الأسلوب من التربية أدى إلى اعتقاد أن الصحابة لا يخطئون أبداً، وبالتالي إذا أخطأ المسلم الآن فإنه يحبط في أن يصل يوماً ما إلى ما وصل إليه الصحابي.

إذاً هذه أربعة أسباب أدت إلى إحساس بعض المسلمين أو كثير من المسلمين إلى أنه صعب عليه أن يقلد الصحابة، فلا يفعل كثيراً من الطاعات، وإذا ذكرته بصحابي ما وقلت له: كان يفعل كذا وكذا، يقول لك: والله أنا لست صحابياً، فأنا لست عبد الله بن عمرو ولست أبا ذر، وقد يرتكب المنكرات، فإذا ذكرته بصحابي تغلب على شهوته وامتنع عن المنكر، قال لك: والله أنا لست صحابياً فلست أبا بكر ولا عمر وهكذا.

والحقيقة أن هذا شيء خطير جداً، أن يفتقد المسلمون قدوتهم الصالحة، أن يعتقد المسلمون أن هذه القدوات قدوات غير عملية، أو أن اتباعها ضرب من الخيال.

وسنتكلم بمشيئة الله تعالى عن سبب خامس مهم جداً أدى إلى اعتقاد كثير من المسلمين إلى استحالة تقليد الصحابة، ولذلك عندما نعالج هذا السبب -في اعتقادي- سيؤدي إن شاء الله إلى خير كثير، وسيكون عند كثير منا أمل في الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة إن شاء الله تعالى.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-21-22 08:05 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣6️⃣

أسباب الإحباط واليأس من إمكانية تقليد الصحابة

عدم دراسة سيرة الصحابي كاملة

خامساً: أن كثيراً من المسلمين يأخذ قصة الصحابي من نصفها، فيبدأ في دراسة حياة الصحابي منذ لحظة إسلامه، ويغفل تماماً الفترة التي عاشها الصحابة في الجاهلية، وينسى كيف كان الصحابي قبل أن يصير إلى ما صار إليه، لذلك إذا قمت بدراسة حياة الصحابي كوحدة متكاملة، فدرسته في جاهليته،
ثم درسته في إسلامه، وقرأت عن أخلاقه قبل الهداية، وأخلاقه بعد الهداية، وعلمت أهدافه وطموحاته قبل أن يمن الله عز وجل عليه بهذا الدين، وقارنتها بأهدافه وطموحاته بعد أن أصبح مسلماً، عند ذلك تعلم أن الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة ليس بمستحيل، لأن كثيراً من الصحابة بدءوا بدايات أصعب بكثير من بدايتنا، فأنت عمرك -مثلاً- ما سجدت لصنم أو عبدت شجرة، وليس كل المسلمين كانوا مدمنين على الخمر قبل الهداية، وليس كثيراً من المسلمين قعد سنوات من عمره لا بأس بها يعذب ويقتل في المؤمنين،

ولست من قبيلة بينها وبين قبيلة الرسول ﷺ عداء طويل وقديم مستحكم يصدك عن الإيمان، فكثير منا كانت بدايتهم أفضل بكثير من بدايات الصحابة، فإذا كان الصحابة الذين بدءوا هذه البدايات الشاقة قد وصلوا إلى هذه الدرجة، فمن البديهي أن الذي بدأ من درجة أفضل يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، لكن بشرط أن يسير في نفس الطريق الذي ساروا عليه، والذي غيَّر الصحابة ونقلهم هذه النقلة الهائلة من عباد الحجر إلى قواد البشر، ومن أذل الناس إلى أعز الأولين والآخرين،

ومن أمة لا يأبه بها ولا يعتد برجالها ولا نسائها، بل ولا يعتد بوجودها أصلاً إلى أمة تسود البلاد والعباد، وتبني حضارة ما عرف التاريخ مثلها أبداً، وليس في ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، بل في سنوات معدودة، هو ببساطة: الإسلام، فالذي غيَّرهم هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، والذي غيرهم هو اتباعهم لرسول الله ﷺ ، والذي غيرهم هي هذه الكلمة الخالدة العظيمة والثقيلة جداً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لذلك كان كثيراً جداً ما يقوله النبي ﷺ للناس في مكة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، وصدق رسول الله ﷺ ، فالذي قال الكلمة بصدق ملك العرب والعجم.

وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يقول رسول الله ﷺ : (إن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله).

والقرآن الكريم كتاب عجيب ومعجز، لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي غرائبه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]،

وتخيل نفسك تحمل كتاباً لا يستطيع أهل الأرض جميعاً على اختلاف علومهم وخبراتهم وفنونهم ومعارفهم وبلدانهم وأزمانهم الإتيان بمثله، وإعجازه متجدداً ومتعدد: إعجاز لغوي، وإعجاز بلاغي، وإعجاز علمي، وإعجاز تاريخي، وإعجاز تشريعي، وإعجاز غيبي، يخبرك عن أشياء لم تحصل بعد وستحصل يوم القيامة، هذا هو إنباء العليم الخبير سبحانه وتعالى، وأنواع مختلفة ومتعددة من الإعجاز.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-22-22 08:05 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣7️⃣

صناعة الإنسان في الإسلام

لكن تبقى معجزة القرآن الكبرى ومعجزة الإسلام العظمى هي: صناعة الإنسان، فشتان بين الرجل قبل إسلامه وبعد إسلامه، فبعد إسلامه كأنك جئت برجل جديد تماماً، فاختفت الذلة واختفت السلبية، واختفت الأنانية والغلظة، واختفت حقارة الأهداف وتفاهة الطموح، واختفت كل هذه المظاهر المنكرة، وظهر خلق جديد اسمه الإنسان، لقد أصبح الإنسان إنساناً بعد إسلامه،

وقبل الإسلام كان مفتقداً لأهم شيء يميزه كإنسان، كان يفتقد عقله، وانظر إلى وصف ربنا سبحانه وتعالى لمن لم يؤمن، لمن لم يعرف كلمة التوحيد، لمن لم يوجه حياته كلها لله رب العالمين، يقول الله عز وجل في كتابه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، فهو في الشكل الخارجي إنسان، له قلب مثل قلب الإنسان، لكن لا يؤدي الوظيفة التي خلق من أجلها: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ} [الأعراف:179]، بل لا يستحقون أن يكونوا أنعاماً: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]،

فكل إنسان لا يعرف ربه، ولا ينفع معه شرع ولا دين ولا إسلام، لا يستحق لقب إنسان مهما كان شكله طيِّباً، أو لبسه حسناً، أو أمواله كثيرة، أو سلطانه عظيماً، ومهما كان يتحرك كالإنسان، ويأكل كالإنسان، ويتكلم كالإنسان، لكن فقد أغلى نعمة عند الإنسان، فقد الدليل على إنسانيته، فقد العقل الذي يختار به طريق الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]،

فالإنسان قبل الالتزام بهذا الدين ميت موتاً حقيقياً، وإن كان ظاهراً يقوم ويقعد ويمشي ويتحرك ويأكل ويشرب، لكنه ميت القلب، ميت الإحساس، ميت المشاعر، ميت العقل، ميت الغاية، ميت الهدف، ليس له أي قيمة، وبعد الالتزام بالإسلام تدب فيه الحياة فجأة، فتتحرك كل ذرة في جسده، وكأنه ولد من جديد، وبعث من جديد، وصار يرى الحق بعد سنوات من الظلام،

وانظر إلى كلام ربنا عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].

وتعالوا بنا لننظر كيف أن الإنسان يسلم؟

وكيف أن الواحد ينتقل من الكفر إلى الإيمان؟

وكيف أن الواحد ينتقل من اللاإنسانية إلى الإنسانية، ولنتأمل الطريقة الرائعة التي اختارها ربنا عز وجل لعباده إذا أرادوا أن يخرجوا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، فأول شيء يعمله الإنسان: الغسل، ليس من نجاسات الجسم الخارجية أو المتعلقات الظاهرة، بل من كل متعلقات الكفر والرذيلة.

الخطوة الثانية: أن يلبس ملابساً طاهرة.

الخطوة الثالثة: أن يقول بلسانه وقلبه وجوارحه وكل ذرة في كيانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وبهذا صار مسلماً، وبهذا يكون قد ولد من جديد، وبهذا يكون قد بعث من جديد، وصار إنساناً له إنسانيته.

الخطوة الرابعة: صل ركعتين، وقل فيها: يا رب أنا رجعت إليك بعد سنوات طويلة من الهروب، واقتربت منك يا رب بعد سنوات طويلة من البعد، وعندها أيضاً ستقرأ في هاتين الركعتين قرآناً، وستقرأ أعظم نعمة التي تجعل من الإنسان إنساناً، وبدونه لا يوجد إنسان، لذلك فإن الله يقدم نعمة القرآن على نعمة خلق الإنسان، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]، ثم قال: {خَلَقَ الإِنسَانَ}
[الرحمن:3]، فالإنسان من غير قرآن ليس بإنسان، فهذه هي صناعة الإنسان في الإسلام.

وسأسألكم سؤالاً يحتاج إلى قليل من التفكير والتأمل، هل نحن أسلمنا؟! ولا تستغرب السؤال فكلنا لنا أسماء إسلامية، وكلنا ولدنا مسلمين،
لكن يا ترى هل نحن أسلمنا إسلاماً حقيقياً؟

ألسنا نريد أن نبتدي بداية كبداية الصحابي الذي اغتسل ولبس الثياب وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصلى ركعتين،

ثم بعد ذلك باع نفسه لله عز وجل؟
وهل عرفنا معنى: إسلام؟
أليس إسلاماً لله رب العالمين؟

فتسلم نفسك له عز وجل، فإذا أمرك بالإنفاق فأنفق، وإذا قال: جاهد فجاهد، وإذا قال: عاهد فعاهد، وإذا قال: أنا أريدك في المكان الفلاني لزمك أن تبقى في المكان الفلاني، وإذا قال: أنا لا أريدك في المكان الفلاني لزمك عدم الذهاب إليه، فهذا هو الإسلام الذي أمر الله به: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، وهذا هو المسلم الذي أسلم إسلا

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم 12-22-22 08:06 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣8️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
تعالوا لنرى نموذجاً لصحابي قبل الإسلام وبعده
عمر بن الخطاب رضي الله عنه

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي يُعدُّ شخصية من أروع الشخصيات في تاريخ الإنسانية كلها، هذا الرجل الذي تجسدت فيه كل معاني الكمال البشري، ولا تستغربوا من كلمة: (الكمال)، لأن الرسول ﷺ أخبر أن كثيراً من الرجال قد كمل، ففي مسند الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، عن أبي موسى الأشعري قال: (كمل من الرجال كثير)،

بمعنى: أنه استكمل الفضائل التي يمكن أن تكون موجودة في الرجال، من عقيدة وتقوى وإخلاص وأمانة وعدل وقوة وتواضع وزهد وذكاء وقيادة، فقد كان شخصية متكاملة متوازنة، شخصية نادرة فعلاً، وأنا أريدك أن تستخدم كل وسائل التنقيب والتفتيش وتحاول أن تجد لنا واحداً مثله في أمة من الأمم، كأمريكا مثلاً، أو في أمم كاملة كأوروبا،

أو في أمة كاملة كالصين أو اليابان أو روسيا، وعدِّد ما شئت من الأمم غيرها، فمستحيل والله أن تجد واحداً على عشرة منه، أو واحداً على مائة، أو واحداً على ألف من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهذه والله ليست مبالغة، بل ووالله العظيم أن هذا أقل من الواقع بكثير، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو وزن بأمة الإسلام -ليس أمريكا ولا الصين ولا روسيا فقط- لرجحت كفته،

إذا خلا منها رسول الله ﷺ وأبو بكر، فهو في كفة وبقية الأمة في كفة بما فيها عثمان وعلي وطلحة والزبير وحمزة وخالد وسعد وكل الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكذلك الذين أتوا من بعدهم، كـ البخاري ومسلم وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، بل وعلماء الطب والهندسة والفلك والكيمياء، وكذلك بما فيها من المجاهدين والعلماء والدعاة والصالحين، فكل الأمة يرجح بهم عمر رضي الله عنه، وهذا ليس من كلامي، بل من كلام رسول الله ﷺ ،

فقد جاء عنه بأكثر من رواية، منها: ما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال ﷺ : (وجيء بـ عمر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي في كفة فوضعوا فرجح عمر)، إذا: فنحن نتكلم عن رجل أسطورة، وشخصية نادرة تماماً.

وتعال لننظر ونتأمل من هو عمر بن الخطاب قبل إسلامه؟
وما هو تاريخ هذه الشخصية النادرة في تاريخ الأرض؟
وكيف كانت بداية هذا العملاق؟
يا ترى هل كانت بدايته كبدايتنا أم أصعب؟

عمر بن الخطاب جلس أكثر من نصف حياته يسجد للأصنام، ويقدم فروض العبادة والطاعة، فهو رضي الله عنه ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، يعني: أنه كان أصغر من الرسول ﷺ بثلاث عشرة سنة، فقد كان عمره سبعة وعشرين سنة وقت البعثة، وأسلم بعد ست سنوات كاملة من الرسالة، ومعنى هذا أن عمره عند الإسلام كان ثلاثاً وثلاثين سنة في أصح الروايات، وفي رواية تقول: أن عمره عند الإسلام كان ستاً وعشرين سنة،

ومات وعمره ثلاث وستون سنة تقريباً، يعني: أنه ثلاث وثلاثون قعد سنة في الكفر، وثلاثون سنة وهو مؤمن، وضمن سنوات الكفر ست سنوات كاملة وهو يعيش مع الرسول ﷺ في مكة،

ومع ذلك يصر على كفره وإنكاره لوحدانية الله عز وجل، ويصر على عبادة الأصنام، فهذا هو عمر قبل أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يكن كافراً عادياً، بل كان من أشد الكفار غلظة على المسلمين، فقد كان يعذب جارية بني مؤمل -وبني مؤمل أحد فروع قبيلة عمر، وقبيلة عمر هي بني عدي- من الصباح إلى المساء، ويتركها في الليل ليس رحمة بها ولكن يقول: والله ما تركتك إلا ملالة، أي: أنه تعب من تعذيبها،
وهذا كان عقل عمر الذي رضي أن يسجد لصنم، فيطلبه ويرجوه ويخافه ويعتمد عليه، هو نفس العقل الذي كان بعد إسلامه، فعرف ربه كما لم يعرفه كثير من الخلق، وهو هذا العقل الذي صار يدير دولة كبيرة كسرت شوكتي فارس والروم اللتين ملكتا المشرق والمغرب، ما هو الذي حصل في عقل عمر؟
لا إله إلا الله، محمد رسول الله خلقت إنساناً جديداً.

وانظر إلى قلب عمر كيف كان يقبل أن يجلد بالسياط امرأة مسكينة ضعيفة، لا لشيء إلا لأنها آمنت بالله وحده، وما نقم منها إلا أنها آمنت بالله العزيز الحميد،

وهذا هو قلب عمر نفسه بعد كلمة الإسلام، فقد تغير وصار يخاف خوفاً غير متخيل على كل مسلم في الأرض، سواء كان يعرفه أو لا يعرفه، فقد كان يقول لقواد جيشه: لا تدخلوا بجيش المسلمين في غيضة، يعني: لا تدخلوا الجيش في أي شيء فيه خطورة، فإن رجلاً من المسلمين أغلى عندي من مائة ألف دينار

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-23-22 08:45 AM

سلسلة_كن_صحابياً

1️⃣9️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
عمرو بن الجموح رضي الله عنه

وهذا عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه الذي لم يُسمع عنه شيئاً قبل إسلامه، ولا أحد كان يعرفه في الجزيرة العربية، فعقليته كانت ساذجة وبسيطة ومحدودة جداً، لدرجة أنه قعد سنين طويلة يسجد لصنم من خشب عمله بيديه، لا أقول: عشرين أو أربعين سنة، بل أكثر من ستين سنة وهو يسجد لصنم صنعه بيده، فوهن العظم وخط الشيب في الرأس، وكان المفروض أن يزداد حكمة كما يقولون، لكن كان كبيراً جداً في السن ولا يوجد عقل،
وكان يمكن أن يموت في أي لحظة ويغلق الستار على حياة تافهة لا تساوي شيئاً في ميزان الناس، بل ولا في ميزان التاريخ ولا في ميزان الله عز وجل، لكن الله سبحانه وتعالى أراد له الهداية، فآمن بعد الستين، وحدث انقلاب هائل في حياته، أو قل: حدث انعدال هائل في حياته، ففطرته عدلت، وعقله المظلم استنار، وطموحاته التافهة الفارغة عَظُمت.

وهنا تأمل في عمرو بن الجموح كيف صار يفكر بعد الإسلام، وكيف أن عرجته الشديدة لم تمنعه من الجهاد في سبيل الله، وكان معذوراً في ذلك، فعندما تجهز المسلمون لغزوة أحد أصر عمرو بن الجموح أن يخرج مع المسلمين للجهاد، وحاول أبناؤه أن يمنعوه من الخروج، لكنه ذهب يشتكيهم إلى رسول الله ﷺ ، ولم يقل: أنا معذور بنص القرآن الكريم:

{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61]، بل ذهب إلى رسول الله ﷺ وقال له: (يا نبي الله إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة)، فأنا لا أريد عرجتي هذه أن تمنعني من الجهاد ومن دخول الجنة، وانظروا إلى أي حد هو مشتاق إلى الجهاد، وانظروا إلى الأهداف العالية والطموحات السامية، فقال رسول الله ﷺ لأبنائه: (دعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة)، وتأمل قوله: (يرزقه الشهادة)، أي: يرزقه الموت فالشهادة موت، لكنه موت في سبيل الله،

فتأمل الهدف الذي صار عند عمرو بن الجموح، والأمنية التي تمناها الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن الجموح ثم رفع عمرو بن الجموح يده إلى السماء وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائباً.

فالخيبة أن يعود إلى أهله سالماً، والغاية والأمنية والمطلب والفوز أن يموت في سبيل الله، فما الذي حصل في عقل وقلب وجوارح عمرو بن الجموح رضي الله عنه؟ وكيف تغير هذا التغيير الهائل؟ فقد قعد أكثر من ستين سنة في الكفر ولم يمض عليه في الإسلام غير ثلاث أو أربع سنوات، وكيف نما فكره وعقله بهذه الصورة؟!

لقد صنع الإسلام عمرو بن الجموح وصيَّره إنساناً، فعرف طريق ربه عز وجل، وقبل هذا كان شخصاً آخر، لكن الآن أصبح عمرو يعيش حياة عظيمة، هي حياة الإنسان كما أراده الله عز وجل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فلا ينفع أن يكون خليفة الله عز وجل يعيش حياة الكفر والشرك واللعب والمعصية والتفاهة والفراغ، بل حياة الخليفة حياة جادة، وحياة الخليفة حياة الإنسان.

وحقق الله لـ عمرو بن الجموح ما تمناه، فمات شهيداً في هذه الغزوة، ولم يمنعه العرج من أن يقوم بشيء عجز عنه كثير من الأصحاء، فيا ترى من كانت نقطة بدايته أسهل نحن أم عمرو بن الجموح؟ ويا ترى مَنْ منا مرت عليه ستون سنة في أفكار قديمة خاطئة لا يستطيع أن يغيرها الآن؟ ويا ترى من فينا رضي أن يسجد لخشب ستين سنة؟ ويا ترى من فينا شديد العرج ومع ذلك يشتاق إلى جهاد ونضال وشهادة؟

لا شك أن بدايتنا أسهل، ولكن نحتاج إلى لحظة صدق، ونحتاج إلى أن نقبل الإسلام بالمعنى الذي يريده الله عز وجل، لا المعنى الذي تريده أهواؤنا وشهواتنا ورغباتنا، ونعمل كسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، فتسليم كامل مطلق، فكل حياتنا لله عز وجل وحده، وهذا هو الشيء الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-23-22 08:46 AM

سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣0️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
مصعب بن عمير رضي الله عنه

مصعب بن عمير رضي الله عنه، ذلك الشاب المترف، يعني: بلغة العصر الحديث: مدلع جداً، فقد كانت أمه غنية، وكانت تأتي له بملذات العيش من مكة ومن خارجها، وتعود على الترف المستورد، فالملابس من اليمن، والعطور من الشام، ولم يكن له هم في حياته إلا البحث عن اللذة المادية، وليس له أي تدخل بالذي يحصل حوله في الدنيا، وليس له في الدين أمر أو شأن، وكذلك في العلم والسياسة والحرب ليس له أي دخل، وليس له في مشاكل الناس أي دخل، فعاش حياة فارغة تماماً، وهذا كحال الشباب اليوم،

فكثير من الشباب ليس له أي اهتمام إلا في لبسه وسيارته والنادي الذي يشترك فيه،

والموبايل الذي يحمله، ما لونه؟ ما نوعه؟ ما رنته؟ هل فيه كاميرا أم لا؟ هل فيه ألوان أم لا؟

فتنقلب الدنيا حوله مائة مرة وهو لا يدري ما الأمر؟

لأنه مشغول ليل نهار: أغنية، فيلم، مباراة، قصة شعر، صحبة، سهرة، سيجارة، مجلة، ويخيل له أنه سعيد بذلك! وهذه قصة لواحد من هؤلاء الشباب،

فقد أزعجني أسبوعين أو ثلاثة وهو يرن لي على الموبايل ويقفل، خمس أو ست مرات في اليوم، ويعتبر هذا نوعاً من المرح، وهو في الحقيقة خفة دم، ثم أخذته الحمية فأصبح يرن لي على الموبايل عشرين مرة في اليوم، بل وفي أوقات صعبة جداً، فقد أكون نائماً أو مشغولاً أو أقرأ شيئاً، ثم تطور معه الموضوع فصار يبعث رسائل: أنا أعرفك، ألست أنت الدكتور راغب؟ هل عرفتني بعد أم لا؟

والحقيقة أنني فكرت أن أبلغ شرطة التلفونات، لكن لم أعمل ذلك؛ لأن هذا الشاب مسكين، فوقته ضائع، وفكره ضائع، وجهده ضائع، والمشكلة أن هذه الأشياء تسبب له نوعاً من السعادة، سعادة التافهين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نعود مرة أخرى لـ مصعب بن عمير الذي كان يعيش مثل هؤلاء، لكن لم يكن عنده موبايل، يعني: أنه كان يعيش كهؤلاء ثم ماذا حصل؟

حصل أنه أسلم لله عز وجل، أسلم بالمعنى الذي قلناه، ومن ثم حصل له نقلة هائلة في كيان وتكوين هذا الشخص، فتحول فجأة من الشاب المترف الناعم المدلع إلى شاب صلب قوي عملاق، صاحب تقوى وزهد وعلم وقوة وتضحية وفروسية، فحرمته أمه من كل الدنيا الحلوة التي كانت تأتي بها له، لكنَّ مصعباً ذاق معنى السعادة الحقيقية،

وعرف أن السعادة الحقيقة ليست في لبس أو أكل أو عطر،
وإنما السعادة الحقيقة في إحساسك أن لك قيمة، وأن لك هدفاً وغاية، وأنك تعرف ربك وتعرف كيف تعبده، وأنك تجاهد في سبيل الله، وأنك تهاجر في سبيل الله، وأنك تضحي في سبيل الله،

فقد تغيرت مقاييس السعادة تماماً في حياة مصعب، فقد هاجر إلى الحبشة الأولى والثانية، ثم ذهب إلى المدينة المنورة ليعلم أهلها الإسلام،
وأصبحت سعادته الكبرى أن يرى رجلاً ينتقل من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، حتى وإن كان لا يعرف هذا الرجل من قبل، بل ولم يكتف مصعب بالهجرة إلى الحبشة وتعليم الناس في المدينة ودعوتهم إلى الإسلام،

وبأن كان سبباً مباشراً في إسلام مدينة كاملة أصبحت عاصمة للإسلام والمسلمين، لم يكتف بأنه نقل الدعوة من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لم يكتف بذلك كله، بل أراد أن يذوق من كل أنواع السعادة في الإسلام، فهو قد ذاق حلاوة العقيدة، وذاق حلاوة الإخوة، وذاق حلاوة الهجرة، وذاق حلاوة الدعوة، فهو يريد أن يذوق حلاوة الجهاد في سبيل الله، وهذه الأمور لها حلاوة لا يعرفها ولن يذوقها إلا الذي جربها، ولن نستطيع أن نصفها لك، فهي حلاوة فيها مشاق ومتاعب، لكن الذين يعملونها يستمتعون بها، بالإضافة إلى أنهم يتعاملون معها على أنها فرض من ربنا سبحانه وتعالى.

ثم خرج مصعب يجاهد في سبيل الله، فخرج في بدر، ثم خرج في أحد، وانظروا إلى الشاب مصعب بن عمير الذي كان شاباً يعيش على هامش التاريخ قبل أن يسلم، وانظروا إليه في أحد وهو يحمل راية المسلمين، وانظروا إليه بعد أن أصبح إنساناً قد انتقل من اللاإنسانية إلى الإنسانية، مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين في أحد قاتل بضراوة، وجاهد بإخلاص، وحارب بالثبات النادر، فقطعت يده اليمنى، فأمسك اللواء بيده اليسرى، فقطعت يده اليسرى،

ثم سقط مصعب على الأرض، لكنه أمسك الراية بعضدية ولم يسمح لها أن تسقط، فلا يمكن أن تسقط راية الإسلام وما زالت به حياة، وأصبحت راية الإسلام هذه قضية مصعب الكبرى، وخدمة الإسلام ونصرته، أصبحت أهداف وطموحات مصعب، وإلى آخر نبضة قلب في حياته كان مصعب في سبيل الله، ومن أرض أحد إلى الجنة مباشرة، فقد استشهد رضي الله عنه وأرضاه وذهب إلى النعيم الحقيقي، لا النعيم الدنيوي، فكل هذا لا يساوي غمسة ولحظة واحدة في النعيم المقيم، ففي الجنة خلود ولا موت،

فهذه هي حياة مصعب بن عمير، فيا ترى هل تريد أن تعيش عيشته أيام اللبس والعطر والمتعة والفراغ وكل حياته السابقة للإسلام؟ أم تريد أن تعيش عيشة أيام الهجرة والدعوة والجهاد والتضحي

.... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-24-22 08:12 AM

سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣1️⃣

الصحابة قبل الإسلام وبعده
قبيلة غفار

كل هذه الأمثلة والقصص التي ذكرناها هي لأفراد لامس الإيمان قلوبهم فتغيرت، لكن خذ قصة ومثالاً لقبيلة كاملة لامس الإيمان قلوب أفرادها، فحدثت في حياتها النقلة الهائلة، وليس أي قبيلة، بل قبيلة اشتهرت بالسرقة وقطع الطريق، يعني: أنهم كانوا مجموعة من اللصوص وأبعد الناس عن طريق الهدى والصلاح،

قبيلة غفار، القبيلة التي منها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي هو من أوائل من أسلم وعاد إلى قبيلته يدعوها إلى الإسلام، يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، يدعوهم إلى أن يعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو، يدعوهم إلى ترك منهج الحياة الذي كانوا عليه تركاً كلياً، يدعوهم إلى أن يسلكوا منهجاً مغايراً تماماً،

ومعنى ذلك: أنه يدعوهم إلى أن يغيروا كل شيء في حياتهم، وهذا ليس سهلاً، فبدلاً من أن يقطعوا الطريق على الناس يدعوهم إلى أن تكون رسالتهم في الحياة أن يحفظوا للناس دينهم وأموالهم وحياتهم، وبدلاً من أن يأخذوا من الناس أموالهم سيدعوهم إلى أن يعطوهم من زكاتهم وصدقاتهم، وبدلاً من أن يمتلكوا قلوب الناس بالسطو على الناس بالقوة والبطش والإجرام والظلم يدعوهم إلى امتلاك قلوب الناس بالرفق والدعوة والحلم والحب.

فهذه معاني ما أتت في فكر قبيلة غفار قبل هذا نهائياً، وكان أمراً خطيراً على حياة أبي ذر أن يذهب ليغير منهج قبيلة كاملة، قبيلة اعتادت على قطع الطريق، ثم يقول لها: عيشوا حياة ثانية، ويصر على موقفه هذا، وتأملوا أيضاً في قبيلة غفار كيف أن مجموعة من اللصوص تعاونت على الشر والإثم ستغير حياتها كلها،
وتنتقل إلى حياة أخرى نظيفة وجميلة وسعيدة بسعادة الإسلام لا بسعادة الدنيا، لا شك أن خطوة قبيلة غفار أصعب من كل خطواتنا، فلا يوجد أحد منا عنده هذه البداية الصعبة التي كانت عند قبيلة غفار، وأريدك أن تقف مع أبي ذر وهو واقف يفكر في كيف أنه سيكلم هؤلاء الناس، وسبحان الله فإن أبا ذر لم يثنه تاريخ القبيلة عن أن يتحدث معهم في أمر الإيمان، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فآمنت وأسلمت قبيلة غفار كاملة، آمن اللصوص وقطاع الطريق، فانتقلوا بإيمانهم هذا من درجة قطاع الطريق إلى درجة الصحابة مرة واحدة، وكل هؤلاء صاروا صحابة وقبلها بلحظة واحدة كانوا كلهم قطاع طريق،
وبعدها بلحظة واحدة صاروا مرة واحدة من الصحابة من أفضل أجيال الخلق، تماماً كالذي ينتقل من الأرض إلى السماء والفارق لحظة واحدة، لحظة صدق، فيا ترى كم واحداً منا كانت بدايته أسوأ من بداية قبيلة غفار؟ أعتقد أنه لا أحد، وحتى لو كان فينا واحد تاريخه كله سرقة واحتيال وإجرام لا يمكن أن يبتدئ بداية كبداية قبيلة غفار، وإنما يكفي أن يعزم على التوبة ويندم على ما فات، ويقرر أن لا يعود إلى المعصية، فتصبح صفحته نقية طاهرة بيضاء.

وانظر إلى التعليق النبوي الرائع على إسلام قبيلة غفار، ففي البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم جميعاً أنهم قالوا: قال رسول الله ﷺ : (غفار غفر الله لها)، أي: أن كل الذي فات قد محي، وانظر إلى أي حد الرسول ﷺ يأتي لهم بمعنى لطيف جداً مناسباً لهم،
ويمكن أن يقول أحدهم: تاريخي كله سرقة وقطع طريق وقتل ونهب وظلم، فهل هناك شيء اسمه التوبة؟

نعم، فهذه غفار شغلتها قطع الطريق فغفر الله لها بالتوبة والرجوع إليه،
فيا ترى هل نريد أن نعيش حياة غفار قبل الإسلام، أم نريد أن نعيش حياة غفار بعد الإسلام؟
نحن الذي نختار ونقرر.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-24-22 08:13 AM

سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣2️⃣

اختيار الطريق

إن الله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة، فقد أعطى هذا الإنسان عقلاً يستطيع أن يميز به بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وأنزل له شرعاً سهلاً مفهوماً واضحاً، جميلاً وأعطاه فطرة سليمة تقبل الطيب وتكره القبيح، وأعطاه بعد كل ذلك فرصة الاختيار، فيختار هو كل شيء: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]،

أي: وضحنا له الطريقين: طريق الهداية وطريق الضلالة، طريق الخير وطريق الشر، واسمع وتدبر في الكلام المعجز في كتاب الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الدنيا وملذاتها وشهواتها غير المكبوتة، الثمرة ولو كانت حراماً، ثم بين الله ماذا سيحصل بعد ذلك فقال: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}
[الإسراء:18]، فالذي يريد الدنيا فالله سيعطيه، والذي يريد المعصية سيعملها، والذي يريد الحياة التافهة الحقيرة التي لا وزن لها سيأخذها، لذا فإن أهل المعاصي يمكن أن يرتفعوا وأن يغتنوا، ويمكن أن يحكموا، لكن ما هو الوضع في الآخرة؟ يقول الله عز وجل في بقية الآيات: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]،
أي: يدخلها ممقوتاً مطروداً من رحمة الله عز وجل، فهذا هو الفريق الذي عاش حياته كلها بهذه الصورة، فأراد العاجلة وليس له في الآخرة نصيب.

الفريق الثاني: يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} [الإسراء:19]، أي: يريد الجنة، وتنبه فالرغبة وحدها لا تكفي، وكلام اللسان فقط ليس كاف، وإنما لا بد من العمل والحركة والسعي، قال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، لا بد من شغل وعمل، {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وانظر إلى تعليق الله عز وجل على الفريقين فيقول: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]،
فالذي يريد دنيا ولا يريد آخرة سيأخذ، والذي يريد آخرة حتى ولو كانت على حساب الدنيا سيأخذ أيضاً إن شاء الله.

والمهم ماذا تريد أنت؟
فأنت الذي تحدد، وأنت الذي تختار ما لا يوجد أحد يظلم، لذا فإن الصحابي في لحظة الصدق التي أسلم فيها اختار بصدق ومضى في الطريق الواضح فوصل والحمد لله، ونحن كذلك إن أردنا أن نصل،

فالله عز وجل لا يظلم، وكلامه سبحانه وتعالى كله حق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، لا أحد،

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، لا أحد،
وهو القائل كما سبق: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، أي: إن عملت للآخرة ستأخذ نصيبك إن شاء الله، كلام واضح لا يحتاج إلى تأويل، تريد دنيا أم تريد آخرة؟

كن واضحاً وصادقاً مع نفسك، هذا هو مفهوم الآيات التي ذكرناه منذ قليل.
وخلاصة القول: أن الصحابة لم يخلقوا صحابة، بل عاشوا قبل إيمانهم حياة بعيدة كل البعد عن مظاهر الإسلام أو الالتزام، فمنهم من كان يعبد الحجر أو الشجر، ومنهم من كان يسرق، ومنهم من كان يظلم، ومنهم من كان يشرب الخمر،
ومنهم من كان يأد البنات، ومنهم من كان يعذب المؤمنين والمؤمنات، ثم عرض لهم طريق الخير وطريق الشر بوضوح، وفي لحظة صدق اختاروا طريق الخير فصاروا صحابة، بينما أناس كثيرون عاشوا معهم في نفس البلد والزمن والظروف، ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم اختاروا طريق الشر فصاروا مشركين ومنافقين ويهود.

فالإنسان هو الذي يختار، وليست عظمة الإنسان بكونه عاش في زمان معين، أو بكونه صاحب مال أو سلطان أو جاه، أو بكونه من سلالة فلان أو فلان، لا، إنما عظمة الإنسان الحقيقية تكون بقدر تعظيم هذا الدين، وبقدر حب الله عز وجل في قلبه، وبقدر قيمة الشرع في حياته، وبقدر احترام الإنسان لنفسه كإنسان، فهذا هو الإنسان في الإسلام.

وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يحشرنا مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-25-22 08:07 AM

سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣3️⃣

الصحابة والإخلاص

الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو أساس قبول الأعمال عند الله عز وجل، فمن أخلص فقد نجا، ومن أشرك فقد هوى، وقد وردت نصوص كثيرة ترغب فيه وتحذر من الشرك، وهو معنى من المعاني العظيمة التي قام بها الصحابة في حياتهم، لأنهم علموا أنه الطريق الموصل إلى الله عز وجل.

أول الطريق الإخلاص
ذكرنا أن بدايات الصحابة كانت صعبة، بل هي أصعب من بداياتنا ولا شك، لأن الصحابة كانوا يعبدون إلهاً غير الله عز وجل، ونحن بحمد الله ولدنا مسلمين، فالأب والأم عند الصحابة كانوا من الكفار، ونحن والحمد لله الآباء والأمهات من المسلمين المؤمنين،

وانتقال الصحابة من الكفر إلى الإيمان اختبار صعب جداً، ونحن والحمد لله لم نتعرض إلى هذا الاختبار الصعب، فانتقالنا من عدم الالتزام بهذا الدين إلى الالتزام به لا شك أنه أسهل من انتقال الصحابة مما كانوا عليه إلى ما وصلوا إليه.
ونحن في هذه المجموعة من المحاضرات ومنها هذه المحاضرة إن شاء الله سوف نأخذ في كل محاضرة بصفة من صفات الصحابة، أو معنى من المعاني التي مارسها الصحابة في حياتهم، وننظر كيف كانوا يفهمونه؟ وكيف تحركوا بهذا المعنى في حياتهم؟

وهو هذا الطريق الذي مشى فيه الصحابة ووصلوا فيه إلى ما وصلوا إليه من نعيم الله عز وجل في الآخرة كما قال الله عز وجل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
إذاً لا بد أن نكون في هذه الدروس عمليين، فنريد أن نعرف كيف من الممكن أن نقلد جيل الصحابة، وكيف من الممكن أن نمشي في نفس الطريق الذي مشوا فيه؟ وفي هذه المحاضرة سنحاول أن نضع أيدينا على أول الطريق الذي سار فيه الصحابة، وسنتحدث عن أهم صفة من صفات الصحابة،
وهو شيء مهم جداً كان يميز جيل الصحابة، وأنا أعتبر هذا الشيء هو أهم شيء في حياة الصحابة مطلقاً، إذ لا يمكن أن يكون هناك مؤمن بغير هذا الشيء وبغير هذه الصفة، بل ولا يمكن أن يُقبل عمل بغير هذه الصفة، إذ أن هذه الصفة صفة خطيرة، هذه الصفة هي: صفة الإخلاص لله عز وجل، وأنا أعرف أن كل واحد منا سوف يقول: أنا مخلص،
و يعتقد اعتقاداً جازماً أنه مخلص تمام الإخلاص، لكن كيف كان مفهوم الصحابة عن الإخلاص؟ وكيف استوعب الصحابة هذه الصفة؟

وكيف مارسوا هذه الصفة في حياتهم؟ وقبل أن أبدأ في وصف فهم الصحابة لصفة الإخلاص، أحب أن أذكر أن هذا الدرس من أهم الدروس وأخطرها في حياة المسلم، ولهذا نريد أن نركز ونفهم كل كلمة في الدرس؛ لأن الذي سيسقط في امتحان الإخلاص سوف يسقط في النار، والذي سينجح فيه سيدخل الجنة إن شاء الله تعالى.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-25-22 08:09 AM


سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣4️⃣

بعض النصوص المحذرة من الشرك

تأمل في قول الله تبارك وتعالى وهو يتحدث عن قضية الإخلاص فيقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزمر:65]، يخاطب رسول الله ﷺ ، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر:65] أي: بقية الأنبياء، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} [الزمر:65] أي: في حالة عدم وجود الإخلاص، {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]

فالقضية خطيرة جداً، ولذلك وجِّه الخطاب للرسول ﷺ ، ومستحيل أن النبي ﷺ سيشرك بالله عز وجل، لكن هذا لتعظيم الجرم، ولتقبيح الفعل، والشرك هو عكس الإخلاص، والذي يُشرك بالله عز وجل ما أخلص لله عز وجل، والإخلاص أن يكون العمل خالصاً من كل شائبة، والشوائب: هي الشركاء،

فلو أنك أشركت مع الله عز وجل آخر بنسبة (25%) مثلاً، فهل تظن أنك ستأخذ (75%) من الأجر ويذهب عنك (25%)، أم أنه سيُحبط العمل جميعه بسبب نسبة بسيطة من الإشراك؟

هنا يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]،

وننتقل إلى الحديث الذي يفسّر هذا الموضوع، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أي: أنه يذهب العمل كله.

وحديث آخر يوضح هذا المعنى بصورة أكبر: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم) أي: من أجل الغنيمة، (والرجل يُقاتل للذكر) أي: ليشتهر أمره بين الناس، (والرجل يُقاتل ليُرى مكانه)، أي: ليقال أنه شجاع، (فمن قاتل في سبيل الله؟) أي: أن الأعرابي يسأل الرسول ﷺ عن هؤلاء الثلاثة،

هل هم من المقاتلين في سبيل الله أم لا؟
فأعرض الرسول ﷺ عن جميع هؤلاء الثلاثة،

حتى أنه لم يناقش هذه القضية،
ثم قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) سواء هؤلاء الثلاثة السابقين أو غيرهم، فكل هذا ليس في ميزان الله عز وجل وليس في سبيله، وكل هذا إشراك وليس من الإخلاص لله عز وجل،
وشيء واحد فقط هو الذي يجعله في سبيل الله، ألا وهو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، والمغنم ليس حراماً، بل إن الله عز وجل شرع في كتابه أن الغنيمة توزع أربعة أخماسها على الجيش،
والذكر للخير ليس حراماً، وصفة الشجاعة ليست حراماً، لكن هذا للعبد وهذا للنفس، هذا حظ النفس وليس لله عز وجل، أي: أنك تُقاتل من أجل هذه الأشياء لنفسك وستأخذها في الدنيا، فلا يُحسب عند الله عز وجل، لكن الذي يُقاتل ليرفع كلمة الله عز وجل في الأرض فهو المقاتل في سبيل الله.

وهناك حديث آخر وهو أخطر من الحديث السابق، يوضح المعنى بشكل أوضح وأكبر: روى النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: (أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر) فهو خرج في سبيل الله عز وجل يريد الأجر منه، لكن إلى جانب هذا الخروج هو يلتمس الذكر أيضاً، أي: لأجل أن يذكروه ويقولوا: فلان قد قاتل وحارب وانتصر وما إلى ذلك من صفات المجاهدين، فهو يريد شيئين: يريد الأجر، ويريد الذكر، ثم قال: (ما له؟) أي: أن الرجل يسأل الرسول ﷺ عما لهذا الرجل من الأجر، أي: ما مقدار أجره عند الله عز وجل، فقال ﷺ كلمة في منتهى الخطورة:

(لا شيء)، أي: أنه ليس له من الأجر شيء، فأعادها الرجل مستغرباً على النبي ﷺ ثلاثاً: (ما له يا رسول الله؟ ثلاثاً، ورسول الله ﷺ يرد عليه في كل مرة: لا شيء، لا شيء) ثم قال ﷺ ليوضح له الصورة: (إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه).

كذلك حديث آخر من أحاديث الرسول ﷺ ، وفيه معنى عميق جداً، وأعتقد أننا قد ذكرنا هذا الحديث وتحدثنا عنه في موضوع: (كيفية حفظ القرآن الكريم)، لكن: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]

فلا بأس بأن نعيده مرة أخرى.
روى مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: (" إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.

قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-26-22 08:09 AM


سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣5️⃣

مواقف من الإخلاص في حياة الصحابة

الموقف الأول:

روى النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه)، وهو رجل من الأعراب، (ثم قال: أُهاجر معك)، وهنا نتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي أسلم قريباً، من هذا الرجل الذي أصبح صحابياً وحقق شروط الصحابي كما ذكرناها، وقد قلنا: إن الصحابي هو الرجل الذي آمن برسول الله ﷺ في حياته ورآه أو اجتمع به ومات على هذا الإيمان، وهذا الصحابي رضي الله عنه عند إسلامه أوصى به الرسول ﷺ بعض أصحابه ليعلموه الدين فعلّموه،

ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، وغنم النبي ﷺ سبياً -هو النساء- فقسمه بين أصحابه، وجعل لهذا الصحابي قسماً، وقال لأصحابه: عندما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، ثم جاء الرجل فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟

فقالوا: قسم قسمه لك النبي ﷺ .
والرسول ﷺ هو الذي يقسم، أي: أن هذا حلال خالص، وأيضاً هناك ميل فطري لهذا السبي، ومع ذلك لنتأمل ما كان رد هذا الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قليلة؟ فأخذه وجاء به إلى النبي ﷺ وقال: (ما هذا؟)،

قد يظن من يقرأ هذا الحديث أنه مستقل لهذا العطاء، (قال الرسول ﷺ : قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا)، وأشار إلى مكان في الحلق، وهو مكان مميت لو ضُرب فيه بسهم لقُتل لا محالة، (ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة)، وهنا نقف وقفة مع فعل هذا الصحابي الذي قد يستغربه البعض، بل وقد يعتقدون أن هذه مبالغة، وهي فعلاً مبالغة لكنها مبالغة في الخير، فالصحابي هذا مع أن عمره في الإسلام قليل جداً، لكن كان فهمه عميقاً جداً،

ورؤيته واضحة جداً، والجنة قد كبرت في عينيه، والجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، فهو يخاف أن يأخذ شيئاً يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى هو يخاف أن تتغير نيته، وعند ذلك سوف يبتدئ عملاً جديداً بنية خالصة لله عز وجل، وبعد أن يكثر المال أو يجد منفعته من هذا العمل تتغير نيته، كالذي ينشئ مدرسة -مثلاً- بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي، وسيفيد به الأمة الإسلامية جميعها، وبعد أن يبدأ المال بالكثرة يغير في نيته، ويبدأ يجعل الدنيا هي همه، ويرفع من أسعار المدرسة، ويعمل رحلات بأسعار عالية ليكسب من ورائها،

ويغيّر لبس المدرسة كل سنة ليضطر أولياء الأمور لأن يشتروا الزي المدرسي كل سنة، ويكثِّر عدد الطلبة في كل فصل، أي: فبعد أن كان الفصل فيه عشرين أو خمسة وعشرين طالباً لدوافع تربوية، صار في الفصل خمسون طالباً وأكثر من أجل تكثير المال؛ لأنه يعرف أن الأبعاد التربوية التي كان يرجوها لا يستطيع أن يعملها في ظل هذا العدد الكبير من الطلاب، إذاً تغيرت النية هنا.

فالصحابي الأعرابي البسيط لم يكن يريد أن يدخل في هذه التجربة، لأنه يريد أن يعيش حياة مخلصة لله عز وجل وإن قصرت، ولهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يعمل لله عز وجل بدون أجر، هذا وإن لم يكن فرضاً فهو من فضائل الأعمال، والرسول ﷺ لم يُنكر عليه ذلك، ولم يقل: إن هذا تشدد منك، بل قال: (إن تصدق الله يصدقك) أي: لو أنت صادق في نيتك فإن الله سيحقق لك كل الذي تريده، ولهذا يجب على كل واحد منا أن يكون له أعمالُ خيرٍ كثيرة لا يأخذ عليها أجراً من أحد، وذلك ليثبت إخلاص نيته لله عز وجل، كالمدرس يمكن أن يُدرس من غير فلوس للناس المحتاجين، وكذلك الطبيب يمكن أن يعالج من غير فلوس للناس المحتاجين،
وأيضاً المحامي يمكن أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير فلوس؛ لأنه محامي يعمل لله عز وجل، وهذا ليس فرضاً ولكنها وسيلة لإثبات الإخلاص لله عز وجل.
هنا قد يأتي سائل ويسأل فيقول: ما هي الوسيلة التي من الممكن أن تعرف أنك مخلص تماماً لله عز وجل في عملك؟ كلنا نقول: إننا مخلصون، لكن أحياناً قد يكون هناك أجر على العمل، فيا ترى إذا كل واحد منا أخذ أجراً على العمل ليس مخلصاً؟ لا،

فالصحابة كانوا يأخذون أجراً على عملهم، فقد أخذوا في هذه الغزوة السبي، وهو من الأجر على عملهم، ومع ذلك فإخلاصهم عالي جداً، والمقياس الحقيقي لتعرف إخلاصك من عدمه هو: أنك تعمل العمل بغض النظر أخذت أو لم تأخذ، أما إذا ربطت عملك بالأجر فهذا يدل على ضعف الإخلاص أو غيابه أصلاً.

نرجع مرة أخرى لقصة الصحابي الأعرابي، قال الصحابي: أنا لا أريد أن آخذ من السبي شيئاً، فأنا لم أدخل في الإسلام إلا لأُقتل في سبيل الله، فقال له ﷺ : (إن تصدق الله يصدقك)، قال راوي الحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه: ". فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : " أَهُوَ هُوَ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ. قَالَ : " صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ".

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ : " اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ".

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-26-22 08:11 AM


سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣6️⃣

مواقف من الإخلاص في حياة الصحابة

الموقف الثاني:

لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يعتق العبيد في بداية الدعوة، فقد كان يشتري العبيد بكثرة ويدفع أموالاً كبيرة لذلك، وكان رضي الله عنه يشتري العبيد الضعفاء والفقراء، من الرجال ومن النساء على السواء، فقال له أبوه أبو قحافة وكان لا يزال مشركاً: يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك أعتقت رجالاً أشداء يمنعونك، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبت إنما أبتغي وجه الله عز وجل، أي: أنا لا أريد غير رضا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]،

وهذه من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأن الله عز وجل يشهد له بأنه الأتقى، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:18 - 20] أي: لا يريد غير رضا الله سبحانه وتعالى فقط، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] وهذه هي نتيجة الإخلاص أن يرضى الله عنه.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-28-22 07:46 AM

سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣7️⃣

كيفية الإخلاص

وهنا من الممكن أن يقول أحدهم: والله إن هذا الكلام سهل، لكن التطبيق صعب بل عسير، فأقول له: صدقت، فهو شيء صعب فعلاً، وأحد التابعين كان يقول: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي.
أي: أكثر شيء صعب عليَّ النية والإخلاص، لكن لا بد أن تكون هناك طريقة لزرع الإخلاص، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب منا شيئاً إلا وهو يعلم أنا نقدر على فعله، فمن الممكن أن يقول شخص: قل لي طريقة عملية إذا فعلتها زرعت الإخلاص في قلبي،

سأقول له: أعط لله قدره تخلص له، فأبرز هذه العبارة واجعلها دائماً صورة في خيالك، لأننا إذا عرفنا قدر الله عز وجل فليس من الممكن أن نشتغل بغيره،
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] فهذا المرض: أن الناس لم يعطوا لله عز وجل قدره، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]،

وهذه بعض علامات قدرة الله عز وجل، وهذا الذي يمكن أن نفعله: تعظيم وتقدير وإجلال لله عز وجل، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فالذين لم يعطوا لله عز وجل قدره فقد أشركوا معه، لأن الشرك لا يأتي إلا عندما لا يعطي العبد لله عز وجل قدره،

لكن عندما عرف الصحابة هذا القدر لله عز وجل أخلصوا في أعمالهم، ولذلك علموا أن مَنْ يعطي لله قدره ويعمل لإرضاء غيره أنه نوع من السفه والحماقة.

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-28-22 07:47 AM

سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣8️⃣

كيفية إعطاء الله عز وجل قدره

هنا السؤال

كيف يمكن أن نعطي لله عز وجل قدره؟

الجواب
أكثر من النظر والتدبر في كتاب الله عز وجل المقروء والمنظور.

النظر في الكتاب المقروء
الكتاب المقروء هو القرآن الكريم، واقرأ أي سورة أو أي آية لا بد أنك ستعطي لله قدره، لكن مع التدبر والتأمل في كل آية، والرسول ﷺ كان أحياناً يقوم الليل كله بآية واحدة، فقد قام ليلة كاملة بقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فلو فكرت في هذه الآية فليس من الممكن أن تعمل لغير الله سبحانه وتعالى، لأن كل شيء بيده، فكيف ستعمل لغيره؟

الرزق بيده سبحانه وتعالى، وقلوب العباد بيده سبحانه وتعالى، والمقادير كلها بيده سبحانه وتعالى، والحياة بيده، والموت بيده، والجنة بيده، والنار بيده، ولن تجد أحداً سوف يحاسبك يوم القيامة غير الله، فكيف تعمل لغيره سبحانه وتعالى؟!
فهو الأول وهو الآخر، وهو المحيي وهو المميت، وهو النافع وهو الضار، وهو المبدئ وهو المعيد، وهو الملك الذي يملك كل شيء، وأي ملك من ملوك الأرض فملكه نسبي غير مطلق، وإن كان يطلق عليه لقب: (ملك) لكن نهاية المطاف الآخر هو ملك نسبي،
فقد يملك أشياء ولا يملك أشياء أخرى، وقد يعتريه الفقر والمرض والضعف والحزن، وسيعتريه الموت لا محالة، فلا يستطيع أن يملك سعادة الناس ولا حب الناس ولا أعمار الناس ولا أرزاق الناس، فهو ملك بسيط حقير تافه، ولا بد أن يترك ملكه أو أن ملكه سيتركه، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه مطلق، فكيف تعمل لغيره؟!
واقرأ مثلاً في كتاب الله عز وجل: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:13 - 14]
هذا هو الإخلاص،

وتسألني أأتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى؟ كيف؟ {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]

هذا هو سبب الإخلاص، فأي شيء غيره يُطعِم ولا يُطعَم، سواء رئيس المصلحة أو مدير المدرسة أو الملك أو السلطان أو الشرطي أو غير ذلك، فلا أحد يُطعِم ولا يُطعَم غير الله عز وجل، ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]

فالذي يشرك بالله عز وجل هو الذي يتخذ ولياً غير الله عز وجل، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]

وهذا سبب ثاني للإخلاص، وكل الناس تملك أشياء بسيطة في الدنيا، لكن لا تملك شيئاً مطلقاً في الآخرة، فالله عز وجل يملك الآخرة بكاملها، ثم اسمع لكلام ربنا وهو يقول: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:16 - 17]

وهذا سبب ثالث للإخلاص، فلن ينفعك أحدٌ غيره، وما دام أنه يُطعِم ولا يُطعَم إذاً فالرزق كله أتى من عنده، وهو يملك يوم القيامة ولا أحد من البشر أو الخلق يملك هذا اليوم إلا هو سبحانه،

ورابعاً أنه هو الذي ينفع ويضر سبحانه وتعالى، وخامساً: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، حتى وإن لم يكن بإرادتك فسوف يكون غصباً عنك، فهو القاهر فوق عباده، وأنت تريد أن تُخلص أو لا تُخلص فالذي يريده سبحانه وتعالى سوف يكون، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]،

ثم كيف من الممكن أن تقرأ مثل هذا الكلام في كتاب ربنا سبحانه وتعالى ولا تُخلص لله عز وجل؟! واقرأ أيضاً: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:26 - 27] فلو تقف لحظة وتتخيل جميع أشجار الأرض، بغاباتها وجبالها وسهولها التي سمعت عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي مصر وفي غيرها من البقاع،

ثم تخيل أن كل هذه الأشجار أقلام {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] أي: أن البحر عبارة عن مداد ليكتب آيات الله عز وجل، فالشجر أقلام والبحر مداد، ومع ذلك: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، أي: ما نفدت آيات الله عز وجل في الأرض، ثم يقول الله عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]،

فليس هناك شيء يصعب على الله سبحانه وتعالى، فخلق البشر جميعاً كخلق إنسان واحد، وليس هناك شيء سهل أو صعب عند الله عز وجل، وكل قوله إنما هو: كن، فيكون، ثم قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [لقمان:29]

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-29-22 08:13 AM


سلسلة_كن_صحابياً

2️⃣9️⃣

كيفية إعطاء الله عز وجل قدره

هنا السؤال

كيف يمكن أن نعطي لله عز وجل قدره؟

الجواب

أكثر من النظر والتدبر في كتاب الله عز وجل المقروء والمنظور.
نتابع

النظر في الكتاب المنظور

الكتاب الثاني هو كتاب الله المنظور، أي: الكون والخلق، فتفكر في خلق السماوات والأرض، وتأمل قول الله عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]

فهذا الكون فسيح جداً لدرجة يتوه العقل فيه تماماً، وليس من الممكن أن تتخيله، فلو أن هناك طائرة خيالية تسير بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة!! فكم من الوقت تحتاج للسير في أرجاء الكون؟ قد تحتاج إلى ألف مليون سنة، وفي الأخير أيضاً لا تستطيع، لماذا؟ لأن الكون يتمدد ويتوسع كما قال الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]،

ولو تأملنا في بعد الشمس عن الأرض، فإن البُعد بينهما يساوي مائة وخمسين مليون كيلو متر، والأرض تدور في محورها بسرعة ألف وستمائة كيلو متر في الساعة، والدائرة التي تدور فيها الأرض قطرها ثلاثمائة مليون كيلو متر، فتخيل الرقم ثلاثمائة مليون كيلو متر وتكمل الدورة في سنة كاملة، وكذلك إذا كانت الأرض مع ثمانية كواكب أخرى مع الشمس في المجموعة الشمسية، أي: أن المجموعة الشمسية كما تعلمون تسعة كواكب، وأبعدها هو كوكب بلوتو، فإنه يدور في دائرة قطرها اثنا عشر ألف مليون كيلو متر وكل هذه المجموعة الشمسية فقط، والشمس نفسها ليست ثابتة، فهي تدور في فلك ومعها كل الكواكب التي حولها ومن ضمنها الأرض،

وسرعة دوران الشمس تسعمائة وستون ألف كيلو متر في الساعة، والشمس هذه هي أحد الشموس في مجرة هائلة اسمها مجرة درب التبانة، وهناك شموس أخرى تحيط بها كواكب، وحجمها كالأرض وأكبر وأصغر، وعدد الشموس في مجرة درب التبانة أربعمائة ألف مليون شمس كشمسنا في مجرة درب التبانة، والكون كله ليس مجرة درب التبانة فقط! فهذه المجرة هي إحدى المجرات الهائلة في الكون،

والمجرات في الكون تبلغ مائتين ألف مليون مجرة كمجرة درب التبانة، وارجع وراجع هذه المعلومات، وانظر إلى هذه الأرقام، فإنها جزء من ملكوت ربنا سبحانه وتعالى، فهذا هو جزء الكون الذي نحن رأيناه بالتليسكوبات، وكلما نخترع تليسكوباً أكبر كلما نرى أكثر، وكل هذه المليارات من النجوم والكواكب تدور في الكون دون تصادم، والعجيب أن بعض المجرات تدخل في مجرات أخرى بكاملها دون أن تصطدم، فانظر إلى عظمة هذا الكون، صنع من هذا إنه صنع الله عز وجل،

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11]،

إذاً: فكيف يعرف الواحد منا جميع هذه المعلومات والحقائق ولا يعبد ربه سبحانه وتعالى حق العبادة؟ وكيف من الممكن أن يعرف كل هذا ولا يعمل لله عز وجل! وكيف من الممكن أن يعرف كل هذا ويعمل لغيره، أو يشرك به أحداً أو شيئاً؟! مستحيل ذلك.

هذه كانت أكبر شيء في الكون: السماوات، ولنأت لنتدبر أشياء صغيرة جداً في الكون وهي الذرة، هذا الشيء الصغير الذي لا نستطيع بالمناظير الكبيرة جداً التي تكبر ملايين المرات أن نراه، هذه الذرة العجيبة تحتوي على نفس نظام الكواكب السيارة المحيطة بالشمس، ونفس نظام النجوم الدائرة في المجرة، وهذا يثبت أن خالق هذا الكون هو خالق واحد، لأن كل الكون فيه أشياء متشابهة جداً، وهذه الذرة الدقيقة جداً تحتوي على إلكترونات تدور حول البروتونات، كما تدور الأرض والكواكب حول الشمس،

فيا ترى ما هو حجم الإلكترون في الذرة؟

وما هي نسبة حجم الإلكترون إلى حجم الذرة؟ الإلكترون واحد على ألف مليون من حجم الذرة، والإلكترون يدور حول البروتون بلايين المرات في الثانية الواحدة، والإلكترون أكثر من الذرة بكثير جداً، ولهذا نستطيع أن نفهم كلام ربنا سبحانه وتعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3]، والعلماء السابقون كانوا يعتقدون أن هذه صيغة مبالغة، {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ} [سبأ:3]،

لأنه في اعتقادهم أنه لا يوجد شيء أصغر من الذرة، لكن هذا العلم الذي منَّ الله به علينا أثبت أن الإلكترون أصغر من الذرة بألف مليون مرة، ولا نعرف ما الذي سيأتي غداً، وأنا متأكد أنا سنجد بعد هذا أن الإلكترون هذا الجسيم الصغير جداً أمام الذرة، داخله عالم كبير من الأحداث نحن لا نزال لم نعرفها، وغداً سنعرفها.
ولو أتينا للتفكر في أنفسنا وفي أجسامنا لرأينا العجب، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]،

فالإنسان قد ينبهر بنظام الاتصالات في العصر الحديث، من تليفونات ونت وأقمار صناعية وأشياء كثيرة غيرها، لكن لو نظرت إلى داخلك وإلى نظامك العصبي -نظام الاتصالات بداخلك- لوجدت أن النظام العصبي في الإنسان يضم ألف مليون خلية عصبية، وهذا في الطفل والشاب والشيخ الكبير،

فهذا هو نظام الاتصالات الرهيب الذي خلقه الله تعالى فيك.

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-29-22 08:14 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣0️⃣

الصحابة والعلم

العلم من أنبل الغايات وأشرفها، وله مكانة عظيمة في ديننا، به يعبد المسلم ربه على بصيرة، بل ويكون أشد خشية له، فكان تعلمه خشية، وطلبه عبادة، والبحث عنه جهاداً، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أروع الأمثلة في حرصهم على طلب العلم، فقد طلبوه ضمن ضوابط وشروط معينة، فحصلوا بذلك العلم النافع الصحيح.

مكانة العلم في الإسلام

ما زلنا نبحث عن إجابة السؤال المهم:

كيف سبق الصحابة وكيف نلحق بهم؟
ومع الدرس الخامس من دروس مجموعة: كن صحابياً، وسنتعرف في هذا الدرس على علامة جديدة من علامات الطريق الذي سار فيه الصحابة.
وقد تعرفنا فيما سبق على علامة مهمة جداً من علامات الطريق الذي سار فيه الصحابة،

ألا وهي: علامة الإخلاص،
وسيكون حديثنا عن نقطة مهمة جداً في بناء جيل الصحابة، ومهمة جداً في بناء أي جيل يريد أن يصل إلى ما وصلوا إليه،
هذه النقطة هي: العلم،

وكما قلنا: إنه لا يوجد عمل يمكن أن يُقبل بدون إخلاص، وكذلك لا يوجد عمل يمكن أن يُقبل إلا بعلم؛

لأن كثيراً من الناس يعبد الله عز وجل بنية صادقة، لكن بطريقة خاطئة جاهلة، وهذا يضر ولا ينفع، ففي أي مجال من مجالات الحياة وليس فقط في مجالات الدين، إذا عمل الإنسان بدون علم فإنه يضر ولا ينفع، فالطبيب الجاهل هل ينفع المرضى أم يضرهم؟ من المؤكد أنه يضرهم، والمهندس الجاهل، والنجار الجاهل، والسباك الجاهل كذلك، وكذلك العبادة، فالعابد الجاهل يضر ولا ينفع، فيضر نفسه وغيره ومجتمعه، ولذلك فإن قضية العلم قضية محورية في حياة الأمة المسلمة،
ومن المؤكد أن الصحابة قد أخذوا بالهم من أول آية نزلت من هذا الكتاب المعجز، الذي هو دستور حياتهم بكاملها،

فقد كانت كلمة: (اقرأ)، وهذا شيء غريب جداً،
لأن كلمة: (اقرأ) تنزل في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الأمية، وليس فقط في جزيرة العرب، بل في جميع أطراف المعمورة، فمن كل كلمات القرآن الكثيرة تكون أول كلمة تنزل هي كلمة: (اقرأ) وليست أول كلمة فحسب، بل أول خمس آيات جميعها تتحدث عن قضية العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]، إذاً فالقضية الأساسية التي يبنى عليها هذا الدين بكامله هي قضية العلم، وهي مسألة العلم.

وقد كان هذا النزول لكلمة: (اقرأ) بياناً وإيضاحاً وتبييناً لطبيعة هذا الدين، هذا الدين الذي لا يقوم على الخرافات والضلالات، ولا يقوم على الجهل والتخبط، وإنما يقوم على أسس علمية ثابتة ومعروفة، هذا الدين الذي يشجع أبناءه على أن يكونوا علماء سبَّاقين، وليس فقط لمجرد العلم ولكن أيضاً السبق في العلم، والريادة في العلم، والتفوق في العلم.

وانظروا هنا إلى ألفاظ هذا الحديث الغريبة على آذاننا، ولكن هو معنى دقيق جداً يلفت إليه رسول الله ﷺ الأنظار.

فعند ابن ماجة، والترمذي وقال: حسن، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة)، وهذه كلمة شديدة جداً، (ملعون ما فيها)، أي: أي شيء في الدنيا فهو ملعون، وهذا على إطلاق الحديث، والذي يلعن هو الرسول ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى، فهو وحي من الله عز وجل، فكل شيء في الدنيا ملعون ليس له أي قيمة، وتافه وحقير، حتى وإن كان ملكاً أو سلطاناً أو سلاحاً أو قوة أو أي شيء، ثم استثنى الرسول ﷺ من هذه اللعنة أربعة أشياء: الأولى والثانية: (إلا ذكر الله تعالى وما والاه) وما والاه: أي ما قارب الذكر من أعمال الطاعة والبر وغيرها من الأعمال في الدنيا التي يحبها الله عز وجل، الثالثة والرابعة: (وعالماً، ومتعلماً)

فهذه أيضاً مستثناة من اللعنة، إذاً العملية التعليمية التي تدور بين العالم والمتعلم عملية عظيمة جداً في ميزان الله عز وجل، ويبقى الذي هو خارج نطاق هذه العملية، فهو ملعون بنص حديث رسول الله صلّ الله عليه وسلم .

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-30-22 08:30 AM


سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣1️⃣

القيمة الحقيقية للمفاضلة بين الناس

فقه الصحابة أن القيمة الحقيقية التي تصلح للمفاضلة بين الناس هي العلم، فالتفاضل بين الناس لا يكون بالمال ولا بالسلطان ولا بالجند ولا بالمظهر، وإنما المهم أن تعلم أهمية العلم، لكن قد يأتي سائل فيقول: لكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، يعني: أن الأتقى هو الأفضل، فكيف ذلك؟

أقول له: فمن الذي يتقي الله عز وجل؟
أليس العالم به؟
أليس العالم بصفاته سبحانه وتعالى؟
أليس العالم بشرعه؟ أليس العالم بخلقه؟

ألم تسمع إلى كلام الله عز وجل في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؟ وما هي الخشية؟ أليست هي التقوى؟ وعندما تخشى الله عز وجل تكون متقياً لله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد العالم علماً ازداد خشية وتقوى لله عز وجل، وليس معنى العالم أني أقصد كبار هيئة العلماء وكبار الفقهاء، فأي شخص عرف معلومة صحيحة أصبح بها عالماً، وكلما عرف أكثر ارتفعت قيمته، وأعظم العلماء هم أعظم الناس قيمة، وليس فقط في ميزان الناس ولكن أيضاً في ميزان الله عز وجل.

فهذه معلومات في غاية الأهمية، ولهذا فالذي يصرف وقته في تعلم العلم أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة، ولم أقل: بأنه أفضل من الذي يصرف وقته في اللعب أو في المعصية أو في المنكر! لا، وإنما أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة،

واسمع إلى حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ : (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) وانظروا إلى قيمة هذا العلم؛ لأن العالم أشد معرفة لمداخل الشيطان، وأكثر قدرة على التصدي له، ولذلك فهذا العالم أشد على الشيطان من ألف عابد، وليس المقصود بالعلم: العلم الشرعي فقط، من تفسير وفقه وحديث وعقيدة، بل علوم الحياة أيضاً، وقد تكلمنا عن ذلك في محاضرة كاملة واسمها: (أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة)،

وتحدثنا عن علوم الحياة وقيمتها في ترسيخ معنى الإيمان بالله عز وجل في قلب العالم، لذلك فإنه من المؤكد أن العالم الذي يدرس تركيب الخلية مثلاً أعظم تقديراً لله عز وجل من الذي يعلم وجودها إجمالاً، فهذه الخلية على صغرها إلا أنها دولة كاملة، وعالم ليس له نهاية، ففيها قيادة، وإدارة، ومراكز طاقة، ومراكز تغذية، ومراكز دفاع، ومراكز بناء، ومراكز هدم، فتتحرك وتتكاثر، وتقوم بوظائف لا تحصى ولا تعد، فيكون الذي يعرف تفاصيل هذه الأمور أشد إيماناً بالله عز وجل من الذي لا يعلم بهذه التفاصيل، وكذلك العالم الذي يدرس تفاصيل حياة النبات ونشأته وتركيبه ليس كالذي يعلم فقط أن النبات شيء معجز، وأيضاً العالم الذي يدرس الأفلاك واتساعها، والنجوم وأعدادها، والمجرات وصفتها ليس كالذي يعلم فقط أن هناك نجوماً في السماء، وقس على هذا بقية العلوم كالكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، وعلوم البحار والطب والأحياء، وعلوم أخرى لا تنتهي،

وصدق الله عز وجل القائل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] فكل هذه العلوم، أي: علوم الشرع وعلوم الحياة تقود إلى خشية الله عز وجل، ومن ثم تقود إلى تقواه، ومن ثم تقود إلى رضا الله عز وجل، وهذا هو الذي نبحث عنه، وهو طريق الصحابة الذي ساروا فيه، وهذه الحقائق كانت واضحة كالشمس في عيون الصحابة، وبعد أن علموا هذه المعلومات رفعوا جداً من قدر كل عالم،

وحرصوا على العلم في كل لحظة من لحظات حياتهم، لذا كان لا بد أن تتعلم شيئاً في كل يوم، لأن الله قد رفع من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وذلك عندما أسجد الله سبحانه وتعالى ملائكته لآدم عليه السلام؛ لقيمة العلم الذي كان عنده، لا بكثرة التسبيح وطول القيام، أو الطاعة المطلقة، أو القوة الخارقة، أبداً، فالملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله عز وجل مَنَّ على آدم عليه السلام بنعمة رفعت من قدره إلى الدرجة الذي جعل الملائكة يسجدون له تكريماً له،

ألا وهي العلم كما ذكرنا، واقرءوا القرآن وتدبروا في آيات الله عز وجل (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِی بِأَسۡمَاۤءِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ۝* قَالُوا۟ سُبۡحَـٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَاۤ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ ۝* قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡۖ فَلَمَّاۤ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ غَیۡبَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ۝* وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ۝

وَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)
[سورة البقرة 31 - 35]

... يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 12-30-22 08:31 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣2️⃣

الصحابة والعلم

الصحابة كانوا ينظرون إلى العلم نظرة خاصة جداً، نظرة معظّمة جداً، نظرة تجل جداً العلم وكل من حمل العلم، وهذه نماذج تبين لنا كيف كان الصحابة يقدرون قيمة هذا العلم؟
وما هو مفهومهم عن العلم؟

فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه ذهب وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره للالتحاق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن الرسول ﷺ رده لصغر سنه، فرجع إلى أمه رضي الله عنه يبكي من الحزن، ولكنه عند عودته فكّر في أن يخدم الإسلام بطريقة أخرى،

فهل أستطيع أن أخدم الإسلام بطريقة غير طريقة الجهاد في سبيل الله ما دام الجهاد غير ميسّر لي في هذا الوقت؟

إن أحدنا حين يفشل في إحدى مجالات الدعوة، أو إحدى مجالات العمل للإسلام، أو يُغلق عليه باب من أبواب العمل للإسلام من غير إرادته، أي: أنه لو أراد الجهاد وليس هناك فرصة للجهاد، أو أراد أن ينفق وهو فقير، فهو عنده رغبة في العمل لله عز وجل لكن ليس له إمكانيات، ففي ذلك الوقت يحبط، ويعتقد أن هذا هو آخر الدنيا! وهذا خطأ، فنحن إمكانيات مختلفة ومواهب مختلفة، فكل فرد منا يستطيع أن يعمل في مجاله، وهذه هي حلاوة الإسلام وحلاوة التكامل والتكافل والتعاون في الإسلام،

فإذا كان لم ينفع زيد في هذا الوقت في الجهاد فمن الممكن أن ينفع في شيء آخر.

فـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه تذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، وملكة القدرة على التعلم، وملكة القراءة، والقراءة كان شيء نادراً في ذلك الزمان، فأخبر بذلك أمه وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله ﷺ يعرضون عليه أن يوظّف طاقته العلمية في خدمة رسول الله ﷺ وفي خدمة دين الإسلام، فذهبت به أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وأرضاها إلى رسول الله ﷺ وقالت: (يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة) وهذه فعلاً إمكانيات عالية جداً، وبالذات في ذلك الزمن الذي كان فيه الكثير من الناس لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، ثم تكمل السيدة النوار بنت مالك فتقول: (وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك،

فاسمع منه إذا شئت)، وهذا الكلام أنا أريد أن أقوله لجميع شباب المسلمين: زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بدأ رحلته في خدمة الإسلام وعمره ثلاث عشرة سنة، وبعض المسلمين كان يسد ثغرة الجهاد والقتال، وزيد بن ثابت ذهب ليسد ثغرة أخرى مهمة جداً، فكل بحسب إمكانياته، فالشباب عندهم طاقة عالية جداً، فهناك شباب عندهم مهارة في الكمبيوتر، وهناك شباب عندهم مهارة في الخطابة، وهناك شباب عندهم مهارة في الرياضة المفيدة، وهناك شباب عندهم مهارة في الكتابة والبحث والدراسة، وهناك شباب عندهم مهارة في الترجمة، فكل واحد من المؤكد أن عنده مجالاً متفوقاً فيه،

والمهم أن تكون رغبة خدمة الإسلام موجودة، وعند ذلك سوف تجد المجال الذي تستطيع أن تسد فيه إن شاء الله تعالى.

واستمع النبي ﷺ لـ زيد بن ثابت واختبره، وقدّر مواهبه وأُعجب به، ثم أراد أن يستفيد منه على نقاط أوسع، فعرض عليه فرعاً جديداً من فروع العلم، ولم يقل له الرسول ﷺ : تعلم الفقه أو الحديث أو العقيدة، لا، ولكنه قال له: تعلم اللغات الأجنبية، وتخيل وفي هذا العمق في التاريخ الرسول الله ﷺ يهتم باللغات الأجنبية في تكوين الأمة المسلمة، لأنه علم في غاية الأهمية، ولأن المسلمين يحتاجون جداً إلى هذه اللغة في ذلك الزمن، فأمره النبي ﷺ بأن يتعلم العبرية،

حيث قال له: (يا زيد تعلم لي كتابة اليهود العبرية فإني لا آمنهم على ما أقول) ومن المؤكد أن كان الرسول ﷺ لو كان يعيش معنا في هذه الأيام لأمر بتعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية وغيرها، فكم ستكون مقدار الفائدة عندما يكون عند المسلمين شباب يتقنوا اللغات الأخرى غير اللغة العربية، وليس ذلك على حساب اللغة العربية، وكم مقدار الفائدة التي من الممكن أن يفيدوا الإسلام ويخدموا الأمة الإسلامية بكاملها، وكم سيكتشفون من حيل وألاعيب وخطط للأعداء،
وكم من الممكن أن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل ويردون على الشبهات، فهذا عمل كبير جداً من الممكن أن يعمله الذين يفهمون لغة أخرى، وانظروا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه بهذه الحمية وهذا الإخلاص لدين الله عز وجل، وهذه الرغبة في خدمة هذا الدين، فيذهب ويتعلم اللغة العبرية، فهل تعلمها في سنة أو سنتين أو أربع؟
وفي أي كلية تعلمها؟

يقول زيد بن ثابت: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، فكنت أتكلمها كأهلها،
فانظروا إلى هذه البركة عندما يكون عند الواحد رجل فطن ذو عقل وعلم.

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 12-31-22 07:54 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣3️⃣

ضوابط تحصيل العلم

إذاً كان هذا مجهود الصحابة في تحصيل العلم، واحترامهم لقيمة العلم، لكن هناك ناس تبذل مجهوداً كبيراً جداً في تحصيل العلم، لكنها لن تصل إلى علم الصحابة، لماذا؟ لأن الصحابة كانوا يتعلمون العلم بضوابط معينة، ولهذا تعلموا تعليماً صحيحاً، وسنوجز ونذكر بعضاً من هذه الضوابط التي حرص الصحابة عليها في تحصيل العلم، وأي جيل يحرص على هذه الضوابط فإنه سيتعلم تعليماً صحيحاً، ومنها:

الضابط الأول: وحدة المصدر،
أي: أن المصدر الرئيسي والأول لعلم الصحابة كان هو: الكتاب والسنة، وكون هذا هو المصدر الرئيسي لعلم الصحابة فقد أدى ذلك إلى ما يسمى بوضوح الرؤية، فقد أخذوا علماً نقياً طاهراً مضمون الصحة والصواب، لا العلم الدنيوي الذي يرد عليه الصحة والخطأ، والذي يتقرر صحته بعد ذلك بعدة تجارب، فهذا هو المقياس الذي يمكن أن نقيس عليه أي شيء آخر، فليس هناك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسول الله ﷺ إن صح عن رسول الله ﷺ أيُّ أخطاء، فهو منهج صحيح تماماً بلا ريب، فإذا اعتمد عليه المسلمون فلن يضلوا أبداً.

روى الإمام مالك في موطئه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي) فهذا أول ضابط في تحصيل العلم، وسواء في العلوم الشرعية أو غير العلوم الشرعية.
وهناك

السؤال
كيف يمكن أن يكون الكتاب والسنة هما الضابط في علوم الدنيا (العلوم غير الشرعية)؟

و الجواب
أن هناك قواعداً وأصولاً وضعها القرآن والسنة، وعلماء الطب والهندسة والفلك والجيولوجيا وكل علم لا بد أن يعرف هذه الأصول، ولا يخترعوا شيئاً أو يبدأوا في علم أو يفكروا في نظرية تتعارض مع ما جاء في كتاب الله عز وجل، فلا يصح لأحد أن يقول: إن الإنسان أصله قرد! ويقول: إنه عالم من علماء الأحياء، والذي يقول هذا الكلام يعلم أن الله سبحانه وتعالى بيَّن في كتابه الكريم آن آدم أول الخلق، وأنه خلقه ولم يكن قرداً قبل ذلك، بل ولم يكن حشرة قبل ذلك كما يدّعي علماء التطور، إذاً فهذا علم يتعارض مع القرآن والسنة، وليس له أي قيمة ولا أي وزن، ولا يجب لعالم مسلم أن يسير في طريق هذا العلم؛ لأنه متعارض مع المصدر الرئيسي.

ولذلك عندما خرج الصحابة أحياناً عن هذا المصدر في الفهم، أو عن هذا الضابط الذي هو وحدة المصدر، كان ﷺ يغضب غضباً شديداً؛ وبهذا نستطيع أن نفهم الرواية التي أتت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وجاءت أيضاً في سنن الدارمي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (أن رسول الله ﷺ كان يسمع عمر بن الخطاب وهو يقرأ في التوراة، فجعل وجه رسول الله ﷺ يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل أي: أنه يكلم عمر بن الخطاب ما ترى ما بوجه رسول الله ﷺ ؟

فنظر عمر إلى وجه رسول الله ﷺ فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ﷺ ، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ نبياً، فقال رسول الله ﷺ : أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟) أي: أترى أن هذا الذي قد أتاك قليل وتريد أن تضيف عليه من مصدر آخر؟!: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتحدثوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) إذاً: فالصحابة فهموا من هذا الموقف أنه لا يوجد شيء يتقدم على كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا على سنة رسوله ﷺ ، وأنه لا يمكن أن يتعلموا قانوناً أو قاعدة أو مفهوماً يتعارض مع هذين المصدرين العظيمين، أعني: الكتاب والسنة.

وعبد الله بن عباس حبر هذه الأمة قد تعلم هذا الدرس جيداً، فقد جاء في البخاري أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله ﷺ أحدث؟: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله ﷺ والذي تقرءونه لا يزال حدثاً لم يشب، ولم يختلط بغيره، فهو نقي وخالص وطاهر، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوه بأيديهم وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟!

لا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أُنزل عليكم، أي:
ومع أن هذين المصدرين -الكتاب والسنة- هما المصدر الحقيقي الخالص، لا يسألونكم فكيف بكم تسألونهم؟!

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 12-31-22 07:55 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣4️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الثاني:

العلم النافع، أي: لا بد أن يكون هذا العلم الذي تتعلمه علماً نافعاً، ودائماً يوصف العلم المرغب فيه شرعاً بكونه نافعاً.

روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) أي: أنه ليس صحيحاً أن يصرف الإنسان عمره ووقته وجهده في تعلم علم لا يعود بالفائدة والنفع على أمته وعلى الأرض بصفة عامة، مثل الذي ينفق عمره في الجري وراء تفصيلات لا ينبني عليها عمل في قصص الأنبياء والسابقين، فمثلاً: كم كان طول سفينة نوح عليه السلام؟ كم يوماً مكث الطوفان؟

وأي نوع من أنواع الحيوانات سبقاً في الصعود على سفينة نوح؟
وكم مكث قابيل عند قتله لهابيل شهراً أم سنة قبل دفنه؟ وتفصيلات أخرى لا ينبني عليها أي عمل وليس لها أي معنى.

وأيضاً في علوم الحياة المختلفة، فليس صحيحاً أن يصرف الإنسان وقته في أشياء لا تنفع، وربما قد تضر كبعض العلوم الفلسفية، وكصرف الوقت في قراءة القصص والروايات، أو كتابة أو قراءة الشعر الإباحي، أو غير هذا من العلوم التي لا تقبلها الفطرة السليمة، فضلاً عن أن يعيش الإنسان عمره وحياته ليدرسها.

وهذا يرجعنا للمناهج التعليمية في المدارس والجامعات، فلا بد أن يكون المنهج معمولاً لينتفع به الطالب ومن ثم ينفع الأمة بعد ذلك، فلو شعر الطالب أن العلوم التي يدرسها مجرد حشو ليملأ فراغ السنة الدراسية وأنه لا يمكن أن يستفيد منه، فغير ممكن أن الطالب يستطيع أن يحصِّل هذا العلم، إذ لم يكن عنده النية الصادقة المخلصة في أن يتعلم العلم لينفع نفسه وأمته، وأيضاً لن يستفيد، إذاً فالعلم لا بد أن يكون علماً نافعاً، ولا بد أن يتعلمه بنية أن يستغله في بناء الأمة وفي نفع الإنسان في الأرض بصفة عامة.

إن العلم الذي ليس فيه صفة النفع ليس علماً ضرورياً، بل على العكس، فهو شر يجب الاستعاذة منه، والحذر من تضييع الوقت في سبيل تحصيله؛ ولهذا نستطيع فهم الحديث اللطيف والدعاء الجميل الذي كان يدعو به الرسول ﷺ ،
ففي مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) فيستعيذ بالله عز وجل من أن يضيع وقته في علم لا ينفع، ثم قال: (ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).

📑.. يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 01-01-23 08:19 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣5️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الثالث:

أن ينقل العلم إلى غيره؛ لأن العلم لا يقف عند المتعلم فقط، وإنما لا بد أن ينتقل هذا العلم من العالم إلى غيره، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة.

ولو أن كل عالم سواء في العلوم الشرعية أو في علوم الحياة كتم علمه ولم ينقله إلى غيره لكانت كارثة على الأرض، ولسارت الأرض لا محالة ولا شك في ذلك إلى دمار وهلاك.

ولهذا لا يُطلق اسم (عالم) على شخص دون أن يكون معلماً لغيره، فالعالم الحقيقي هو الذي يقضي حياته بين التعلم والتعليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فلا بد أن يتعلم ويعلم غيره.

وانظر إلى كلام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره، أي: لو أن آخر هذه الأمة الذين جاءوا في القرن الثاني والثالث وحتى العشرين يلعنون أول هذه الأمة من الصحابة ومن جاء بعدهم، ويشوهوا التاريخ الإسلامي بصفة عامة، من كان عنده علم فليظهره، فالذي يعرف تصحيح هذه المعلومات لابد أن يتكلم ويعلم غيره، وليس له أن يحتفظ بهذه المعلومات في نفسه، وهو يعلم أن أول هذه الأمة رجال عظماء وفضلاء، فهذا شيء خطير جداً في كتمان هذا العلم،

ثم قال رضي الله عنه: فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أُنزل على محمد ﷺ ، أي: لو سمعت أحداً يسب في الصحابة أو يلعن في هذا الجيل ولم تُظهر هذه المعلومة في الناس، فكأنك كتمت ما أُنزل على رسول الله ﷺ ، لأن الدين كله جاء عن طريقهم، وتخيل لو جاء أحدهم فطعن في عمر وفي أبي بكر وفي عثمان وكذا من الصحابة، فأين الدين الذي هو عندنا؟
وأين السنة التي أتتنا عن طريقهم؟
وأين القرآن الذي أتي إلينا نقلاً عن صحابة رسول الله ﷺ ؟

إذاً فنقل العلم إلى الغير من أهم الضوابط، وليس صحيحاً أن يتعلم الإنسان العلم ويحتفظ به لنفسه، بل لا بد أن تسعى إلى تعليم الغير بأي علم تتعلمه، حتى وإن كانت آية واحدة فقط، يقول رسول الله ﷺ : (بلغوا عني ولو آية).

... يتبـــــــــ؏...

عطاء دائم 01-01-23 08:20 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣6️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الرابع:

عدم الفتوى بغير علم.
وهذه مشكلة وقع فيها الكثير من الناس، وهي مصيبة وكارثة أن يفتي الإنسان بغير علم، سواء في أمور الدين أو غيرها، فلا يجوز للمسلم أن يفتي بدون علم في أمور الإسلام أو في أمور الطب أو في أمور الزراعة أو في أمور التجارة أو حتى في وصف الطريق، كان يصف لشخص الطريق بالتخمين، فعلينا أن نتعلم كلمة: (لا أعلم)، وليس عيباً أن نقول: لا أعلم، لكن العيب الحقيقي هو الفتوى بغير علم، والصحابة قد تعلموا هذا النهج من رسول الله ﷺ ،

فتخيلوا الرسول ﷺ وهو أعلم البشر وأحكم البشر لم يكن يتردد عن قوله: لا أعلم، إذا كان فعلاً لا يعلم.
فقد روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أي البلدان شر؟ فقال ﷺ : لا أدري، فلما أتاه جبريل عليه السلام قال: يا جبريل أي البلدان شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي عز وجل، فانطلق جبريل عليه السلام، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم جاء فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلدان شر فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي عز وجل: أي البلدان شر؟ فقال: أسواقها) فالأسواق تلهي الناس عن ذكر الله، ويكثر فيها الكذب والحلف على غير الحقيقة،

ويكثر فيها الشحناء والبغضاء بين المسلمين، والفتنة بالمال، والاختلاط وأمور كثيرة، لكن الشاهد: أن الرسول ﷺ مع كونه أحكم وأعلم البشر إلا أنه لم يتجرأ على الفتوى بغير علم، وكان ﷺ يشدد النكير على من أفتى بغير علم من صحابته ﷺ .
فقد روى أبو داود عن جابر رضي الله عنهما قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه، فنام فاحتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ﷺ أُخبر بذلك) فغضب الرسول ﷺ غضباً شديداً وقال كلمة ثقيلة جداً: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال)،

أي: أن الجاهل الذي لا يعلم شفاءه أن يسأل: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب) شك من أحد الرواة (على جرحه خرقه، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) فالشاهد من القصة: أن الرسول ﷺ اتهم هؤلاء بقتل الرجل؛ لأنهم أفتوا بغير علم، وهذه قضية في منتهى الخطورة.

.. يتبـــــــــ؏.....

عطاء دائم 01-02-23 08:15 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣7️⃣

نتابع ضوابط تحصيل العلم

الضابط الخامس:

العمل بما تعلم
لأنه ما الفائدة أنك تعرف كذا وكذا من أمور العلم ثم تعمل بغيرها؟
وما هي الفائدة في أنك اكتسبت خبرات طويلة جداً، وقرأت كتباً عظيمة جداً، وحضرت دروس علم ومجالس علم، ثم في النهاية تعمل بطريقة أخرى غير التي تعلمتها؟!

وأين أيضاً قيمة العلم عنده؟
وتأملوا في كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، عند الدارمي رحمه الله: يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، فهم لا يتعلمون العلم لأجل أن يعملوا به، وإنما لأجل أن يقال فيهم أنهم علماء، ولأجل أن يقولوا عنهم أنهم يحملوا علماً كبيراً جداً، ولأجل تكبر حلقته والناس يستمعون له، لأجل هذا فقط هو يتعلم العلم، وهذا ليس بعالم.

ثم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه.
أي: أنه لو ذهب إلى عالم غيره يسخط ع
ليه، فهذا هو العالم المباهي بعلمه، والذي لا يخلص لله سبحانه وتعالى، وقد تحدثنا فيما مضى عن قيمة الإخلاص، وقلنا: إن من الثلاثة الذين تسعر بهم النار: رجل تعلم العلم لغير ذات الله عز وجل، فهو لم يتعلمه لوجه الله عز وجل.
ثم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل.

فعمله محبط؛ لأنه فُقِد منه الإخلاص، فإذاً لا بد أن تعمل بالذي تعرفه، فهذا الموضوع في غاية الأهمية، والضابط هذا يحتاج منا إلى كلام كثير جداً.
وإن شاء الله في المحاضرة القادمة جميعها سوف تكون عن هذا الموضوع، وستكون عن الصحابة والعمل، وهنا قد تحدثنا عن الصحابة والعلم، وإن شاء الله في اللقاء القادم سنتحدث عن الصحابة والعمل.

وأختم بكلمة بليغة عميقة ورائعة للعالم الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، وهو يوضح فيها قيمة العلم، يقول: تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعلميه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة.
فهذا هو العلم في منظور معاذ بن جبل رضي الله عنه ورضي الله عن صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.

نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

.. يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 01-02-23 08:16 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣8️⃣

الصحابة والعمل

أمر الله عباده بالعلم والعمل معاً؛
لأن العلم لا ينفع بدون عمل،
كما هو حال إبليس والأمم من اليهود والنصارى الذين ذمهم الله تعالى وضرب لهم مثلاً بالكلب والحمار،

وقد ضرب لنا الصحابة الكرام أروع الأمثلة في العلم والعمل،
سواء كان بالإنفاق أو الجهاد أو التضحية أو غيرها،
وهذا هو الفارق بين الصحابة وبين من جاء بعدهم ممن علم ولم يعمل.

... يتبـــــــــ؏..

عطاء دائم 01-03-23 07:37 AM

سلسلة_كن_صحابياً

3️⃣9️⃣

الثقة بالله عند الصحابة ومدى مسارعتهم إلى فعل الأوامر وترك النواهي

مما ينبغي التنبيه عليه هو أن طريق الصحابة مرتكز على مثلث مهم جداً له ثلاثة أضلاع: الأول: الإخلاص، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة قبل الماضية: الصحابة والإخلاص.

الثاني: العلم، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة الماضية: الصحابة والعلم.
الثالث: الذي سنتكلم عنه اليوم إن شاء الله: الصحابة والعمل.

هناك فرق هائل جداً بين جيل الصحابة وبين من أتى بعدهم، وهذا الفارق هو فارق العمل، فطريقة الصحابة في تلقي الكتاب والسنة كانت مختلفة جداً عن طريقة معظم اللاحقين بعد ذلك، فالصحابة كانوا يتلقون الكتاب والسنة بهدف التطبيق، وكانوا يسمعون بهدف الطاعة، وهذا مبدأ جميل جداً، كانوا مستشعرين قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].

والصحابة كانوا كمثل المريض الذي يتلقى الدواء من الطبيب، أو كمريض ينصحه الطبيب بإجراء عملية، وهو يقول له: أنا سأعمل لك عملية وأفتح فيها بطنك، وستتعطل من عملك، وستدفع ألفاً أو ألفين أو ثلاثة أو عشرة، والمريض يسمع ويطيع، فيضحي بالألم، ويضحي بالمال, ويضحي بالوقت حتى تنتهي العملية، لماذا؟ لأنه يعرف أن مصلحته في إجراء العملية، ولأنه يثق في هذا الطبيب، ومسألة الثقة هذه مهمة جداً، فقد كان الصحابة مثل الجندي في ميدان المعركة وفي أرض العدو ينتظر أمراً من الأوامر؛ ليوضح له كيف يتحرك؛ لأنه لا يستطيع التحرك بغير هذا الأمر، فيخشى أن يقع في مهلكة، أو يدخل في كارثة، أو تصيبه مصيبة من مصائب الزمان والمكان.

لكن: هل الجندي الذي في ميدان المعركة لا يعرف أين يمشي يميناً أم يساراً، فهو منتظر للأمر من القائد، هل يتلقى الأوامر على التراخي؟ أبداً، فالجندي في هذه الظروف متلهف للأمر الذي يوصله إلى بر الأمان، فهو يثق بقائده، ولذلك يسمع منه دون جدل ولا نقاش، إلا فقط للفهم، لكنه يعرف أن القائد يريد مصلحته ومصلحة الجيش كاملاً.
وكذلك الصحابي وكل مؤمن فطن ذكي يتلهف لأمر الله عز وجل في أي قضية من القضايا، في أي أمر من الأمور؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل يريد به الخير، فهو يريد أن يعلم ماذا يريد الله عز وجل منه في هذه النقطة؟ إن علم أن الله عز وجل راضٍ عن ذلك فعل ما أمره الله به وهو مطمئن، بل سارع في فعله، وإن علم أن الله لا يرضى عن ذلك تركه، بل بالغ في الابتعاد عنه.

إذاً: فالمسألة مسألة ثقة، فيا تُرى هل أنت مطمئن إلى أن ما أمر الله سبحانه وتعالى به أنه هو الخير لك وللأرض كلها، أم عندك شك في ذلك؟
لأجل هذا كان عند الصحابة حساسية مفرطة لكل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، وأيضاً كان هذا الأمر من أهم الأمور التي تميز بها الصحابة الكرام، فقد فقهوا الحقيقة القرآنية المهمة التي تقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].

فهذا فارق هائل جداً بين جيل الصحابة والأجيال التالية، فالذي خلق لا بد أن يأمر، والذي خلق لا بد أن يحكم، والذي خلق يعرف ما ينفع المخلوق وما يضره؛ لأجل هذا الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]،

وانتبه معي لكل كلمة، فليس لدينا اختيار ما دام أننا قد عرفنا أن هذا أمر ربنا سبحانه وتعالى، أو أمر الرسول ﷺ ؛ فلا بد من التنفيذ، حتى لو كان عكس رغبتنا، وعكس تفكيرنا، وعكس تفكير الغرب والشرق، وعكس القانون الدولي، وعكس التقاليد، فليس لنا فيه أصلاً أي اختيار.

وفي بعض الأحيان قد يكون الموضوع صعباً على النفس، بل وقد يكون فيه فتنة؛ لأجل هذا بين الله سبحانه وتعالى أنه لن يقدر على تنفيذ هذه الأوامر إلا المؤمن والمؤمنة، فالمؤمن والمؤمنة هما اللذان لديهما ثقة كاملة في الله سبحانه وتعالى، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي سيخالف سيخسر خسارة عظيمة جداً، سيضيع ويشقى في الآخرة: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].

... يتبـــــــــ؏....

عطاء دائم 01-03-23 07:38 AM

سلسلة_كن_صحابياً

4️⃣0️⃣

وجوب العمل بالعلم وعدم الركون إلى الأماني

من المستحيل أن يصلح العلم بغير عمل يصدقه،
يقول الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
فلا بد من علم ثابت في القلب، ويكون فيه إخلاص لله عز وجل، بحيث لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، وفي الأخير لابد أن يصدقه العمل.
والذي يعلم ولا يعمل واهم في أنه يصل إلى الجنة؛ لأن ذلك ضد النواميس الكونية العادلة التي وضعها رب العزة سبحانه وتعالى،

روى الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ : (الكيِّس من دان نفسه)، أي: حاسبها وقهرها، ثم قال: (وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)، يعني: يفعل كل ما يريد فعله ثم يتمنى على الله، ويقول: الله غفور رحيم، وكم نسمع هذه الكلمة كثيراً جداً، يفعل كل المعاصي ثم يقول: الله غفور رحيم، سبحان الله!
كيف ذكرت صفات الله سبحانه وتعالى هذه ولم تذكر صفاته الأخرى؟! {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، فهو سبحانه وتعالى الغفور الرحيم، لكن ماذا بعد ذلك؟ {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:50]،

وهناك أناس يقولون: ربنا رب قلوب، أي: ما دام القلب نظيفاً فلا تخف شيئاً!! لكن هل القلب النظيف يعصي الله سبحانه وتعالى؟
هل القلب النظيف يكسل في الطاعة أو لا يبالي بها؟
هل القلب النظيف لا يسمع كلام الخالق؟
هل هذا قلب نظيف؟!!

هذا كلام حق أريد به باطل، نعم فالله سبحانه وتعالى غفور رحيم، وصحيح أن المهم هو القلب، لكن لا يمكن أن ينفع هذا من غير عمل، قال الشاعر حول هذا المعنى: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس والأدهى أن هناك أناساً يقولون بمنتهى الاستهتار: لا تخف، إن شاء الله ربنا سيسهل! نعم الله سبحانه وتعالى قادر على التسهيل من غير عمل،
لكن هذا ضد السنن الجارية في الكون، وأيضاً فالله سبحانه وتعالى لا يخالف سننه، وإن خالفها فذلك في ظروف خاصة جداً جداً لا تقدر على بناء خطتك عليها، بل أنت مأمور شرعاً بالسير على السنن،

فمثلاً: لو قمت ببناء سفينة في الصحراء وقلت: لعل ربنا سبحانه وتعالى أن ينزل طوفاناً كما أنزله على قوم نوح عليه السلام.
هذا مخالف للسنن، ولا يحدث إلا في ظروف خاصة كما ذكرنا، وكلنا يعرف قصة سيدنا نوح عليه السلام .

وعلى هذا الأمر فكثير منا سيبني سفينة في الصحراء ويقول: ربنا يسهل سيرها، والحياة كلها معاص ويريد أن يدخل الجنة، ويقول: ربنا يسهل.
وطالب يلعب سائر العام ويريد أن ينجح، ويقول: الله يسهل.
ومريض لا يأخذ الدواء ويريد أن يتعافى، ويقول: الله يسهل.

فلا يمكن أن يسهل الله تلك الأمور إلا ببذل الأسباب، فلا بد من السير على السنن، وسنة الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

فالذي سيعمل مثقال ذرة سيجدها في الدنيا والآخرة، سواء كان خيراً أم شراً، والذي يعمل مقدار قنطار سيجده في الدنيا والآخرة من خير أم من شر.
أما التواكل على الله عز وجل، واعتقاد النجاة بدون عمل؛ فهذا ليس مسلك الصالحين، ولم يكن أبداً مسلك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما هذا مسلك الضالين من أهل الأرض، هذا المسلك كان سمة مميزة لبني إسرائيل.

... يتبـــــــــ؏.....


الساعة الآن 04:17 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.6.1 al2la.com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع الحقوق محفوظه لـ منتديات مسك الغلا