المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هذا الحبيب


الصفحات : 1 2 [3]

عطاء دائم
03-03-21, 08:45 AM
هذا الحبيب « 188 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة بني المصطلق وموقف المنافقين ))
______
نحن الآن في مطلع السنة الخامسة من الهجرة ، وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -أن قبيلة {{ بنو المصطلق }} تستعد لغزو المدينة ، فمن هي هذه القبيلة ؟ هي أحد بطون قبيلة {{ خزاعة }} ،

ومعنى مصطلق في اللغة الصوت العالي في الغناء ، فقد كانوا مشتهرين بالغناء والأصوات الجميلة . و ديار خزاعة منتشرة على الطريق من مكة إلى المدينة ، ولذلك فإن موقعها مهم جدا في الصراع بين المسلمين و قريش ، لذلك اتخذت خزاعة موقفا محايدا بالنسبة لهذا الصراع ، فهي لم تدخل مع قريش في عداء المسلمين ، وفي نفس الوقت لم يدخلوا في الإسلام ؛ ذلك أنّ خزاعة في طريق تجارة العرب إلى الشام ، وأيضا فيها أحد أصنام العرب الشهيرة وهو (( مناة )) – كما يُقال - ، فكان العرب يحجون إلى هذا الصنم، لذلك كانت خزاعة لها مصالح مادية ومعنوية ، فاتخذت موقفا محايدا مع الجميع باستثناء بني المصطلق .

وقد اتخذ بنو المصطلق موقفا معاديا للمسلمين ، لدرجة أنهم اشتركوا مع قريش في حرب المسلمين في غزوة أحد، وسيّدهم هو {{ الحارث بن أبي ضرار }} والذي اتخذ قراره الآن بتجميع القبائل لغزو المدينة ، فوصلت هذه الأخبار إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – وبعد أن تأكد من نيّة بني المصطلق في غزو المدينة ؛ جهز جيشا يتكون من {{ ٧٠٠ مقاتل و ٣٠ فارس }}

وخرج معه من نسائه السيدة عائشة – رضي الله عنها - ، وكانت المسافة بين المدينة وبني المصطلق حوالي {{ ٤٠٠ كم }} ، وأعطى لواء المهاجرين لأبي بكر – رضي الله عنه – و أعطى لواء الأنصار لسعد بن عبادة – رضي الله عنه - [[ و مباغتة الأعداء من صفات القائد الناجح ، وكان من سنّته – عليه الصلاة و السلام – أن يباغت عدوه في داره ، فكان يسير ليلاً ويكمن في النهار حتى يُعمي عيون الأعداء عنه قدر المستطاع ]] .

وصل المسلمون قريبا من بني المصطلق ، وعسكروا هناك عند عين ماء اسمها {{ المريسيع }} [[ سمّيت بذلك لأنّها ماءها يخرج ببطء، ويحتاج وقتا حتى يتجمع و يحملونه ؛ وشبّهوها بعين الإنسان لأنها تدمع قليلا قليلا ]] .
فلما وصل بنو المصطلق إلى عين المريسيع ليشربوا منها ، ويتجهزوا للمضي لغزو المدينة ، باغتهم المسلمون ، وأغاروا عليهم عند عين الماء، فوقع رجالهم في الأسر، وأصبحت نساؤهم سبايا للمسلمين ، وقد بلغ عددهن أكثر من 100 سبيّة ، وغنموا منهم الآلاف من الإبل و الأغنام ، و الكثير من الأموال والمتاع والمصاغ والسلاح ، وحقق المسلمون انتصارا ساحقا وسريعا .وكان في الجيش رئيس المنافقين

{{ عبد الله بن أبي سلول }} الذي سالت لعابه على هذه الغنائم الكثيرة ، و كان في الجيش أيضا ابنه الصحابي عبد الله رضي الله عنه .
قسّم النبي – عليه الصلاة و السلام – الغنائم ، أربعة أخماس وزّعها على الجيش فورا ، وخمس يُصطفى لله والرسول ، فلما قُسّمت الغنائم دخلت النساء في السبي ، وكان في السبايا ابنة الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق واسمها جويرية - رضي الله عنها -


[[ لأنها أسلمت وأصبحت بعد ذلك أمّا للمؤمنين وزوجة النبي صلى الله عليه وسلم ]] ، وهي فتاة عاقلة راشدة تحسن تدبير الأمور، ووقعت الآن في السبي ، و أصبحت من نصيب أحد الصحابة وهو {{ ثابت بن قيس بن شماس }} ، فعرضت عليه على الفور المكاتبة ، فكاتبته على نفسها . [[ يعني اتفقت معه أن تدفع له مبلغا من المال مقابل أن يعتقها ، وكذا يفعل السيد وعبده ليصبح حرّا ، وكان هذا النظام موجودا عند العرب ، وقد أقر الإسلام هذا النظام ،قال تعالى : {{ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا }} بل وجعل الإسلام هذا النظام واجبا، فكان ذلك من أساليب الإسلام في إلغاء الرق ]].

ثم استأذنته كي تذهب وتدبّرأمرها ، واتجهت نحو خيمة النبي - صلى الله عليه وسلم – و كان في خيمته أم المؤمنين عائشة . قالت : أنا جويرية بنت الحارث سيد القوم ، وأنا {{ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله }} ، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك ، فكاتبت على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي ، وأطلب منك العون .

(( وحقيقة فإنّ ما أشغل تفكير النبي في هذه الغزوة سبي النساء !! كيف نسبي 100 بيت من أعز بيوت العرب ؟؟ فكانت الفرصة الآن أمام النبي لتجنّب ذلك ما أمكن )) ، فقال لها عليه الصلاة و السلام : " أقضي كتابك مع ثابت بن قيس و أتزوجك " . بمعنى أدفع لثابت بن قيس المبلغ كله، وتكونين حرة، ويكون هذا المبلغ هو مهرك . قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت .

فشاع الخبر بين الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج بنت الحارث بن ضرار ، فقال الصحابة : أصبح بنو المصطلق أصهار رسول الله ، فردّ كل الصحابة الأسرى الذين في أيديهم إلى ذويهم حبّا و كرامة للنبي – صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ما كان يرجوه عليه الصلاة و السلام من هذا الزواج . وكان هذا حدثاً فريداً لم يحدث في تاريخ الجزيرة ، تقول عائشة – رضي الله عنها - : "

فلقد أُعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها " . فلما رأى بنو المصطلق هذه الأخلاق والكرم ، دخلوا في الإسلام .
وعودة إلى صورة المنافقين الآن ؛ فقلوبهم تمتلئ غيظاً من المسلمين ، خاصة {{ ابن أبي سلول }} ،

فقد استرد المسلمون الغنائم من أيديهم ، وردوها إلى بني المصطلق ، و المنافقون ما خرجوا أصلاً إلا لهذه الغنائم ، فغاظه ذلك وأخذ يترقب فرصة كيف يوقع فتنة بين صفوف المسلمين ؛ وحانت الفرصة له عندما تنازع عند عين الماء رجلان أحدهما من المهاجرين و الآخر من الأنصار، و كل واحد يريد أن يسقي قبل الآخر، وتطور الأمر إلى الضرب ، فصاح الأنصاري : يا للأنصار ، وصاح المهاجر : يا للمهاجرين . فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصراخ كما سمع الناس ، فخرج من خيمته مسرعاً نحو الصوت ، ورفع كلتا يديه يؤدبهما أمام الناس ويقول : أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين ظهرانيكم ؟

دعوها فإنها منتنة . [[ يعني إياكم والتعصب لأحد بالباطل ، كالتعصب للقبيلة والبلد وإنما شأن المؤمن أن يقف مع الحق ، وأن ينصر المظلوم برفع الظلم عنه ، وينصر الظالم بحجزه ومنعه عن الظلم ، ويجب أن نبتعد عن عادات الجاهلية الذميمة ، ويجب أن يكون انتماؤك للإسلام ]] . وأصلح – عليه الصلاة و السلام - الأمر في نفس اللحظة ، و تصافى المتخاصمون ، وانطلق كل في حال سبيله .

لكن المنافقين وجدوها فرصة لهم ، لإحداث فتنة بين المهاجرين والأنصار ، وعلى رأسهم {{ ابن سلول }} حيث قال : " أَوقد فَعلُوها ؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "

[[ يعني جاء الوقت للمهاجرين أن تقوى شوكتهم علينا ونحن اللي آويناهم ؟ يجي واحد منهم يرفع السيف بوجهنا ؟؟!! احنا الأنصار أعزاء و أصحاب الديار ، و المهاجرين جايين هاربين مشتتين غلابة لاجئين فهم أذلاء ... ؟؟ !! ]] . وكم من أناس مسلمين هذه الأيام يعيشون بيننا وهم يقتدون بعقل وتفكير ابن سلول ؛ فهو ابن بلد وغيره دخيل !!


فسمع كلام ابن سلول غلام صغير عمره 14عاما اسمه {{ زيد بن أرقم }} من الخزرج ، وهو غلام صادق الإيمان ، حافظ للقرآن ، فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان جمع من المهاجرين والأنصار حوله ، فأخبره بمقولة ابن سلول ، فقال له النبي : يا فتى ، لعلك أخطأت السمع ؟ أو ربّما في نفسك على صاحبك شيء فقلت عليه ما قلت ؟؟

قال : لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، ليس بيني وبينه إلا أخوة الإسلام . فقام عمر بن الخطاب وقال : يا رسول الله دعني اضرب عنق هذا المنافق . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يا عمر ، كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؟؟ [[ لأن ابن أبي سلول مسلم ، وقتله سيعطي أعداء الإسلام فرصة لتشويه صورة الإسلام ]] .

وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل على الفور حتى يشغل الناس عن الكلام في هذا الموضوع ، لأنه فتنة .

بلغ ابن أبي سلول أن كلامه وصل للنبي -صلى الله عليه وسلم - فذهب إلى النبي حالفا يكذّب الخبر ، ومعه بعض أصحابه من المنافقين ، لكنّ الله سبحانه و تعالى أنزل آيات جاءت تصديقا لكلام الغلام – زيد – وتفضح المنافقين ،

قال تعالى : {{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}} .

فلما سمع الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي أن آيات نزلت بحق أبيه استأذن النبي بقتل والده المنافق ، لكنّ النبي رفض ذلك ، وعند وصول الجيش إلى المدينة منع عبد الله والده من الدخول ، ووضع السيف على عنق أبيه وقال : تزعم يا عدو الله بأنك عزيز ورسول الله ذليل ؟؟ والله لن تدخل المدينة حتى يأذن لك النبي بذلك . فوصل النبي وأمر برفع السيف عن رقبته وقال : سنحسن صحبته ما دام بين أظهرنا .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-04-21, 08:05 AM
هذا الحبيب « 189 »
السيرة النبوية العطرة (( حادثة الإفك ))
______
كانت عائشة – رضي الله عنها - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المُصْطَلق كما ذكرنا ، وفي طريق العودة ، وبعد أن اقترب الجيش من المدينة، وقف الجيش في أحد الأماكن ليستريح ، وكان ذلك في الليل ، وذهبت السيدة عائشة – رضي الله عنها - لتقضي حاجتها فابتعدت عن الجيش ، وعندما عادت وجدت أنها قد فقدت عقدا ثمينا لها كانت قد أعطته لها أمها عند زواجها ، فعز عليها العقد ، وعادت مرة أخرى إلى المكان الذي كانت فيه لتبحث عن العقد ،

وتأخرت بعض الوقت ، وبدأ الجيش يتحرك ،وجاء الذين يحملون هودجها ، فحملوا الهودج ، ووضعوه على البعير وهم يعتقدون أن السيدة عائشة بداخل الهودج ، حيث كانت في ذلك الوقت خفيفة الوزن . [[ والهودج هو غرفة صغيرة من الخشب توضع فوق الجمل وتركب فيه المرأة حتى لا يراها أحد ]] . و ارتحل القوم بسرعة ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد تعجّل بهم ليشغلهم عن فتنة المنافق ابن أبي سلول .

عادت السيدة عائشة إلى منزلها في المعسكر فوجدت الجيش قد تحرك ، فخافت أن تسير خلف الجيش فتفقد طريقها ، وكان الوقت ليلاً ، فجلست مكانها وقالت في نفسها : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما يكتشف عدم وجودها ، فسيعود مرة أخرى .ثم غلبها النعاس فنامت في مكانها .

في ذلك الوقت كان أحد الصحابة واسمه (( صفوان بن المعطل )) يسير خلف الجيش متأخرا عنه – وهذه من عادة الجيش حتى إذا وقع أي شيء من متاع الجيش أخذه معه ، وهو من خيرة الصحابة ، وكان صفوان لا يسير بالليل ، وإنما يسير في الصباح حتى يظهر له ما وقع من الجيش ، فرأى سواد إنسان من بعيد ، فاقترب فإذا بها عائشة مستغرقة في النوم ، فاسترجع بصوت مرتفع [[ قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ]]

حتى يوقظها ، فاستيقظت من نومها وغطت وجهها بجلبابها ، وأناخ صفوان راحلته، وركبت السيدة عائشة وانطلقا . [[ الجمل يمشي خلف صفوان و عليه السيدة عائشة، وصفوان يسير أمام الجمل، حتى وصلا إلى الجيش وقت وصوله إلى المدينة ، تقول عائشة: والله ما كلمني كلمة واحدة ]] .

وشاهد المسلمون السيدة عائشة على راحلتها يقودها صفوان ، هنا كان رأس النفاق {{ عبد الله بن أبي بن سلول}} يمتلئ قلبه غيظا من النبي - صلى الله عليه وسلم – فاستغلّ الفرصة مباشرة ، وقال للمنافقين حوله ليلفت أنظارهم و يبثّوا الموقف لأهل المدينة : انظروا زوجة نبيّكم يقودها صفوان ليلة كاملة ؟!!

[[وهذا من خبث المنافق ، مثل بعض الناس هالأيام، فلانة ما بدي أحكي عليها ولا اشي !! بس بقول الله يعافينا. . . يعني كل الصفات السيئة فيها !! ]] .وأخذ المنافقون يرددون كلامه في المدينة بالتلميح دون التصريح حتى لا يؤخذ عليهم أي شيء، فقد فضحهم القرآن قبل ليلة ، ولا ينقصهم مشاكل أخرى ، فتلقّفه الآخرون وقالوا ما قالوا .

أما النبي - صلى الله عليه وسلم – فقد سأل عائشة عن سبب تأخرها وأخبرته بما حدث ، فقبل الأمر ، وانتهى الموضوع . لكنه لم ينته عند أصحاب القلوب الحاقدة ، والألسنة الكاذبة .

دخلت عائشة بيتها وكانت مريضة بسبب عناء السفر والنوم في العراء ، فظلت مريضة شهرا كاملا لا تخرج من بيتها ، والناس في المدينة يتحدثون عنها وعن صفوان بن المعطل وهي لا تعلم شيئاً ، ولكن الذي لاحظته أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل عليها لا يتلطف لها كما اعتاد أن يفعل كلما كانت مريضة ،فقد كان يدلّعها في مرضها و يظهر لها العطف و الحنان ، أما الآن فيقول لمن حولها : كَيْفَ تِيكُمْ ؟؟

[[ اسم إشارة مؤنث في اللغة : أي كيف حال هذه المرأة ؟ شو أخبارها ؟ ]] ، فتقول عائشة : أنكرت هذه الكلمة، وقلت في نفسي لعله همه أمر المنافقين و ابن سلول !! وكان هذا الموقف من أشد الابتلاءات التي مر بها - صلى الله عليه وسلم - لأنه يُطعن في عِرضه وشرفه .

اقتربت السيدة عائشة من الشفاء فخرجت مرة مع قرابتها {{ أم مسطح }} ، فعثرت أم مسطح بثوبها فقالت : تعس مسطح !!

[[ كعادة بعض النساء يا بتدعي على حالها يا على أولادها يا على حظها مع زوجها !! ]] فقالت لها عائشة : بئس ما قلتِ يا خالة !!!! أتسبّين رجلاً شهد بدراً ؟؟!! قالت لها أم مسطح : يا هُنتاه!!

[[ يعني يا مسكينة يلي ما معك خبر شي ]] أولم تسمعي ما يقوله الناس عنك ؟؟ !! فأخبرتها أم مسطح بكل ما يقوله الناس عنها ، وبكل ما خاضوا فيه طوال شهر كامل – كما أخبرها ابنها مسطح - فصُعقت السيدة عائشة من هذا الكلام ، وعادت إلى بيتها مسرعة.

تقول السيدة عائشة : فانفجرت بالبكاء ، وما توقفت دموعي أياما ، و لم أذق الطعام ، وازددت مرضا على مرضي ، فاستأذنت النبي في الذهاب إلى بيت أهلي فوافق . وعندما وصلت سألت أمي : يا أماه ، ما يتحدث الناس ؟؟ فقالت : "يا بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة جميلة مثلك عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها " . عندها تأكدت السيدة عائشة من المعلومة، فزاد مرضها وأغشي عليها .

و كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في كرب شديد ، سأل أصحابه ، فقال له زيد : يا رسول الله ، أهلك ، أهلك، ما علمنا عنهم إلا خيرا . وقال له علي : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سِواها كثير ، ثم أشار إليه باستجواب خادمتها {{ بريرة }} التي قالت : لا والذي بعثك بالحق والله ، إن عائشة أطيب من الذهب . وأما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – فقال : ألم تخبرنا يا نبي الله أن عائشة هي زوجك في الدنيا و الآخرة ؟ قال له النبي : بلى . قال : إذن يا رسول الله ، إن الله لا يختار لك زانية ، وهي بريئة مما يُقال عنها .

والنبي - صلى الله عليه وسلم واثق – من براءتها ، ولكنه رسول الله ، و قدوة لأمة كاملة إلى قيام الساعة ، لذلك كان يريد حجة ليواجه المنافقين ، والمصيبة تدور في بيته منذ أكثر من أربعين ليلة .

ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم – إلى عائشة في بيت والديها ، وجلس إلى عائشة، [[ وكانت هذه هي أول مرة يجلس إليها منذ بدأ الناس حديث الإفك ]] فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيظهر الله براءتك ،وإن كنت ألممتِ بذنب ، فاستغفري الله وتوبي إليه .

تقول عائشة : كنت أبكي بلا توقف ، وطلبت من أبي و أمي أن يُجيبا نبي الله ، فلم يتكلما بكلمة واحدة !! فكأنهما يصدّقان ما يُقال عني !! فقلت : والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف [[ تقول عائشة غاب عني اسم يعقوب من الصدمة ]] ، قَالَ {{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }} تقول ثم أجهشت بالبكاء . وما هو إلا وقت و إذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يجهد جهداً شديدا ، وغشيه ما غشيه من نزول الوحي ، وأخذ جبينه يتصبب عرقاً .

فلما سُرّي عنه [[ أي ذهب الوحي ]] ابتسم في وجهي وضحك ، فكان أول كلمة قالها – عليه الصلاة و السلام - : أبشري يا عائشة فقد برَّأكِ الله . فسجدت شكرا لله ، وهنا كان سنة سجود الشكر لله تعالى ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّه .

تقول عائشة – رضي الله عنها - : فوالله ما كنت أظن أن ينزل في شأني قرآنا يُتلى إلى قيام الساعة ، لأنا أحقر في نفسي أن ينزل الله بي قرآنا ؛ ولكني كنت أظن أن يرى رسول الله رؤيا صادقة تبرئني . ثم تلا قوله تعالى :

{{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ *لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ }}

نزلت آيات من سورة النور تناولت هذه القضية الهامة، وهي قضية اتهام الناس في شرفهم بالباطل ، ووضعت لذلك عقابا دنيويا رادعا وهو الجلد ثمانين جلدة، وطُبق هذا العقاب بالفعل في ثلاثة من الذين ثبت بالفعل تناولهم هذا الأمر بكلمات صريحة واضحة لا تأويل فيها وهم : مسطح بن أثاثة ، حسان بن ثابت ، حمنة بنت جحش أخت زينب زوجة النبي .

أما {{عبد الله بن أبي بن سلول}} فلم يطبق عليه الحد لأنه - كما ذكرنا – خبيث شرّير، فلم يتكلم في هذا الأمر بكلمات صريحة ، ولكن توعده الله تعالى هو وأصحابه من المنافقين بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال تعالى :
(( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) . فإياكم وأعراض الناس ، و إياكم و قذف المحصنات ؛ فكلّنا عنده بنات وأخوات وعمات وخالات ، فاحرص على عِرض غيرك كما تحرص على عِرضك ،

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-06-21, 07:34 AM
هذا الحبيب « 190 »
السيرة النبوية العطرة (( زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة زينب بنت جحش ))
______
قلنا في جزء سابق إن [[ زيد بن حارثة ]] خرج وهو ابن ثمانية أعوام مع أمه في زيارة لقبيلتها ، وأغارت عليهم قبيلة أخرى ، واختُطف زيد في هذا الهجوم ، وأصبح عبداً بعد أن كان حراً ،وعُرض للبيع في أحد الأسواق ، فاشتراه { حكيم بن حزام بن خويلد } وأهداه إلى عمته { خديجة بنت خويلد } والتي أهدته بدورها إلى زوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه النبي من أول يوم .
ثم جاء أبو زيد يريد ابنه فاختار زيد البقاء مع النبي – عليه الصلاة والسلام – فأخذه النبي ونادى عند الكعبة :

من اليوم زيد ابني يرثني وأرثه ، فطابت نفس والد زيد بعد أن اطمأن على ولده ، وقد أصبح اسمه (( زيد بن محمد ، زيد مولى محمد : المولى هو لقب للعبد بعد أن يُحرّر )). [[ والتبني في ذلك الوقت كان معروفا ، ويعتبر الابن المُتبنّى كالابن تماماً ، يرث الأب ، ولا يتزوج الأب زوجة ابنه ]] .

أمّا [[ زينب بنت جحش ]] – رضي الله عنها وأرضاها - تكون ابنة عمة النبي - صلى الله عليه وسلم – و أمها هي أميمة بنت عبد المطلب .

و حين بلغ زيد بن حارثة سن الزواج ، أراد النبي أن يزوّج ابنة عمته السيدة زينب بنت جحش لزيد مولاه ، وكان عُمر زينب في ذلك الوقت { 36عاما } وهي من بنات أشراف قريش ، وكان يريد - صلى الله عليه وسلم - بهذا الزواج أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في المجتمع المسلم ، لأن العرب كانوا ينظرون إلى {{ الموالي }} باستعلاء ويرون أنهم في طبقة اجتماعية أقل منهم .

وعندما عرض - صلى الله عليه وسلم - على السيدة زينب الزواج من زيد ترددت كثيرا إلى أن وافقت طاعة لرغبته عليه الصلاة و السلام . ولكن لم يكن ذلك الزواج على قدر من النجاح ، وقلّت فيه المودة والسكينة ، وتعب زيد كثيراً من جفاء زوجته ، وصدها وترفعها عليه حتى نفذ صبره ، فذهب مرارا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليأخذ رأيه في طلاقها ؛ فيقول له – صلى الله عليه وسلم – في كلّ مرة :

[[ أمسك عليك زوجك : أي ارجع و عش مع زوجتك لعلّ حياتكما تستقيم ]] ، ولكنّ الوقت لم يغيّر في حياتهما شيئا ، حتى جاء اليوم الذي طلق فيه زيد بن حارثة زوجته زينب بنت جحش . و بعدها تزوّج زيد أم كلثوم بنت عقبة بن معيط ، فأنجبت له زيدا ومات وهو صغير .

وبعد أن انقضت عدة زينب بنت جحش تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتَقُولُ : "
زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ".وكانت - رضي الله عنها - صوامة قوامة ، تتصدق باستمرار على فقراء المسلمين .

وماتت السيدة زينب في سنة 20 هـ ؛ فكانت أول أزواج النبي لحاقا به ، ودُفنت في البقيع .
وكان هذا الزواج واجباً ، لأن إلغاء التبني ليس أمرا سهلا أبدا ، ولا يزول إلا بحادث كبير، فكان زواج نبينا من زينب بنت جحش إبطالا واقعيا عمليا لعادة التبني .

قال تعالى : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) .

ولا يزال أعداء الإسلام يحرفون الكلم عن مواضعه ، و يدّعون أنهم علماء في التفسير و السيرة ، و يحاولون إيذاء النبي ، وتشويه صورته في تحليلاتهم لزواجه من زينب ،وأنّه أحبّها، فزوجه الله منها !!!

إيّاكم أن تصدّقوا ما يكتبونه ، فهم يفسّرون الآيات السابقة بما يُناسب أهواءهم ، فاحذروهم ، و احذروا ما يكتبون . {{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا }} .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-09-21, 08:52 AM
هذا الحبيب « 191 »
السيرة النبوية العطرة (( فرض الحجاب ))
______
قبل فرض الحجاب لم تكن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم –يحتجبنَ عن الصحابة ولكن كنّ يجلسن في مجلس النبي وأصحابه عنده جالسون، وهنّ محتشمات ساترات الرأس و الجسد ، يكلمن الصحابة ، والصحابة يكلمونهنَّ دون حجاب ؛ أي يستطيع الصحابة رؤيتهنّ في المجلس ، [[ و هذا لا يعني الاختلاط الهابط الذي نعرفه اليوم ]] ، وأشار عمر بن الخطاب مرّة إلى النبي قائلا : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ" .[[ ولا يظنّ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم - أن تلك المصلحة خفيت عليه ]] ، لكنّه كان ينتظر الوحي في ذلك ، فيقول : لم يأمرني ربي .

وفي زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش كانت مناسبة فرض الحجاب ، ففي صبيحة الزواج ، ذبح – عليه الصلاة و السلام - شاة وقال لخادمه أنس : ادع أصحابنا للطعام [[ يعني مع الظهر ]] ، يقول أنس : فأخذت أدعو كل من ألقاه في طريقي . ثم أخذ الناس يأتون أفواجاً أفواجاً ، نضع لهم الطعام فيأكلون ويخرجون ، ويأتي أفواج يأكلون فيخرجون ، ثم يأتي غيرهم ، وهذا من بركته - صلى الله عليه وسلم - .

فلما انتهى الناس ورفعنا الطعام ، بقي ثلاثة رجال يتكلمون في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي اتخذها لزينب ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء [[ ما كان بيقول للناس بيكفي ، اطلعوا برة ، انتهت الضيافة ]] .
فأخذ يطوف على حجرات أزواجه يسلم عليهن مرات ، ثم يرجع إلى حجرة زينب فيجد الرجال الثلاث جالسين ، وقد استرسلوا في الحديث مع بعضهم ، وزينب جالسة معطية وجهها للجدار ، وظهرها إلى الرجال . فنظر النبي فيهم وهم يتكلمون فلم يدخل ، ثم خرج [[ ليشعرهم أن يخرجوا : خلص بيكفي ]] ، فلما رجع وجدهم قد خرجوا .

يقول أنس : فوضع رجله أسكفة الباب [[يعني عتبة الباب ]] ورجله الأخرى خارجها ، وأرخى الستر بيني وبينه ،أي أنزل ستارة الباب ، فلم يأذن لأنس بالدخول ، فقد نزلت آيات الحجاب ، و نزل القرآن معاتباً الذين بقوا جالسين يتحدثون في بيت النبي ، و يعلّم الناس أدب دخول البيوت .

قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا )) .

[[ مش تجوا تتسلوا وتحكوا وتستنوا لينضج الطعام وناكل !! لا ، عليك أن تأتي فوراً للأكل وتخرج فورا {{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ }} لا تستنوا لينضج الطعام يعني ما تجوا بكير !! معزومين على الغدا تجوا على الساعة ١١!! أو معزومين على العشا تيجوا من العصر !! ]] هذا غير مقبول .


{{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }} مع أنّهنّ أمّهات المؤمنين ، ومحرمات على الصحابة ، ومع ذلك يقول : اسألها من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، وهذه الحكمة من الحجاب ، فهو ينشر العفة و الطهارة ، وللأسف اليوم بعض الناس :

[[ مهي مثل أخته وهو مثل أخوها ،عادي يروحوا وييجوا مع بعض ]] طبعا الشيطان ثالثهما والعياذ بالله .

ثم سألت أمهات المؤمنين النبي عن أهلهنّ هل يحتجبن عنهم ؟ فنزلت الآيات :
{{ لّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }} .

ومن جانب آخر ؛ إذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة مثل الفتنة ؛ فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يجمّل وجهها ويُبهيه ويظهره بالمظهر الفاتن ، و أيضا زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان ومن مقتضيات فطرتها ، كذلك افتتان الرجال بها ، لاسيما إذا كانت جميلة وحصل منها تملق وضحك كما يحصل من كثير من السافرات ، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق .

لذلك كان من الواجب على المرأة تغطية وجهها امتثالا لقوله تعالى :
{{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }} ، ولها الأجر و الثواب على ذلك . اللهم احفظ نساء المسلمين من كل سوء ، و اجعلهنّ من الحور العين في الجنّات .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-10-21, 07:40 AM
هذا الحبيب « 192 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة الأحزاب ، المقدمة ))
______
قلنا من قبل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام بطرد يهود بني النضير من المدينة بعد محاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أشار إليهم كبيرهم {{ حيي بن أخطب }} أن يلقوا عليه حجرة كبيرة من على سطح داره ، اتجه يهود بني النضير بعد طردهم إلى الشام ، وذهب البعض الآخر ومنهم حيي بن أخطب و بعض زعماء النضير إلى {{ خيبر }} وهي مدينة يهودية تبعد عن المدينة {{ ١٨٠ كم }} ، وأصبحت خيبر بعد انتقال بني النضير إليها هي أكبر تجمع لليهود في الجزيرة .

ظل اليهود في خيبر يراقبون الصراع بين المسلمين في المدينة من جهة، وقريش وغيرهم من المشركين من جهة أخرى، وكانت قلوبهم تمتلئ غيظاً وحقداً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم بسبب تزايد عددهم وقوتهم ، خاصة بعد دخول بني المصطلق جميعاً في الإسلام وسيطرة المسلمين على طرق التجارة بشكل كبير . فقرر هؤلاء الخبيثون - يهود خيبر - أن يجمعوا كل القبائل العربية في جيش ضخم يتوجه إلى المدينة ، ويوجه ضربة للمسلمين تكون ضربة قاضية وقاتلة لا حياة بعدها‏.

فخرج وفد منهم إلى قريش برئاسة حيي بن أخطب ، وتحدثوا مع أبي سفيان و بعض قادة قريش ، وأخذوا يحرضونهم على غزو المدينة ، ويذكرونهم بقتلى بدر ، و امتداد قوة المسلمين ،وأنهم ربما يغزون مكة في كل لحظة !! فقالوا له : ماذا ترى ؟ قال : أرى أن نكون نحن وأنتم يداً واحدة على محمد ، فنحزب الأحزاب ، ونباغته في مدينته ونقتله ، و نقتل أصحابه و نقضي على دينه .

فقال له أبو سفيان : يا حيي ، أنتم أهل كتاب سماوي كما يزعم محمد ،
أناشدك الله الذي تعبد ، والكتاب المقدس الذي تقرأ ،أديننا خيرٌ أم دينُ محمد ؟؟ فأقسم حيي بالله و بالكتاب المقدس أن دينكم خير من الدين الذي جاء به محمد ، فنزل قوله تعالى يفضحه : {{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً *أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا }} . اطمأنت قريش لكلام حيي بن أخطب ، فوافقوه على غزو المدينة ، و إنقاذ سمعة وهيبة و تجارة قريش و القبائل حولها .

ثم توجه حيي بن أخطب ومن معه أيضا إلى قبائل {{ غطفان }} وهي من أكبر القبائل العربية، ودعوهم إلى حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مقابل أن يعطوهم {{ نصف ثمار خيبر لمدة عامين }} ،

فاستجاب لهم عدد كبير من قبائل غطفان ، وكان قائد غطفان {{ عيينة بن حصن الفزاري }} قد عقد صلحا مع المسلمين بعد غزوة بني المصطلق حفاظا على قومه ، فأعطاه النبي أرضاً ، وقد روي أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال في حقّه :

(( إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ ))
[[ كم من ناس بينا هالأيام يقول عنه الناس : الله يكفينا شره . يتجنبه الناس من شره . دير بالك هذا واصل بيضيعك ، هؤلاء شر الناس .كم من موظف شركة يتقي الناس شره لأنه يضرب أسفين لزملائه بالعمل ، هؤلاء شر الناس . كم من العائلات فيها امرأة تفتعل المشاكل في العيلة الواحدة ، ما تسكت لا على كبيرة ولا على صغيرة ، والكل ببعد عنها اتقاء شرها ، هؤلاء جميعا هم شر الناس يوم القيامة ]] .

فانضم معهم عيينة بن حصن مع أنه كان قد عقد صلحا مع المسلمين !! وطاف أيضا حيي بن أخطب ومن معه على كل قبائل العرب الكبيرة ، فاستجاب لهم البعض ، ولم يستجب البعض الآخر . إذن قام يهود خيبر بمهمة تحريض وتجميع القبائل لغزو المسلمين في المدينة ،

(( وهذا هو الدور الذي يقوم به إخوة القردة والخنازير في عصرنا الحالي لتدمير المسلمين في كل مكان )) .

وهكذا خرجت قريش وحلفاؤها من غطفان و باقي القبائل في جيش كبير لغزو المسلمين في المدينة والقضاء على الإسلام نهائيا ، [[ وقد وصل عددهم إلى عشرة آلاف مقاتل ]] ، وكانوا بقيادة أبي سفيان بن حرب ، وهذا العدد الضخم هو أكبر جيش شهدته الجزيرة منذ جيش أبرهة في عام الفيل . بينما عدد المسلمين الذين ثبتوا مع النبي من غير المنافقين و المدسوسين قد يصل إلى ألفي مقاتل فقط .
وصل خبر الأحزاب المرعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجمع أصحابه وأطلعهم على الأمر ، فقال : أشيروا علي ؟ فقالوا : الأمر اليوم لله ورسوله . قال : أرى أن نتحصن في المدينة . فامتثل الصحابة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

لماذا كان التحصن في المدينة ؟ [[ بسبب طبيعتها الجغرافية ، فهي تقع بين حرّتين من الصخور السوداء نتيجة الحمم البركانية القديمة في الجهة الشرقية و الغربية ، أمّا الجهة الجنوبية ففيها مساكن بني قريظة ، وهناك عهد بينهم و بين المسلمين في الدفاع عن المدينة إذا تعرّضت للخطر، ولا يسمحون لأحد بمهاجمتهم من تلك المنطقة ، ويبقى منفذ واحد إلى المدينة وهو الجهة الشمالية ]] .

فما هي خطة الدفاع عن شمال المدينة ؟
يتبع . . .
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
_______

عطاء دائم
03-10-21, 07:42 AM
هذا الحبيب « 193 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة الأحزاب ، حفر الخندق ))
______
كان قرار النبي – صلى الله عليه وسلم – هو ( التحصّن في المدينة ) ، وهنا تحدث الصحابي {{ سلمان الفارسي }} رضي الله عنه وأرضاه، وهو من فارس ؛ أي ما يسمى اليوم [[ إيران ]] ،

وله قصة طويلة في البحث عن الإسلام، حتى انتهى إلى المدينة قبل هجرة، ثم أسلم بعد الهجرة مباشرة ، ولكنه كان عبدا عند رجل من اليهود، و أعتق قبل غزوة الأحزاب ، وكان معروفا بحكمته و ذكائه . قال سلمان : " يا رسول الله ، كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا "، [[ أي من مكايد الفرس بالحرب إذا خافوا عدوا حفروا خندقا ]] .

فكان اقتراح سلمان الفارسي هو حفر خندق من جهة شمال المدينة ، وهي مسافة تبلغ حوالي ٦ كم ، فسُر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الفكرة واستحسنها هو والصحابة ، وقرروا تنفيذ هذه الفكرة على الفور ، وكان ذلك في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة النبوية .

أخذ النبي - عليه الصلاة و السلام - برأي سلمان الفارسي - رضي الله عنه - وأمر بالبدء في حفر الخندق فورا – وبناء الخندق من الأخذ بالأسباب – [[ وكان طوله حوالي 6 كم ، و عرضه حوالي 8 متر و عمقه حوالي 4 متر]] وهكذا يصعب على الأعداء العبور، وسيتعرضون للخطر في حال حاولوا ذلك ، و مما يدل على عظم و اتساع الخندق أن خيل المشركين لم تستطع اقتحامه، وقد أخذ المشركون يدورون حوله، يتحسسون نقطة ضعيفة لينحدروا منها، لكنهم لم يجدوا .

و وزع النبي - صلى الله عليه وسلم - العمل على أصحابه ، فجعل من الصحابة مجموعات ، كل مجموعة لها مسافة معينة لحفرها ، وكان العمل صعباً جداً وشاقاً ؛ فالمشروع ضخم جداً ، ووقت اتمام المشروع ضيق ،

فكان الصحابة يعملون أكثر من ثلثي اليوم ، ثم يعودون لبيوتهم في الليل ، ولا يُسمح لأحد بالانصراف إلا بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كذلك فإن أدوات الحفر لم تكن تكفي كل هذا العدد، وكانوا يستخدمون أحيانا أدوات يصعب الحفر بها . وكان الصحابة يحفرون وينقلون التراب على ظهورهم، وكان البرد قارصاً، وكانت المدينة تعاني من نقص شديد في المواد الغذائية، فأصابهم الجوع .

وكان يسيطر عليهم أيضا الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة قبل إنجاز العمل، ومع كل هذه الصعوبات استطاع المسلمون إنجاز العمل في نحو ستة أيام !!! وقد شاركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحفر وحمل التراب ونقله، ترغيباً لهم في الأجر وتنشيطاً لهم .
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :

(( رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره )) . ويقول أبو بكر - رضي الله عنه – بعد أن رأى نبينا وقد اتكأ إلى صخرة عندما أعياه التعب : " يا عمر دونك ، نقف عند رأس رسول الله نصد الناس عنه لعله يأخذ قسطاً من الراحة ، فلما أفاق قال : ما هذا ؟؟ فقال أبو بكر : أغفيت يا رسول الله قليلاً .قال : هلاَّ أفزعتموني؟ [[ يعني ليش ما صحيتوني ]] ، إنما أنا واحد منكم " .

هكذا يملك القائد قلوب رعيّته ، صلى الله عليك و سلّم يا سيدي يا رسول الله .

يتبع . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-11-21, 08:18 AM
هذا الحبيب « 194 »
السيرة النبوية العطرة (( أحداث وقعت عند حفر الخندق ج1))
______
من الأحداث التي وقعت عند حفر الخندق ،البشارات التي أخبر عنها – صلى الله عليه وسلم – عند مشاركته للصحابة في حفر الخندق ، فقد جاء في كتب السيرة أنّه أثناء حفر الخندق شكا الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – صخرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – وأخذ الفأس وقال:

( بسم الله ، فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله ، وضرب ثانيةً فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أًعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة كسرت بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا ) .

وقد تحققت هذه البشارات التي أخبرتنا عن اتساع الفتوحات الإسلامية على يد المسلمين في عصور الخلافة، رغم أن هذه البشارات قالها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وقت كان المسلمون فيه محاصرين في المدينة، يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد الشديد.. وذلك من معجزاته ودلائل نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وبإذن الله ستتحقق نبوءته – عليه الصلاة و السلام – و نُقاتل اليهود وننتصر عليهم ، ونُحرّر المسجد الأقصى ؛ فاستعدوا لهذا اليوم .

وكان – صلى الله عليه وسلم - أَعْظَمَ الْبَشَرِ بَرَكَةً، فَكَانَتِ الْبَرَكَةُ فِيهِ وَمَعَه وَعِنْدَه ، ومن ذلك أنّ الناس عانوا من الجوع أثناء حفر الخندق ، فالفصل شتاء ، والنخل لم يثمر بعد ، وإذا به – صلى الله عليه وسلم - قد ربط على بطنه حجرا من شدة الجوع ؛

[[ لأن الإنسان إذا جاع لا يستطيع أن يسند ظهره تماماً من شدة الجوع، عشان هيك كانت العجوز تقول لابنها : كل لقمة عشان تسند ظهرك ، لأن البطن فاضي فالعمود الفقري ينحني ]] . فلماذا يربط الحجر على بطنه – عليه الصلاة و السلام – ما دام الله معه ويكفيه ؟؟ لإنه أسوة للفقراء والمساكين ولجميع المسلمين ، وهو بشر يشعر بشعورهم - صلى الله عليه وسلم - .

ويروي جابر بن عبد الله – ابن الصحابي عبد الله بن جبير – قائد الرماة الذي استشهد على جبل أحد ، يقول جابر –

كما جاء في صحيح مسلم - : لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ برَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ - خَمَصًا [ جوعا ] ، فَانْكَفَأْتُ إلى امْرَأَتِي، فَقُلتُ لَهَا: هلْ عِنْدَكِ شيءٌ؟ فإنِّي رَأَيْتُ برَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ - خَمَصًا شَدِيدًا، [ يعني كيف يجوع رسول الله وهو بيننا ؟؟ ] فأخْرَجَتْ لي جِرَابًا فيه صَاعٌ مِن شَعِيرٍ [ يعني يا دوب 2 كيلو ]، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ [ بُهَيمة : صغيرة في العمر ولحمها قليل ] ، قالَ:

فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ [ أي طحنت الشعير ] ، فَفَرَغَتْ إلى فَرَاغِي، فَقَطَّعْتُهَا في بُرْمَتِهَا [ ما نسميه اليوم طنجرة يضعوها على الحجارة ويوقدون تحتها الحطب ]، ثُمَّ وَلَّيْتُ إلى رَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ - فَقالَتْ: لا تَفْضَحْنِي برَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ - وَمَن معهُ، [ يعني لا تعزم إلا رسول الله واثنين أو ثلاثة معه بالكثير ، لا تحرجنا الأكل ما بيكفي ، ماعز صغيرة ما عليها لحم كثير ] .

قالَ : فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ [ يعني بيني و بينه ]، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا قدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ كانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ في نَفَرٍ معكَ، فَصَاحَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- وَقالَ: يا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إنَّ جَابِرًا قدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا [ طعاما كثيرا ] فَحَيَّ هَلًا بكُمْ، وَقالَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ -: لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حتَّى أَجِيءَ .

[ قال جابر: فدارت بي الأرض حيرةً ، وخجلاً ، فلا أستطيع أن أرد قول نبيّنا ، ولا أدري ما أقول للناس ؟ !! ] ، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ - يَقْدمُ النَّاسَ حتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقالَتْ: بكَ وَبِكَ [ يعني غير مرتاحة ، ماذا سيكفي هؤلاء ؟]، فَقُلتُ: قدْ فَعَلْتُ الذي قُلْتِ لِي.


فأخْرَجْتُ له عَجِينَتَنَا فنفث فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنَا فنفث فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قالَ: ادْعِ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ معكِ، وَاقْدَحِي مِن بُرْمَتِكُمْ [ اغرفي منها ] وَلَا تُنْزِلُوهَا [ يعني خلوها على الحطب ] ، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ باللَّهِ لأَكَلُوا حتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وإنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كما هي، وإنَّ عَجِينَتَنَا لَتُخْبَزُ كما هي " ( يعني الطعام كفّى الجميع و كأنه بقي كما هو ) .

ويروي جابر كما جاء في كتب السيرة أنّ رسول الله – صلى الله عليه و سلم – كان يساعدنا ، فيقطع من العجين ويسكب من المرق ويفت من اللحم حتى قال : هل بقي من أحد ؟؟ قلت : لا يا رسول الله ، انصرَفوا جميعاً . فجلس - صلى الله عليه وسلم - وأكل هو آخرهم . ثم التفت لزوجة جابر وقال لها : كُلي وأطعمي الناس .


اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إنِّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-11-21, 08:19 AM
هذا الحبيب « 195 »
السيرة النبوية العطرة (( أحداث وقعت عند حفر الخندق ج2))
______
عمل – صلى الله عليه وسلم – على تحفيز المسلمين و تنشيطهم لإنجاز حفر الخندق في أسرع وقت ممكن ، وروِي أنه خَرَجَ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - إلى الخَنْدَقِ، فَإِذَا المُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ في غَدَاةٍ بَارِدَةٍ ، فَلَمَّا رَأَى ما بهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالجُوعِ، قالَ: اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ، فَقالوا مُجِيبِينَ له: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا علَى الجِهَادِ ما بَقِينَا أَبَدَا.

فكان المؤمنون يعملون بجد ، وإذا اضطر أحدهم للذهاب استأذن من النبي – صلى الله عليه وسلم – [[ لأنهم على أمر جامع معه سواء أكان حربا أم عملا آخر ، وهذا هو الأدب الإسلامي ]] ، وبعد أن يقضي المؤمن أمره رجع إلى مكان عمله ، فإن وجد أحداً من الصحابة قد أخذ مكانه ؛ فإنه يعمل في مكان آخر، والنبي - صلى الله عليه وسلم – قائدهم في العمل ، ويشاركهم بكل ما أوتي من قوّة .

ولكن ليس كل الناس سواء !! فقد كان بين صفوفهم {{ منافقون }}، فكيف كانت صورتهم أثناء حفر الخندق ؟؟ كان في قلوبهم مرض ، فكانوا يتسللون هرباً من العمل ، ويتعلّلون بالأعذار الكاذبة محاولين بث الكسل و الإحباط في قلوب المسلمين بطريقتهم الخبيثة ، لكنّ القرآن دائما ما يكشف خبايا قلوبهم ، سواء أكان ذلك في الحرب أو غيرها ، قال تعالى :

(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) .

لواذا : [[ أي: يستترون فيلتجئون بغيرهم فيمضون واحدا بعد واحد، فهم دائما يتسلّلون من العمل ، ويأتون بحجج واهية لإثارة الفتنة و تكسير مجاذيف عمل المسلمين بكل الطرق ]] ، وفي عصرنا يقوم البعض منا بهذا الأسلوب في وظائفهم !! فيتهربون من وظائفهم خلال الدوام، ويأتون بأعذار كاذبة ، فيقعون في الحرام في رزقهم فاحذروا أن تتبعوا هذا الأسلوب !!

وعندما انتهى المسلمون من حفر الخندق ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : هل بقي من شيء ؟ قالوا : ثلمة هناك [[ اي مضيق فيه صخر ]] قال : ارفعوا الحجارة عندها واجعلوها ترساً ، واحرصوا على تلك الثغرة

[[ اي انتبهوا وشددوا الحراسة ]] فإني أرى عدوكم الليلة !! [[ أي الليلة متوقع وصولهم ]] وقام - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة يصلي في خيمته ويدعو الله ، ويتابع الحراسة فهو النبي القائد .


وصلت الأحزاب في تلك الليلة ، فلما رأوا الخندق ذُهلوا وقالوا : ما هذه المكيدة ؟؟ !! لم تكن العرب تعرفها !! فطافوا بالخندق ، يا للهول !! لا يمكن اقتحامه ؟؟ !!! أخذوا يفكرون ويتشاورون ؛ كيف السبيل إلى دخول المدينة ؟؟ وما دامت الجهات الثلاثة محصّنة ؛

فكيف يمكن اختراق الخندق ؟؟

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-13-21, 07:28 AM
هذا الحبيب « 196 »
السيرة النبوية العطرة (( محاولة اختراق الخندق ))
______

وصل جيش الأحزاب إلى المدينة المنورة ، وذهلوا عندما رآوا الخندق !! فكان طول الخندق حوالي {{ ٦ كم }} وعرضه حوالي {{ ٨ متر }} وعمقه حوالي {{ ٤ متر }} ، وقد وضع المسلمون مخلفات الحفر من تراب وحجارة وصخور ناحية المدينة ، فشكلت ساترا يمكن للمسلمين الاختباء خلفه ، ويمكنهم أيضا رمي جنود العدو بالسهام منه إذا حاولوا العبور أو حتى الاقتراب من الخندق . وشاهد المسلمون هذا الجيش الضخم من الأحزاب ، حوالي {{ عشرة آلاف مقاتل }}
وقالوا : صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما وعدهم الله و رسوله نصرا أو شهادة في سبيل الله ، فأنزل الله قوله تعالى :
{{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }} .

تمركز المسلمون خلف الخندق ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -أن تكون النساء والأطفال داخل الحصون ، وأخذ فرسان المشركين يدورون حول الخندق يحاولون أن يجدوا نقطة ضعف ينفذون منها إلى المدينة ، فأخذ المسلمون يرمونهم بالسهام حتى لا يقتربوا من الخندق فيحاولوا ردم جزء من الخندق يبنون طريقا عليه للعبور . كان المشركون مصرين على اقتحام الخندق، و في المقابل استبسل المسلمون لمنع المشركين من ذلك ، واستطاع رجال من فرسان المشركين ، اقتحام الخندق من أحد الأماكن الضيقة ، منهم عكرمة بن أبي جهل ، ورجل من ربيعة ، وعلى رأسهم {{ عمرو بن عبد ود }} .

عمرو بن عبد ود رجل مُسِنّ ، زاد على الثمانين من العمر ، ولكنه مضرب الأمثال في الشجاعة والبطولة في قريش ، شهد بدراً ، فأصابته الجراح ولكنه لم يمت، ولم يشهد أحُدا لأن جراحه في بدر ما زالت تؤلمه ، فحرّم على نفسه منذ يوم بدر الدهن [[ يعني لن يمس رأسه الزيت ]] حتى يأخذ بثأره من المسلمين ، فجاء اليوم مع الأحزاب و كان ثائر الرأس [[ يعني شعره منفوش منكوش منشف ]] .
ونادى عمرو بن عبد ود : من للمبارزة يا أصحاب محمد ؟؟ أين جنّتكم التي تزعمون أن من قُتل منكم دخلها ؟ وقال شعرا :

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز

فوثب له على الفور علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان عمره 23 عاما
واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذن له ، ثم انطلق إليه علي قائلا :

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
إنّي لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز

وقبل مبارزته خيّره - علي رضي الله عنه - بين الدخول في الإسلام أو العودة مع قومه إلى بلاده ، أو المبارزة . فقال عمرو : ما جئت إلا للمبارزة ، فمن أنت لتبارزني ؟ فأجابه علي – رضي الله عنه - : أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال عمرو: يا فتى ، إن أباك كان ودّاً لي [[ أي صديقي المقرب ]] وإني أكره أن أهرق دمك ، أو أقتل الرجل الكريم مثلك ، وإن من أعمامك من هو أسنّ منك فارجع من حيث أتيت ، وليبرز لي غيرك . فردَّ عليه - رضي الله عنه - وقال : أمّا أنا فإني أبغض الكفر فيك ، وإن أحب شيء إلى قلبي اليوم أن أهرق دمك !! فثار غضب عمرو ، و استلّ سيفه ، وأقبل بفرسه مسرعا ، فهوى بالسيف على علي – رضي الله عنه – فعلقت سيفه بترس علي ، فضربه علي – رضي الله عنه - ضربةً واحدة فإذا هو قتيل ، فعلا صوت نبينا و المسلمين بالتّكبير .

وتَذكر كتب السّيرة أن أخت عمرو بن عبد ود عندما بلغها مقتل أخيها قالت : من ذا الذي اجترأ عليه ؟ فقالوا ابن أبي طالب . فقالت : قتل أخي الأبطال ، وبارز الأقران ، وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه ، فلا بكاء بعد اليوم ، ثم أنشأت ترثيه :

لو كان قاتل عمـرو غيـر قاتلـه بكيته ما أقام الـروح في جسـدي
لكـن قـاتلـه من لا يُعـاب بـه وكان يُدعى قديمـاً بيضـة البلـد

بيضة البلد : كناية عن مدح علي ، حيث يُجمع الناس على رأيه ويقبلون قوله .
وعندما رأى النّفر الذين اقتحموا الخندق من المشركين ما حصل مع عمرو بن عبد ود ، أسرعوا بالفرار ، ومنهم عكرمة بن أبي جهل ، حيث ألقى السيف والرمح من يده لكي لا يعيقانه عن الهرب خلال الخندق ، ولحق الزبير بن العوام - رضي الله عنه - برجل عند حافة الخندق ، وعلاه بالسيف فقسمه نصفين .
ولما هرب عكرمة بن أبي جهل بهذا الشكل المخزي ، هجاه حسّان بن ثابت قائلا - والشعر كان له تأثير عليهم ربّما أكثر من السيف - :

فَرَّ وَأَلقى لَنا رُمحَهُ ... لَعَلَّكَ عِكرِمَ لَم تَفعَلِ
وَوَلَّيتَ تَعدو كَعَدوِ الظَليمِ ... ما إِن تَجورُ عَنِ المَعدِلِ
وَلَم تُلقِ ظَهرَكَ مُستَأنِساً ... كَأَنَّ قَفاكَ قَفا فُرعُلِ

يسخر من عكرمة أنه ألقى سلاحه و هرب مثل ذكر النعام ( الظليم ) وهدف عكرمة الرجوع إلى الأحزاب فقط و النجاة بروحه ، ومن خوفه لم ينظر إلى الخلف ، ويشبه في هروبه ب ( فرغل ) وهو ابن الضبع الصغير !!!!

وقد استمر التراشق بالنبال بين الطرفين حتى أن المسلمين لم يستطيعوا أداء صلاة العصر ، ولم تكن قد شُرعت صلاة الخوف بعد .

عَنْ عبدِ اللهِ بن مسعود، قالَ: حَبَسَ المُشْرِكُونَ رَسولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - عن صَلَاةِ العَصْرِ، حتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقالَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - : " شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى، صَلَاةِ العَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارًا " . رواه مسلم .

وبعد هذه الأحداث قال أبو سفيان : هذا يوم ليس لنا به نصيب .
يتبع . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-15-21, 08:46 AM
هذا الحبيب « 197 »
السيرة النبوية العطرة (( بنو قريظة ينقضون العهد ))
______
لم يستطع جيش الأحزاب اقتحام الخندق ، وقد حاصر الأحزاب المدينة المنورة قرابة العشرين يوما ، وهذه المدة كانت صعبة جدا على الأحزاب ، فقد جاؤوا إلى المدينة وهم غير مستعدين لفرض الحصار لمدة طويلة ، وبالتالي فليس لديهم مؤن تكفي جيشهم كل تلك المدة - ظنوا أنها جولة يوم أو يومين وينتهي الأمر – وكان الطقس بارداً جداً ، ولا يوجد ربيع ترعاه الإبل ولا الخيل، فلما رأى الأحزاب الخندق خاب ظنهم، واحتاروا في أمرهم فلا مجال لاقتحام الخندق .

لكنّ الداهية {{ حيي بن أخطب }} سيد يهود بني النضير اجتمع مع زعماء الأحزاب ، وطمأنهم قائلا : سأجعل الخندق مقبرة للمسلمين بعد أن كان حصناً لهم !! فبماذا فكّر ؟؟ . . . بالضبط ؛ ذهب إلى إخوته المغضوب عليهم - يهود بني قريظة – ليقنعهم بنقض عهدهم مع المسلمين ، وأن يفتحوا أبواب حصونهم للأحزاب ، واليهود دائما هدفهم هو القضاء على الإسلام و المسلمين ، ونجح حيي في ذلك ، و نقضت بنو قريظة عهدها مع المسلمين . فما الذي حدث ؟


خرج عدو الله حيي بن أخطب النضري ، حتى أتى [[ كعب بن أسد القرظي ]] صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد عاهد محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالدفاع عن المدينة إن تعرضت لهجوم ؛ فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه [[ ما رضي يفتح الو الباب ]] ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : ويحك يا كعب افتح لي ؛ قال : ويحك يا حيي : إنك امرؤ مشؤوم [[ يعني إنت منحوس ، ما بيجي من وراك غيرالمشاكل ، وخليت قومك ينطردوا من المدينة ]]، وإني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا . قال ويحك !! افتح لي أكلمك . قال : ما أنا بفاعل .

قال حيي : والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها [[ أسلوب خبيث ، يعني إنت يا كعب مش راضي تفتح إلي الباب خايف آكل من طعام الجريش اللي عامله ]] ؛ فأُحفِظ الرجل [[ انحرج كعب ]]، ففتح له ، فقال حيي : ويحك يا كعب !! جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش وغطفان وقبائل أخرى على قادتها وسادتها ، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه .[[ يعني لا تخاف إحنا قوة كبيرة سنقضي على محمد و جيشه ]] . فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر ، وبجهام ، قد هراق ماءه ، فهو يرعد ويبرق ، ليس فيه شيء ،

[[ يعني جيشك ما في منو فايدة مثل الغيم اللي انتهى منه الماء ويبرق ع الفاضي ]] ، ويحك يا حيي !! دعني وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء . [[ يعني ارجع لن أخون العهد مع محمد مهما حاولت معي ]] . فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب ، حتى سمح له .

[[ الذروة والغارب ، هو مثل عند العرب إذا تنح الخيل أو الجمل و وقف لا يريد المشي ؛ فيأتي صاحبه ويضع يده على عنقه من الخلف ويمسح شعره إلى سنامه بلطف " يعني بلغتنا اليوم يعمله مساج ما بين رقبته والسنام " يعني ما زال حيي يتكلم مع كعب ويضحك عليه بالكلام المعسول ،حتى أطاعه كعب]] ، على أن حيي أعطى كعبا عهدا من الله وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمدا ، سأدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك . [[ يعني إذا خسرنا المعركة لن أتخلى عنك ]] .

فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه عادة يهود : دائما يخونون و ينقضون العهد . {{ يهود وعهود ضدان لا يجتمعان أبداً أبداً ، منذ أن خلقهم الله حتى تقوم الساعة، ولو تَركت الحمير نهيقها، والأفاعي لدغها، ترَك اليهود نقضهم للعهود}} .

فوقف حبر بني قريظة {{ ابن سعدى }} يعظُهم ويذكّرهم : هذا نبي الله ، إن لم تنصروه فدعوه ، ولا تنقضوا عهدكم معه فيصيبكم ما أصاب بني النضير و بني قينقاع ، ولكنهم لم يسمعوا له ، وتحالفوا مع الأحزاب .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-15-21, 08:48 AM
هذا الحبيب « 198 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة الأحزاب - زلزلة المؤمنين ))
______
وصل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - خبر غدر بني قريظة ونقض عهدها معه ، فأراد أن يتأكد من ذلك ، فأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس ، و سعد بن عبادة سيد الخزرج و عبدالله بن رواحة – رضي الله عنهم جميعا - ، وكان سعد بن معاذ حليف بني قريظة قبل الإسلام ، وقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم- :انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا ؛


أحقاً ما بلغنا عنهم أم أنها شائعة ؟؟ إن كانت شائعة فاجهروا بها على الناس حتى يطمئنوا [[ لأن الخبر تسرب بين صفوف المسلمين ]] ، وإن كان حقا قد نقضوا العهد {{ فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس }} ، ما أجمل هذه البلاغة من الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -!!

[[ يعني احكولي كلمة أعرفها أنا وأفهمها من غير أن يعرفها الناس فتنكسر عزيمتهم ]] صلى الله عليك وسلم يا حبيبي يا رسول الله يا إمام المرسلين ، نِعمَ المدرسة أنت ؛ أه لو أن أمتك تستفيق وترجع لسُنّتك !!

انطلق سعد ومن معه حتى أتوا يهود بني قريظة ، فأغلقوا في وجوههم أبواب حصونهم ، فنادى سعد بن معاذ من وراء الحصون : يا كعب ، بلغنا عنكم أنكم نقضتم العهد مع محمد !! فأطلّ كعب قائلا :

لا عهد بيننا و بين محمد ، ونَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: مَنْ رَسُولُ اللَّهِ؟ لَا عَهْدَ بَيْننَا وَبَين مُحَمَّد. فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَشَاتَمُوهُ، ثُمَّ نَادَاهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَا خَائِفٌ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ بَنِي النَّضِيرِ أَوْ أَمَرَّ مِنْهُ. ثُمَّ عادوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَةُ.

[[ يعني غدر كغدر عضل والقارة، وهي القبائل التى غدرت بالمسلمين عند بئر الرجيع ]] ،

فتأكّد رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بني قريضة نقضت عهدها، وقَالَ :
" اللَّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ " .

لماذا قال لهم أبشروا ، مع أنهم أصبحوا في مأزق كبير بعد غدر يهود بني قريظة ؟؟ لأننا كبشر كنا معتمدين على حماية ظهرنا من قبل يهود ، أما الآن فقد قطعنا الأمل منهم ، وأحيط بالصحابة من كل جانب ، إذن إلى أي جهة سيتوجهون بقلوبهم بصدق ؟؟ . . . إلى {{ الله جلّ جلاله }} فهو الذي يقول جل في علاه : {{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }} ، وهذا أيضا درس لنا اليوم :

[ لا تصدّقوا أيها المسلمون أنّ أعداء الله يحمون ظهوركم ] . ويقول تعالى أيضا واصفاً الرسل : {{ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا }} .عندما نلجأ إلى الله بصدق سيأتي نصره لا محالة . وكم نحتاج في أيامنا هذه أن نتوجه بقلوبنا إلى الله، توجه حقيقي صادق ، و نأخذ بالأسباب دون أن نعتمد عليها ؛ لعلّ الله يرفع عنّا الويلات و المصائب .

ولكن وبالرغم من محاولات الرسول - صلى الله عليه وسلم – في عدم انتشار هذا الخبر بين المسلمين ، إلا أنه انتشر ، وكان من أشد الابتلاءات التي مر بها المسلمون ، فالخيانة أمر عظيم ، وقد يهلك الجميع من ورائها ، فقد أصبح الأحزاب جاهزين للدخول من فوق المسلمين جهة بني قريظة ، ومن أسفل المسلمين جهة الخندق في حال اختراقه ،

فأصيب المسلمون بالخوف الشديد ، فعيونهم كأنها فقدت الرؤية المتوازنة، و أصبحت حائرة لا تستقر على حال، ولا تتركز في اتجاه ، وقلوبهم بلغت الحناجر من اهتزازها واضطرابها ، حتى يشعر الواحد منهم أنها انخلعت من موقعها في الصدر لتبلغ الحلقوم من شدّة الخوف ، تماماً كما هو حال المحتضر عندما يزيغ بصره وتبلغ روحه الحلقوم !!

قال تعالى : [[ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ]] .
هذه الصدمة القوية، وهذا الالتفاف المفاجىء عليهم من جميع الجهات، لم يخطر لهم على بالٍ، ولم يسبق لهم أن عاشوه في تجربةٍ سابقةٍ، ولذلك عاشوا الزلزال النفسي الذي فقدوا معه الاستقرار، فأصبحوا مضطربين ، وفي هذه المرحلة لا يثبت إلا المؤمن صادق الإيمان،

أما المنافق فلابد أنه سيقع ويسقط .
[[ وكحالنا اليوم تماما ونحن نعيش الفتن ، فكم من داعية أو كاتب أو إعلامي أو مشهور أو سياسي ... تزلزل وسقط القناع عنه فظهر نفاقه !! ]] . إنّ مرحلة الفتنة والابتلاء الشديد والزلزلة هي من سنن الله تعالى في كونه، حتى يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق ، و إذا اجتاز المسلمون هذه المرحلة فإنّ النصر قادم لا محالة .


قال تعالى :
{{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }} .

أمّا عن حال المنافقين في المدينة عندما علموا بنقض يهود بني قريظة للعهد ، فهم يزيدون الطين بِلّة كعادتهم ، لكنّهم الآن لم يستطيعوا تصنّع الإيمان ، فقد شعروا أن الموت قادم لا محالة ، و أن الأحزاب سيقضون على المسلمين ، فكانوا يقولون : [[ قبل أيام ونحن نحفر الخندق كان محمد يعِدُنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط !! ]] .
قال تعالى : {{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا }} .

وبدأ المنافقون في التسرب والهرب من صفوف معسكر المسلمين ، مدّعين أنّهم يريدون حماية نسائهم و أطفالهم ،حتى أنّهم قالوا كلمة ( يثرب ) بدل كلمة ( المدينة ) !! فقد نسُوا أنهم منافقون !! وظهرت طباعهم الحقيقية ، فكان القرآن لهم بالمرصاد ، ففضح نواياهم : {{ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا }}.

وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - مجموعات من الصحابة يطوفون حول بيوت المدينة ليلاً ، و يجهرون بالتكبير، لتعلم يهود بني قريظة أن هناك رجال يحرسون بيوت المسلمين ، فهم لا يعرفون في أي وقت اتفق يهود بني قريظة مع الأحزاب على نقطة الصفر ليفتحوا لهم أبواب حصونهم ، وتوجه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى الله بالدعاء لكشف هذه الغمّة .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-16-21, 07:41 AM
هذا الحبيب « 199 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة الأحزاب – أحداث بعد نقض قريظة العهد ))
______
بعد أن نقض بنو قريظة عهدهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم – أصبح وضع المسلمين حرجا للغاية ، وفي هذا الوقت العصيب حدث أمر غير متوقع ، وفيه بشارة للمسلمين ، ألا وهو إسلام [[ نعيم بن مسعود ]] من زعماء قبائل غطفان التي تقف الآن عند الخندق تحاول اقتحام المدينة مع حلفائها من قريش وباقي القبائل .
فقد جاء في كتب السيرة أنّ نعيم بن مسعود تسلل من معسكر قومه تحت جنح الظلام ، ومضى يحث الخطى إلى رسول الله، فأستأذن بالدخول ، [[ ظنوه رسولا جاء من طرف غطفان ، والرسل معروفة عند العرب لا تُقتل ]] ، فلما رآه الرسول ماثلاً أمامه، قال له: ما الذي جاء بك ؟؟ قال : جئت لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبد الله ورسوله، وأنّ ما جئت به الحق ،

و إنّ قومي غطفان لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت [[ يعني إذا تريد اعمل شي ينفع المسلمين ، أنا مؤمن بينهم وما حدا عارف عني ]] . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل واحد [[ يعني انضمامك إلى الجيش لن يكون فيه فارق كبير لأنك شخص واحد ]] ، ولكن خذّل عنا ما استطعت [[ يعني اعملك شغلة توقع فتنة بين الأحزاب ]] .

وبالفعل قام نعيم بن مسعود - رضي الله عنه وأرضاه - بخدعة عجيبة ، وهو صديق حميم لسيد بني قريظة - كعب - وصديق أيضا لحيي بن أخطب ، فقال لهما : يا كعب ويا حيي قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، إني ناصح لكم ؛ فإن قريشاً قد ملت المقام [[ يعني صار الهم ١٥ يوم ملوا وزهقوا ما بدهم يحاربوا ]] ، وإن هذا الرجل [[ قصده النبي ]] ،لا يؤمن جانبه !!

هل نسيتم ما صنع بإخوانكم من بني النضير وقينقاع ؟؟ وقريش ليسوا مثلكم !! هي سترجع إلى بلدها ، و أنتم أين ستذهبون ؟ قالوا : قد فتحت أذهاننا ، وما العمل يا نعيم ؟!!! قال : لا تقاتلوا معهم حتى يُعطوكم رهائن من سادة قريش و غطفان ، فلا يستطيع القوم أن يرجعوا إلى بلادهم وسادتهم وأشرافهم في حصنكم . قالوا : لقد أشرت بالرأي . قال : ولكن اكتموا عني . قالوا : نفعل .


ثم ذهب نعيم إلى جيش الأحزاب في نفس الليلة ، واجتمع مع سادة قريش وقال : يا أبا سفيان ، تعلمون ودي لكم ونُصحي لكم ، أحدثكم حديثا وتكتموا عني . قالوا : نفعل ، ماذا عندك يا نعيم ؟!!

قال : كنت عند بني قريظة ، [[ طبعا هم يعلمون أن نعيم صديقا لهم ]] وسمعت منهم حديثا ما سرني !! سمعت أن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهدهم مع محمد وأصحابه ، وإنهم قد راسلوه أن يأخذوا منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم ، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم . قالوا :

أجل قد أشرت بالرأي . ثم ذهب إلى غطفان ، وقال لهم ما قاله لقريش . وهكذا استطاع نعيم أن يدب الخلاف بين جيش الأحزاب ما أمكن ، فكان كل فريق منهم على حذر من الآخر وتوسوست صدورهم ، وشك كل واحد في الآخر، وتوجّس كل منهم خيفة من صاحبه ، يعني [[ العيار اللي ما بصيب بدوش !! ]] .

وفي إطار فك التحالف بين الأحزاب ، جاء في كتب السيرة [[ أنّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فكّر أن يعرض على قبائل "غطفان" ثلث ثمار المدينة على أن ينسحبوا من القتال ]] ،

وكان واثقا أنّها ستوافق، لأن "غطفان" لم يكن بينها وبين المسلمين عداءًا شديدًا، والذي شجعها على الخروج لغزو المسلمين هو أن يهود "خيبر" اتفقوا معهم على أن يعطوهم نصف ثمار خيبر لمدة عامين ، فإذا انسحبوا سيقل جيش الأحزاب إلى النصف ، وهنا تكون الفرصة أكبر لهزيمة الأحزاب ، وكان غرض النبي أيضا من هذا الرأي أن يتأكد أكثر من عزم الأنصار على مواجهة جيش الأحزاب بعد أن نقض بنو قريضة العهد ، حيث أن المدينة كلها رجالا و نساء و أطفالا سيكونون معرضين للخطر من هذا الجيش المتخم بالعُدّة و العدد .

فاستشار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [[ سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ]] ، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! هل هذا أمر تحبه فنصنعه ؟ أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيء تصنعه لنا ؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم .

فقال سعد بن معاذ:

[[ يا رسول الله! قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها - أي: من المدينة المنورة - ثمرة واحدة إلا قرىً أو بيعاً - أي: ضيافة أو بيعاً -، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا بهذا من حاجة ]] .

و وافقه سعد بن عبادة القول ، ففرح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ومرة ثانية وعاشرة ينزل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأي يخالف رأيه، [[ فرسولنا هو أكبر قائد للشورى في الإسلام ]] .

فمعنى قول سعد أنه قد يتفكك التحالف، وتنهزم قريش واليهود، ولكن في نفس الوقت سيكون لهذا الرأي تداعيات سلبية وخطيرة جدًا في المستقبل، حيث ستهتز صورة المسلمين أمام الجزيرة كلها، وسيفتح باب الابتزاز المستمر للمدينة، فكلما أرادوا مالا جاؤوا وحاصروا المدينة، وستعتبر قبائل غطفان نفسها أنها انتصرت علينا .

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – يجتمع بالصحابة ويصلي بهم ، ويطمئنهم ، ويحثهم على الجهاد ؛ " فالجنة تحت ظلال السيوف " ، ويدعوهم إلى عدم تمني لقاء العدو ، فإذا حدث عليكم الصبر عند ملاقاته ، وعلّمهم أن يدعوا الله قائلين : " اللهم استر عوراتنا و آمن روعاتنا "

. وجاء أيضا في صحيح مسلم قوله : " إنَّ بالمَدِينَةِ جِنًّا قدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ منهمْ شيئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فإنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذلكَ، فَاقْتُلُوهُ، فإنَّما هو شيطَانٌ " .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-16-21, 07:44 AM
هذا الحبيب « 200 »
السيرة النبوية العطرة (( انسحاب الأحزاب ، وتحقق النصر ))
______
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا " .
نحن الآن في آخر غزوة الخندق ، و التي دامت قرابة عشرين يوما ، فقبل انسحاب الأحزاب بيوم اشتدت قريش على خيمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبالها تحاول قتله – فهو هدفهم الأكبر - فأحاط الصحابة بخيمته - صلى الله عليه وسلم - إحاطة السوار بالمعصم ، يصدون السهام والنبال عن خيمته .

تروي عائشة – رضي الله عنها – وتقول : خرجتُ يومَ الخندقِ أقفُو آثارَ الناسِ ، فالتفتّ فإذا أنا بسعدِ بنِ معاذٍ ومعه ابنُ أخيه الحارثُ بنُ أوسٍ يحمل مِجنَّه قالت : فجلستُ إلى الأرضِ فمرَّ سعدٌ وعليه دِرعٌ من حديدٍ قد خرجتْ منها أطرافُه [[ يعني غيرساترة بشكل جيد ]] فأنا أتخوَّفُ على أطرافِ سعدٍ قالت : فمرَّ وهو يرتجزُ ويقول :

لَيْتَ قَلِيلًا يُدْرِكِ الْهَيْجَا حمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ
قالت : فإذا برجل مشرك يرمي سعدًا فأصاب أكحُلَه ، فقال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحبّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك، وكذبوه، وأخرجوه . اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي الشهادة، ولا تُمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة. فلم يمت - رضي الله عنه – واستجاب الله دعاءه ، وقد حكم في بني قريظة حكمه العادل كما سنرى .

[[ سعد بن معاذ – زعيم الأوس - قيمة كبيرة جدًّا في الإسلام، شاب قائد يصاب إصابة قاتلة وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ماذا يدعو و يتمنّى ؟ يرجو الله ألا يموت حتى يجهز على قريش، وأن لا تفوته فرصة الشهادة في سبيل الله !! حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية ، وهذه رسالة إلى شبابنا اليوم أن يقتدوا به ، فهم قوة الوطن ]] .


مضى النهار وانصرف المشركون عن خيمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام النبي – عليه الصلاة و السلام – يصلي في تلك الليلة، والتي كانت شديدة البرد والظلمة ، ويدعو الله : ( اللَّهُمَّ ، مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ) .

وبعد هذا الكرب العظيم الذي أصاب المسلمون ، وبعد هذا الصبر و الابتلاء للمؤمنين ، جاء موعد الفرج ، جاء موعد النصر ، جاء موعد جنود الله ، فبعَثَ اللهُ - عزَّ وجلَّ – رِيحَا قوية على الأحزاب ؛ وقد أزالَتْ خِيامَهم ، وأطْفأَتْ نِيرانَهم ، وقلبت قدورهم ، وأرسل الملائكة تتبع أدبار الخيل تضربها فتسرع ، حتى قيل إنهم قطعوا في يوم واحد مسافة ثلاثة أيام من شدة الخوف .

و يروي لنا حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه - ما حصل تلك الليلة ويقول :
" لقَدْ رَأَيْتنَا مع رَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - لَيْلَةَ الأحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ[ برد ] ، فَقالَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- : أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ [ يعني واحد يطلع على الأحزاب و يأتيني بمعلومات عنهم وله الجنة ] ،

فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ،

[ فالصحابة يعلمون أسلوب النبي ، فهو يوكل بفراسته لكل مهمة من هو الأنسب لها كما قلنا سابقا ، ويبدو أنه يريد شخصا معينا لهذه المهمة] .

فَقالَ: قُمْ يا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بخَبَرِ القَوْمِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إذْ دَعَانِي باسْمِي أَنْ أَقُومَ، قالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بخَبَرِ القَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ [ لا تفزعهم وتقتل منهم أحدا فيثوروا ويتحركوا على المسلمين ] . فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِن عِندِهِ جَعَلْتُ كَأنَّما أَمْشِي في حَمَّامٍ حتَّى أَتَيْتُهُمْ، [ الحمام هو الماءِ الحارِّ، والمعنى:

أنَّه لم يَجدِ البَرْدَ الَّذي يجدُه النَّاسُ ولم يجد مِن تلكَ الرِّيحِ الشَّديدةِ شَيئًا، بل عَافاهُ اللهُ من ذلك بِبركةِ إِجابتِه لِلنَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وتضحيته وذَهابِه فيما وجَّهَه له، ودُعاء النبي له ] قال : فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بالنَّارِ [ يُدْفِئُ ظَهْرَه بِالنَّارِ ويُقرِّبُه منها ] ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا في كَبِدِ القَوْسِ فأرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلمَ -:

وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، ولو رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي في مِثْلِ الحَمَّامِ ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فأخْبَرْتُهُ بخَبَرِ القَوْمِ :[ إنها إرادة الله :

ريح شديدة تقلب قدورهم و تقتلع خيامهم ، و المسلمون لا يشعرون بها ] وقُرِرْتُ [ أصبت بقشعريرة من البرد ] ، فألْبَسَنِي رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - مِن فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عليه يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قالَ: قُمْ يا نَوْمَانُ. [ يا كثير النوم ] .

ويُروى أنّ أبا سفيان قال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، [[ أي هذا المكان لا يصلح أن نقيم فيه ، و رجلينا تجمّدن من البرد ]] ،

وأخلفتنا بنو قريظة، وأخشى أن تتفق قريظة ومحمد الليلة عليكم . فارتحلوا فإني مرتحل !! فقام وجلس على بعيره دون أن يحل عقاله [[ يعني من كثر ماهو مستعجل ، بدو يركب البعير وهو مربوطه ايده ]] !! فوقف بعيره على ثلاثة أرجل ، وقفز به البعير قفزتين ، فضحك القوم .

إذن انسحبت قريش ، وانسحبت غطفان ، وانسحبت باقي القبائل ، وشاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الأحزاب وهم ينسحبون ، {{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }} .

حققت غزوة الأحزاب فوائد عظيمة للمسلمين ، فقد تأكد لجميع القبائل أن المسلمين هم القوة الأولى في شبه الجزيرة ، فمع تجمع كل القبائل و تحالفها لم تستطع هزيمة المسلمين ، كذلك بيّنت الغزوة صدق المؤمنين و تضحياتهم في سبيل الإسلام ، و كشفت مرة أخرى خبث المنافقين و اليهود .


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-17-21, 08:46 AM
هذا الحبيب « 201 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة بني قريظة ج1))
______
رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى داره ، ونزلت النساء والصغار والشيوخ من الحصون ، فما إن حان وقت الظهر حتى كان الجميع في منازلهم ، تقول السيدة عائشة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها : فإذا مناد ينادي من خلف الحجرة ؛ يا رسول الله !!! أوضعت السلاح ؟؟

والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم . فلما رجع - صلى الله عليه وسلم - قال لي: هذا أخي جبريل . ثم لبس - صلى الله عليه وسلم - لباس الحرب ، وأمر بلالا أن يُؤذن للحرب ؛ فاجتمع الصحابة ، وأمرهم النبي أن يتوجهوا فوراً لحرب {{ يهود بني قريظة }} ، وأمر بلالا أن ينادي بالمسلمين : [[ لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة ]] . وجعل على إدارة شؤون المدينة {{ عبد الله بن أم مكتوم }} ، أتذكرون هذا الاسم في بداية السيرة ؟؟ الرجل الأعمى ، الذي نزل فيه قول الله تعالى " عبس وتولى أن جاءه الأعمى " .


وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية {{ لعلي بن أبي طالب }} - رضي الله عنه وأرضاه - و اتجه المسلمون إلى بني قريظة التي تبعد عن المدينة حوالي {{ ١٠ كم }} ، وأدرك البعض صلاة العصر في الطريق ؛ ولكنهم لم يصلّوا العصر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال :

{{ لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة }} ، وكادت الشمس أن تغيب وتفوت هؤلاء صلاة العصر في وقتها ، فاختلف الصحابة في الأمر؛ هل يصلون العصر قبل أن يخرج وقتها ؟؟

أم يؤخرونها عن وقتها حتى يَصِلوا إلى بني قريظة ؟ فصلّى البعض العصر وقالوا :

إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقصد النهي عن صلاة العصر إلا في بني قريظة ، وإنما كان يقصد أن يسرع الصحابة بالخروج إلى بني قريظة ، بينما لم يصلّ البعض الآخر العصر ، وتمسكوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم تمسكاً حرفياً ، حتى فاتتهم صلاة العصر في وقتها .

فلما أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ الفريق الأول على صلاته للعصر في وقتها ، وأقر الفريق الآخر الذي فاتته صلاة العصر . وهنا نستنتج أنه – عليه الصلاة و السلام - قد فتح باب الاجتهاد لأصحابه .

اقترب النبي - صلى الله عليه وسلم - من حصون بني قريظة ، و نادى من وراء الحصن على زعيمهم كعب ، ونادى أيضا على حُيي بن أخطب الذي دخل معهم يؤازرهم ، وطلب منهما النزول و الاستسلام ، لكنهما لم يقبلا ، ولم تقبل أيضا بنو قريظة بذلك ، فضرب عليهم الحصار وأخذ المسلمون يرمونهم بالسهام فلما رأى ذلك زعيم بني قريظة {{ كعب بن أسد }} ،

وقف في قومه وقال : لقد تبين لكم أن محمدا نبي مرسل ، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام فيأمنوا على دماءهم و أموالهم ، ولكنهم رفضوا الدخول في الإسلام وقالوا : لا نفارق التوراة .

وطلب بنو قريظة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يرسل إليهم الصحابي {{ أبا لبابة }} - رضي الله عنه - حتى يستشيروه ،

[[ هو حليفهم ، و أمواله و أولاده في منطقتهم ]] ، فلما رأوه قام إليه الرجال ، و أسرع كلّ من النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرقَّ لهم أبو لبابة وقالوا : يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال لهم : نعم ، وأشار لهم بيده إلى حلقه !! [[ أي سيذبحكم محمد ، يعني هذه الإشارة معناها لا تنزلوا على حكم محمد ]] . وكانت هذه الإشارة من أبي لبابة سَقطة كبيرة وخطأ عظيما .

يقول أبو لبابة - رضي الله عنه - : فوالله ما زالت قدماي من مكانهما [[ ما تحركت من مكاني ]] حتى عرفت أني خنت الله ورسوله !! ونزل مسرعا يبكي ، وذهب إلى المسجد النبوي ، وربط نفسه في أحد أعمدة المسجد بسلسلة ثقيلة وقال: والله ولا أذوق طعاماً ولا شراباً ، ولا أحُلُّ نفسي منها [[ أي لا أفُك وَثاقي ]] حتى يتوب الله عليَّ و يحلني رسول الله بيديه .

فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مر من جانبه لا ينظر إليه ولا يكلمه ، وبقي أياما على هذه الحال ،

وأنزل الله في أبي لبابة قوله : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }}

فلمّا نزل قوله تعالى في سورة التوبة : {{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }} .أسرع إليه الصحابة يخبرونه بالبشرى، ثم جاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – فحلّه بيديه .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-17-21, 08:48 AM
هذا الحبيب « 202 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة بني قريظة ج2 ))
______
وعلى الرغم من التعب الشديد بعد غزوة الأحزاب، و الألم و المعاناة ، والبرد والنوم في العراء ؛ إلا أنّ المسلمين استمروا في حصار بني قريظة بضع عشرة ليلة، وكانوا عازمين على النيل منهم بكل إصرار لأنهم خانوا عهد الله و رسوله ، وكانوا سيتسببون في هلاك المسلمين . لكنّ بني قريظة رفضوا أن ينزلوا على حكم الله ورسوله ، ومع تشديد الحصار عليهم ، ألقى الله الرعب في قلوبهم ، فقالوا : ننزل على حكم {{ سعد بن معاذ } زعيم الأوس .

[[ يا الله سبحانك ما أعظمك !! فقد استجاب الله دعاء سعد ، وهاهم اليهود ينزلون على حكمه بعد هزيمة الأحزاب، وهذا درس في الثقة بالله ]] .

فأرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طلب سعد بن معاذ ، وكان سعد لا يزال يُمرّض في المدينة ، فحمله رجال من قومه على دابة صغيرة ،وقالوا له : يا سعد أحسن في مواليك ، فإن رسول الله قد حكّمك فيهم ، فلما أكثروا عليه الطلب قال : " لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم " .

ولما وصل سعد ؛ قام الجميع و استقبلوه ، فلما أنزلوه ، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم – وقد جلس سعد إلى جانبه : يا سعد إن هؤلاء نزلوا على حُكمِك، فاحكم فيهم .[[ يعني الأمر بايدك اعمل اللي بدك إياه ؛ تعفو، تصلح ، تعاقب ، أمرهم لك ]] .

فوقف سعد – رضي الله عنه - فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : {{ إنِّي أحكُمُ أنْ يُقتَلَ رجالهم وتُسبَى ذراريهم وتُقسَمَ أموالُهم }} .

فلما انتهى كلام سعد ، يقول الصحابة : فما راعنا إلا و النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : والذي نفسي بيده ، لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبع سموات . وعلى الفور بدأ المسلمون بتنفيذ حكم سعد ، فقُتل المسلمون حوالي [[ 700 من رجال يهود بني قريظة وقيل 400 ]] ، وقُتل أيضا حيي بن أخطب ، والذي كان له الدور الأبرز في تجميع القبائل،

[[ وهو والد السيدة صفية ]] والتي تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بعامين . ورغم مرارة ما ذاقه النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ؛ إلا أنه صاحب الخلق العظيم ، فقد قال لأصحابه : لا تفرقوا بين الأم و أطفالها ، ولم يأمر إلا بقتل المقاتلين فقط ، وهنالك من أسلم منهم فنجوا من القتل ، ولم يقتل الذين لم يشتركوا في القتال .

و للرد على أعداء الإسلام الذين ينتقدون هذا العمل : ماذا لو انتصر الأحزاب بمعاونة بني قريظة ؟ بالتأكيد سيُقتل رجال المسلمين، وستُسبى نساؤهم ، وستؤخذ أموالهم . ولو ترك النبي رجالهم لذهبوا إلى خيبر و تحالفوا مع إخوتهم من أبناء القردة و الخنازير و مع القبائل الأخرى ، ولعادوا لحرب المسلمين ، فهم ( خانوا الله و رسوله ) و الخيانة عظمى ، و لا ينفع معها إلا القتل ،[[ اخلع الضرس واخلع وجعه ]] .

بعد تنفيذ هذا الحكم ، رجع المسلمون إلى بيوتهم ، وأمر – صلى الله عليه وسلم – بالعناية بجرح سعد بن معاذ في خيمة في المسجد النبوي ، واستراح سعد تلك الليلة ؛ لكنّ الأجل قد حان ، فقد انفجر الجرح من وريده مرة أخرى ، وسالت الدماء خارج خيمته ، فخرج إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – و أصحابه ، ففتح سعد عينيه ،

ونظر للنبي صلى الله عليه وسلم - وقال : يا رسول الله ، لقد سألت الله أن لا يقبض روحي حتى يكون آخر ما يقع عليه بصري من هذه الدنيا هو وجهك يا رسول الله ، و إنّي {{ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله }} ، وفاضت روحه - رضي الله عنه وأرضاه - وجزاه الله عنا كل خير . وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُحمل إلى البقيع ، ويدفن فيها بجانب المسجد النبوي . وقد جاء في الأحاديث أن أكثر من سبعين ألف ملك شيّعوا سعد بن معاذ ، وفتحت أبواب السماء فرحا بصعود روحه الطاهرة .

هذا هو سعد الذي اهتز عرش الرحمن فرحاً بقدومه ؛ لله درك يا سعد !! ماذا قدمت في ست سنوات من الدعوة ليكون لك هذا القدر العظيم في السماء و في الأرض ؟ لقد ملأ قلبه بحب الله فظهر أثر ذلك على الجوارح : أليس هو من قال لقومه عندما أسلم : إن كلام رجالكم و نسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله و رسوله ؟ فأسلموا جميعا . أليس هو من قال يوم بدر : لو استعرضت بنا البحر يا رسول الله فخضته لخضناه معك ؟ أليس هو من قال في قريش : إنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا نبي الله وكذّبوه ؟

أليس هو من قال : أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطي بني النضير إلا حد السيف ؟ أليس هو من قال : اللهم لا تُمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة . . . نعم ، إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فنالوا أجر صدقهم .

مات - رضي الله عنه - وهو شاب يبلغ قرابة السابعة و الثلاثين من العمر ، فما أحوج شبابنا للسير على طريقه في الدعوة وحب الإسلام و الدفاع عن المسلمين . هذه مدرسة محمد – صلى الله عليه وسلم – وهؤلاء هم تلاميذه .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-19-21, 08:51 AM
هذا الحبيب « 203 »
السيرة النبوية العطرة (( عام السرايا / إسلام ثُمامة أول معتمر في الإسلام ))
______
نحن الآن في العام السادس من الهجرة ، ويسمى هذا العام {{ عام السرايا }} أرسل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - {{ ١٦ سرية }} ، وخرج بنفسه - صلى الله عليه وسلم - قيل مرتان وقيل ثلاث ، ووقعت في بعض هذه السرايا مصادمات ، واستشهد فيها عدد من المسلمين ، وجرح أيضا عدد آخر ، وفي المقابل قّتل فيها عدد من المشركين ، و جرح آخرون .

وكان الهدف من هذه السرايا هو إظهار هيبة المسلمين ، و تخويف أعداء المسلمين الذين لم يستكينوا بعد ولم يتأدبوا ، خاصة بعض القبائل حول المدينة ، والتي شاركت جيش الاحزاب ، وهذا دليل على حكمة القائد المسلم ، النبي ، القدوة لنا في كل شيء صلى الله عليه وسلم .

من هذه السرايا سرية [[ زيد بن حارثة ]] رضي الله عنه ، فقد أرسله الرسول - صلى الله عليه وسلم – ومعه 170 مقاتلا إلى [[ العيص ]] لاعتراض عيرا لقريش في إطار الحرب الاقتصادية عليهم ،

والعيص مكان يبعد عن المدينة ٢٢٠ كم، وهو في طريق تجارة قريش إلى الشام، وهذه هي ثاني مرة يرسل فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى هذا المكان لاعتراض عيرا لقريش، وكانت المرة الأولى، هي سرية عمه {{حمزة بن عبد المطلب }} - رضي الله عنه - في بداية أشهر الهجرة . واستطاعت سرية زيد بن حارثة أن تستولي على القافلة بالكامل ، وأسروا أيضا بعض رجالها .

ومن هذه السرايا سرية {{ محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء }} ، فلما أغار المسلمون عليهم هربوا ، فأخذ المسلمون إبلهم و مواشيهم ، وعفا محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - عن نسائهم ، فلم يأخذهنّ سبايا .

وفي طريق عودتهم إلى المدينة رأى محمد بن مسلمة راكبا يعدو بخيله في الطريق ، فظن أنه من الرجال الذين فروا من القوم ، فانطلق المسلمون نحوه وأخذوه أسيراً ،والصحابة لا يعرفونه ، وهذا الرجل لم يعرّفهم على نفسه ، ولم يكلمهم [[ عنده عزّة نفس ، فهو سيّد قومه ، إنّه ثمامة بن أثال ]] ، سيد بني حنيفة من أهل اليمامة - من قومه خرج مسيلمة الكذاب - ، أسره الصحابة وهم لا يعرفونه ، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم – عرفه وقال لأصحابه : أتدرون من الرجل ؟ إنّه ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، فأحسنوا إليه .

ربط الصحابة ثمامة في أحد سواري المسجد ، وأحسنوا معاملته ، وقدّموا إليه أحسن الطعام من بيوتهم و من حجرات زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكان كلّما مرّ به – عليه الصلاة و السلام - قال له : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فيقول ثمامة : عندي خيريا محمد !! إن تقتلني تقتل ذا دمٍ [[ يعني إن قتلتني أنا سيد القوم ، وسيأتي قومي لأخذ الثأر ]] ، وإن تُنعم تُنعم على شاكر [[ يعني إن تنعّمت علي وتركتني ، ستجدني شاكرا لمعروفك ]] ،

وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت [[ اطلب اللي بدك ياه ، مثل ما نقول اليوم شيك مفتوح ]] .
[[ حبيبي يا رسول الله ، تركه هكذا عن قصد في المسجد حتى يسمع بلالا وهو يؤذّن الله أكبر الله أكبر ، ويرى صلاة المسلمين ، ويسمع القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بهم ،ويسمع حديثه مع المسلمين ، ويرى كيف يتعامل المسلمون مع بعضهم البعض بالحب والود والرحمة، قال تعالى : " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " ]]


واستمر ذلك مدة ثلاثة أيام ، بعدها قال لأصحابه : أطلقوا ثمامة [[ هكذا دون أن يطلب منه فداء ، وكل ذلك كان طمعا في إسلامه و إسلام قومه ]] . فلما أطلقوا ثمامة ، ذهب قريبا من المسجد ، ودخل بين النخيل والأشجار واغتسل ، ثم دخل إلى المسجد وقال : يا محمد ؛ والله ما كان على الأرض كلها وجهٌ أبغضَ إليَّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي . يا محمد !!

والله ما كان على الأرض كلها دين أبغض إليَّ من دينك ؛ فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ . يا محمد !!! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . ففرح النبي - صلى الله عليه وسلم – بإسلامه [[ فهو سيد قومه والناس تتبع أسيادهم ]] ، وأمر أصحابه أن يعلموه أمور الدين . يقول الشافعي رحمه الله :

- أحسن إلى الأحرار تملك رقابهم ... فخير تجارات الكرام اكتسابها
- ولا تمشينّ في منكب الأرض فاخراً ... فعمّا قليل يحتويك ترابها
فلما قضى أياماً استأذن النبي أن يذهب إلى مكة لأداء عمرة . فأذن له ، ودعا له بخير .(( فلما دخل مكة ، رفع صوته بالتلبية )) ،

وبعد أن طاف كما علمه الصحابة ، قالت له قريش : يا ثمامة ، صبوت ؟؟ قال : لا ، بل أسلمت مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قالوا : وجئت تغيظنا بتلبية محمد، قدموه فلنضرب عنقه !! فقام رجل من قريش وقال : ويحكم !!!! أنسيتم أنه سيد بني حنيفة ؟؟ منها نأخذ الحبوب و أعلاف الماشية ؟؟

فتوقفوا عن عقوبته . فقال لهم قبل أن يغادر صحن الكعبة : والله لا يأتيكم حبة حنطة

حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
دعا ثمامة قومه إلى الإسلام لما فيه من رحمة فأسلموا ، ومنع قومه من اليمامة أن يرسلوا لقريش شيئا ، و أمرهم بمقاطعة قريش وتجارها ، حتى ضاقت أحوال مكة الاقتصادية بهذه المقاطعة ، فكتب أبو سفيان و سادة قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامه أن يكتب إلى ثمامة وقومه أن يسمحوا بإرسال الحبوب والمواد الغذائية إلى مكة .

ومن كرم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى ثمامة وقومه أن لا يمنعوا خيرات اليمامة عن مكة ، وأن تبقى الأمور على ما كانت عليه قبل إسلام ثمامة .
[[ أتذكرون قريشا كيف حاصرت المسلمين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ، حتى كان المسلمون يأكلون أوراق الشجر؟؟ أتذكرون ؟؟ انظروا الآن إلى رحمته – عليه الصلاة و السلام - بالشيوخ والنساء والأطفال في قريش !! ]] .

هكذا هو الإسلام ، دين الرحمة و الإخاء ، دين السماحة و المحبة ، يجذب القلوب و العقول . وقد اعتزّ قوم ثمامة بإسلامه و أنّه أول من رفع صوته بالتلبية في مكة ، فقال شاعرهم :

ومنا الذي لبّى بمكة معلناً ... برغم أبي سفيان في الأشهر الحرمِ

وحتى لا يظن البعض أن ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم – مع ثُمامة يدل على ضعف المسلمين ، لنأخذ الجانب الآخر .

جاء الإسلام ووضع الأمور في مواضعها ؛ فالرحمة موجودة ، و الشّدة موجودة ، ولكل شيء وقته ، فقد شاع الخبر بين العرب كيف أحسن النبي إلى ثمامة ، وظنوا أن المسلمين
[[ طيبين بينضحك عليهم بكلمتين وايش ما عملت معهم ، يعفو ويصفحوا ]] ، فجاء رجال إلى النبي من قبيلتي {{ عُكَل وعُرَينة }} ،

وأعلنوا إسلامهم ، وكانوا يشكون مرضا في بطونهم ، فأمر أن يلحقوا بإبل الصدقة، و أن يشربوا من لبنها ، وأن يغتسلوا من بولها ليزول المرض . فلما تعافوا ارتدوا عن الإسلام ، واعتدوا على راعي الإبل ، ومثّلوا به ، وقطعوا يده ، ورجله ، وقلعوا عينيه ، وغرزوا الشوك في لسانه ، ثم ألقوه قتيلا في العراء بين الصخور ، و سرقوا إبل الصدقة ، وهربوا . فصدق فيهم قول الشاعر :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وعندما وصل الخبر إلى النبي – صلى الله عليه و سلم – غضب غضبا شديدا ، وأرسل في طلبهم عشرين من الصحابة، فأدركوهم في الطريق ، و أحاطوا بهم ، وأسروهم ، وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة .
وانظروا ماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ب (( قُطّاع الطرق )) ليكونوا عبرة لغيرهم :

أمر أن تسمل أعينهم كما سملوا عين الراعي [ العقوبة بالمثل ] ، ثم أمر أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، [[ تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ]] ، ثم أمر أن يلقوا في الحرة ، وأخذوا يطلبون الماء من شدة العطش ، فأمر النبي أن لا يسقوا حتى يموتوا .... فماتوا عطاشا .
فنزل قوله تعالى يؤيّد فعل نبيّه :

{{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }} .

.ولم يسمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عينا . فعلم العرب حول المدينة ، أن عند محمد رسول الله الكرم والرحمة ، والشدة والبطش وكل إنسان يعامل حسب فعله .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-21-21, 07:40 AM
هذا الحبيب « 204 »
السيرة النبوية العطرة (( الخروج إلى الحديبية ))
______
بعد هزيمة قريش و القبائل المتحالفة معها في غزوة الأحزاب ، وبعد نجاح مهمة العدد الكبير من السرايا في السنة السادسة للهجرة ، أصبح المسلمون هم القوة الإقليمية الأولى في الجزيرة ، ومع نهاية السنة السادسة للهجرة ، رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - {{ رؤيا في منامه }} ، رأى المسلمين يدخلون المسجد الحرام وقد حلقوا شعورهم ، [[ أي أنهم يدخلون مكة معتمرين ]] ورؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى .

وعلى الفور دعا - صلى الله عليه وسلم – المسلمين للخروج لأداء {{ العمرة }} ، كانت الفكرة مفاجئة للجميع؛ فالحرب بين المسلمين وقريش قائمة ، بل في أوجها ، ومجرد الاقتراب من مكة فيه خطورة شديدة ، ومع ذلك كانت قوانين الجزيرة العربية وأعراف قريش نفسها تقضي بأن لا تتعرض قريش لمن يدخل بيت الله في مكة المكرمة، بل عليها أيضا حمايته ، وإطعامه وسقايته ، وفي ديننا الحنيف لا يجوز لأحد أن يصدّ الناس عن البيت الحرام ، فهو مكان مقدّس لجميع المسلمين ، قال تعالى :

{{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم }} .

ومع ذلك لم يكن الأمر بهذه السهولة عند الصحابة ، لأنه ليس هناك ما يضمن أن قريشا ستحترم هذه الأعراف ، وقد انتهكت قريش أعرافها قبل ذلك كثيرا ، ولو كان الأمر هكذا سهلا لذهب بعض المسلمين لأداء العمرة بصورة فردية مرارا و تكرارا . ولذلك لم يستجب للنبي - صلى الله عليه وسلم - سوى المؤمنين بحق، بينما رفض المنافقون الخروج إلى هذه الرحلة المهلكة من وجهة نظرهم ، فكان عدد الذين خرجوا حوالي {{ ١500 }} من الصحابة .

خرج - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وكان مع المسلمين عدد كبير من الإبل {{ الهدي}} ليذبحوها في مكة ، فأشعروها [[ جعلوا عليها علامة من دمها ]] وقلّدوها [[ وضعوا في عنقها قطعة جلد أو غير ذلك ]] ليعرف الجميع أنها متجهة لبيت الله الحرام ، ولا نيّة للحرب . وكانت تعليمات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه هو الخروج بسلاح المسافر فقط [[ سيف أو خنجر بدون دروع و تروس وأقواس و سهام ]] حتى يؤكد لكل من رآهم أنه لم يخرج للحرب ، وإنما خرج لأداء العمرة .

وصل المسلمون إلى {{ ذي الحليفة – آبار علي الآن }} وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة، وأحرم المسلمون من هذا المكان، و بدؤوا في التلبية : لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. ، ووصلت الأخبار إلى قريش بقدومهم ، فأجمعت قريش رأيها على منعهم من دخول مكة ، وجمعوا لهم جيشا عند {{ كراع الغميم }} على بعد 63 كم من مكة ، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته ، فأشار إليه أبو بكر و الصحابة إلى مواصلة المسير، فنحن جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه.

فسلكوا طريقا آخر هو [[ عقبة وثنية ]] وهو طريق وعر، وساروا طوال الليل حتى يتجنبوا مواجهة قريش ، فلما وصلوا إلى منطقة تسمى {{ عسفان }} على بعد حوالي ٤0 كم من مكة ، أرسلت إليهم قريش قوة بقيادة خالد بن الوليد ، الذي شاهد المسلمين وهم يؤدون صلاة الظهر مطمئنين ، فعزم على مهاجمتهم إن هم صلوا مرة أخرى ، لأن الفرصة مناسبة جدا ، [[ وهذا يدل على خوف جيش مكة الشديد من مواجهة المسلمين، حتى وهم بسلاح المسافر ، وقريش بكامل عتادها تريد الغدر ]] ،

فنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - {{ بتشريع صلاة الخوف }} ، فلما حضرت صلاة العصر وقف يصلي بالمسلمين صلاة الخوف لأول مرة ؛ فصلى خلفه نصف الصحابة ، والنصف الثاني وقف لحراسة المسلمين ، وفي التشهد تمّ تبادل الأدوار، فلما رأى خالد بن الوليد ذلك وهو يراقبهم من بعيد؛ ذُهل !! وقال متعجباً : إن القوم ممنوعون !!! وكان هذا الموقف له أثر كبير في إسلامه بعد صلح الحديبية بأشهر قليلة . وعاد خالد و أخبر قريشا أن المسلمين لم يأتوا للقتال .

واصل المسلمون سيرهم حتى وصلوا إلى واد اسمه {{ الحديبية : فيه بئر ماء ضعيفة ينحني ( يحدودب ) ظهر الشخص وهو يملأ قربته لقلة مائها }} ، و أصبح المسلمون بينهم وبين مكة قرابة 3 كم ، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكمل طريقه ويدخل مكة ، فبركت ناقته القصواء في الحديبية ولم ترض المسير، فقال لأصحابه :

(( ما خلأت القصواء [[ لم تمتنع عن المشي ]]، وما ذاك لها بخلُق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، والذي نفسي بيده لا يسألوني [[ أي قريش ]] خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )) . وهذه إشارة من الله إلى عدم دخول مكة ؛ ليحفظ الله نبيه و المسلمين من غدر قريش ، وقبول أي خطة لتعظيم حرمات الله وعدم القتال في البيت الحرام .
فعسكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ذلك الوادي ،


ثم قال الناس : يا رسول الله ، لو نزلت بنا على غير ماء ، فإن بئر الحديبية لا يستقي منها الراكب أو الراكبان ، ونحن كثير !!
ويروي ذلك جابر بن عبد الله ويقول :

(( عَطِشَ النَّاسُ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ والنبيُّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - بيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ [ إناء من جلد ] فَتَوَضَّأَ، فَجَهِشَ [ أسرع ] النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقالَ : ما لَكُمْ؟ قالوا: ليسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ ولَا نَشْرَبُ إلَّا ما بيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ في الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَثُورُ بيْنَ أصَابِعِهِ، كَأَمْثَالِ العُيُونِ، فَشَرِبْنَا وتَوَضَّأْنَا . قُلتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قالَ: لو كُنَّا مِئَةَ ألْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِئَةً )) .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-21-21, 07:42 AM
هذا الحبيب « 205 »
السيرة النبوية العطرة (( مفاوضات الحُدَيبية ))
______
بركت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم – " القصواء " في الحديبية ، وأقام المسلمون معسكرهم استعدادا لدخول مكة و أداء العمرة ، وفي ذلك الوقت كانت قريش في قمة ارتباكها ، لأنها لا تعرف ما الذي تصنعه ؟؟ لاهي قادرة على قتال المسلمين !! ولا هي راضية أن يدخل المسلمون إلى مكة !!! فماذا فعلت ؟ و ماذا فعل المسلمون أيضا ؟

أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد الصحابة وهو {{ خِراش بن أمية }} - رضي الله عنه - إلى قريش ليخبر قريشا أنّ المسلمين جاؤوا معتمرين فقط ، ولكن ما إن دخل مكة حتى اعترضته قريش ، وعقروا ناقته وكادوا يفتكون به لولا أن منعهم سيد الأحابيش [[ للتنبيه الأحابيش لا تعني أهل الحبشة كما يظن البعض ، بل هم خليط من الأعراب المحيطين بمكة ( تحبّشوا / تجمّعوا) مع بعضهم ]] ، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما حدث .
أمّا قريش فكانت لا تريد أن تظهر في مفاوضاتها مع المسلمين بمظهر الخائف و الساعي إلى الصلح [ مع أنهم خائفون ويريدون الصلح ] ،

فلم ترسل أحدا من سادتها و قادتها كأبي سفيان مثلا أو خالد بن الوليد أو غيرهم ، فبدأت أوّل مرة بإرسال سيّد خزاعة {{ بديل بن ورقاء }} ومعه نفر من قومه ، وخزاعة كان فيها المسلم والكافر، وكانت قلوبهم تميل إلى المسلمين ، فلما وصل بديل ومن معه رأوا المسلمين شعثاً غبراً محرمين وليسوا معتدين ، وقد رفعوا أصواتهم بالتلبية ، فحاول المناورة ؛ حيث أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنّ قريشا أعدّت له أعداد مياه الحديبية ، ومعهم العُوذ المطَافِيل، [[ أي الإبل التي تحلب والتي لا تحلب ]] و أن قريشا مستعدة للحرب و لن تسمح لك بدخول مكة .
فقال له الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :

إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد أنهكتها الحرب ، [[ يعني ما تقوله غير صحيح ]] فإن شاؤوا ماددتهم [[ يكون بينهم هدنة فترة من الزمن ]] ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس [[ الدخول في الإسلام ]] ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي [[ أي تقطع رقبتي ]] أو لينفذنّ الله أمره . [[ ردود بمنتهى الرزانة والثقة بالنفس ]] . رجع بديل بن ورقاء إلى قريش وحدثهم بما رآه وبما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت له قريش :اجلس ، لم تكفنا شيئاً . [[ يعني ما استفدنا منك اشي ]] .

واختارت قريش أن ترسل رجلا آخر وهو {{ الحليس بن علقمة }} سيد الأحابيش مع عدد من أصحابه ، فلمّا رأى المسلمين يلبّون و قد أحضروا معهم الهدي وقلّدوها و أشعروها، قال : ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدوا عن البيت، ولم يكلّم رسولنا في شيء، بل عاد إلى قريش وقال لهم : ويحكم يا قريش !!! تصدون عن البيت من يعظم شعائر الله ؟؟؟ ما على هذا تحالفت معكم !! فلما رأى رجال قريش غضبه ، استرضوه وأجلسوه وقالوا : لا عليك يا حليس ، سنأخذ منه ونعطي .

ثم سألت قريش بعد ذلك سيد الطائف {{ عروة بن مسعود الثقفي }} ، قالت له : تذهب إلى محمد يا عروة ؟؟ فقال لهم : لقد رأيت وسمعت ما كان بينكم ، وبين من أرسلتم قبلي ، وأنا رجل لا أرضى الاتهام [[ يعني انتوا ناس لا تحسنوا الظن بأحد ، كل ما ترسلوا واحد يزكي قدوم محمد ، ويعيب عليكم ، فتكذبوه ]] ، وأنتم يا سادة قريش الوالد وأنا الولد [[ لأن أمه من قريش ، يعني انتو أخوالي ، ولن أغُشّكم و أكذب عليكم ]] ، فإن أتيت محمدا وقلت رأيي فيه ، فأنا لا أرضى أن تخالفوني الرأي ، فوافقوا وأرسلوه .

وصل عروة بن مسعود إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له : لماذا قدمت يا محمد ؟؟ قال :
ألا ترى يا عروة ؟! نحن محرمون ومقلدوا الهدي ومشعرون ، ورافعوا الصوت بالتلبية ، شعثاً غبراً ، نريد أن نطوف بهذا البيت كسائر العرب . قال عروة: يا محمد ، لقد تركت رجال قريش وقد جمعوا لك، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت ، وهم لا يرضون أن تدخلها هذا العام ، فإذا أبيت قاتلوك ، وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين : أن تجتاح قومك، ولم نسمع برجلٍ اجتاح أصله قبلك[[ يعني تقاتل أهلك في بلدك ، وهذا الشيء منكر]] أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس [[ يعني هؤلاء الذين تحتمي بهم ؛ إن قاتلَتك قريش سيهربون ويتركونك لأنهم عبارة عن سَفَلَة الناس ولا أعرف أنسابهم ]] .

فغضب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه وأرضاه – و الصحابة ، و ردّوا عليه بكلام يؤدّبونه ؛ لأنّ نسبهم من صميم قريش ، فصدم عروة من رد أبي بكر و الصحابة عليه، ووصلت له الرسالة واضحة تماما : إن الصحابة مستعدون بالتضحية بحياتهم في سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وعندما عرف عروة بن مسعود أن الذي تصدّر الرد هو أبو بكر ، قال : أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزِك بها بعد لأجبتك !! وكان عروة عليه دم في الجاهلية فأعانه أبو بكر بنصف الدية، فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود .

عاد عروة إلى قريش ، فسألوه : ها ! ما وراءك ؟
فقال لهم : والله لقد وفدت على الملوك ، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً !! والله ما أمر أمراً إلا ابتدروا إلى أمره ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده !! ولا يحدون البصر في وجهه تعظيماً له !! وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه !! وإني ناصح لكم ، فوالله إنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم . فخذوا رأيكم ، واتركوا محمداً وشأنه ، فإن أصابته العرب فذلك ما ترجون وإلا فعزه عزكم . . .

إذن ، ضعفت شوكة قريش وقالوا : أردنا أمراً ، فقلبه محمد علينا رأساً على عقب !! وأصبحت قريش الآن أمام العرب في موقف {{ المتّهم }} ، فقد شهدت قبائل العرب بأنّ محمدا وصحبه جاؤوا معظمين لبيت الله ، ولا يريدون حرباً ، فأخذت قريش تفكر في قبول الصلح مع المسلمين .

يتبع . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-22-21, 07:45 AM
هذا الحبيب « 206 »
السيرة النبوية العطرة (( بيعة الرضوان ))
______
أخذت قريش تفكر في قبول الصلح مع المسلمين ، ولكن كانت هناك معارضة من شباب قريش المتحمس لقتال المسلمين ، فقد نشؤوا على كراهية الإسلام ، وقتل المسلمون كثيرا من ذويهم في المواجهات مع قريش ، وحاول هؤلاء الشباب منع أي طريق للصلح ، فقامت مجموعة منهم - تُقدّر بثمانين شابا - بالتسلل إلى معكسر المسلمين ليقتلوا بعضا منهم فيوقعوا الفتنة بين الفريقين ، وتكون شرارة الحرب . فلما اقترب هؤلاء الشباب من معسكر المسلمين ، أحاط بهم الصحابة ، وتم القبض عليهم وقيدوهم ، ولم يُقتل أي شخص من الطرفين .

وجاؤوا بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لكنّ النبي أطلق سراحهم دون حتى أن يطلب فيهم فداء، حتى يفسد عليهم مخططهم في إفساد جهود المصالحة وبذلك أكّد - صلى الله عليه وسلم – لقريش أنه قد جاء للعمرة وليس للقتال، وأن طلبه للهدنة جاء من مركز قوة وليس ضعفا . قال تعالى في سورة الفتح :

{{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا }} .

واستمر وجود المسلمين في الحديبية أكثر من ثلاثة أسابيع ، ففكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرسل أحد الصحابة للكلام مع قريش مباشرة ، [[ لأن المفاوضين من قبل والوسطاء ربما لم ينقلوا الصورة كما أرادها – صلى الله عليه وسلم - ]] ، فاختار أن يرسل إليهم

{{ عثمان بن عفان }} - رضي الله عنه – فهو من بطون بني أميّة أصحاب الزعامة الآن في قريش ، ولن يجرؤ أحد على إيذائه ، وهو معروف بالحلم والحكمة و الكرم ، وشخصية محبوبة جدا في مكة ، وكانت مهمته أن ينقل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم – لقريش ، فالمسلمون جاؤوا لأداء العمرة و ليس للقتال ، فإن أرادت قريش الدخول في الإسلام فأهلا ومرحبا بها ، و إن أرادت أن تكون هناك هدنة بينها وبين المسلمين ، ولا تمنع أحدا من دخول الإسلام فبها و نعمّت ، و إذا أرادت قريش القتال فنحن جاهزون .

وكان في مكة مسلمون مستضعفون يكتمون إسلامهم خوفا من بطش قريش ، وهم متشوقون لرؤيته – صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالكعبة ، فإذا وصلت يا عثمان إلى مكة فبشر هؤلاء أن رسول الله يخبركم أنّ الله سيعز الإسلام والمسلمين . [[ ونحن أيضا يا رسول الله متشوقون لرؤيتك و للنظر إلى وجهك ومتشوقون لشربة ماء من يديك الشريفتين ، نتشوق للجنة و لنعيمها ويكفيني فيها نعمة واحدة ، أنك أنت فيها ، صلوات ربي وسلامه عليك ]] .

فلما انطلق عثمان قال الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد فاز بها عثمان ، فالآن يطوف بالبيت !!، فقال لهم : ذلك ظنِّي به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف ولو مكث سنة ما طاف بها حتى أطوف [[ النبي يربّي رجالا ويعرفهم ]] .

وصل عثمان ودخل مكة ، ونزل في جوار صديقه {{ أبان بن سعيد بن العاص الأموي}} ، مع أن العرف هو عدم قتل الرسل ، ولكن هذا يدل على شدة العداوة التي كانت بين قريش والمسلمين . ثمّ استقبلته قريش ، ورحبت به ، وقالوا له : يا عثمان إن شئت فطف بالبيت . فماذا قال عثمان ؟؟ لا والله ، لا أطوف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه محاصرون ، وقد مُنعوا الطواف بها . هل رأيتم كيف يربي النبي الرجال ؟

ظل عثمان في مكة ثلاثة أيام كاملة ، هنا قامت قريش بنشر إشاعة في معسكر المسلمين وهي {{ إشاعة مقتل عثمان }} ليعرفوا ردّة فعل المسلمين ، فعرف النبي بفراسته أنها إشاعة !! فهو ينظر بنور الله ، وحتى يُظهر لقريش قوّة صفوف المسلمين ، ومدى محبتهم لله ولرسوله ، قام - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه وطلب منهم مبايعته على القتال وعدم الفرار ،

فاجتمعوا عند شجرة في أرض الحديبية ، [[ وقد عُرفت هذه البيعة ببيعة الشجرة ، واسم الشجرة شجرة السمرة ، وعرفت أيضا ببيعة الموت ، و بيعة الرضوان ]] ، لأن الله تعالى قال في كتابه الكريم :

{{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }} .

بايع الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما انتهوا، وضع – عليه الصلاة و السلام - يده فوق الأخرى وقال : هذه يد عثمان [[ وهذا دليل أنه كان يعلم أنها إشاعة ؛ فكيف يبايع عثمان على الموت و هو مقتول ؟! ]] .

وصلت أخبار{{ بيعة الرضوان }} إلى قريش ، فأصابها الخوف والهلع، فقالوا لعثمان - رضي الله عنه - : انطلق وقل لمحمدا أن قريشا وافقت على الصلح .
بقي أن نذكر أنّه وفي خلافة " الفاروق " عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلغه أن الحاج والمعتمر ، يعرجون على {{ الحديبية }} فيجلسون تحت تلك الشجرة يتبركون بها !!

فقال عمر : الله ، الله !!! أخشى أن تُعبد بعدي من دون الله !! فأمر أن تُقطع وذهب إليها بنفسه وقطعها ، وما عاد رجل يعرف أين مكانها إلى الآن .

يتبع . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-22-21, 07:47 AM
هذا الحبيب « 207 »
السيرة النبوية العطرة (( بنود صلح الحديبية ))
______
علمت قريش ببيعة الرضوان ، وأدركت تماما أن المسلمين سيقاتلون بكل بسالة إن وقعت الحرب ، فاختارت طريق الصلح ، حيث أرسلت {{ سهيل بن عمرو }} وهو شخصية هادئة طيبة ، ولم ترسل أي واحد من زعاماتها حتى لا تصل إلى طريق مسدود - فهي لا تريد القتال -

فلما قدم سهيل مع رجال من قريش رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعيد فقال لأصحابه : قد سهل الله لكم أمركم ، ما أرسلت قريش هذا إلا لأنهم يريدون الصلح .
قدم سهيل وقال : يا محمد ، إن قريشا قد أرسلتني إليك أمثلهم فأعطيك وآخذ منك . {{ البند الأول }} :

أن يرجع المسلمون ولا يدخلون مكة لأداء العمرة هذا العام ، ولا تدخل عليهم عنوة أبدا ، ترجع الى بلدك [[ أي المدينة ]] . فصاح الصحابة: مكة بلدنا وبلد رسول الله !! فأشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اسكتوا ، فسكتوا . فأكمل سهيل : على أن يأتوا العام القادم لأداء العمرة ، فيدخلون مكة بسيوفهم فقط ، والسيوف في أغمادها ، ويبقون في مكة ثلاثة أيام فقط ، و تخرج قريش ، وتترك لهم مكة هذه الأيام الثلاثة . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : رضينا . [[ طبعا أرادت قريش من هذا البند حفظ ماء وجهها أمام قبائل العرب ، فدخول المسلمين مكة معناه كسر هيبة قريش و كبريائها : يعني عشان ما يطلعوا صغار قدّام العرب ]] .

{{ البند الثاني }} : وضع الحرب بين المسلمين وبين قريش عشر سنين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : رضينا . [[ وهذا البند في صالح المسلمين ، لأنه سيتيح للمسلمين التفرغ لبناء دولتهم ، والتفرغ للدعوة ولأن الدعوة في حالة الأمان أفضل من الدعوة في حالة الحرب ، وأيضا لإعطاء فرصة للمسملين لمحاربة عدوهم الثاني في الجزيرة العربية وهم اليهود ، أما قريش فستستفيد اقتصاديا ، و ستكون تجارتها في أمان نوعا ما ]] .

{{ البند الثالث }} : للعرب حرية الاختيار ؛ من أحب أن يدخل في دين محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في حلف قريش وعهدهم دخل فيه
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : رضينا . [[ وهذا البند في صالح المسلمين ، فقد كانت قريش تمنع القبائل من دخول الإسلام ، وتهدّدها بقطع التجارة معها ، و الآن ستصبح هذه القبائل في حلف المسلمين مثل قبيلة خزاعة كما سنرى ]] .

{{ البند الرابع }} : من جاءك يا محمد من قريش مسلماً بدون إذن وليه ترده إلينا ، ومن جاءنا من أصحابك مرتداً ، بإذن وبغير أذن لا نرده إليك .
[[ أي أن يعيد المسلمون من أسلم من أهل مكة بعد الصلح لقريش، ولا تعيد قريش من ارتد من المسلمين إلى المدينة ]]!! فصاح الصحابة : لا نعطي الدنية في ديننا والله ، ونحن على الحق وأنتم على الباطل ، فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم بيده وقال : رضينا .

الجزء الثاني من هذا البند هو في صالح الدولة الإسلامية ، لأن المسلمين لا يريدون في الصف الإسلامي إلا المؤمنين فقط ، ووجود غير المؤمنين في المدينة يضعف المسلمين ويمكن أن يكون عيناً لقريش .

أما الجزء الأول من البند وهو ( أن يعيد المسلمون من أسلم من أهل مكة بعد الصلح لقريش ) فقد أثار ذلك اعتراض كل الصحابة تقريبا ، ووجدوا فيه ظلما للمسلمين ، وتحدث {{ عمر بن الخطاب }} إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -وقال: يا رسول الله لم نعطِ الدنية في ديننا ؟؟

[[ لأن الطبيعي أن تكون المعاملة بالمثل ، فلا يعيد المسلمون كذلك من أسلم من أهل مكة إلى قريش ]] ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطي قريشا في هذه المعاهدة شيئاً مقابل أشياء كثيرة أخذها منهم ،وطالما هناك تفاوض ومعاهدة فلابد أن تأخذ شيئا وتعطي شيئًا، وإلا فما معنى التفاوض ؟؟ .

وحقيقةً فإنّ قريشا لم تستفد من هذا البند شيئا ، فبعد الصلح ، ومع أول حالة ، كان هناك {{ امرأة }} أسلمت وتركت مكة وهاجرت إلى المدينة، فنزلت آية ألغت هذا البند بالنسبة للنساء ،

قال تعالى في سورة الممتحنة : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ۚ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }} .

فهذا البند كان بالنسبة للرجال ، و لم تستفد منه قريش ، وسنرى بعد فترة كيف انقلب هذا البند على قريش ، و كان وبالاً عليها .
إذن كانت المعاهدة في {{ صالح المسلمين }}

ولم يصل المسلمون إلى ذلك إلا بعد {{ ٦سنوات كاملة }} هي عمر الدولة الإسلامية إلى الآن وقت هذا الصلح ، قدم فيها المسلمون كثيرا من التضحيات والدماء والشهداء .وبعد أن تم الاتفاق بين الطرفين بدأت كتابة بنود هذا الاتفاق في صحيفة يوقع عليها الطرفان ،

[[ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّي لا يعرف القراءة والكتابة كما كان أغلب العرب، وهذا لتمام معجزة القرآن العظيم ]] فقال: ادنُ يا علي واكتب ، فكان الذي يكتب المعاهدة هو {{ علي بن أبي طالب }} والرسول – عليه الصلاة و السلام - هو الذي يملي عليه الكلمات، وهذه إشارة قوية إلى أن اليد العليا في المعاهدة كانت للمسلمين، لأنهم هم الذين يملون المعاهدة ويكتبونها .

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : اكتب يا علي {{ بسم الله الرحمن الرحيم }} ، فنهض سهيل وقال : ومن الرحمن الرحيم هذا ؟؟ فوالله ما ندري ما هو !! اكتب ما نعرفه نحن {{ باسمك اللهم }} ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم -:_ اكتب يا علي : هذا ما تصالح عليه {{ محمد رسول الله }} ، فاستوقف سهيل مرة أخرى ،وقال: يا محمد ، لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما تصالح عليه محمد بن عبد الله مع سهيل بن عمرو ،[[ يعني كيف نكتب في صحيفة أنك رسول الله ونوقع عليها، ونحن لا نعترف بنبوتك ونقاتلك ونصدك عن البيت ؟؟ ]]

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني رسول الله وإن كذبتموني ، امُحها يا علي واكتب : هذا ما تصالح عليه محمد بن عبد الله مع سهيل بن عمرو ، [[ وكان علي قد أتم كتابة محمد رسول الله ]] ، فقال علي : لا والله لا أمحها ، ثمّ أشار له علي على مكان الكلمة ، فمحاها النبي - صلى الله عليه وسلم – بنفسه ، وهذا يدل على مرونته في التعامل – عليه الصلاة و السلام - .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-23-21, 08:42 AM
هذا الحبيب « 208 »
السيرة النبوية العطرة (( ردود فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - على صلح الحديبية ))
______
بعد أن تم الاتفاق على بنود الصلح ، وقبل أن يتم توقيع المعاهدة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين سهيل بن عمرو ؛ حدث أمر لم يكن متوقعاً ، زاد من همّ الصحابة وكربهم [[ يعني بلغتنا ، زاد الطينة بلة ، فالصحابة لم يكونوا راضين تماما عن الصلح ، وأن يعودوا إلى المدينة بدون عمرة ]] ، فعندما أرادوا التوقيع سمعوا ضجة بين الناس ، فقام الرجال ينظرون ، ما الأمر ؟؟ إنّه رجل من قريش أقبل عليهم مسلماً ، اسمه {{ أبو جندل }} أتعرفون من هو ؟ هو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب المعاهدة الآن !!!!!

كان أبو جندل قد قيّده أبوه وحبسه في بيته حتى لا يهاجر إلى المسلمين في المدينة . وبخروج أبيه ( سهيل ) الآن من مكة ، كانت له فرصة أن يهرب ووصل لمعسكر المسلمين بالحديبية ، وعندما رآه أبوه سهيل بن عمرو وثب قائماً وقال : يا محمد : هذا أول من أقاضيك عليه !! يجب أن ترده الساعة معي [[ الآن يرجع معي لمكة ]] ،

والصحابة ينظرون ، و قلوبهم مضطربة من هذه المعاهدة ، فحاول - صلى الله عليه وسلم - ، أن يجد مخرجا لهذا الموقف الحرج ، فقال : يا سهيل ، إننا لم نوقع الكتاب بعد ، فاعتبره سابقاً لها . قال : لا ، والله يا محمد لا أقاضيك على شيء أبداً . [[ يعني إذا ما أخذت معي ابني أبو جندل ورجعته لمكة ما في صلح !! ]] ،

وقام يضرب ابنه ضربا شديدا ، والمسلمون يشاهدون كل ذلك ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئا لأبي جندل ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا عقدنا بيننا وبين القوم عهدا ، وإنا لا نغدر بهم ، يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً . وتم توقيع الصلح وأخذ سهيل ابنه أبا جندل ، ونسخة من كتاب الصلح ، وساد الحزن و ظهرت الكآبة على وجوه الصحابة .

يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : فأتيتُ النَّبيَّ - صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم - فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ألسْتَ نبيَّ اللهِ؟ قال: بلَى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعَدُوُّنا على الباطِلِ؟ قال: بلى، قال: فلِم نُعطِ الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: إنِّي رسولُ اللهِ ولستُ أَعصِيه وهو ناصِري .

قلتُ: أوَلستَ كنتَ تحدِّثُنا أنَّا سنَأتي البيتَ فنَطوفُ حقًّا؟ قال: بلَى، أنا أخبرتُك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتيه وتَطوفُ به .
ثمّ رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما على وجه أصحابه من كدر وقهر ، وكآبة ، وثقل هذه المعاهدة على نفوسهم فقال : قوموا فانحَروا ثمَّ احلِقوا، قال الراوي: فواللهِ ما قام مِنهم رجلٌ حتَّى قالها ثلاثَ مرات !!

[[ طبعا لا يعني ذلك أنهم عصوا الرسول ، لا أبدا ، إنما هم مذهولون من بنود صلح الحديبية و مما حدث مع أبي جندل ، يعني مكسور خاطرهم و حزنانين ]] ،

فلمَّا لَم يقُمْ منهم أحَدٌ قام – صلى الله عليه وسلم - فدخَل على أمِّ سلَمَةَ، فذكَر لها ما لَقي مِن النَّاسِ، فقالت أمُّ سلَمَةَ: يا نبيَّ اللهِ، اخرُجْ ثمَّ لا تُكلِّمْ أحَدًا كلمَةً حتَّى تَنحَرَ بُدْنَك وتَدعُوَ بحالِقِك فيَحلِقَك، [[ هذه مكانة المرأة في الإسلام ، النبي يستشيرها ، و يأخذ برأيها ، ولسانها ينطق بالحكمة : يعني الصلح كان فوق طاقتهم يا رسول الله ، وهم تحت أمرك ، لكنهم مذهولون من الصلح وعدم دخول مكة للعمرة ]] ،

فقام فخرَج، فلم يُكلِّمْ أحَدًا منهم حتَّى فعَل ذلك ؛ نحَربُدْنَه ودَعا حالِقَه فحَلَقَه، فلمَّا رأَوا ذلك قاموا فنَحَروا، وجعَل بعضُهم يَحلِقُ بَعضًا .
ومن هنا جاء {{ حكم المحصر : وهو الذي يذهب لأداء العمرة أو الحج ، ثم لا يستطيع أن يدخل مكة لسبب }} ،

وينبغي عليه في تلك الحالة أن ينحر الهدي ويتحلل من إحرامه في المكان الذي أحصر فيه ، وقد وقع أجره على الله .
بعد ذلك رجع المسلمون إلى المدينة ، وفي الطريق ثقلت مشية [[ القصواء]] ناقة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فعرف الصحابة أنه يوحى الآن إلى رسولنا الكريم ، يقول " الفاروق " عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه – : في تلك اللحظة أحسست أن قلبي يخرج من حلقي ، وقلت : ويل أمك يا عمر !! لقد أنزل الله بك قرآنا يتلى إلى قيام الساعة !! من أنت يا عمر حتى تعاتب النبي وتقول له : أوَلستَ كنتَ تحدِّثُنا أنَّا سنَأتي البيتَ فنَطوفُ حقًّا ؟؟ [[ يعني أنا متأكد أننا سنطوف بالبيت ، ولكن لماذا لم يحدث ذلك ؟؟ ]] !!

يقول عمر : فوالله ما حملتني رجلاي وقلت : ليت أمك لم تلدك يا عمر !! [[ انظروا قوة الإيمان ، انظروا الخشية من الله ، أين نحن منك يا خليفة رسول الله ؟! ماذا نقول نحن عن معاصينا ؟! ]]

قال ، ثمّ مشيت الهوينى حتى أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت وجهه مشرقاً ليس به علامات الغضب ، فنظر إلي وابتسم ، وقال لي : أقبِل يا عمر .

قال : فأقبلت . و أقبل الصحابة ، فقرأ علينا سورة الفتح :
(( إنا فتحنا لك فتحًا مبينا . . . )) ،


إلى أن وصل لقوله تعالى : {{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }} .

رؤيا النبي حق ، سيدخلون البيت الحرام آمنين من مكر قريش ، وبشر الله نبيه والمؤمنين بفتحين وليس بفتح واحد ؛ فقد كان الصحابة خائفين على المدينة في غيابهم من {{ يهود خيبر }} ، الذين كانوا يجهّزون لغزو المدينة فعلا ، وسيرجع المسلمون إلى المدينة الآن ويفتحون خيبر، فكان هذا هو الفتح القريب ، ويأتي بعده الفتح الثاني وهو فتح مكة .

قرأ رسولنا – صلى الله عليه وسلم - الآيات على صحابته، فحمدوا الله وأثنوا عليه ، و استبشرت قلوبهم بالنصر .


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-23-21, 08:45 AM
هذا الحبيب « 209 »
السيرة النبوية العطرة (( قصة الصحابيّين : أبي بَصير وأبي جَندل - رضي الله عنهما - وهجرتهما إلى المدينة المنورة )) .
______
كان من بنود صلح الحديبة أن يرد المسلمون من جاء من قريش مسلماً ، ولم تمض إلا بضعة أيام حتى جاء رجل من مكة إلى المدينة اسمه {{ أبو بصير }} وهو من ثقيف ، ولكنه كان يعيش في مكة وقد أسلم ، وتعرض للتعذيب الشديد من أهل مكة، ثم استطاع الهرب منهم واتجه إلى المدينة ، فلما وصل للمدينة المنورة قال : جئت إليكم محبة في الله ورسوله ،

[[ اللهم ارزقنا محبتك ومحبة رسولك ]] ، هذه المحبة الصادقة التي تجعل صاحبها يتحمل من الأعباء ما لا يتوقعه أحد . فاستقبله النبي – صلى الله عليه وسلم – و أصحابه خير استقبال .

وبعد يومين فقط أرسلت قريش في طلبه رجلين {{خنيس بن جابر العامري }} ودليله على الطريق {{ كوثر }} ، فقال له الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم : يا أبا بصير ، إنا قد أعطينا القوم عهدا ، وإن ديننا يدعونا إلى الوفاء بالعهد ، فارجع مع صاحبيك إلى قريش ، وسيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً ، ومرة أخرى كان هذا الموقف الصعب جدا على رسولنا وصحابته الكرام .

وفي طريق العودة ، وقريبا من {{ ذي الحليفة }} ميقات أهل المدينة الذي نحرم منه حجاجاً ومعتمرين ، المعروفة الآن ب (( آبارعلي )) ،

جلسوا ليستريحوا و يتناولوا الطعام ، وقام الدليل كوثر ليقضي حاجته ، فأخرج خنيس سيفه ، ثم أخذ يُقلبه ، و يهزه بغرور وكبرياء ، في وجه أبو بصير،وهو يقول له مفتخرا : أبا بصير !!! لأضربنّ بسيفي هذا يوماً الأوس والخزرج [[ أي أصحاب محمد ]] ،

فغافله أبو بصير وأخذ السيف منه وقتله . وعاد الرجل الآخر – كوثر - فوجد صاحبه مقتولا ، فأصابه الذعر ، وأخذ يجري حتى وصل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو يصيح ويقول : مستجيرٌ بك يا محمد !! قال له النبي : ويلك!! ما الأمر ؟!!! قال : قد قتل صاحبكم صاحبي ، فأعطاه النبي الأمان .

ولمّا وصل أبو بصير قال: يا نبي الله ! هذا سلب المقتول [[ وضع سيف المقتول والترس والمتاع ]] ، أما أنت يا نبي الله فقد أوفى الله ذمتك ، و قد رددتني إلى قريش ثم أنجاني الله منهم ، واعتصمت بديني ورجولتي ولا حرج عليك . فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال :

" ويل أمه مسعر حرب ، لو كان معه أحد " [[ ويل أمه كلمة مدح عند العرب ، يعني ويل أمه على هالخلفة !! مخلفه رجل بكل بمعنى الكلمة ، مسعر حرب ، بيقدر يشعل حرب ويوقع في قريش الرعب !!]] .سمع أبو بصير العبارة وهو فعلا اسم على مسمى [[ صاحب بصيرة رضي الله عنه ]] ففهم هذه العبارة وعاهد نفسه أن يكون كذلك ، فاستأذن و خرج إلى منطقة [[ العيص ]]على بعد 220 كم من المدينة ، وهي طريق استراتيجي لقوافل قريش إلى الشام .

أما الدليل - كوثر - فأمّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع رجلين إلى مكة ، وأخبر قريشا بالذي حدث ، فغضب سهيل بن عمرو وطلب ديّة الرجل المقتول، لكنّ أبا سفيان قال له : لم ينقض محمد عهده معنا ، و لا ديّة لنا عنده . [[ لا تدخلنا بمشاكل يا عمرو !! ]] .

ظل أبو بصير في منطقة [[ العيص ]] ، وكلما مرت به قافلة من قريش اعترضها وقتل منها، وأخذ من غنائمها ما استطاع ، وسمع به المسلمون المستضعفون في مكة ، وعرفوا مكانه ، فأخذوا يهربون إليه واحدا وراء الآخر وكان ممن لحق به {{ أبو جندل بن عمرو بن سهيل }} الذي ذكرنا قصته في الجزء السابق ، حتى تجمع مع أبي بصير مجموعة قوامها يفوق ال 300 رجل ، وكان أبو جندل هو أميرها ، وأخذوا يهاجمون قوافل قريش التي تمر من هذه المنطقة .
جنّ جنون قريش !! ماذا نفعل ؟؟ ليس لهم حل ؟؟

قوم بين الجبال والساحل وليس لهم مقر!! ماذا نفعل لهم ؟؟ لقد أرهقوا تجارة قريش فعلا ، وهذا كله قبل أن يمضي عام على الصلح [[ يعني حوالي شهرين فقط ]] ، ألم يقل لهم الصادق الأمين حبيب رب العالمين - صلى الله عليه وسلم – : سيجعل الله لكم فرجا و مخرجا ؟؟

اجتمعت قريش وبعثت وفدا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بقيادة أبي سفيان ، يطلبون منه أن يلغي البند القائل : [[ من جاءك يا محمد من قريش مسلماً بدون إذن وليه ترده إلينا ]] ، ذلك أنّ أبا جندل و أبا بصير و رجالهم قد أرهقوا قريشا . سبحان الله !!! هم وضعوا الشرط وهم الآن يطالبون بإلغائه لأنه كان وبالا عليهم وعلى تجارتهم ، فطلبوا أن يرجع أبو جندل و أبو بصير و رجالهم إلى المدينة مع محمد و أصحابه .

فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجه أصحابه وقال لهم على سمع أبي سفيان : أرأيتم حين رضيت وأبيتم ؟؟ ثمّ أمر - عليه الصلاة و السلام - أن يكتب إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهما أن يأتوا إلى المدينة .

فما إن وصل حامل الرسالة وإذا بأبي بصير قد حضره الموت - رضي الله عنه وأرضاه - فأخذ كتاب رسول الله وقبله وهو يردد الصلاة والسلام على رسول الله ، و ينطق بالشهادتين ، وفاضت روحه رضي الله عنه . وعاد أبو جندل ومن معه إلى المدينة استجابة لأمر نبينا الكريم بعد أن دفنوا أبا بصير – رضي الله عنه - .
أتذكرون حين قال – صلى الله عليه وسلم - لأبي جندل : {{ يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا }} ؟؟؟

هذه نبوءة النبي - صلى الله عليه وسلم – قد تحقّقت مع أبي جندل، وأنتم يا أحباب رسول الله لكم منه نبوءة ، يا من صبرتم وتحملتم ظلم الفاسدين ، يا من مُنعتم من وطنكم وتشرّدتم وصبرتم ، يا من صبرتم على طاعة الله ، يا من قاومتم المنكر ، يا من صبرتم على البلاء و المحن ، الجنة لكم بإذن الله ، يقول – صلى الله عليه وسلم - :

" إنَّ الإسلامَ بدَأ غريبًا وسيعُودُ غريبًا كما بدَأ فطُوبى للغُرَباءِ " .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-25-21, 08:01 AM
هذا الحبيب « 210 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة خيبر ، أسبابها ))
______
في شهر محرم ، ومع بداية السنة السابعة من الهجرة ، قام - صلى الله عليه وسلم - بغزو {{ اليهود في خيبر }} ، وهي مدينة تقع شمال شرق المدينة المنورة ، وتبعد عنها مسافة {{ ١٦٥ كم }} تقريبا ، وخيبر كلمة من لغة اليهود معناها {{ الحصن }} ، وهي عبارة عن مجموعة حصون يعيش فيها اليهود، ولذلك كان يسميها البعض {{ خيابر }} صيغة الجمع ، وكانت أكبر مكان يتجمع فيه اليهود في ذلك الوقت .

وكما مرّ معنا سابقا ؛[[ عهود ويهود ضدان ، لا يجتمعان أبداً ابداً ]] ، منذ ذلك الزمان إلى أيامنا هذه ، لذلك أجلى النبي بني النضير و بني قينقاع عندما خانوا العهد ، و اتجه أكثرهم إلى خيبر ، لذلك كلهم حقد وكراهية للمسلمين ، ويرغبون في العودة إلى ديارهم ، أما بنو قريظة فكان مصير رجالهم القتل بعد أن ساعدوا الأحزاب ، و نقضوا العهد مع المسلمين .

إذن أصبحت خيبر هي وكر الدسائس والمؤامرات ، وإثارة الحروب ضد المسلمين ، ورأينا ذلك في غزوة الأحزاب ؛ فقد خرج وفد منهم إلى قريش برئاسة حيي بن أخطب ، وتحدثوا مع أبي سفيان و بعض قادة قريش ، وأخذوا يحرضونهم على غزو المدينة . ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لم ينس ما فعله أهل خيبر، و أنهم رأس الأفعى في غزوة الأحزاب ؛

لكنه لم يغزهم على الفور لأنه كان مشغولا في حربه مع قريش ، ولم يكن يريد أن يفتح جبهتين للمواجهة في نفس الوقت ، أمّا الآن ؛ وبعد عقد صلح الحديبية ، وقبل أن تنقض قريش هذا الصلح ، أصبحت الفرصة مناسبة للتخلص من شرورهم ، خاصة أن يهود خيبر لم يرُق لهم هذا الصلح ،

وقد بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم يستعدون لغزو المدينة متى ما ذهب المسلمون إلى مكة في المرة الثانية لأداء العمرة .
وعندما أراد - صلى الله عليه وسلم - الخروج لخيبر كره خروج المنافقين معه لأن وجودهم في الجيش يضعف الصف الإسلامي، و أيضا هناك علاقة قوية بين المنافقين وبين اليهود منذ وجودهم في المدينة ، لذلك لا يؤمن جانبهم .

لذلك أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يخرج معه في الجيش إلا من شهد الحديبية فقط ، وبذلك ضمن ألا يخرج في الجيش إلا المؤمنون فقط ، أصحاب بيعة الرضوان ، فخرج إلى خيبر بجيش قوامه قرابة {{ 1500 }} رجل من الصحابة من أصحاب الإيمان الخالص لله تعالى .

وعندما خرج - صلى الله عليه وسلم - متوجها إلى خيبر، جاء وفد إلى المدينة من أهل اليمن ، وكانوا قد أسلموا ، وكان معهم شاب نحيل لم يتجاوز الثلاثين من العمر ؛ اسمه {{ عبد الرحمن بن صخر الأزدي }} ، كانت تبدو عليه ملامح الفقر والبؤس الشديد ، و كانت له هرة صغيرة يحملها على كتفيه ، يطعمها ويعطف عليها، هل عرفتم من هذا الشاب ؟؟ نعم ، إنه {{ أبو هريرة }} -

رضي الله عنه وأرضاه - فلقد كنّاه الناس أبا هريرة لشدة اعتنائه بهذه الهرة ، وهو نفس الاسم الذي سيتردد بعد ذلك في سجل العظماء إلى قيام الساعة ،

فأبو هريرة كان أكثر صحابي نقل أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و لا يخلو كتاب يتحدث عن الإسلام من ذكر أبي هريرة ، رغم أنه لم يصحب الرسول لأكثر من 4 سنوات فقط !!! دلالة على شدة ملازمته و صحبته للنبي – صلى الله عليه وسلم - وكان من أهل الصفة [[ فقراء المدينة ]] ، وكان لطيفاً جدا ، وخلوقا، وصاحب دعابة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويناديه

{{ أبا هر }} ، جزاك الله عنا كل خير يا أبا هريرة لما قدمته للإسلام وللمسلمين وإن كنت مسكينا في حياتك ، فهنيئا لك الجنة بإذن الله .

جاء أبو هريرة إلى المدينة مؤمناً مهاجراً ، فصلى الصبح في المدينة، ثم لحق بالمسلمين في خيبر .

يتبع إن شاء الله . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-25-21, 08:03 AM
هذا الحبيب « 211 »
السيرة النبوية العطرة (( الخروج إلى خيبر ))
______
تحرّك المسلمون إلى (( خيبر )) ، وكان المنافقون قبلها قد تحركوا على الفور [[ وهذه عادتهم الخبيثة ]] ، فأرسلوا إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم جيش الرسول إليهم ، فقد أرسل زعيم المنافقين {{ عبدالله بن أبي ابن سلول }} يقول ليهود خيبر : إنّ محمدا في طريقه إليكم ، فخذوا حذركم ، وأدخلوا أموالكم حصونكم ، واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير ، وقوم محمد شرذمة قليلون ، وهم عزل لا سلاح معهم إلا قليل .

فلما وصل الخبر لليهود ، قالوا باستهزاء : محمد يغزونا ؟ !!! هيهات هيهات [[ يعني واثقين من هزيمة المسلمين ]] ، وأخذوا يستعدون ويأخذون احتياطاتهم ، وأرسلوا إلى سيد غطفان {{ عيينة بن حصن }} يا عيينة : نعطيك نصف ثمار خيبر ، في سبيل أن تقف وقومك معنا في قتال المسلمين ، فوافق على الفور . [[ كان في خيبر أكثر من 40 ألف نخلة ، ومازالت تمد المدينة ومكة في موسم الحج بالتمر ]] ، وبدأ يهود خيبر يستعدون لقتال المسلمين .

علم النبي - صلى الله عليه وسلم – من عيونه بخبر غطفان ، فقرر أن يرسل على الفور سرية إلى غطفان حتى يظنوا أن المسلمين سيغزون ديارهم وليس خيبر، وبذلك تخاف غطفان على نفسها ، وتظل في ديارها ، ولا تخرج لحرب المسلمين في خيبر . وبالفعل عندما سمعوا صوت تكبير المسلمين، أنزل الله الرعب في قلوبهم ، وعاد جيشهم بسرعة داخل غطفان ، وتركوا يهود خيبر في حرب الرسول منفردين .

قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بجيش المسلمين في شمال خيبر؛ لأن غطفان تقع أيضا في الشمال الغربي للمدينة ، وحتى يحول بين خيبر وبين غطفان ، إن فكرت غطفان العودة لحرب المسلمين .

وسار الجيش الإسلامي إلى خيبر بروح إيمانية عالية ، فقطعوا الطريق الذي يحتاج خمس ليال في ثلاث ليال ، بالرغم من علمهم بالصعوبة الشديدة للمعركة ، وبحصون خيبر القوية ، وكثرة رجالها ، وكثرة عتادها الحربي .

فلما أشرف على خيبر قام وصلى الفجر - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ، ثم قال : " اللهم ربَّ السمواتِ وما أظللن ، وربَّ الأرضين وما أقللن ، وربَّ الشياطين وما أضللن ، وربَّ الرياحِ وما أذرين . فإنا نسألُك خيرَ هذه القريةِ وخيرَ أهلِها وخيرَ ما فيها ، ونعوذُ بك من شرِّها وشرِّ أهلِها وشرِّ ما فيها " .اقدموا باسم الله ، الله أكبر ، الله أكبر .

فلما رأى اليهود الجيش صاحوا في فزع : محمد والخميس !! [[ الخميس معناه الجيش ، وقد كان العرب يطلقون على الجيش الخميس لأنه خمسة أقسام ، مقدمة ، ومؤخرة ، وميمنة ، وميسرة ، وقلب ]] وأخذوا يهربون ، مسرعين إلى حصونهم .

وحصون خيبر ثمانية حصون مقسمة في ثلاث مناطق ،وهذه الحصون مصممة بحيث إذا حدث اقتحام لحصن منها ، فسيلجأ من في هذا الحصن إلى حصن آخر وهكذا ، فكأنّ المسلمين سيدخلون في عدة حروب وليست حرباً واحدة ، سيّما أنّ العرب لم تكن تعرف كيف تتعامل مع هذه الحصون ، حيث كانوا يعتمدون على المواجهة في حروبهم ، ولذلك كانت مشكلة خيبر ليس فقط تفوق اليهود في العدد والعدة ، و أنما أيضا قوة ومنعة الحصون .


بدأ المسلمون بمهاجمة حصن {{ ناعم }} وكان يعتبر خط الدفاع الأول لمكانه الاستراتيجي ، وكان من أقوى الحصون ، وأخذ اليهود في رمي المسلمين بالسهام وبالحجارة من فوق الحصن ، وكان الجيش الإسلامي قد وقف في منطقة اسمها {{ المنزلة }} عند حصن ناعم ، وكان اليهود إذا ألقوا الحجارة الضخمة من داخل الحصن تتدحرج حتى تصل إلى جيش المسلمين وتصيبهم فجاء {{الحباب بن المنذر }} - رضي الله عنه –

و أشار على النبي – صلى الله عليه وسلم – بتغيير المكان : إن هذا المنزل قريب من حصونهم ، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم ،وسهامهم تصل إلينا ، وسهامنا لا تصل إليهم ، فأعجب النبي – عليه الصلاة و السلام - برأيه ، وقال : أشرت بالرأي ، ثم نزل بالمسلمين في مكان اسمه {{ وادي الرجيع }} ، [[ أتذكرون عندما أشار الحباب في غزوة بدر بتغيير المكان ، و انتصر المسلمون ؟؟؟ إنّه يتمتع بموهبة النظرة الاستراتيجية لجغرافية أرض المعركة ]] .

كانت حصون خيبر محصنة جدا ، واستمرت محاولات المسلمين لفتح الحصن، وواجه المسلمون مقاومة شديدة ، واستشهد أثناء المواجهات عدد من المسلمين ، وجُرح آخرون . كما أصاب المسلمين جوع شديد ، ولم يكن معهم من الطعام إلا القليل من السويق ،[[ ذرة يوضع عليها بعض الشيء من الحلو ،سمي السويق ، لأنه ينساق بالحلق انسياقا ]] .

استمر الحصار إلى الآن قرابة {{ 12 يوما }} ، ولم يحقق المسلمون أي تقدم ملموس على أرض المعركة ، وأصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم بالشقيقة، [[ وهو ما نسميه الصداع النصفي ، وكان ذلك يعاوده منذ أن ضُرِبَ على رأسه الشريفة في غزوة أحد ، وكان إذا جاءه ألم الرأس لا يستطيع أن يقوم من مكانه ]] ، فلم يستطع أن يخرج للقتال في اليوم التالي ، وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم – مهمة القيادة و التوجيه لعدد من أصحابه ، فكانوا يغدون ويروحون أيضا دون تقدّم ملموس ، فاليهود متحصّنون بكل قوّة ؛ وفي نفس الوقت لا يمكن أن يرجع المسلمون إلى المدينة دون إحراز نتيجة مرضية ؛

فالعودة معناها الهزيمة و فقدان المعنوية ؛ وهذا ما تسعى إليه قريش و كل من يُعادي المسلمين ، فما هو الحل الآن ؟

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-26-21, 08:00 AM
هذا الحبيب « 212 »
السيرة النبوية العطرة (( علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفتح الله عليه حصن خيبر ))
______
شعر النبي - صلى الله عليه وسلم – بتعب المسلمين أمام حصون يهود خيبر المنيعة ، فخاف على معنوياتهم من الانهيار، فأراد أن يحفّزهم و يرفع الروح المعنوية للجيش الإسلامي ، [[ فهو القائد و المربّي و النبي ]] ، فقال لهم - عليه الصلاة و السلام - :
(( لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ ( مختلفون بينهم ) لَيْلَتَهُمْ أيُّهُمْ يُعْطَاهَا،

[[ يقول عمر بن الخطاب : ما تمنيت الإمارة يوما إلا ليلتها ، لشهادة رسول الله أنّ من سيعطى الراية يحبه الله ورسوله ]] ، فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ : أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ ؟؟ فقِيلَ: هو يا رَسولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ،

[[ وكان علي - رضي الله عنه - قد أصيب بالرمد في عينيه، فما كان موجودا معهم ، لأنه صلى بخيمته ، ولا يستطع النظر ]] .

قالَ : فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به ، فمسح رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - في عَيْنَيْهِ ، ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ. فَقالَ عَلِيٌّ : يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ : انْفُذْ علَى رِسْلِكَ [[ على مهلك ]] حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ )) .

والمعنى : أنْ تكونَ سببًا في هدايةِ رجلٍ واحدٍ خيرٌ لكَ مِن أنْ تكونَ لك حمرُ النَّعْمِ من الإبل فَتتصَدَّقَ بها، والنبي لم يحارب يهود خيبر ليدخلوا في الإسلام ، وإنما حاربهم لأنهم أصبحوا وكر الدسائس والمؤامرات ، وإثارة الحروب ضد المسلمين ، ورأينا ذلك في غزوة الأحزاب ؛

ومع ذلك يعطيهم النبي الآن {{ الفرصة الأخيرة }} ، إذا دخلوا في الإسلام ؛ فعفا الله عما سلف، ونبدأ صفحة جديدة، [[ وهذه هي قمة الرحمة ، فليس الغاية عند المسلمين القضاء على الناس وقتلهم !!! إنما الغاية هي نشر دين الله ، أفهمتم يا من تشوّهون صورة الإسلام في عصرنا ؟؟؟ ]] .

حمل علي بن أبي طالب الراية وانطلق كالسهم، والمسلمون خلفه ، فكان أول من وصل من المسلمين إلى الحصن، وغرس الراية في أصل الحصن ، وأثناء الحصار خرج من الحصن قائد اليهود اسمه {{ مَرحَب }} ، يطلب المبارزة [[ كما كانت عادة الحروب في ذلك الوقت ]] وكان ضخم الجثة ، وخرج يقول في فخر و كبرياء :

قد علمت خيبر أني مرحب .. شاكي السلاح بطل مجرب
[[ يعني أنا اللي طلعتلك ، بطل خيبر مرحب كل خيبر بيعرفوني ، شاكي السلاح أي سلاحي كامل ما بينقصني شي ، ومجرب بالشجاعة اسأل الفرسان عني وكيف قهرتهم ]] .

فأجابه علي قائلا :
أنا الذي سمّتني أمي حيدره .. ضرغام آجام وليث قسوره
[[ حيدر يعني أسد ، لأن أم علي - رضي الله عنه - عندما ولدته ، سمته أسدا على اسم أبيها، وكان أبوه أبو طالب غائبا، فلما قدم كره ذلك الاسم، وسماه عليا ]] .

ثم التقيا ، فضَرَبَ عليّ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ، وكانَ الفَتْحُ علَى يَدَيْهِ.

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
_______

عطاء دائم
03-26-21, 08:02 AM
هذا الحبيب « 213 »
السيرة النبوية العطرة (( فتح جميع حصون خيبر واستسلام اليهود ))
______
استطاع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يقتل ( مرحب ) أحد أبطال اليهود ؛ فخرج ( ياسر) أخو مرحب يريد الثأر لأخيه ، فبرز له {{ الزبير بن العوام }} - رضي الله عنه – وهو ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عمره 35 عاما ، وتمكّن من ياسر وقتله، فأصيب اليهود بالرعب والفزع الشديد ، واستطاع المسلمون أن يخلعوا باب [[ حصن ناعم ]] ، ودار قتال مرير حول الحصن ، وانهارت مقاومة اليهود ، وفُتح هذا الحصن ، وأخذ اليهود يتسللون من الحصن هربا إلى الحصن الذي يليه وهو حصن [[ الصعب ]] ، وكانت الحصون – كما قلنا - مبنية بحيث يؤدي كل منها إلى الآخر .

وأراد الله تعالى أن يبتلي المؤمنين ، ويختبرهم اختبارا آخر صعبا إلى جانب صعوبة الحرب وهو {{ الجوع }} ، فلقد دخل المسلمون في جوع شديد جدا، و وبعد 3 أيام من الحصار ومحاولة فتح الحصن ،خرج أحد مقاتلي اليهود واسمه {{ يوشع }} ، وطلب المبارزة ، فخرج إليه {{ الحباب بن المنذر }} - رضي الله عنه - فقتله الحباب، ثم خرج من اليهود أحد فرسانهم واسمه {{ الديان }} يطلب المبارزة ، فخرج إليه {{ عمارة بن عقبة }} - رضي الله عنه - فقتله عمارة ، وشدد المسلمون هجومهم على الحصن حتى نجحوا بفضل الله تعالى في فتح الحصن ، وتسلل اليهود هرباً إلى حصن {{ القلعة }} .


وكان حصن ( الصعب ) الذي فُتح بعد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أغنى حصون خيبر بالطعام ، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير ، والتمر، والسمن ، والعسل ، والسكر ، والزيت ، والودك [[ دسم اللحم ]] شيئا كثيرا . وكان من ضمن الطعام الذي وجدوه {{ البصل والثوم }} فأكلوا منه وهم جياع ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بنى للمعسكر مسجدا للصلاة ، فلما كان وقت الصلاة وذهب الناس إلى المسجد ، إذا بريح البصل والثوم قد عمّ المكان ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " مَن أكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا " [[ وليس في ذلك نهي عن أكل الثوم والبصل ، إنما النهي عن إتيان المسجد لمن أكلهما ، وكانت رائحتهما ظاهرة وتؤذي الآخرين ]] .


ووجد المسلمون في ذلك الحصن أيضا {{ المنجنيق : وهو آلة كانت تستخدم في رمي الحجارة الثقيلة على الأسوار فتهدمها }} ، ولم يكن العرب يعرفونها .
إذن تسلل اليهود هرباً إلى حصن القلعة ،وهو أيضا من الحصون المنيعة لأنه فوق قمة جبل ، واستمر حصار المسلمين له قرابة ثلاثة أيام ، ثم يأتي توفيق الله تعالى ونصره ، فألقى الله تعالى الرعب في قلب رجل من اليهود اسمه {{ عزول }} ، فقد خاف إن انتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُقتل و تؤخذ زوجته وأولاده في السبي ، وتُؤخذ أمواله ، فأراد أن يفعل شيئا يحفظ به نفسه ،وأولاده وزوجته ، وماله ، فأتى وتسلل من الحصن، وطلب مقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم – وقال له :

لو أقمت السنين تحاصرهم ما بالوا بك [[ يعني مهما حاصرتهم لن يهتموا لحصارك ]] ، ولكن هناك طريقة واحدة لفتح الحصن ، إن أعطيتني الأمان على نفسي ومالي وعيالي . فأعطاه النبي الأمان ؛ فقال عزول: إن لهم جداول يخرجون بالليل يشربون منها، ثم يعودون إلى قلعتهم ، فلو قطعت عليهم الطريق خرجوا لقتالك !! فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُقطع عنهم جداول الماء ، فاضطر اليهود إلى الخروج وقتال المسلمين ، ودار قتال كبير بينهم وبين اليهود ، حتى انتصر المسلمون ، وفتحوا حصن القلعة .

أخذ بعدها اليهود يهربون من حصن على حصن ، ثم يقتحم المسلمون هذه الحصون ، ويقاتلون اليهود و يفتحون حصونهم واحدا تلو الآخر ، إلى أن هرب اليهود وتجمّعوا مع نسائهم و أطفالهم في حصن [[ النزار ]] ،

وكانوا فوق الألفين ، وكان حصنا منيعا ، استخدم المسلمون المنجنيق لأول مرة في هدم أسواره، فاستطاع المسلمون أن يتسللوا إلى داخل الحصن ، وبعد قتال كبير فتح المسلمون هذا الحصن ، وقتلوا من الرجال ، وسبوا النساء ومنهنّ (( صفية بنت حيي بن أخطب )) ، والتي ستصبح زوجة النبي فيما بعد، ثم فتحوا من بعده حصون منطقة [[ الكتيبة ]] بعد أن حاصروها ليال طوال ، ثم استسلم اليهود بعد أن انهارت قوتهم و معنوياتهم و شعروا بالموت يدنو منهم ، قال تعالى :

{{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ }}. و أرسلوا زعيمهم {{ كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق }} ومعه رهط من اليهود، وكنانة هذا الآن له زوجة اسمها {{ صفية بنت حيي بن أخطب }} ، أرسلوا يريدون الصلح و المفاوضات [[ كعادتهم في زماننا ]] !!

فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم - : [[ هو الاستسلام ، وسيكون بشروطنا الآن ؛ لأنه يعلم كل العلم أنّ يهود وعهود لا يتفقان أبدا ، فالغدر شيمتهم ]] .


وتمّ الاتفاق على حقن دماء اليهود ، على أن يخرجوا من خيبر بنسائهم وأبنائهم وما عليهم من ملابس فقط ، وأن يتركوا وراءهم كل أموالهم وسلاحهم وديارهم ، وأن يركبوا دوابا دون الخيل تحملهم إلى خارج خيبر ، كل ذلك على أن (( لا تخفوا شيئاً من أموالكم ، فإذا كتمتم منه شيئاً يا كنانة أستبيح بها دمكم ، وبرأت منكم ذمة الله و ذمة رسوله )) ، [[ يعني إذا أخفى اليهود أي شيء من الأموال أو السلاح ، فيجوز للنبي أن يقتلهم عقابا لهم على هذا الإخفاء : هُنا عزّة المسلم وقوته ، انظر يا نبي الله ماذا فعل بنا اليهود الآن بعد أن كانوا أذلّاء يستجدون الأمان !! ]] .

ورضي كنانة ومن معه بهذه الشروط ، وشهد الجميع عليها ، وفتح كنانة أبواب الحصون ، وبدأ اليهود بتسليم المسلمين كل ما لديهم من الصفراء [[ كل شيء اسمه ذهب ]] والبيضاء [[ كل شيء اسمه فضة ]] والخف والكراع [[ الخيل والإبل وما يتبعها من الانعام ]] والحلقة [[ السلاح ]] .

هذه عِزّة الإسلام و المسلمين ، وهكذا كان اليهود ذليلين وتحت سيطرة المسلمين ، يستجدون الأمن والأمان . اللهم أعد الهيبة و العزة للمسلمين ، وانصرنا على اليهود المغتصبين ، وكل من عادى الإسلام و المسلمين يا ربّ العالمين .


يتبع . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-27-21, 08:20 AM
هذا الحبيب « 214 »

السيرة النبوية العطرة (( قدوم وفد المسلمين من الحبشة ومعهم جعفر بن أبي طالب ، وأم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان ))
______
.. . رضي كنانة ومن معه بشروط الاستسلام التي وضعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وشهد الجميع عليها ، وفتح كنانة أبواب الحصون ، وبدأ اليهود بتسليم المسلمين كل ما لديهم .

فلما انتهى كنانة ؛ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم يبق عندك شيء يا كنانة ؟؟ قال : لا . فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : يا كنانة ، هنالك أشياء كثيرة تخفيها ، فإن لم تصدُقني هدرت دمك كما اتفقنا!! قال كنانة : لم يبق شيء ورب السماء . فقال له النبي :

فأين مسك حيي بن أخطب ؟؟
ما هومسك حيي بن أخطب ؟؟ [[ اليهود كانت و ما زالت أحرص الناس على المال ، وكان عندهم الدّر الثمين الذي يشتريه العرب منهم و يضعونه على تيجانهم ، و النساء على صدورهنّ ، وكان سعره مرتفعا جدا جدا؛ واليهود يتحكمون فيه ، وكان " حيي بن أخطب " سيد بني النضير – أتذكرونه ؟ قتله المسلمون مع رجال يهود بني قريظة – كان يجمع هذه المجوهرات والقطع الثمينة ، ولا يضعها في صندوق بل يضعها في مسك شاة وهو بلغتنا "جلد الخاروف بعد أن يُنظف ، يُخاط ويُجعل مخزنا للمال " ثم صغُر مسك الشاة ، وما عاد يتسع للمجوهرات فصنع حُيي له مسكا من ثور . . .

وعندما أجلى النبي - صلى الله عليه وسلم -بني النضير عن المدينة المنورة سمح لهم أن يحملوا أموالهم ، ومجوهراتهم معهم ، ومنعهم من حمل السلاح وكان هذا المسك معهم ]] .

قال النبي لكنانة: فأين مسك حيي بن أخطب ؟؟ فضحك وقال : تعلم يا أبا القاسم، ما حل بنا من ترحال ونزول وهجرة ، ولقد أذهبته الحروب والنفقات !!! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: العهد قريب والمال أكثر ، [[ يعني ما مضى مدة طويلة على هذه الكنوز حتى تنفقوها !! كنانة كان قاصد يكذب و يخبي المسك ]] فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أحد اليهود الحاضرين إلى الزُّبيرِ بنِ العوَّامِ فمسَّه بعذابٍ ، وقد كان حُيَيٌّ قبْلَ ذلك قد دخَل خرِبةً، فقال : قد رأَيْتُ حُيَيًّا يطوفُ في خَرِبةٍ ها هنا، فذهَبوا فطافوا، فوجَدوا المَسْكَ في خَرِبةٍ، فأمر رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – بقتل كنانة لأنه أخفى المال ، فبرئت منه ذمّة الله ورسوله .

بعد الاتفاق على شروط الاستسلام هذه بدأ يهود خيبر بالاستعداد للخروج من خيبر والتوجه ناحية الشام ، و أثناء ذلك جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم ، ولكم ما تريدون . فاستحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأيهم ، و وافقهم عليه ؛ فالمسلمون لا يستطيعون القيام على هذه الأرض، لأن أرض خيبر كبيرة، وبعيدة عن المدينة ، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - أرض خيبر لليهود على أن يكون لهم من الزرع النصف وللمسلمين النصف ، وعيّن {{ عبد الله بن رواحة }}

حتى يقوم بتقدير الزروع ومحاسبة اليهود عليها. ولذلك بعد فتح خيبر تحسنت كثيرا الظروف الاقتصادية في المدينة ، لأن خيبر كانت من أكثر المناطق زراعة للنخيل ، واشترط النبي -صلى الله عليه وسلم – على اليهود قائلا : {{على أنَّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم }} وهذا معنى السيادة على الأرض يا سادة ، فهو يعلم – عليه الصلاة و السلام – أن اليهود غدّارون ، وينقضون العهد ، وفعلا في خلافة (( عمر بن الخطاب )) قام بطردهم بالفعل بعد أن غدروا بالمسلمين .

جلس - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنائم خيبر بين المسلمين ، وإذا برجل يجري ويقول : يا رسول الله ،هذا{{ جعفر بن ابي طالب }} قد أقبل من الحبشة [[ جعفر بن أبي طالب ، أخو علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، الذي هاجر إلى الحبشة وبيّن للنجاشي أمر الإسلام ثم أسلم النجاشي ، بقي جعفر والمسلمون في الحبشة والآن عادوا ]] .

فقام – صلى الله عليه وسلم - وقال: مرحبا بمن أشبه خَلقي و خُلقي ، والله لا أدري بأيهما أنا أشد فرحاً : بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟ ثمّ قال : ما الذي أقدمكم إلى خيبر ؟ فقال جعفر : قدمنا إلى المدينة فعلمنا أن رسول الله في خيبر ، فلم نبت ليلة واحدة حتى لحقنا بك . وكان مع جعفر وفد من النجاشي ، فقام - صلى الله عليه وسلم - يخدمهم بنفسه حبّا وكرامة لهم و للنجاشي صاحب اليد البيضاء و الكرم على المسلمين .

وكان من جملة من قدم معهم من بلاد الحبشة أم المؤمنين {{ أم حبيبة ؛ رملة بنت أبي سفيان }} رضي الله عنها ، لم تأت مع الرجال إلى خيبر ، بل بقيت في المدينة ،

وكان قد عقد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في الحبشة ، وتتلخص قصتها أنها أسلمت وخالفت أباها ( أبا سفيان وسيّد قريش ) وأهلها وتبعت دين الإسلام ، وكانت ممن هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة مع زوجها (( عبيد الله بن جحش )) وكانت حاملا ، ووضعت حملها في الحبشة ، فقد وضعت أنثى وسمتها {{ حبيبة }} ، وبعد مدّة فارقها زوجها ( وقيل إنه مات

على النصرانيّة ) وتقطّعت بها السّبل ، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي ملك الحبشة طالبًا منه تزويجه بأم حبيبة بعد انقضاء عدتها ، فجعلت خالد بن سعيد بن العاص وكيلها كي يزوجها من رسول الله ، وتمّ الزواج بحضور الصحابة من مهاجري الحبشة .

وكان صداقها الأعلى بين زوجات الرسول -عليه الصلاة والسلام - إذ بلغ أربعمئة دينارٍ، وقد أهداها النجاشي العود والعنبر وغيرها من الهدايا التي قدمت بها على النبي -صلى الله عليه وسلم- حين انتقل المؤمنون من الحبشة إلى المدينة المنورة ، ووفدت على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- برفقة شرحبيل بن حسنة - رضي الله عنه - وجعفر بن أبي طالب وغيرهم من المسلمين .

وقد قال أبوها ( أبو سفيان ) عندما علم بزواجها من النبي : " ذلك الفحل لا يُقدع أنفه " [[ كانت العرب تضرب الجمل الرديء إذا أراد أن يطرق الناقة الأصيلة ]] وهذا القول دلالة على مباركته بهذا الزواج ، فأبو سفيان من رجالات العرب الأفذاذ أصحاب الحنكة و الرجولة ، ويعرف مصلحة ابنته جيدا ، و يُعلّم الناس اليوم كيف تكون الرجولة في مدح الصهر حتى لو كان عدوا .

وكان زواجه – صلى الله عليه وسلم – من رملة بنت أبي سفيان تكريمًا لها لثباتها على دين الله تعالى .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
.

عطاء دائم
03-27-21, 08:22 AM
هذا الحبيب « 215 »
السيرة النبوية العطرة (( محاولة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم – بالسم وهو في خيبر ))
______
قبل أن يرحل النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كان هناك امرأة يهودية اسمها {{ زينب بنت الحارث}} وهي أخت ( مرحب ) الذي قتله علي – رضي الله عنه - جاءت تتظاهر أنها تريد إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم -لأنه عفا عنهم [[ بمعنى أنها تريد أن تشكر النبي لأنه لم يأخذهم بذنب كنانة عندما نقض العهد وأخفى المال ]] ، فقالت : أريد أن أقدم لرسول الله شاة مصلية [[ أي مشوية ]] ،

وكانت قد سألت : أي عضو في الشاة أحب لرسول الله ؟؟ فقيل لها : الذراع اليمنى من الشاة ، فجاءت وأكثرت فيها السم ، ثم وضعت السم على الشاة كلها [[ عشان كل شخص أكل معه لا يقوم من مكانه ]] وجاءت مبتسمة وقالت : هذه هدية لك يا محمد .

وكان معه عدد من أصحابه ، ولكن كان أقربهم منه {{ بشر بن البراء }} - رضي الله عنه - ومن أدب الصحابة لا يأكل أحد قبل أن يمد يده - صلى الله عليه وسلم - فلما وضعت الشاة تناول – عليه الصلاة و السلام – الذراع ، فلاك منها مضغة فلم يسغها ، وكان الصحابي - بشر – قد أخذ قطعة بعدما تناول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذراع ووضعها في فمه ولاكها ؛

ثمّ ردّها النبي – عليه الصلاة و السلام - وقال : ارفعوا أيديكم !! إن هذا الذراع ليخبرني أنه مسموم !! فقال بشر: والذي بعثك بالحق لقد شعرت بذلك من أكلتي التي أكلت .[[ يعني من اللقمة اللي أكلتها شعرت أن الطعام فيه طعم غريب !! ]] ولم ألفظها كراهية أن أنغّص عليك طعامك يا رسول الله (( شوفوا محبة الرسول عند الصحابة و أدبهم معه )) .

ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم أن يأتوا له بالمرأة التي فعلت ذلك ، فلمّا سألها عن ذلك السم ،اعترفت وقالت : لقد قُتل في خيبر ، زوجي ، وأخي ، وابني ، فقلت أضع لك السم ؛ فإن كنت ملكاً متغطرساً نستريح منك ، وإن كنت نبيا أطلعك الله عليه و لم يضرك .
[[ على مر الزمان قتل اليهود الكثير من أنبياء الله، و هذا هو حال المغضوب عليهم فهم ليسوا أهل حرب، بل أهل حقد وغدر ]]

ولأنها صدقت عفا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن ينتقم لنفسه أبدا ، ولكن عندما مات {{ بشر }} في اليوم التالي متأثّرا بالسم ؛ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُحضروا هذه المرأة اليهودية ، وأن تقتل قصاصا لأنها قتلت بشر رضي الله عنه .
واحتجم النبي - صلى الله عليه وسلم – [[ عمل حُجامة ]] ،

وظل يعتريه المرض كل عام من أثر هذا السم، حتى مات بعد ذلك بثلاث سنوات متأثرا بذلك السم كما روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : {{ كَانَ النَّبِيُّ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ }} .

و الأبهر هو أكبر شريان يوزع الدم في جسم الإنسان . ولذلك كان ابن مسعود وغيره من أهل العلم يقولون إنّ نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم – مات شهيدا وإن كان مات على فراشه ، فإن سبب وفاته الحمى والصداع الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها بخيبر، فلم تؤثر عليه في ذلك الوقت، حتى يبلّغ الرسالة ويؤدي الأمانة...
والآن بقي سؤال مهم !! كيف وصل خبر انتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر إلى قريش ؟؟ وما ردة فعلهم ؟؟

أحد الصحابة اسمه {{ الحجاج بن علاط }} كان قد أسلم حديثا وشارك في خيبر ، فلما تحقق النصر للمسلمين وهم في خيبر جاء الى النبي - صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ، إن لي بمكة مالاً عند تجار مكة ، هل تأذن لي يا رسول الله أن آتي مكة وأن أقول :

[[ أن أقول ، يعني لا أظهر إسلامي لهم وأقول كلاما حتى أتمكن من تحصيل أموالي منهم ]] ، فأذن له عليه الصلاة و السلام . فذهب ابن علاط إلى مكة ، وكان أهل مكة ينتظرون الأخبار ، ويسألون الناس ، ماذا فعل أهل خيبر بمحمد ؟؟

لأن كل العرب في الجزيرة العربية يترقبون الخبر، ويعلمون أن خيبر لا تغلب على الإطلاق ، فهم محصّنون . فلما رآه أهل مكة قالوا : هذا الحجاج بن علاط عنده والله الخبر .

قالوا : أخبرنا يا أبا محمد ، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر [[ القاطع يدّعون أن النبي -عليه الصلاة و السلام - قطع أرحام أهل مكة ]] ،
فضحك الحجاج وقال : لقد هُزم محمد و أصحابه هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط !! فقد قُتلوا أصحابه و أخذوه أهل خيبر أسيراً عندهم ، وقالوا : لن نقتل محمدا حتى نبعث به إلى أهل مكة ، فيقتلوه وينتقموا منه !! فضاجت قريش كلها بين مصفر ، ومصفق ، وراقص ، وامتلأت مكة بالأفراح .

ثم قال ابن علّاط : أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي ، فإني أريد أن أقدم خيبر ، فأصيب من فيء محمد وأصحابه ، قبل أن يسبقني إليه التجار إلى هناك ؛ فجمعوا له كل ماله الذي بمكة .[[ طبعا واحد حمل لنا مثل هذه ال


بشارة قامت قريش كلها لتجمع له ماله والذي عليه دين أجبروه على الدفع ]]
فجاء العباس عم النبي - رضي الله عنه - وكان يكتم إسلامه ، وقف بجانب الحجاج مهموماً ، مكسوراً ، مهزوماً ، حزيناً ؛

قد دمعت عيناه، قال : يا حجاج ، ما هذا الخبر الذي جئت به ؟؟ فابتسم الحجاج وهمس في أذن العباس قائلا : جئتك والله بما يسرك يا أبا الفضل ، والله لقد تركت ابن أخيك قد فتح الله تعالى عليه خيبر ، وصارت خيبر وأموالها كلها له ولأصحابه، وتركته عروسا على صفية ابنة سيد اليهود حيي بن أخطب ، واكتم عني ما سمعت ثلاثة أيام حتى آخذ مالي وأخرج من مكة ، ففرح العباس فرحا شديدا .


وبعد ثلاثة أيام أخبر العبّاس قريشا خبر انتصار محمد و صحبه في خيبر ، فجُنّ جنونهم ، وعلت وجوههم الخيبة، فقد ضحك عليهم ابن علّاط !!! و في نفس الوقت تسيّد محمد و أصحابه الموقف في الجزيرة العربية ، وأصبح الإسلام و المسلمون هم القوة الأولى والتي لا يوازيها قوة .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
03-28-21, 08:22 AM
هذا الحبيب « 216 »
السيرة النبوية العطرة (( زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفية بنت حيي بن أخطب ))
______
ذكرنا سابقا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل {{ كنانة بن الربيع بن أبي حقيق }} وكان أحد زعماء اليهود، لأنه أخفى {{ مسك حيي بن أخطب }} سيّد بني النضير ، وكانت زوجته (( صفية بنت حيي بن أخطب )) قد سُبيت مع كثير من نساء يهود خيبر، وكان عمرها في ذلك الوقت {{ ١٧ }} عاما .
أمّا عن قصة زواجه – صلى الله عليه وسلم – من صفية ، فقد وردَ في صحيح مسلم إنَّ رجلًا من المسلمين اسمه دحية، جاء إلى رسول الله فقال له :

" يا رَسولَ اللهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، فَقالَ : اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً، فأخَذَ صَفِيَّةَ بنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إلى نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ – فَقالَ : يا نَبِيَّ اللهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ؟ ما تَصْلُحُ إلَّا لَكَ، قالَ: ادْعُوهُ بهَا، قالَ: فَجَاءَ بهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهَا النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - قالَ: خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا، قالَ : وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا " .


إذن أعتقها النبي – صلى الله عليه وسلم - وخيّرها بين أن تعتنق الإسلام وتكون زوجة رسول الله، أو أن تبقى على دينها وتلحق بقومها، وتروي كتب السيرة أنها قالت في ذلك الموقف : " يا رسول الله! لقد هويتُ الإسلام وصدّقت بك قبل أن تدعوني،[[ أتذكرون ذلك ؟ فقد عَرفت أنه رسول الله عندما كان عمرها عشر سنوات ؛ قدم النبي إلى يثرب وقت الهجرة، و ذهب أبوها وعمها في استقباله وقالا في حديثهما لبعضهما : إنه هو نبي آخر الزمان ، وقد طابق وصفه ما جاء في كتب اليهود ، وقال أبوها حيي : سأعاديه ما حييت ؛؛ لأنه كان يريد نبيا من بني إسرائيل وليس من العرب!! ]] ،

حيث صرت إلى رحلك يا نبي الله وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر و الإسلام، فالله ورسوله أحب إليَّ من العتق وأن أرجع إلى قومي"، وأعلنت إسلامها – رضي الله عنها - فأعتقها النبي وتزوجها .

أمَّا الحكمة المستخلَصة من قصة زواج النبي من صفية بنت حُيي فقد أوردَها الإمام النووي في شرح هذا الحديث الشريف، حيث قال: " رأى النبي في إبقائها لدحية مفسدة لتميُّزه بمثلها على باقِي الجيش [ فهي ابنة سيد بني النضير ] ، ولمَا فيه من انتهاكِها مع مرتبتها وكونِها بنت سيّدهم، ولما يخاف من استعلائها على دحية بسبب أنها ابنة أشراف القوم ،

وربَّما ترتَّبَ على ذلك شِقاق أو غيرُهُ، فكان أخذهُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إياها لنفْسِهِ قاطعًا لكلِّ هذه المفاسد ، وتعظيما لمرتبتها . ويمكن القول أيضًا إنَّ الحكمة من زواجه هو أن يبين للناس أنَّه لا حرمة في أن يأخذ المسلم سبية ويعتقها ويجعلها زوجة له في الإسلام، والله تعالى أعلم .

وهناك سؤال يخطر في بال الكثير الآن : كيف دخل النبي- صلى الله عليه وسلم -على صفية ؟ فأين العدة أربعة أشهر وعشرة أيام ؟؟

وجواب ذلك أنّ الذي قام بهذا الفعل النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو المشرع عن ربه - عزوجل – و أمر زواجه بأكثر من أربعة نساء خصّه الله به عن سائر المسلمين ،

كذلك فإنّ كنانة زوج صفية السابق مات يهوديا وليس مسلما ، وزوجته أسلمت بعد موته مباشرة ، إذن انقطع الرباط بينها وبين زوجها السابق نهائيا . أمّا العدة فهي لأمرين : احترام حق الزوجية؛ وزوجها السابق كافر وهي قد أسلمت ، والإسلام يجبّ ما قبله ، والأمر الثاني استبراء الرحم من حمل سابق ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل رجل على ذات حمل ، ولقد أقامت صفية في خيمة أم سلمة زوجة النبي – عليه الصلاة و السلام - بضعة عشر يوما ( قبل أن يبني النبي بصفيّة ) ،

وعلمتها أحكام الصلاة ، والطهارة ، وبعد أيام توقفت عن الصلاة بسبب الحيض ، وتبين خلو الرحم من الحمل .
وعند عودة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة مع صفية ، زادت غيرة نساء النبي – عليه الصلاة و السلام – فالغَيْرةَ قد تَقَعُ مِنْ أفضلِ النِّساءِ، حتَّى لَو كُنَّ زَوجاتِ الرَّسولِ - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- فهنّ كباقي النساء في هذا الأمر، وقد تعلمنا من بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – أشياء كثيرة في هذا الباب ،

إذ ينبغي على الزَّوجِ أنْ يُعاملَ زَوجتَه بالتي هي أحسَنُ، وأنْ يَتعاملَ معها باللُّطفِ، خاصَّةً إذا وَجَد منها شيئًا مِنَ النَّقصِ أو القُصورِ. يقولُ أنسٌ - رضي اللَّه عنه - : ((إنَّ النَّبيَّ - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - كان عند إحْدَى نِسائهِ، وهي عائشةُ - رضي اللَّهُ عنها -، فأرسَلتْ إحدى أُمَّهاتِ المؤمنين بِصَحفةٍ : [[ إناءٌ مِنْ خَشَبٍ فيه طعامٌ ]] فضَربتِ عائشةُ يَدَ الخادمِ الَّذي جاء بِالصَّحفةِ، فَسَقَطَتِ الصَّحفةُ مِنْ يَدِهِ فانفَلَقَت [[ فانشَقَّت ]]،

فَجَمَعَ النَّبيُّ - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - فِلَقَ الصَّحفةِ، ثُمَّ جَعَل يَجمعُ فيها الطَّعامَ الَّذي كان في الصَّحفةِ ويقول للحاضرين عنده :غارَتْ أُمُّكُم ... )) . اعتِذارًا منه - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - لِئلَّا يُحمَلَ صنيعُها على ما يُذَمُّ، بل يَجري على عادةِ الضَّرائرِ مِنَ الغَيْرة؛ فإنَّها مُرَكَّبةٌ في النَّفْسِ، بحيث لا يُقدَرُ على دَفْعِها ، وأعاد مع الخادم صفحة أخرى صحيحة .

[[ شوفوا كيف حُسنُ خُلُقهِ - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - وإنصافُه وحِلمُه ، مش مثل بعض أزواج اليوم ؛ مع أول كلمة بينو وبين مرتو يا بضربها يا بتحرد عند دار أهلها يا برمي عليها الطلاق !! وكم هي كثيرة حالات الطلاق في المحاكم في زماننا هذا !! ]] .

فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ومعه السيدة صفية ، كان يدافع عنها ويقف إلى جوارها ، فقد وُجّهت أحيانا السهام الجارحة لها بأصلها اليهودي ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي ، فبكت فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي فقال: فما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة إني ابنة يهودي ، فقال- صلى الله عليه وسلم -: وإنك لابنة نبي، وأن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة)) . وقلنا إنّ نسب صفية ينتهي إلى نبي الله هارون، وعمها كليم الله موسى - عليهما السلام ،

وهذا بياناً لمكانتها وجبراً لخاطرها.
وقد ورد أيضا أن النبي الله - صلى الله عليه وسلم - في الوجع الذي توفي فيه اجتمعت إليه نساؤه ، فقالت صفية بنت حيي : أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي ،[[ يعني يا ريت أنا ولا أنت ]] فغمزنها أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - [[ غمزوا بعض :يعني شوفي هاليهودية ايش بتقول ]]،وأبصرهنّ – عليه الصلاة و السلام - فقال : مضمضن . فقلن : من أي شيء يا نبي الله؟ قال: من تغامزكنّ بصاحبتكنّ !! والله إنها لصادقة .

فكانت - رضي الله عنها - عاقلة حليمة فاضلة ، وكانت وفاتها سنة اثنتين وخمسين للهجرة في خلافة معاوية رضي الله عنهم أجمعين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-02-21, 08:23 AM
هذا الحبيب « 217 / الجزء الأوّل »

السيرة النبوية العطرة (( الرسائل إلى الملوك والزعماء / المُقدّمة ))
______
بعد أن رجع النبي - صلى الله عليه وسلم – من خيبر بعدة أيام ، بدأ في إرسال الرسائل إلى الملوك والزعماء داخل وخارج الجزيرة العربية ، لماذا ؟؟ لأن الإسلام دين عالمي ، وليس فقط للعرب وقريش والجزيرة العربية ، قال تعالى : {{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}} ، وقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوة الملوك ، والزعماء داخل وخارج الجزيرة العربية بعد صلح الحديبية ؛ لأن صلح الحديبية كان يعني اعتراف قريش بالدولة الإسلامية ، وبذلك أصبح للدولة الإسلامية مكانتها بين دول العالم القديم ، وكان هذا من أهم مكاسب صلح الحديبية ،

ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بادر إلى دعوة الملوك والزعماء قبل صلح الحديبية لما التفت أحد إلى هذه الرسائل ، لأنها في ذلك الوقت ستعتبر رسائل مرسلة من جماعة مارقة غير شرعية ، وليست من دولة لها سيادة .
ولو ألقينا نظرة على حال العرب بين الدول قبل الإسلام ، فلن نتعب في الشرح !! فهو يشبه حال الأمة العربية في هذا الوقت تماماً ، فقد كان العرب ذيلا لمعسكرين اثنين :

{{ معسكر فارس و معسكر الروم }} ، ونحن اليوم تفتحت أعيننا على الدنيا ونحن بين معسكرين :غربي شرقي ؛ يتحكّمون بنا كما يشاؤون ، وهكذا كان العرب بلا دين ، و عندما جاءهم الإسلام أعزهم ، ورفع شأنهم ، وحررهم من هذه التبعية فكانوا : {{ خير أمة أخرجت للناس }} ، فاللهمّ أعز الإسلام و المسلمين ،وأذل الشرك و المشركين ،وأعد لنا هيبتنا يا رب العالمين .

إذن بدأ - صلى الله عليه وسلم – بإرسال أصحابه برسائل الدعوة إلى الإسلام ، وقد بدأ بأعظم دولتين ، الفرس وعظيمها يلقّب ب [[ كسرى فارس ]] ، والروم وعظيمها يُلقّب ب [[ قيصر الروم ]]

[[ يعني كسرى وقيصر لقبان ، ويُقال لعظيم الحبشة النجاشي ، وليس هذا اسمه ، وكذلك يقال لعظيم الأقباط في مصر المقوقس ]] وخاطبهما بلهجة القوي المتمكن ، فهو رسول الله ، ومؤيد منه جل في علاه ، فكان كلما خاطب رجلا فيهم في رسالة يقول له : {{ أسلم تسلم }} بمعنى أنك إن لم تسلم لن تسلم . وانطلق الصحابة بهذه الرسائل من مسجده في وقت واحد وذلك كما يلي :

رسالة إلى هرقل قيصر الروم وحملها دحية الكلبي رضي الله عنه .
رسالة إلى كسرى ملك فارس وحملها عبد الله بن حذافة رضي الله عنه
رسالة إلى المقوقس حاكم مصر حملها حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
رسالة إلى النجاشي ملك الحبشة حملها عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه ( ليس النجاشي الذي أسلم ، سنوضح ذلك في رسالته ) .
رسالة إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين وحملها العلاء بن عمرو الحضرمي رضي الله عنه .

رسالة إلى هوذة بن علي ملك اليمامة وحملها سَليط بن عمر رضي الله عنه
رسالة إلى الحارث بن أبي شَمِر ملك دمشق، وحملها شجاع بن وهب رضي الله عنه .
رسالة لأمير بُصرى حملها الحارث بن عمير الاسدي .[[ ليست بُصرى التي في العراق ‘ إنّما التي ذكرناها بداية السيرة ، كان يقيم فيها الراهب بحيرا المعروفة الآن بصيرة الطفيلة ]] ،

وهذا الوحيد الذي قٌتِل من الذين حملوا الرسائل !! وللأسف من المؤلم جدا حين تعرفوا من الذي قتله؟؟ !! نعم للأسف . . .
إنه الوالي العربي المنافق ( شرحبيل بن عمرو الغسّاني ) فقد ولّاه الروم على تلك المنطقة ، وكل الزعماء حافظوا على المواثيق و العهود التي تخص الرسل إلا هذا العربي المنافق أحبّ أن يزيد في ( تسحيجه ونفاقه للروم ) .


وعندما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب للملوك ، قال له أصحابه : يا رسول الله ، إنهم لا يقرؤون كتابا إلا إذا كان مختوما ، فصنعوا له خاتما يختم به رسائله مكتوب فيه (( الله رسول محمد ))، ونلاحظ في هذا الختم أنه مكتوب من أسفل إلى أعلى ، وقد قصد النبي ذلك ؛ حتى لا يعلو اسم محمد اسم الله – جلّ جلاله - وهذا من أدبه – عليه الصلاة و السلام - مع ربه . فصيغة الختم هي (( محمد رسول الله )) .

قبل أن نبدأ بالرسائل نلقي نظرة سريعة على حال دولة الروم و دولة الفرس ، دولة كسرى فارس مقرها ( العراق ) ويعبدون النار، ودولة قيصر الروم مقرها ( الشام ) وهم أهل كتاب على بقايا تعاليم المسيح عيسى - عليه السلام - وكانوا في صراع وحروب دائمة ، فعندما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ، وقعت حرب بين الروم والفرس ، وانتصر الفرس على الروم انتصارا كبيرا ، وأخذوا صليبهم رمز عزتهم ، وأهان الفرس الروم إهانة كبيرة ، وكانت قريش تميل إلى الفرس ، وفرحت بهذا النصر لأن قريشا تعبد الأصنام والفرس تعبد النار، بينما الروم أهل كتاب مثل محمد وصحبه الذين كانوا يميلون إليهم وحزنوا على هزيمتهم ، فنزل قوله تعالى :

{{ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ }} .

وفعلا في هذا العام ، وفي الوقت الذي أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رسائله ، كان نصر الروم على الفرس على يد هرقل عظيمهم ، واستعاد الصليب ، وأجلى دولة فارس من بلاد الشام كما أخبر الله تعالى نبيه تماماً ، وهذا من الإعجاز التاريخي في القرآن .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-02-21, 08:25 AM
هذا الحبيب « 217 / الجزء الثاني »

السيرة النبوية العطرة (( رسالة الرسول – صلى الله عليه وسلّم - إلى هرقل قيصر الروم ))
______
كان من عادته – صلى الله عليه وسلم – أن يُرس لكل مهمة الصحابي الذي يُناسب جدّا هذه المهمة ، ونحن الآن أمام قيصرالروم – صاحب المُلك و الجاه و السّيادة ، لذلك أرسل – عليه الصلاة و السلام - دحية الكلبي ( صاحب الهيئة الجميلة و الوجه الحسن ) إلى قيصر الروم [[ ومعنى قيصر في اللغة البقير، وهو شق البطن ، نسميها اليوم ولادة قيصرية ، وكان القيصر يفتخر أنه لم يخرج من فرج ]] ، كان اسم هذا القيصر ( هرقل ) ، وكان قد انتصر على الفرس ،وأصبح يسيطر الآن على نصف أوروبا الشرقية وتركيا والشام ومصرو شمال افريقيا ، وكلها مطلة على البحر المتوسط ، لذلك كان يسمّى {{ البحيرة الرومانية }} ، وكل حكّام المناطق تحت سيطرته .

وكان هرقل قد نذر إن نصره الله على الفرس أن يأتي مشياً على قدميه من مكان إقامته في {{حمص }} إلى {{ بيت المقدس }} شكرا لله على نصره في حربه ضد الفرس ،

[[ وكان هرقل متدينا وذا علم ، وكان يعلم من كتب أهل الكتاب التي قرأها أن هناك نبيا بعد عيسى - عليه السلام - وقرأ صفاته في تلك الكتب لكنّه لا يعلم أنه صاحب الرسالة الآن ]] ، فخرج ماشيا إلى بيت المقدس تُبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين ليمشي عليها ، تخيلوا كم كان ملكه !!!

وكان دحية الكلبي رسول رسول الله يريد التوجه إلى حمص ، فلما وصل للشام {{ الأردن }} أخبروه أن قيصر موجود الآن في بيت المقدس {{ فلسطين }} فحول طريقه إلى فلسطين ، وقرأ على هرقل نص الرسالة :

(( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين،

[[ أي لإيمانك بعيسى ثم بمحمد ]] فإن توليت عليك إثم الأريسيِّين،[[ يعني البسطاء الغالب عليهم الجهل وهم على دين ملوكهم، فإن آمنت بوحدانية الله آمنوا معك ، وإن كفرت فإثمهم في رقبتك ]] ، وتلا قوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} )) .

لم يتعجل هرقل في الرد على دحية الكلبي ، وأمر جنوده أن يأتوا له ببعض العرب من أهل مكة لكي يسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم ، وبالفعل أحضر الجنود عددا من تجار مكة الذين جاؤوا لفلسطين ، وكان بينهم أتدرون من ؟؟ أبو سفيان بن حرب !!! وهنا يروي لنا أبو سفيان بعد أن أسلم ما دار بينه وبين هرقل :

(( . . . فَدَعَانا هرقل في مَجْلِسِهِ، وحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَا بتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أيُّكُمْ أقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: فَقُلتُ أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أدْنُوهُ مِنِّي، وقَرِّبُوا أصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ،( انظروا ذكاء هرقل ، جعلهم خلف أبي سفيان حتى ما يتعاونوا في الإجابة ) ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لهمْ إنِّي سَائِلٌ هذا ( أبو سفيان ) عن هذا الرَّجُلِ ( محمد ) ،

فإنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ [[ يعني تهديد ، و يا ويلك يا أبو سفيان إذا بتكذب ]] . ثُمَّ كانَ أوَّلَ ما سَأَلَنِي عنْه أنْ قَالَ: كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلتُ: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ : فَهلْ قَالَ هذا القَوْلَ مِنكُم أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟

قُلتُ: لَا. قَالَ : فَهلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ قُلتُ: لا قَالَ : فأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ منهمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ؟ قُلتُ: لَا. قَالَ: فَهلْ يَغْدِرُ؟ قُلتُ: لَا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ ( عهد صلح الحديبية )

لا نَدْرِي ما هو فَاعِلٌ فِيهَا . قَالَ: فَهلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ : فَكيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ قُلتُ: الحَرْبُ بيْنَنَا وبيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا ونَنَالُ منه. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلتُ: يقولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وحْدَهُ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، واتْرُكُوا ما يقولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ والصِّلَةِ. ( لاحظوا كل أسئلة هرقل تدل على عقلانية و حكمة وذكاء ) .

( الآن هرقل يريد أن يوضّح لأبي سفيان ومن معه سبب كل سؤال ) فَقَالَ هرقل لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ له: سَأَلْتُكَ عن نَسَبِهِ؟ فَذَكَرْتَ أنَّه فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا. وسَأَلْتُكَ هلْ قَالَ أحَدٌ مِنكُم هذا القَوْلَ؟

فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقُلتُ: لو كانَ أحَدٌ قَالَ هذا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ. وسَأَلْتُكَ هلْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أنْ لَا، قُلتُ فلوْ كانَ مِن آبَائِهِ مِن مَلِكٍ، قُلتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أبِيهِ. وسَأَلْتُكَ، هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قَالَ ؟

فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فقَدْ أعْرِفُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ. وسَأَلْتُكَ أشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، و ( الضعفاء ) هُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ. وسَأَلْتُكَ أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذلكَ أمْرُ الإيمَانِ يزيد حتَّى يَتِمَّ . وسَأَلْتُكَ أيَرْتَدُّ أحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ ( يثبت في القلب ) .

وسَأَلْتُكَ هلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أنْ لَا، وكَذلكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ. وسَأَلْتُكَ بما يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ، . . . فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، [[ أي إنَّ هذا الرَّجُلَ نبيٌّ حقًّا، وسيَملِكُ أرضَ بَيتِ المَقدِسِ، وهي الشامُ، و أرضَ مُلكِ هِرقلَ ، وسينتشر الدين الإسلامي ]] .

وقدْ كُنْتُ أعْلَمُ أنَّه خَارِجٌ، ولَمْ أكُنْ أظُنُّ أنَّه مِنكُمْ، فلوْ أنِّي أعْلَمُ أنِّي أخْلُصُ إلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ( سافرت إليه ) ، ولو كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عن قَدَمِهِ ( طقوس دينية مسيحية تدل على الاحترام والإكرام ) . . .

قَالَ أبو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ ما قَالَ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ ( عظماء الروم ما عجبهم كلام هرقل ) وأُخْرِجْنَا، فَقُلتُ لأصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لقَدْ عظُم أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ،[[ لقدْ عَظُمَ شأنُ مُحمَّدٍ الَّذي كُنَّا نَدْعوه اسْتِهزاءً وسُخْريةً هذا ابنُ أبي كَبْشةَ يُكَلَّمُ مِن السَّماءِ! وأبو كَبْشةَ أبوه مِن الرَّضاعةِ ]]، إنَّه يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ. [[ حَتَّى أصْبَحَ يَخافُه مَلِكُ الرُّومِ، ويَعترِفُ له بالفَضلِ والنُّبوَّةِ ]] . . .
وسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، . . .
فأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ له بحِمْصَ [[ عمل اجتماعا طارئا في قصره عندما عاد من بيت المقدس إلى حمص ]]، ثُمَّ أمَرَ بأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يا مَعْشَرَ الرُّومِ، هلْ لَكُمْ في الفلاحِ والرُّشْدِ، وأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هذا النبيَّ؟

[[ يعني أنا متأكد أنه نبي ، وسيقضي على مُلكنا ، فإنْ أردْتُم أن يبقى ملككم فعاهِدوا مُحمَّدًا على الإسلامِ ]] ،

فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قدْ غُلِّقَتْ،[[ رأى هِرَقْلُ نُفورَهم مِن الإسلامِ وثَوْرتَهم العَنيفةَ عليه ،وهروبهم من المكان مثل الحمر الوحشية ]] فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ،[[ تعالوا ارجعوا ، لا تصدقوا كلامي ]] وقَالَ: إنِّي قُلتُ مَقالتي آنِفًا أخْتَبِرُ بهَا شِدَّتَكُمْ علَى دِينِكُمْ،

[[ كنت أمزح معكم يا جماعة ]] ، فَسَجَدُوا له ورَضُوا عنْه . . .

إذن يبدو أنّ هرقل كان سيُسلم ، ولكنّه آثر البقاء على الكرسي مثل الكثير في زماننا !!! واشترى المُلك الزائل و المنصب المائل عندما وجد نفورا من قومه ، نعم إنّ هرقل علم علما قطعيّا صِدقَ نبوّة محمَّدٍ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – وأنّ الإسلام سيقضي على امبراطوريّته ، لكنّه ركب رأسه وسنرى كيف تحطّم ملكه ابتداء من غزوة مؤتة ثمّ الفتوحات المتتالية في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .

يقول دحية : وقبل أن أغادر من عند هرقل ، وصلت رسالة من والي دمشق (( الحارث بن أبي شَمر )) يقول فيها :

إنني أجهّز لغزو محمد في المدينة ، وأريد أن أستأذنك يا هرقل في ذلك ( الحارث عربي موالي للروم ويسحّج ويُنافق لهم !! ) ، وكان (( شجاع بن أبي وهب )) قد حمل إلى الحارث والي دمشق رسالة من النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعوه فيها إلى الإسلام ، وعندما قرأ الحارث الرسالة أحمرّ وجهه ، وغضب وقال : من ينزع مني ملكي ؟؟ إني سائر اليه، ولو كان في اليمن لجئته إليه .

قال دحية : فغضب هرقل غضباً شديداً ، وأمر أن يرسل إلى الحارث: لا تفعل ولا تزعج الرجل ، وأكرم وفادة حامل الرسالة ، فقام الحارث واعتذر للرسول وأكرمه وحمّله الهدايا ، ولغى فكرة غزو المدينة ، [[ لقد برد رأس هذا الذنَب

- الحارث والي دمشق - لإنه أجاه الأمر من أسياده الروم ، فتوقّف عن الغضب و الرغبة في قتال المسلمين ، وما أشبه اليوم بالأمس !! ]]
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-03-21, 07:53 AM
هذا الحبيب « 219 »
السيرة النبوية العطرة (( المقوقس حاكم مصر))

______

أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رسالة إلى {{ المقوقس }} حاكم مصر وكان المقوقس مسيحيا وتابعا للامبراطورية الرومانية ، فكان الأقباط في مصر ، وعظيمهم المقوقس يدينون بالنصرانية ، فخاطبهم - صلى الله عليه وسلم - بالصيغة التي خاطب فيها عظيم الروم لأنهم أهل كتاب ، والذي حمل الرسالة هو {{ حاطب بن أبي بلتعة }} - رضي الله عنه - وكان نصّ الرسالة :

{{ بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ،أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط [[ لأن كل راع مسؤول عن رعيته ، وسيتحمّل إثمهم ]] ، ثم ختم الرسالة بالآية كما ختمها لقيصر :

{{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }} ،

[[ تماماً كما قال لهرقل عظيم الروم ، الأجر الأول إيمانك بالمسيح عيسى -عليه السلام - واتباعك له ، والأجر الثاني إيمانك بمحمد واتباعك له ، أما كسرى لم يضع له هذه العبارة ؛ فينبغي لنا من السيرة أن نتعلم كيف يجب أن نخاطب كل قوم بما يناسبهم ]] .

يقول حاطب : عندما أعطيته الرسالة ؛ قرأها وأمعن النظر فيها ، ثم طوى الرسالة وقبّلها و وضعها في قطعة من حرير، ثم وضعها في صندوق ، وأمّن عليها جارية خاصة له في القصر، وأمر أن يجهز لي مكانا للراحة في قصره . ثم دعاني لمجلسه وقد جمع عنده أكابر حاشيته و قال لي : إذا كان صاحبك نبيا كما تقول إذن ما منعه أن يدعو بالهلاك على من خالفه وأخرجه من بلده مكة ؟؟

فقال له حاطب بكل هدوء: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله ؟ قال المقوقس : بلى . فقال حاطب : فلماذا لم يدع عيسى على قومه بالهلاك حيث أخذوه ، وأرادوا أن يقتلوه ويصلبوه ، لكنه صبر حتى رفعه الله إليه ؟ فتبسم المقوقس وقال : أحسنت جواباً ، أنت حكيم جاء من عند حكيم .

[[وهكذا، كان يُحسن النبي اختيار رسله لأنه يمثل حال ولسان وسياسة دولته]] و يُتابع حاطب قائلا : فمكثت عنده أياما أحسن فيها ضيافتي ، و أكرمني خير إكرام ، و لم يراجعني في شيء . ثم دعاني بعد ذلك إلى مجلسه ، وأخذ يسألني عن الإسلام ، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم – و أنا أجيبه فيقول المقوقس لي : هذه صفته .
بعد ذلك دعا كاتبه ، وكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – رسالة [[ وهو الوحيد الذي رد على النبي برسالة ]] جاء فيها :

(( لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلامٌ عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيًا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، [[ أي من بني إسرائيل ]] ،

وقد أكرمتُ رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك )) . ولم يزد على هذا ، وحمّلني الهدايا وقال : ارحل من عندي ولا تسمع منك القبط حرفًا واحدا . أمّا الجاريتان فهما {{ مارية القبطية }} التي تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم – وقد أنجبت له {{ إبراهيم }} ، و

{{ وسيرين }} التي تزوجها {{ حسان بن ثابت }} .

وإذا كان الهدف من الرسالة أن يرسل المقوقس بهدية، أو يهب جارية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لسان حال النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- كما قال أخوه سليمان -عليه الصلاة والسلام-: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} . ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقبل هديته لولا أنه جازى ما صنع مع حاطب - رضي الله عنه - من إكرام وحسن قِرى. يعني قبل – عليه الصلاة و السلام – الهدية بسبب إحسان المقوقس إلى حاطب بن أبي بلتعة ، وطمعا في إسلام المقوقس لاحقا ، فقد وجد في قلبه شيئا تجاه الإسلام ، لكنّه لم يسلم !!!

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-03-21, 07:55 AM
هذا الحبيب « 220 »
السيرة النبوية العطرة (( هدايا المقوقس للنبي وزواجه من مارية القبطية ))
______
إذن اقتنع المقوقس بالإسلام وأيقن بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لم يدخل في الإسلام ، وأرسل مع حاطب - رضي الله عنه - جاريتين من أسرة ذات مكانة مرموقة في منطقة المنيا بصعيد مصر ؛ إحداهما مارية القبطية - رضي الله عنها - أم إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد مات إبراهيم بعد ( 18 ) شهرا تقريبا من ولادته ، و كان أشبه الناس خلقاً برسول الله – صلى الله عليه وسلم - .

وقد تسرّى النبي - صلى الله عليه وسلم – بماريا القبطيّة، و [[ التسري هو أن يجعلها زوجة ولكنها ليست حرة ، وسمّيت سريّة لأنها موضع سروره مثل الزوجة ]] ، وقد وضع الإسلام في التّسرّي كل شروط الزواج : مثل براءة الرحم و ثبوت نسب الأولاد ، وغير ذلك ... واستثنى الإسلام العقد ، لأن عقد الزواج أدنى من عقد ملك الرقبة ، وحثّ الإسلام أن يكون لها بيت مثل الزوجة ، وحرّم أن يتسرّى بها غير مالكها .

وقد وردت إباحة التسري في آية إباحة الزواج (( و إن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث و رباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألّا تعولوا )) . وقد كان التسري معروفا في كل الأمم قبل الإسلام ؛ لكن الإسلام أول من وضع شروطا ونظاما للتسري وذلك لحفظ حقوقهنّ.

إذن تسرى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمارية القبطية ، و عرض عليها الإسلام فأسلمت ، وأراد أن يعتقها ثم يتزوجها ، فاعتذرت منه قائلة : يا رسول الله ، لقد تربيت على الرهبانية عند القبط حتى أتقنت ديني ، فألفت نفسي الرق والعبودية ، وأخشى أن لا أكون بمستوى الأحرار ، فأنا أقرب لخدمتك وأنا أمه فتسرى بها وهي أمه ، و أنجبت له إبراهيم .

و قلنا إن الإسلام جعل شروطا للتسري ، ومنها : أنّ الأمة المملوكة الرقيقة ، إذا أنجبت غلاما فابنها يحررها ، فلما أنجبت مارية – رضي الله عنها – إبراهيم
لم تعد أمه ، و أصبحت حرة ، وهي من أمهات المؤمنين مثل باقي زوجات النبي – عليه الصلاة و السلام - ومع ولادتها لإبراهيم زادت غيرة نساء النبي منها .
أمّا الجارية الثانية هي أختها سيرين ، أهداها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شاعره الأنصاري {{حسان بن ثابت }} - رضي الله عنه - فأعتقها حسان وتزوجها ، وأصبحت صحابية جليلة تروي الحديث رضي الله عنها و أرضاها .

وقيل أيضا إنّ المقوقس أهدى للنبي – صلى الله عليه وسلم – أشياء أخرى ؛ منها {{ بغلة شهباء }}

ومعنى شهباء[[ أي لونها أبيض ]] ، وقد استغربها الصحابة ، فلم يكونوا يعرفون التهجين بين الحصان و الحمارة لينتج البغل أوالبغلة !!! وسمّى النبي البغلة [[ دلدل ]] . ومن الهدايا أيضا زق من عسل مدينة ( بنها ) في صعيد مصر التي فيها أفضل أنواع العسل .[[ الزّق : وعاء جلدي ]] كما أهداه بعض الثياب و العود والمسك . . . و الله أعلم .

وهنا نذكر حديثا نبويا في حق إخواننا في مصر، والتي خرج منها العلماء بعد أن فّتحت على يد عمرو بن العاص – رضي الله عنه – وفيه نبوءة للنبي ، حيث يروي أبو ذر الغفاري قول النبي – عليه الصلاة و السلام - :

(( إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيراطُ [[ وهو مِعيارٌ في الْوزْنِ والقِياسِ ]] ، فاسْتَوْصُوا بأَهْلِها خَيْرًا، فإنَّ لهمْ ذِمَّةً [[ حق ]] ورَحِمًا، [[ وذلكَ لكونِ هَاجرَ أُمِّ إسماعيلَ بنِ إبراهيم عليهما السَّلامُ مِن مِصْر ]] ، وفي رواية : وصِهرا [[ لأن مارية زوجة النبي من مصر ]] ، فإذا رَأَيْت رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ في مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فاخْرُجْ مِنْها . . . )) .

عاشت مارية – رضي الله عنها - ما يقارب الخمس سنوات في ظلال الخلافة الراشدة، وتوفيت في السنة السادسة عشرة ، في خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوي، وإلى جانب ابنها إبراهيم .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-05-21, 08:10 AM
هذا الحبيب « 221 »
السيرة النبوية العطرة (( رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى النجاشي ))
________
أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحابي {{ عمرو بن أمية الضمري }} - رضي الله عنه - برسالة إلى النجاشي ( أصحمة بن أبجر ) ، وكان الهدف من هذه الرسالة أمانة التبليغ ، وأغلب الروايات تؤكّد إسلام النجاشي أصحمة على يد {{ جعفر بن أبي طالب }} عندما أوى النجاشي المهاجرين وأحسن إليهم ؛ ولكنّه لم يعلن إسلامه ، وقبل أن يرسل الرسائل إلى الزعماء ، كان – صلى الله عليه وسلم - قد أرسل كتابا إلى النجاشي يوكّله أن يخطب له أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان [[ وقد ذكرنا ذلك في الجزء 214 ]] .

وجاء في نص رسالته – صلى الله عليه وسلم – إلى النجاشي :

(( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو،الملك القدوس،السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول ( العفيفة ) ، فحملت به، فخلقه من روحه، ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى )) .

لاحظوا معي : لم يختم له الرسالة ب {{ فإن أبيت فإن عليك إثم النصارى كباقي الرسائل إلى هرقل و كسرى و ... }} ، ولم يختم له أيضا بالآية كما ختمها لقيصر والمقوقس :

{{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }} ، وهذا دليل على إسلامه ، و إنما هذه الرسالة للتبليغ ، وأن يدعو من عنده للإسلام والعمل بتعاليم الدين الإسلامي والله أعلم .

فلما وصلت الرسالة إلى النجاشي أخذها وقبلها ووضعها على رأسه وعينيه، ونزل عن سريره تواضعا ، وأمر أن تُحفظ بقطعة من حرير .

وعندما بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – خبر وفاة النجاشي ، صلّى النَّبِيُّﷺ عَلَى أَصْحَمَةَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ : قد تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ فَهَلُمُّوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ . وهذا دليل على إسلامه ، و قد ورد ذلك في الصحيحين .


وبعد وفاة النجاشي ( أصحمة ) أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالة إلى النجاشي الجديد ، وأيضا كانت مع نفس الصحابي [[ عمرو بن أمية الضمري ]] ولم تذكر كتب السيرة اسمه ، ولكن ورد في صحيح مسلم أن هذا النجاشي الثاني لم يسلم ،

فقد روى أنس بن مالك ( إنَّ نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - كَتَبَ إلى كِسْرَى، وإلَى قَيْصَرَ، وإلَى النَّجَاشِيِّ، وإلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ تَعَالَى، وَليسَ بالنَّجَاشِيِّ الذي صَلَّى عليه النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ) لاحظوا وجود كلمة " جبّار " في نهاية الرسالة [[ لأنهم كلهم لم يسلموا ]] .

هكذا نكون قد انتهينا من أبرز رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم - وهنالك رسائل أخرى ، ولكن يكفي هذا القدر ، و كانت كلها رسائل خير ، أدخلت أقواما في دين الله – عزوجل - بفضل الله و رحمته ، وحكمته صلى الله عليه وسلم .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
_______

عطاء دائم
04-05-21, 08:12 AM
هذا الحبيب « 222 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة ذات الرقاع ، والسرايا التي بعدها ))
________
أتذكرون قبيلة غطفان ؟ وكم مرة غدروا بالمسلمين ؟؟ أتذكرون دورهم و خيانتهم للمسلمين ، وكيف تآمروا مع قريش في غزوة الأحزاب ؟؟ بعد غزوة خيبر، قرر الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تأديب {{ غطفان }} وبعض القبائل التي تأمرت على المدينة ، فلم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياة هذا الجيل من الصحابة، وهذا يفسر لنا هذا الكم الهائل من الأحداث والإنجازات التي وقعت في تلك الفترة القصيرة .

غطفان هي مجموعة كبيرة من القبائل الشرسة المرتزقة الذين يعيشون على السلب والنهب وقطع الطرق ؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمع باجتماع قبيلتين من غطفان وهما {{ بني أنمار }} و {{ بني مُحارب }} وأنهما تريدان الإغارة على المدينة ؛ فخرج - صلى الله عليه وسلم - بنفسه إلى ديار غطفان على بعد 300 كم من المدينة ، في جيش قوامه {{٧٠٠ }} مقاتل ، وهو عدد قليل نسبيا في مواجهة غطفان ؛

لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يريد ترك المدينة بلا جيش يحميها ، ولم يكن مع المسلمين سوى {{ ٦٠ أو ٧٠ بعير }} ، فكان كل ستة من الصحابة يتناوبون ركوب البعير الواحد ، وسار الرسول – عليه الصلاة و السلام - مسافة كبيرة بجيشه في عمق الصحراء ، والصحابة يسيرون على أقدامهم، حتى بليت نعالهم ، وأخذوا يلفون الخرق وقطع القماش على أقدامهم ، فلذلك سميت هذه الغزوة {{ بذات الرقاع }} .

وعندما وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان ، كانت الظروف كلها في صالح غطفان : فأعدادهم كبيرة، والمعركة في ديارهم، وفي الطرق والدروب التي يعرفونها جيدا ، والمسلمون أعدادهم قليلة، ومرهقون من السير في الصحراء ، ومع كل هذه الظروف فإن غطفان أصابها الرعب وانسحبت من أمام المسلمين ، وهذا هو الإعداد الذي أمر الله به نبيه ، لا كما يفهمه الناس اليوم

قال تعالى :{{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}}الإعداد هنا القوة الإيمانية ومعطوف عليها رباط الخيل هو السلاح.
فالإيمان الصادق يهز قلوب الأعداء و أذنابهم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع قد كسر الجناح الثالث ممن اشتركوا في غزوة الأحزاب ( اليهود وقريش و غطفان ) .

ولم ينته الأمر عند ذلك ، بل أرسل – صلى الله عليه وسلم - عدة سرايا متتالية إلى قبائل غطفان وغيرها ، ولم تجترئ قبائل غطفان بعد غزوة ذات الرقاع وبعد هذه السرايا أن ترفع رأسها مرة أخرى أمام المسلمين .

ومن هذه السرايا {{ سرية أبي بكر الصديق }} إلى {{ بني فزارة }} وهم يتبعون لغطفان ، وقد أغاروا عليهم بعد صلاة الفجر و غنم منها المسلمون ورجعوا . ومنها أيضا {{ سرية عمر بن الخطاب }} إلى {{ هوازن }} ، فلما وصل الخبر إلى هوزان هربوا جميعا من الخوف .

ومنها أيضا {{ سرية غالب بن عبد الله الليثي }} إلى {{ بني عوال و بني عبد بن ثعلبة }} في ناحية نجد ، حيث قتلوا جمعا من أشرافهم ، واستاقوا الأنعام ، ولم يأسروا أحدا . وفي هذه السرية يقول أسامة بن زيد [[ أسامة يعتبر عند رسول مثل ابن ابنه ، أبوه زيد بن حارثة ، تربى في بيت النبي وكان يُطلق عليه زيد بن محمد ، فأبطل الله التبني ولكن بقيت المشاعر كما هي ]] .

يقول أسامة : كان رجل من القوم اسمه {{ نهيك بن مرداس }} يقاتل بقوة وشجاعة ، فعندما هُزموا؛ تبعته أنا ورجل من الأنصار، فرفعت عليه السيف فقال : لا إله إلا الله ، فكفّ الأنصاري [[ أي توقف عن قتله ]] ، يقول أسامة : فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمت المدينة استقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بفرح ، وأخذ الصحابة يحدثونه عن أسامة وبطولته ، فهو شاب صغير، ومحبوب عند النبي عليه الصلاة و السلام .

ثم قالوا : يا رسول الله لو رأيت ما فعل أسامة !! لقد قتل رجلا من أشجع القوم وكان قبلها الرجل ينطق ب {{ لا إله إلا الله }} فشد عليه أسامة فقتله ، [[ هم يظنون أن هذا العمل بطولي لأسامة ]] ،

يقول الصحابة : فما راعنا إلا والنبي - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه الشريف ، وصاح بأسامة غاضبا : يا أسامة ، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟؟ فقال أسامة رضي الله عنه: إنما قالها خوفا من السلاح [[ أي لم يؤمن ، قالها خوفا ولم يقصد الإيمان ]] !!

فقال له النبي : فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب‏ ؟‌‏؟!! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟؟ !!!!

قال أسامة : فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم [[ يعنى تمنى لو كان قد أسلم بعد هذا اليوم لأن الإسلام يجبّ ما قبله ]]
وذلك حتى تعلموا يا خير أمة كيف أن دم المؤمن عند الله عظيم !! وقد شدَّد الإسلام في الحفاظ على النفس البشرية وحُرمتها، وجاءت التشريعات في ذلك عامة تشمل كلَّ إنسان، وما كان ذلك إلا لأن


الله كرَّم الإنسان وفضَّله على سائر المخلوقات. قال تعالى :

(( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )) . وقال تعالى: (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا )) . وقال – صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ بيْنَ يدَيِ السَّاعةِ الهَرْجَ، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: القَتلُ )) .

أهٍ يا رسول الله !! فنحن في زمان قد كثُر فيه القتل ، بل أبشع أنواع القتل !! فقد رأينا الابن يقتل أباه! والأخ يقتل أخاه ! و الجارُ يقتل جارَه ! والصديق يقتل صديقَه ! والأمّة المسلمة تستحل دماء بعضها البعض !!! فقد رُمّلت النساء من كثرة القتل في الحروب ، ويُتّم الأطفال ، واغتصبت المسلمات ، و دُنّست المقدّسات !!!

نسأل الله العظيم أن يُعيد إلى أمّتنا سبيل الرشاد ، و أن يُبعد عن أبنائنا و بناتنا الفسق و الفجور و الزنا و القتل و المخدّرات، وأن يُحبّب الإيمان في قلوبهم .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-07-21, 07:20 AM
هذا الحبيب «223»
السيرة النبوية العطرة (( عمرة القضاء ))
________
مر عام على {{ صلح الحديبية }} ، وقد كان من شروطه ألا يدخل المسلمون مكة لأداء العمرة ذلك العام ؛على أن يعودوا في العام المقبل لأداء العمرة ، ويدخلون مكة بسيوفهم فقط ، ويمكثون في مكة ثلاثة أيام فقط ، ثم يخرجون بعد ذلك ، وتترك قريش لهم مكة هذه الأيام الثلاث . وفي ذي القعدة من السنة السابعة أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيخرج لأداء العمرة ، و أن لا يتخلف عنها أحد شهد الحديبية ، وكانت ثاني عمرة يقوم بها - صلى الله عليه وسلم - ؛ فالأولى هي عمرة الحديبية ووقع أجرها - بإذن الله - بالرغم من عدم دخول مكة ، و الثانية هي ( عمرة القضاء ) موضوع حديثنا في هذا الجزء ، و الثالثة بعد فتح مكة عندما رجع من غزوة حنين ، و العمرة الرابعة مقرونة بحجه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع .

وعمرة القضاء أو عمرة القضية أو عمرة الصلح [[ سمّيت بهذه الأسماء لأن النبي قاضى قريشا عليها، أي صالحهم عليها ]] خرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه {{ ٢٠٠٠ من الصحابة }} غير النساء والصبيان ، وقد أحرم المسلمون من {{ ذي الحلفية / آبار علي الآن }} وبدؤوا التلبية طوال عشرة أيام في طريقهم إلى مكة، وقلدوا وأشعروا الهدي

[[ شرحنا من قبل : قلّد أي جعلوا شيئا من جلد على عنق الناقة ، و أشعر أي جرح سنام الناقة ،وأخذ من دمها ودهن شعرها منه ]] ، ليعلم الناس أن هذه الإبل للهدي فلا يعتدي عليهم أحد . وعندما خرجوا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه أن يخرجوا بالسلاح الكامل ؛ وهي السيوف والرماح والسهام والدروع وغير ذلك ،ولم يخرجوا بالسيوف فقط لأنّه – عليه الصلاة والسلام - كيّسٌ فطن ، ولا يأمن مكر قريش ، وفي نفس الوقت أراد إظهار قوّة و عزّة المسلمين .

وحتى يسير على الاتفاق أبقى على السيوف في أغمادها مع المسلمين ، وجعل باقي الأسلحة مع مئتي صحابي يحرسونها عند (( التّنعيم )) ، وكان هؤلاء الصحابة يتناوبون مع المعتمرين في حراسة الأسلحة .

فلما اقترب - صلى الله عليه وسلم - من مكة لأداء مناسك العمرة ؛هنا قامت قريش بترك مكة كما كان الاتفاق في الحديبية ، وخرج أهلها إلى جبال مكة .
دخل - صلى الله عليه وسلم - مكة راكبا على ناقته {{ القصواء }} وحوله الصحابة وهم يقولون في مشهد رائع ، و بصوت اهتزت له مكة كلها :

لا إله إلا الله وحده [[ يعلن التوحيد رغم أنف قريش وتنكيلاً بآلهتم ]] ، صدق وعده [[ لأنه وعدنا وقال : {{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ }} فهذا الوعد قد حصل ]] ونصر عبده [[ لأن صلح الحديبية كان فتحا ونصرا ]] وأعز جنده [[ أي المؤمنين ؛ لأن عزتهم ممتدة من الله ]] وهزم الأحزاب وحده [[ يذكرهم بيوم الأحزاب ، وكيف هزمهم الله بالريح ، وهي جند من جنود الله ]] .

أتذكرون ؟؟ خرج صلى الله عليه وسلم قبل {{ ٧ }} سنوات مهاجرا من مكة مع أبي بكر متخفياً ، واليوم يدخل مكة معتمراً على ناقته القصواء وحوله ٢٠٠٠ من أصحابه يلبّون ويكبّرون على مسمع قريش !! سبع سنوات فقط من العمل للدعوة كان نتيجتها هذه العزة و القوة للمسلمين !! ونحن اليوم على ديننا ، وأخرجنا من ديارنا بظلم وبغي ، ومضى علينا أكثر من {{ ٦٠ عاما }} فماذا فعلنا ؟؟ و إلى أين وصلنا ؟ وماذا قدّمنا تجاه عدوّنا ؟؟ اللهمّ أعز الإسلام و المسلمين ، وانصر عبادك المستضعفين .

ولما اقترب – صلى الله عليه وسلم - من الكعبة نزل عن راحلته ، واقترب منها وراع الصحابة شيء جديد ، وهو أنّ الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يكشف عن كتفه الأيمن ، ما يسمى {{ بالاضطباع }} ،

وهو أن يجعل الرداء أسفل المنكب الأيمن، وتبقى الكتف اليمنى مكشوفة ، وقال بصوت مرتفع ومسموع : رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة ، [[ وهذا رد عملي على دعاية قريش أنّ المسلمين سيطوفون بالبيت وقد تعبوا {{ أوهنتهم حمّى يثرب }} فكشف عن كتفه بهدف إظهار قوة المسلمين ]] ،

ثم دنا واستلم الركن ، ثم رأوا شيئا جديداً آخر من رسول الله!! يستلم النبي الحجر الأسود ويقبله ثم يرمل رملا [[ هرولة ]] وليس مشيا كباقي الناس ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته {{ بالرَّمل }} وهو الهرولة في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف ، ولم يأمرهم بالرمل في بقية الأشواط شفقة عليهم .

وبقي {{ الرمل والاضطباع }} من سنن الطواف المستحبة ، فلما رأى المشركون المسلمين وهم يطوفون بهذه السرعة وكانوا على الجبال : أهؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمّى قد أوهنتهم ؟؟ لا والله ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا ، وترك ذلك أثرا كبيرا في المشركين .

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تقبيل الحجر الأسود و الهرولة {{ سُنّة }} ، والنهي عن إيذاء المسلم {{ واجب }} ، ومزاحمة المرأة للرجال والاحتكاك بهم و التلامس معهم {{ مُحرّم }} ، فلا يجوز


لك كمسلم أن تؤذي الناس وتدافعهم لتقبل الحجر الأسود ، ولا يجوز للمرأة مزاحمة الرجال لتطبق السنّة ، يعني : {{ لا تُقدّموا السُنّة على الوقوع في المحظور }}

وبعد أن انتهى من الطواف – عليه الصلاة و السلام - صلى ركعتين عند مقام إبراهيم ، وشرب من زمزم ، ثم مضى للمسعى ، وجاء إلى الصفا أولاً ، وقرأ قوله تعالى : {{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }} ،

فلما رقى الصفا ، استقبل الكعبة حتى إذا وقع نظره على الكعبة رفع يديه وقال : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده . ورددها أصحابه من خلفه بصوت عال حتى سمعتها كل أهل مكة ، وارتج المسعى بصوتهم ، ثم سعى سبعة أشواط ورمل بين الميلين [[ الضوء الأخضر في المسعى ]].

وعندما انتهى عند المروة ، قدموا له الهدي فنحر ، ثم دعا حالقه فحلق له رأسه [[ كما فعل يوم الحديبية أتذكرون ؟؟ ]] ،

وهو أجمل الناس خَلقاً وأجلهم خُلقاً ، وقريش تنظر إليه و إلى أصحابه من أعلى الجبال ، وقد سطعت مكة كلها بنوره المحمدي وهيبته ، وكانت أعمال هذه العمرة سبب إعجاب الكثير من قريش بهذا الدين ، ومنهم خالد بن الوليد سيف الله المسلول ، وسنذكر إسلامه إن شاء الله . ومن قريش من قال : لِمَ نكابرعلى أنفسنا ، حقاً إن محمداً ليس كالبشر !!!! {{ صلوا على حبيبكم المصطفى ، صلوا عليه وسلموا تسليما }} ، وكانوا لا يستطيعون أن يعلنوا ذلك ، فلما أسلموا أخبروا الصحابة ، بما قالوا في أنفسهم .

ثم أخذ الناس يحلقون ويقصرون ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر وقال : هل صدقك الله وعده يا ابن الخطاب ؟؟

فقال عمر : أشهد أنك رسول الله ، وصدق الله تعالى وعده ، وهذا يقيني بالله ، فقد نزلت هذه الآيات قبل عام :
{{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }} .

ثم حلّ إحرامه – عليه الصلاة و السلام - واغتسل ، ولبس ثيابه . وانظروا إلى خلقه - صلى الله عليه وسلم - فهو خير من وفّى بعهد ، فهو لم يستفز أحدا من قريش ، وطاف بالبيت والأصنام حوله هو و الصحابة ؛ ولم يعثروا بصنم ولم يحركوه من مكانه ، وعندما أراد أن يرفع الأذان لم يقل لبلال اصعد على الكعبة ، بل قال : يا بلال ارق الصفا فأذّن للظهر، فصعد بلال الذي هو في نظر قريش عبد لا قيمة له، ونادى بلال على مسمع قريش كلها ولأول مرة في مكة : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر [[ تخيلوا أنكم تسمعون الآن الأذان بصوت بلال ؛ ذلك الصوت الجميل، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم ]] ، وقريش الآن تسمع هذا العبد الذي كان يُعذّب على رمال مكة الحامية ، وقد أصبح الآن عزيزا بالإسلام ، وكل من كان الله معه فهو عزيز في الأرض وفي السماء .

أذّن بلال ، وصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يعطيهم الدروس الميدانية ، والحكمة من كل عمل من أعمال العمرة ، ولقد تأثر الكثير من المشركين بمنظر هذه الجموع من المسلمين ، ومدى تمسّكهم بالدّين الإسلامي ، وفاضت عيون البعض من الدمع ؛ مما عرفوا من الحق واليقين .
قضى – عليه الصلاة و السلام - اليوم الأول والثاني في مكة ، وفي اليوم الثالث جاءه عمه العباس - رضي الله عنه - يحدثه عن أخت زوجته " ميمونة " - رضي الله عنها – ورغبتها في الزواج منه . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-09-21, 06:40 AM
هذا الحبيب « 224 »
السيرة النبوية العطرة (( أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث ))
________
كانت ميمونة – رضي الله عنها - قد أسلمت في مكة وكتمت إيمانها ، ومات زوجها خلال أعوام هجرة المسلمين ، وكان عمرها {{ ٢٦ عاما }} ، وكان اسمها (( برّة )) ، لجأت لبيت {{ العباس }} – رضي الله عنه - لأنه زوج لبابة أختها ، و كان يقيم في مكة و يكتم إيمانه . وعند قدوم النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى مكة تحدثت ميمونة إلي أختها أم الفضل - زوجة العباس - برغبتها في الزواج من النبي – صلى الله عليه وسلم – و الهجرة إلى المدينة المنورة ، ولم يتردد العباس في تبليغ هذه الرسالة لرسول الله ، فعرض عليه الزواج من السيدة ميمونة .

استجاب النبي - صلى الله عليه وسلم – لكلام عمه العباس رغبة في إسلام {{ قبيلة بني هلال }} إحدى أهم القبائل في قريش ، والتي منها ميمونة بنت الحارث ، وبالفعل بعد هذا الزواج بدأ أهل هذه القبيلة يدخلون في الإسلام تباعا ، ومنهم – خالد بن الوليد – ابن أخت ميمونة .

بعث – عليه الصلاة و السلام - ابن عمه جعفر بن أبي طالب (( زوج " أسماء " أخت ميمونة الصغرى )) لكي يخطبها من العباس – رضي الله عنه -باعتبار العباس وليّها الآن، وتمّ عقد الزواج ،ولم يتم البناء ( الدخول ) ، وكان ذلك بعد فراغه من عمرة القضاء في اليوم الثالث و الأخير من المدة التي اتفق عليها الرسول مع المشركين للعمرة .
وقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يؤلّف قلوب قريش و يعمل وليمة عرسه في مكَّة، فطلب تمديد المهلة يوما وقال : ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه ؟

ولكنهم رفضوا ذلك وقالوا له : لا حاجه لنا بطعامك ، وأبوا ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل فورا حفاظا على العهد مع قريش ، فخرج الجميع إلى (( سرف )) وهو موضع قرب التنعيم ، يبعد عن مكة عشرة أميال ، وهناك أقام المسلمون أياما ، وَبَنَى النبي – عليه الصلاة و السلام – بميمونة و أولَم لها ، وكان عمرها عندئذٍ 26 عامًا .

ومنذ هذه اللحظة سماها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - [[ ميمونة بدلاً من برّه ]] اسمها الأول ؛ لأن زواجه بها كان مناسبة ميمونة ، ودخلت السيدة ميمونة بيت النبي – عليه الصلاة و السلام - وهي سعيدة بما أنعم الله عليها من الزواج بسيد البشر وأفضل خلق الله . وكانت ميمونة - رضي الله عنها - مثلاً عاليًا للصلاح ورسوخ الإيمان . تشهد أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - على ذلك بقولها : ".. إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم". وعاشت أم المؤمنين ميمونة إلى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - وعندما شعرت باقتراب أجلها ؛ طلبت أن تدفن في المكان الذي تزوج بها النبي في سرف ، رضي الله عنها و أرضاها .

ومما حدث في عمرة القضاء ، وأثناء رحيل النبي - صلى الله عليه وسلم – بعد عمرة القضاء ، حدث أن تبع المسلمون فتاة صغيرة وهي {{ عُمارة بنت حمزة بن عبدالمطلب }} في السابعة من العمر تقريبا ، أبوها حمزة سيد الشهداء وأسد الله ورسوله ،[[عندما هاجر حمزة لم تكن زوجته قد أسلمت ، فلم تتبعه ، وكان له منها ابنة واحدة ]] وبما أن كنيته أبو عمارة ، اشتهر هذا الاسم على ابنته ، فكانوا يقولون لها عُمارة ، ولكن اسمها الحقيقي {{ أمامة بنت حمزة }}.

عندما علمت أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم – و المسلمين سيعودون إلى المدينة ، خرجت و وقفت في الطريق ونادت بأعلى صوتها : يا عم يا عم [[ لان أباها حمزة -رضي الله عنه - هو أخو النبي بالرضاعة ، فقد أرضعتهما ثويبة جارية أبي لهب التي أعتقها عمه أبو لهب يوم بشرته بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ]] . فكلم علي النبي – عليه الصلاة و السلام – قائلا : علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين المشركين ؟؟ فلم ينهه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إخراجها .

وعندما وصلوا اختصم علي و جعفر و زيد بن حارثة في كفالتها ،فقال زيد بن حارثة : أنا أحق بها لأنها ابنة أخي (( كان عليه الصلاة و السلام قد آخى بينه و بين حمزة )) ، فلما سمع بذلك جعفر بن أبي طالب قال : الخالة والدة وأنا أحق بها (( خالتها أسماء زوجة جعفر )) . ثم قال علي : ألا أراكم تختصمون في ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين ، وليس لكم إليها نسب دوني وأنا أحق بها منكم؟؟!! (( هي بنت عمّه )) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

أنا أحكم بينكم ، أما أنت يا زيد فمولى الله ورسوله ، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي ، وأما أنت يا جعفر- يا شبيه خلقي وخلقي - أولى بها ؛ لأن تحتك خالتها ، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها ، فقضى بها لجعفر. وكان أول شيء فعلته عمارة أنها ذهبت إلى قبر أبيها لزيارته .

وبعد مدّة زوّجها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - سلمة بن أبي سلمة ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : هل جزيت سلمة .

وهكذا كان الصحابة يتنافسون على كفالة اليتيم ، لما يعلمون من أجر كبير أعدّه الله لكافل اليتيم ، وكانت الكفالة حقيقية ؛ أي يكون اليتيم في بيتك ، ومع أبنائك، فينشأ نشأة طبيعية، كما نشأ النبي - صلى الله عليه وسلم – القائل :
(( أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بيْنَهُما شيئًا )) .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-09-21, 06:44 AM
هذا الحبيب « 225 »
السيرة النبوية العطرة (( إسلام خالد بن الوليد ، وعثمان بن طلحة ، وعمرو بن العاص ، رضي الله عنهم ))
________

أول حدث في شهر{{ صفر}} من السنة الثامنة للهجرة كان إسلام ثلاثة من عمالقة قريش وهم : خالد بن الوليد [[ فارس قريش ]] و عمرو بن العاص [[ كان يسمّى داهية العرب ]] ، و عثمان بن طلحة [[ من وجوه أهل مكة ]] ، وهذا الحدث من أعظم الأحداث ، ونصر من أكبر انتصارات الإسلام ، ونقطة فارقة في التاريخ الإسلامي ، فقد أسلم بإسلام هؤلاء كثير من أهل مكة ، واتّبعوا دين الحق، وبذلك قويت شوكة الإسلام، وأصبح فتح مكة على الأبواب .

نبدأ مع سيف الله المسلول أبي سليمان ( خالد بن الوليد – رضي الله عنه - ) ؛ فعندما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة كان خالد شاباً عمره {{ ٢٧ عاما }} ، وعندما أسلم كان عمره {{ ٤٧ عاما}} ، فقد بقي خالد عشرين عاما كاملة يرفض الإسلام ويحارب المسلمين ، وكان سبب رفضه وعداوته للإسلام طوال هذه الفترة أنه من بيت يكره الإسلام :

فأبوه هو {{ الوليد بن المغيرة ، سيد بني مخزوم }} ومن أغنى أغنياء قريش، ومن أشد قريش عداوة للنبي - صلى الله عليه و سلم – وقد ذكرنا ذلك في العهد المكي ، كذلك كان لخالد بن الوليد مكانته في الجيش المكي ؛ فهو قائد فرسان قريش ، وكان يخشى على مكانته أن تضيع إذا دخل في الإسلام .

وكان هناك أسباب كثيرة لإسلام خالد بن الوليد ، تذكرون عندما شاهد المسلمين وهم يصلون ويسجدون في صلح الحديبية، ولم يستطع الانقضاض عليهم،وقال : إنهم ممنوعون [[ أي إن الله تعالى يمنع ويحمي هؤلاء ]] ؟؟


كذلك كانت {{عمرة القضاء }} قد تركت أثراً كبيرا في نفوس الكثير من مشركي قريش : فهذا محمد الذي ترك مكة ، وهاجر إلى المدينة هو وأصحابه المستضعفون خفية ، والخوف يملؤ قلوبهم من قريش التي نكّلت بهم و عذّبتهم ؛ هاهم الآن يدخلون مكة محرمين ملبّين ، ويطوفون بالبيت بكل عزة نفس وكبرياء . . . هذا المشهد المهيب ، وهذا السر في انتشار الدين الإسلامي ، والتفاف الناس و القبائل حول محمد بن عبد الله الذي قضى على اليهود و جعل قريشا ترضخ لشروط الحديبية ، كل هذا وغيره حرّك تفكير الكثير من كفار قريش ، ومنهم الآن خالد بن الوليد ، وعثمان بن طلحة والكثير الكثير .
وتروي كتب السيرة عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه – أنه روى قصة إسلامه و إسلام عمرو بن العاص و عثمان بن طلحة ، حيث قال :

(( لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في عمرة القضاء ، تغيبتُ ولم أشهد دخوله، فكان أخي [[ الوليد بن الوليد ]] قد دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، فطلبني فلم يجدني، وكتب إليَّ كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك!! ومِثْلُ الإسلام يَجْهَلُهُ أحد؟!

[[ يعني لا يوجد أحد عاقل لا يدخل الإسلام ]] وقد سألني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك، فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مِثْلُهُ جهل الإسلام، ولو كان جعل نِكَايَتَهُ وَجِدَّهُ المسلمين على المشركين كان خيرا له ، و لقدّمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك، وقد فاتتك مواطن صالحة. . . .

ويتابع خالد كلامه : فلما جاءني كتابه نشطت للخروج ، وزادني رغبة في الإسلام ، وسرني سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني . فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: من أُصاحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فذهبت إلى صفوان بن أمية فأنكر عليّ ذلك !! كذلك فعل عكرمة بن أبي جهل !! فلقيت (( عثمان بن طلحة )) ،

أتذكرون شهامة هذا الرجل ؟؟ [[عندما هاجرت أم سلمة لم يتركها تهاجر وحدها ، وخرج ماشياً على قدميه حتى أوصلها وابنها المدينة المنورة ، ثم رجع . وقلنا إنّ له سابقة خير، فهداه الله للإسلام . وكان ينتظر من يقوّي عزيمته للذهاب إلى المدينة المنورة ، و مبايعة النبي – صلى الله عليه وسلم - ]] .

فانطلقت مع عثمان بن طلحة حتى انتهينا إلى الهدة [[ منطقة بين الطائف و مكة ]] ، فوجدنا (( عمرو بن العاص )) بها، قال : مرحباً بالقوم، فقلنا: وبك، فقال: إلى أين مسيركم يا أبا سليمان ؟ فقلنا: وما أخرجك؟ فقال عمرو بن العاص : وما أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام ، واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -

فقلت والله لقد استقام المنسم (تبين لي الطريق ووضح)، وإن الرجل لنبي [[ يقصد محمدا ]] ، اذهب فأسلم . فقال عمرو بن العاص : والله ما جئتُ إلا لأسْلِم .

[[ وكان عمرو بن العاص فيما ترويه كتب السيرة قد توجّه هو و بعض الرجال إلى النجاشي بعد غزوة الأحزاب و انتصار وعلو الدين الإسلامي ، وقال لمن معه : رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر ( انتصر ) محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد

( ولم يمكن يعلم عمرو بإسلام النجاشي ) ، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف، فلن يأتينا منهم إلا خير. لكنّ عمرو بن العاص فوجئ بالنجاشي يعرض عليه الإسلام ، فأسلم و كتم إسلامه عن أصحابه ، وذهب لمبايعة النبي – صلى الله عليه و سلم – على الإسلام ، و في الطريق ؛ و عند منطقة الهدة التقى مع خالد بن الوليد و عثمان بن طلحة رضي الله عنهم جميعا ]] .

ويتابع خالد بن الوليد حديثه قائلا : فقدمنا المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلقينا بوجه مبتسم ، و استقبلنا خير استقبال ، وبايعناه على الإسلام ، فحمد الله على هدايتنا ، و أخبرنا أنّ الإسلام يجبّ (يمحو) ما قبله )).
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم – في خالد بن الوليد: ( نِعْمَ عبدُ الله!

خالد بن الوليد ، سيف من سيوف الله) . . .

وتمضي الأيام و يُحارب خالد - رضي الله عنه – مع المسلمين ، ويشهد حروب الشام قائداً وجندياً ، و يُبلي بلاء عظيما في حروب أهل الرِّدَّة، وُمَسْيلمة الكذاب . وقد عاش ستين سنة، وتوفي - رضي الله عنه - بحمص سنة إحدى وعشرين هجرية على فراش الموت . وقال عنه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد " ، وقال عنه أصدقاؤه و أعداؤه : " الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام " .

أمّا (عمرو بن العاص ) ـ رضي الله عنه ـ ويُكنّى [[ أبا عبد الله وأبا محمد ]] فهو من فرسان قريش وأبطالهم المعدودين، وهو من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم، يُضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم ، وقال عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أسلم الناسُ، وآمن عمرو بن العاص ) .

ولَّاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إمرة جيش المسلمين في [[ ذات السلاسل ]] بعد إسلامه بشهرين، ثم استعمله على عُمان، وسار بعد ذلك ـ رضي الله عنه ـ في فتوحات وانتصارات للإسلام والمسلمين على مشارف أعظم دولتين في العالم ؛ فارس والروم، كما أنّ الإسلام دخل مصر على يديه ... توفي عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بمصر في العام الثالث والأربعين من الهجرة النبوية، وقد تجاوز عمره التسعين سنة .

أمّا ( عثمان بن طلحة ) – رضي الله عنه - فقد بقي في المدينة طوال حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، ويُذكر له شهامته في توصيل أم سلمة إلى أبي سلمة في المدينة ، و أعطاه وقومه مفاتيح الكعبة . و لما توفي – عليه الصلاة و السلام - نزل عثمان بن طلحة بمكة ، فلم يزل بها حتى مات في أول خلافة معاوية سنة 41 هجرية


هؤلاء الرجال وغيرهم من الصحابة الرجال شرُفوا بصحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتربوا على يديه، وقال الله ـ عز وجل ـ فيهم :

{{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }} ، وقد كتب الله ـ عز وجل ـ على أيديهم صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين، أصبحت باقية في ذاكرة الأمة وتاريخها المجيد على مر الزمان ، رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-10-21, 07:49 AM
هذا الحبيب « 226 »
السيرة النبوية العطرة (( الخروج إلى غزوة مؤتة ))
________
في شهر {{جمادى الآخرة من السنة الثامنة للهجرة }} كانت {{ غزوة مؤتة }} جنوب الأردن ، وهي أول مواجهة للمسلمين مع الإمبراطورية الرومانية، أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت ، وكان سبب هذه الغزوة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أحد الصحابة وهو {{الحارث بن عمير }} برسالة إلى أمير بصرى ، يدعوه فيها إلى الإسلام ، وقد ذكرناها مع الرسائل ، و اعترض طريقه ملك الغساسنة {{ شرحبيل بن عمرو}}

فأوثقه و قتله و صلبه ، [[ وكان العرف في العالم كله في ذلك الوقت وحتى الآن أن الرسل لا تُقتل، وإذا حدث وقُتل رسول دولة، فإن ذلك يُمثل إهانة كبيرة وإعلان حرب على تلك الدولة ]] . ليس هذا فحسب بل بدأت الدولة الرومانية، ومعها القبائل العربية الموالية لها في شمال الجزيرة وهي قبائل تدين بالنصرانية، في تعقب وقتل كل من يسلم ، حتى قتل والي {{ معان }} بالأردن ، لأنه أعلن إسلامه .

ومملكة الغساسنة هي مملكة تدين بالنصرانية ، فهي موالية للإمبراطورية الرومانية ، وقد سقطت بعد ذلك وانتهت في معركة اليرموك أثناء الفتح الإسلامي للشام . وكان رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه التصرفات هو ضرورة إرسال جيش إلى هذه المنطقة ، والحروب في الإسلام تكون بهدف الدفاع عن النفس ضد أي اعتداء ، ولتأمين حركة الدعوة الإسلامية، ومنح الناس حقهم في الاعتقاد، وحقهم في اختيار الدين الذي يريدونه ، وحتى يضع حداً لهذه التصرّفات الرومانية الهمجية ، ولأجل تأديبهم .

ومما جعل الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يسرع بإرسال هذا الجيش هو أنه كان واضحاً أن المواجهة مع الإمبراطورية الرومانية العملاقة، ومع القبائل القوية الموالية لها في شمال الجزيرة أمر حتمي ولا بد منه ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون هذه المواجهة في حياته هو وألا يتركها لمن يأتي بعده ، حتى يكسر حاجز الخوف من مواجهة الإمبراطورية الرومانية في الغرب أو الفارسية في الشرق، أو أي دولة مهما بلغت قوتها .

قام - صلى الله عليه وسلم - بإعداد جيش قوي قوامه {{ ٣ آلاف }} مقاتل وهو أكبر جيش إسلامي حتى ذلك الوقت ، وجعل على رأس الجيش {{ زيد بن حارثة}} - رضي الله عنه – وكان في الثالثة و الأربعين من العمر ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : إن أصيب زيد ف{{ جعفر بن أبي طالب }} على الناس ، وإن أصيب جعفر ف{{عبدالله بن رواحة }} على الناس ، فإن أصيب ابن رواحة فليرتضِ المسلمون برجل يجعلوه عليهم . [[ وهذا يعني أنه كان يتوقع حرباً شرسة في هذه المعركة ]] . وأوصاهم أن يأتوا مكان مقتل الصحابي الحارث بن عمير - رضي الله عنه - ويدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالقتال .

ولم يخرج – عليه الصلاة و السلام - في هذه الغزوة بنفسه ، حتى لا يشق على أمته ؛ لأنه لو خرج في كل غزوة لخرج كل المسلمين معه، وهذا أمر لا يتحمله كل الناس ، و أيضا لكي يتعود المسلمون و قادتهم من بعده – عليه الصلاة و السلام - الاعتماد على أنفسهم، و ينهضون بالرسالة بعده - صلى الله عليه وسلم - .

خرج النبي – صلى الله عليه و سلم – و المسلمون لوداع الجيش ، و بكى عبد الله بن رواحة ، فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة ؟ فقال : " أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار : {{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا }} فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ ". فقال المسلمون :

صحبكم الله ،
ودفع عنكم ، وردّكم إلينا صالحين ، فأجابهم عبد الله بن رواحة :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبــدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي أرشده الله من غاز وقد رشدا


[[ أي أنه يتمنى الشهادة في سبيل الله ]] ، وجاء في بعض الروايات أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم – أوصى صحابته قائلاً : ( اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا ، ولا تغلوا ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليدا ولا أصحاب الصوامع ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة ، و أحسنوا إن الله يحب المحسنين ) .

وانطلق الجيش على بركة الله ، وكانت الطريق من المدينة إلى مؤتة تبلغ قرابة ال {{ ١٢٠٠ كم }} في صحراء قاحلة شديدة الحرارة، وهي أكبر مسافة سارها جيش مسلم حتى ذلك الوقت . وصل الجيش بعد أسبوعين إلى منطقة {{معان}} على بعد حوالي 150 كيلو من أرض مؤتة ، وكان هدفهم الغساسنة وقائدهم شرحبيل بن عمرو الذي قتل حامل الرسالة ، ولكن في هذا المكان نقلت الاستخبارات الإسلامية إلى زيد بن حارثة مفاجأة غير متوقعة!! إن الدولة الرومانية قد قررت الاشتراك في الغزوة بنفسها وأرسلت جيشا قوامه١٠٠ ألف مقاتل بالإضافة إلى نفس العدد من مقاتلي بعض القبائل العربية!!

مقابل كم من المسلمين ؟؟ 3آلاف مسلم !!! على ماذا يدل هذا ؟؟يدل على مدى الرعب الذي كان فيه هؤلاء الروم وأتباعهم ، وخوفهم من المسلمين ، والهيبة العظيمة التي استطاع الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تحقيقها للدولة الإسلامية .

عندما علم جيش المسلمين بعدد الروم ،جمع قائدهم - زيد بن حارثة – الصحابة واستشارهم كما تعلّم من القائد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ؛ فبعضهم رأى أن يرسل المسلمون رسالة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ، ويطلبون رأيه ، وقد تم رفض هذا الرأي لأن المسافة بعيدة والوقت ضيق ،

و رأى آخرون أن ينسحب الجيش ويعود إلى المدينة، لأن الجيش جاء لمحاربة مملكة غسان ، ولم يأت لقتال تحالف بين الإمبراطورية الرومانية العملاقة ومن حالفها من القبائل العربية ، ودخول معركة كهذه معناه هلاك الجيش الذي هو كل عماد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت ، وقال أصحاب هذا الرأي لزيد بن حارثة: " قد وطئت البلاد، وأخفت أهلها ، فانصرف ، فإنه لا يعدل العافية شيء " [[ يعني خروج الروم بهذا العدد يعني خوفهم منا و هذا نصر لنا ]].

فوقف عبد الله بن رواحة وقال: (( يا قوم ، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة ، ما نقاتل الناس بعدد ، ولا عدة ، ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور ، وإما شهادة )) .

فقال الناس : صدق والله ابن رواحة . وكانت الأغلبية في الجيش مع هذا الرأي الأخير، وهو الدخول في الحرب، وكان هذا القرار أجرأ قرار عسكري على مر التاريخ كله .

غادر المسلمون منطقة معان بعد أن أقاموا فيها يومين ، و ساروا حتى وصلوا إلى قرية تسمى {{ شارف }} وكانت هذه القرية مشهورة بصناعة السيوف ، وكان يُقال " سيوف مشرفية " [[ أي صُنعت في شارف ]] ،

ولكن المسلمون وجدوا أن هذا المكان غير مناسب للقتال بالنسبة لهم ، فانحازوا إلى قرية يطلق عليها {{ مؤتة }} ، وأقاموا معسكرهم هناك ، وكان سبب اختيارهم لهذه القرية هو استغلال مزارع القرية ، وبيوتها لتكون حماية طبيعية للجيش ، فلا يتمكن الرومان من تطويق الجيش، وتكون المواجهة بنفس أعدادهم، وهي نفس خطة الرسول – عليه الصلاة و السلام - في بدر وفي أحد .

وصلت جيوش العدو، أمواجا بشرية هائلة تنساب إلى أرض الغزوة بسلاحهم الضخم و ديباجهم و حريرهم و ذهبهم ، وكل مظاهر الزينة و التفاخر ، و المسلمون واقفون ثابتون كالجبال ، لأنهم لا ينتصرون بالعدد و العدة ، و إنما بالعقيدة الصادقة . وجاءت ساعة الصفر ، وأعطى زيد بن حارثة إشارة البدء إلى أصحابه، وبدأ القتال ، ما الذي حدث بعد ذلك ؟

يتبع . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-11-21, 07:42 AM
هذا الحبيب « 227 »
السيرة النبوية العطرة (( أحداث غزوة مؤتة ))
________
التحم الجيشان وحمي الوطيس ، واقتتلوا قتالا شديداً ، واستمر القتال طوال اليوم، ولم يتراجع المسلمون، وإنما وقفوا كالجبال أمام طوفان قوات التحالف الرومانية العربية [[ قبائل عربية أعطت ولاءها لأسيادها الرومان مقابل الذل و الهوان وفقدان العزة و الكرامة ]] ،

وكان صمود وأداء المسلمين في الغزوة مفاجأة بالنسبة لقوات العدو، فقد كانوا يتوقعون ألا تستمر هذه المعركة سوى ساعات ثم يتم إبادة الجيش المسلم بالكامل ، ولكنهم فوجئوا أن المسلمين يقاتلون بشراسة وشجاعة لم يشهدوا مثلها ، وحاولوا تطويق المسلمين ، واعتقدوا أنه أمر سهل لتفوقهم في العدد الكبير ، ولكن المسلمون لم يمكنوهم من ذلك، ونجحت خطة القائد زيد بن حارثة في الاستفادة من جغرافية أرض مؤتة ، فلم يتمكن الروم من تطويق الجيش المسلم .

ركز الروم هجومهم على القائد حامل اللواء{{ زيد بن حارثة }} الذي مزقته رماح الروم ، وهو مقبل عليهم كالأسد حتى وقع شهيدا رضي الله عنه . ثمّ أخذ الراية {{ جعفر بن أبي طالب }} صاحب الثلاثة و الثلاثين عاما ، و أخذ يُنشد :

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها

ثمّ تكالب عليه الرومان ، وأصيب عشرات الإصابات ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم، وهو لا يتوقف عن القتال ، [[ وكان من عادة الجيوش قديما أنهم يعتبرون الراية هي رمز بقائهم ، فإذا سقط اللواء كانت هزيمة معنوية ، وكانت راية المسلمين بيضاء ، مكتوب عليها لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله ]] ، فمازال جعفر يقاتل حتى تمكن أحد الروم من قطع يده التي يحمل بها اللواء ، فترك سيفه الذي يقاتل به، وأمسك اللواء بيده الأخرى ، أي أنه يدفع حياته ثمنا لعدم سقوط لواء رسول الله على الأرض، فقطعوا يده الأخرى ، فحمل اللواء بعضديه، ثم مات شهيداً - رضي الله عنه - .

وأثاب الله تعالى جعفر عن قطع يديه بجانحين يطير بهما في الجنة ، يقول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (( رأيتُ جعفَرَ بنَ أبِي طالِبٍ مَلَكًا يَطيرُ في الجنةِ مع الملائِكةِ بِجناحَيْنِ )) ولذلك لقب جعفر بن أبي طالب [[ بجعفر الطيار]] .

ثم أخذ اللواء [[ عبد الله بن رواحة ]] – رضي الله عنه - ، فردد أبياتا من الشعر يشجّع نفسه فيها على القتال ، فقال :

أقسمت يا نفس لتنزلنّ لتنزلنّ أو لتكرهنّ
إن أجلب الناس وشدوا الرنّة ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنة
وقال أيضا :

يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صُليتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتِ إن تفعلي فعلهما هُديتِ
[[ يعني الشهيد إذا مات أين يذهب أيتها النفس ؟؟ للجنة ، انتِ يا نفس كرهانة الجنة ؟؟!! عاجبتك الدنيا كثير يعني ؟؟!! فالموت مكتوب سواء في أرض المعركة أم في غيرها ]] ، وقاتل – رضي الله عنه - حتى وقع شهيداً .
وهكذا استشهد الأمراء الثلاثة الذين عينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي الجيش بلا قائد ، ثم أخذ الراية ( ثابت بن أرقم الأنصاري ) فقال : يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم ، فقالوا : أنت فقال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على (( خالد بن الوليد )) رضي الله عنه .

وقد سارع الوحي إلى إبلاغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحداث المعركة ؛ فعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيدا و جعفرا و ابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : ((أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم )) . حمل خالد بن الوليد الراية، وعادت الروح المعنوية المرتفعة للمسلمين ، بعد أن كانت قد بدأت بالتأثر نتيجة استشهاد الأمراء الثلاثة .

انتهى اليوم الأول من القتال ، وقد أبدى فيه المسلمون شجاعة و استبسالا ، استشهد فيه اثنا عشر مسلما ، بينما قُتل من الرومان أعدادا كثيرة لا تُعد ولا تُحصى ، وهذا بحد ذاته نصر للمسلمين . والسؤال الأهم الآن : ماذا صنع خالد بن الوليد رضي الله عنه ؟؟

لقد رأى كثرة العدو ، فأدرك أنّه من المحال أن يُواصلوا النصر الكامل و الثبات أمام هذا العدد الضخم من الرومان ( قلنا إنه بلغ 200 ألف مقاتل مع القبائل العربية ) لذلك خطّط أن ينسحب بالجيش [[ انسحاب المنتصر ]] لأن المسلمين - وإن كانوا قد حققوا تفوقا في اليوم الأول - فليس هناك احتمال لتحقيق النصر الكامل، فلا يمكن تعقّب الروم ، والتوغل داخل أراضي الرومان بهذا الجيش الصغير ، فكيف كانت خُطّته في الانسحاب ؟

أخذ يفكر: لو انسحب المسلمون من أمام الرومان بطريقة طبيعية، فلابد أنّ الرومان سيلحقون بهم ، وستكون مجزرة حقيقية يُباد فيها الجيش الإسلامي بأكمله ، فوضع –رضي الله عنه - خطة انسحاب محكمة أراد بها ايهام الجيش الرومي أن انسحاب المسلمين هو خدعة يريد بها استدراج الجيش الرومي، فلا يلحقون بهم ، وبذلك ينجو بالجيش الإسلامي بلا خسائر . ولتنفيذ هذه الخطة قام بما يلي :
جعل الخيل طوال الليل تجري في أرض المعركة لتثيرالغبارالكثيف وصاحبَ ذلك أصوات تكبير المسلمين، فيُخيّل للرومان أن هناك مددا للمسلمين قد جاء طوال الليل .

عندما جاء الصباح ، جعل في خلف الجيش وعلى مسافة بعيدة منه مجموعة من الجنود خلف أحد التلال ، فاختار {{ ١٠٠ فارس }} وقال : قفوا خلف هذا التل {{ تل مؤتة }} فإذا طلعت الشمس تأتوني عشرة عشرة ، وكل عشرة معهم لواء ، وتضربون الأرض بالخيل ، وتثيرون الغبار [[ ليشعر الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي للمسلمين ]] ، فإذا هدأت الغبار يتقدم عشرة ، يضربون الأرض بالخيل وهكذا .

قام بتغيير ترتيب الجيش : فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة ، وجعل
المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة .

وحين رأى الرومان الجيش الإسلامي في الصباح، ورأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيرت، أيقنوا أن هناك مددا قد جاء للمسلمين ، نتيجة ذلك ساد فيهم الرعب والارتباك ، ولسان حالهم يقول :

[[ إذا كان ذلك العدد الصغير بالأمس قد فعل بنا العجب العُجاب ، فماذا بعد أن يصل اليهم هذا المدد الكبير ؟؟ ]] وأثناء ارتباك الروم قام خالد بهجوم قوي قُتِل فيه الكثير من الروم ، وقبل أن يعيد الروم ترتيب صفوفهم أعطى خالد الإشارة لقادته بالارتداد إلى الخلف كما اتفق معهم ، فأخذ الجيش يغادر أرض المعركة بكل هدوء وثقة وانضباط .

وكان خالد يجول بفرسه بين الجيش ليشرف على عملية الانسحاب ، وشاهد الرومان المسلمين وهم يرتدون إلى الخلف بعد الهجوم الكاسح الذي قاموا به، وقد اعتقد الروم أيضا أن المدد قد وصل إلى الجيش الإسلامي، فأيقنوا أن هذا الانسحاب مكيدة يريد بها المسلمون استدراج الجيش الرومي إلى أحد الكمائن ، وهم يعرفون أن العرب يجيدون {{ الكر والفر والكمائن في الحرب }} ،

فخافوا من تتبع المسلمين، وأصدر القادة الروم أوامرهم بعدم تعقب المسلمين .
وهكذا نجحت الخطة العسكرية للقائد المسلم خالد بن الوليد – رضي الله عنه - ونجح بالانسحاب بجيش المسلمين بعد القتال المشرّف ضد الرومان .

وفي المدينة وقبل وصول الجيش الإسلامي ، خرج - صلى الله عليه وسلم - من مسجده وهو يكفكف دمعه متجهاً إلى بيت جعفر بن أبي طالب [[ فهو ابن عمه ويعتبر أخوه، لأنهم تربوا معاً في بيت أبي طالب ]] ، و احتضن ولديه عبد الله و محمد ، وبكى بكاء شديدا ، ثم قال : (( اصنعوا لآلِ جعفرٍ طعامًا؛ فقد أتاهم ما يَشْغَلُهم )) . وفي ذلك سُنّة لجميع الشهداء و أموات المسلمين ، ولكن ليس مثل أيامنا : إسراف و تبذير من أهل الميت للناس !!! الناس يجب أن تُكرم أهل بيت الميت وليس العكس ، و يجب أن يكون ذلك دون إسراف كما يحدث الآن!!!

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-12-21, 06:53 AM
هذا الحبيب « ٢٢٨ »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة مؤتة هي انتصار للمسلمين ))
________
عاد الجيش الإسلامي من مؤتة إلى المدينة المنورة ، بعد أن لقّن الرومان درسا في الشجاعة و التضحية و الصبر وفنّ التخطيط للقتال ، واستشهد من الجيش الإسلامي فقط (( 12 )) من أصل (( 3 آلاف )) مقاتل ، ولا يُعتبر هذا رقما في الحروب لأن عدد الرومان قارب ال (( 200 ألف )) مع مقاتلي القبائل العربية ، وقد خسر الرومان في المعركة أعدادا كبيرة لا تُعد ولا تُحصى .

و كان النبي – صلى الله عليه وسلم – على رأس المستقبلين لهذا الجيش ، و حوله المسلمون كبارا وصغارا ، نساء و أطفالا ، فالكل كان مستعدا لتهنئة هذا الجيش بالنصر و الصمود أمام أقوى جيش في ذلك الزمان .

وهُنا كان بين المستقبلين صبية فقدوا آباءهم في الغزوة ، فجعلهم النبي -عليه الصلاة و السلام - حوله حتى لا يشعروا بألم فقد آبائهم ، ووضع عبد الله بن جعفر في حجره وهو يقول : هنيئا لك ، أبوك في الجنة يطير مع الملائكة .
وغزوة مؤتة هي انتصار للمسلمين ، وهزيمة للرومان بكل المقاييس ، وكان انسحاب خالد بن الوليد – رضي الله عنه – انسحاب المنتصر؛ لأن هذا الانسحاب أفضل النتائج التي من الممكن أن نتوقعها في مثل هذه الظروف .

وقد وردت روايات ضعيفة في سندها ، وللأسف الشديد منتشرة في كتب السيرة ، وتقول بأن المسلمين في المدينة وصفوا الجيش الإسلامي ب (( الفُرّار )) ، و حثّوا على وجوههم التراب ، وفي ذلك إشارة إلى هزيمة المسلمين في الغزوة ، ثمّ قال لهم النبي بل هم (( الكُرّار )) ، وهذه الروايات ضعيفة لأنّ غزوة مؤتة نصر للمسلمين ، و إليكم الدلائل على هذا النّصر .

الدليل الأول : ما جاء في البخاري عن أنس – رضي الله عنه - يحكي عن معجزة من معجزات الرسول – صلى الله عليه وسلم - وهو يخبر أصحابه نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، فقد قال : " أ َخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ،

ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ". يقول أنس : وعيناه تذرفان ( يعني يبكي على استشهاد الثلاثة وكانوا جميعًا من أحبِّ الناس إلى قلبه): "حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ". فجملة "حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" لا تحتمل إلّا معنى النصر والفتح والعلو؛

فالمسلمون انتصروا وفتح الله عليهم، ثم قرر خالد بن الوليد – رضي الله عنه - أن ينسحب، وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ وذلك لأن خالد بن الوليد كان واقعيًّا لأبعد درجة، وقد علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا بالفعل فتحًا من الله على المسلمين، كما ذكر الرسول عليه الصلاة و السلام .

الدليل الثاني : وهي ملاحظة مهمة جدًّا، إذ كم تتخيل وتتوقع أن يكون عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟ إنه رقم لن تتخيله مطلقًا مهما فكرت فيه؛ إذ لن يوصلك تفكيرك إلى أنهم اثنا عشر شهيدًا فقط،

منهم الأمراء الثلاثة من جملة ثلاثة آلاف مقاتل مسلم في مواجهة مائتي ألف مقاتل روماني !! وهذا دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ وذلك لأن الجيش المهزوم من المستحيل أن يموت منه اثنا عشر فقط، وخاصة إذا كان مهزومًا من مائتي ألف.

الدليل الثالث: غَنِم المسلمون في مؤتة غنائم عدة، ولا يغنم إلا الجيش المنتصر، بل إنهم غنموا ممتلكات بعض كبار القادة الرومانيين، ومعنى هذا أنهم قتلوا بعض القادة الرومان، وأخذوا أسلابهم. وقد روى ذلك أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك الأشجعي ، إذ يروي أن أحد المسلمين قتل روميًّا يحمل سلاحًا مذهَّبًا، ويركب فرسًا أشقر، وقد أخذ المسلم كل هذا . وهذا يُعَدّ غنيمة عظيمة، خاصةً إذا علمنا أنه لا يحمل الذهب في المعارك إلا القادة الكبار، وليس عامَّة الجند.

الدليل الرابع : لم نسمع بعد هذه الغزوة عن شماتة شعرية من شعراء قريش، أو فخرًا من عرب الشمال، وقد كانوا لا يتركون مثل هذه الأحداث أن تمر دون قصائد شعرية. فلو هُزِم المسلمون ما تركهم أعداؤهم في قصائدهم الشعرية، إلا أننا لم نسمع عن مثل هذا، بل كان العكس هو الصحيح، حيث سمعنا فخرًا من المسلمين على لسان كعب بن مالك، وحسان بن ثابت -رضي الله عنهما- في موقعة مؤتة، وهذا لا يأتي إلا إذا كان هناك نصر.

الدليل الخامس: تركت هذه الموقعة أثرًا إيجابيًّا هائلاً على عرب الجزيرة، خاصةً المناطق الشمالية من الجزيرة، ورأينا بعد هذه الموقعة وفود القبائل التي طالما كادت للإسلام والمسلمين تأتي مذعنة إلى المدينة المنورة؛ لتعلن إسلامها بين يدي الرسول – صلى الله عليه و سلم - . ولو كانت الغلبة في هذه الموقعة للرومان والقبائل المتحالفة معها، لكان التسابق لطلب وُدِّ الرومان وغسّان هو السمة الغالبة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

إذن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس هي أن موقعة مؤتة كانت انتصارًا للمسلمين على الرومان بكل المقاييس؛ في أول لقاء بينهما، وكان هذا بداية لسلسلة مضنية من حروب الفتوحات الإسلامية ، و التي كانت فيها اليد العليا دومًا للمسلمين .

و أخيرا أقول : علينا أن نزور مؤتة ، ففي زيارة أرض المعركة ، وزيارة قبور الشهداء الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل هذا الدين ( عِبرة وموعظة ) لنا و لأبنائنا ، ونسلّم على صحابة رسول الله ، فإنهم أحياء بنص القرآن الكريم :
{{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }} ، طبعا بعيدا عن الممارسات غير المشروعة ، مثل التبرّك بالقبور و طلب العون من الشهداء و الشفاء و الرزق ... إلى آخره من مظاهر الشرك التي يغفل عنها البعض .

فمن زار منطقة مؤتة الآن يجد بجانب جامعة مؤتة ساحة فيها بنيان قديم ، هناك لوحة مكتوب عليها أسماء الشهداء، وهناك دفن الشهداء ، أما قبور القادة الثلاثة [[ جعفر وزيد و عبد الله ]] – رضي الله عنهم – فهي في وسط مؤتة ، كل واحد في قبر وكل قبر عنده مسجد . رحمة الله عليهم وعلى جميع شهداء المسلمين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-12-21, 06:56 AM
هذا الحبيب « 229 »
السيرة النبوية العطرة (( سرية ذات السّلاسل ))
________
في جمادى الآخرة من (( السنة الثامنة للهجرة )) بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتداء قبائل منطقة (( قضاعة )) على مجموعة من صحابته ، وهنا كان لا بد له أن يقف وقفة جادة مع هذه القبائل ؛ كي لا تهتز صورة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية. وبالفعل قرر- صلى الله عليه وسلم - أن يُخرِج جيشًا إلى مناطق قضاعة. وقضاعة قبائل قوية وكبيرة، وتبعد عن المدينة المنورة حوالي {{ ٦٠٠ كم }} ،

وكانت منطقة قضاعة تسمي {{ السّلاسِل }} وهو رَمْلٌ يَنعقِدُ بعضُه على بَعضٍ كالسِّلسلةِ، وقيل: هو بئر ماء ، لذلك عُرفت هذه السرية باسم سرية {{ ذات السُلاسل}} ، ولكي لا تختلط علينا الأمور هناك أيضا معركة أخرى عرفت بنفس الاسم أكثر منها شهرة ،

[[ وهي المعركة التي كانت بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد ، وبين الفرس بقيادة هرمز في سنة ١٢ للهجرة في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وانتهت بانتصار المسلمين، وعرفت بذات السلاسل لأن هرمز أمر بربط الجنود بسلاسل حتى لا يفروا ، وكانت النتيجة أنهم قُتلوا جميعا لأنهم لم يستطيعوا الفرار ]] ، وبالمناسبة فإن المضيق الموجود في الخليج العربي معروف حتى الآن باسم مضيق " هرمز " ؛ الأمير الفارسي شديد البغض للإسلام والمسلمين والعرب ، والأولى أن يكون اسمه : مضيق خالد بن الوليد .

نرجع إلى سرية ذات السلاسل ، فقد اختار النبي - صلى الله عليه وسلم -لقيادة هذه السرية {{عمرو بن العاص}} - رضي الله عنه - الذي لم يمض على دخوله المدينة ومبايعته لنبينا بالإسلام سوى أربعة شهور فقط !!! ويبدو أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يؤلف قلب عمرو بن العاص ، ويحفظ له منزلته ومكانته حتى تستفيد منه الدولة الإسلامية، فهو معروف بالحنكة والفطنة و الدّهاء ، فدعاه – عليه الصلاة و السلام – و أمره بالخروج إلى قضاعة على رأس جيش قوامه {{ ٣٠٠ }} من الصحابة ، مهاجرين وأنصار .

مضى عمرو بن العاص بالجيش ، فكان يسير بالليل ويكمن في النهار حتى لا ترصده عيون أعدائه، وزحف بالفعل حتى اقترب من قضاعة ، وبعث العيون ، فوصل إليه أن أعداد قضاعة كبيرة جدا ، فأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم في المدينة - يطلب منه المدد .

[[ وسنجد بعد ذلك أن عمرو بن العاص في فتوحاته في مصر وفلسطين كان لا يُقبِل على قتال إلا بعد دراسة متأنية للواقع ]] وبالفعل أرسل اليه النبي - صلى الله عليه وسلم - {{ ٢٠٠ }} من الصحابة ، وكان أميرهم {{ أبو عبيدة عامر بن الجراح }} ، و أوصاه النبي - صلى الله عليه وسلم – قائلا : إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا .

ولا تستغربوا إذا علمتم أنّ من بين المقاتلين في الجيش الصحابي الجليل {{ أبو بكر الصديق }} - رضي الله عنه وأرضاه ، الرجل الثاني في الدّولة الإسلامية بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أيضا كان في الجيش الصحابي الجليل الفاروق {{ عمر بن الخطاب }} - رضي الله عنه وأرضاه -وكان أميرهم عمرو بن العاص و عمره في الإسلام فقط ٤ شهور !!!

[[ هل رأيتم ؟؟ لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يختارالقادة بالأقدمية ، ولا الأكبر سنّاً ، ولا الذين يملكون المال ويشترون به ذمم الناس ليفوزوا بالانتخابات فيظلمون العباد و البلاد ، فهم رُويبضة العصر ، تافهون ينطقون بأمر العامّة !! والله سيحاسب كل من باع و اشترى وشارك بالظلم .

" و تحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم " ]] . إذن كان – عليه الصلاة و السلام – يُنزل الناس منازلهم ، وكل له دوره ، ولا تعني الإمارة أن تكون أنت الأفضل ، لا . فعمرو بن العاص رجل عسكري الآن ، ولا يعني ذلك أنه أفضل من أبي بكر وعمر .

إذن أصبح جيش المسلمين الآن خمسمئة مقاتل ، وجاء موعد الصلاة ، وتقدم أبو عبيدة لإمامة المسلمين ، فقد كانت العادة أن الأمير هو الذي يؤم المسلمين في الصلاة ، و كان يظنّ أبو عبيدة أنه هو القائد . ولكن عمرو بن العاص قال له: إنما قدمت علي مددا ، وأنا الأمير، وليس لك أن تؤمّني !! وكان أبو عبيدة أحد السابقين في الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة،

وقال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه {{ أمين هذه الأمة }} ، لذلك أطاع أمرعمرو بن العاص امتثالا لنصيحة النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا " ، وحتى لا يحدث خلاف بين صفوف الجيش الإسلامي .

هل رأيتم سبب انتصارات المسلمين في ذلك الوقت ؟؟ الوحدة وعدم الاختلاف ، و تقديم المصلحة العامة على الخاصة ، و التواضع للآخرين ، و انتشار الألفة و المحبة بينهم .

وفي الليل أراد الجيش أن يوقد نارا للتدفئة ، فالجو شديد البرودة ، لكن القائد عمر بن العاص رفض أن يوقد أي رجل نارا ،وغضب الصحابة ، وشكوا أمرهم إلى أبي بكر، فتحدث أبو بكر إلى عمرو بن العاص ، فرفض وقال : لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها . فقال أبو بكر : سمعا وطاعة، و استجاب الجيش .


وبدأ القتال مع قضاعة ، وكانت أعدادهم أضعاف أعداد المسلمين، ووقعت معركة هائلة، كتب الله تعالى فيها النصر للمسلمين، وفرّت قضاعة من أمام المسلمين، وبدأ المسلمون في تتبعهم ومطاردتهم ، ولكن عمرو بن العاص أمر المسلمين بعدم تتبع قضاعة ،ومرة أخرى يغضب الجيش ولكنهم يطيعون قائدهم
وعندما عادوا إلى المدينة اشتكى الصحابة عمرو بن العاص للنبي - صلى الله عليه وسلم –، فقال عمرو بن العاص : أمرتهم أن لا يوقدوا نارا لأنني كرهت أن يرى عدونا قلة عددنا

[[ لأن النار كانت تدل على عدد الجيش ]]، ومنعتهم من تتبع قضاعة لأنني كرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد ، فأحببت أن أنجو بأصحابي ، وأردهم لك سالمين ، فما فقدت جندياً واحداً [[ وفعلا لم يستشهد في هذه السرية أحد ]] ، فأقرّه – صلى الله عليه وسلم - على ما فعل .

ويُروى أنّ عمرو بن العاص سأل النبي قائلا: يا رسول الله، من أحب الناس عندك ؟؟ فقال: عائشة، [[ وكأنه علم ما في نفس عمرو فأراد أن يغلق عليه الباب]] قلت : لست أسألك عن أهلك قال : فأبوها. قلت : ثم من ؟؟ قال : عمر .قلت : ثم من ؟؟ فأخذ يعدّ لي رهطًا من مهاجرين وأنصار، فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخر المسلمين!! إذن فالإمارة والإمامة {{ لا تعني الأفضلية }} .


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
__________

عطاء دائم
04-13-21, 08:51 AM
هذا الحبيب « 230 »
السيرة النبوية العطرة (( قريش تنقض صلح الحديبية ))
________
كان من بنود صلح الحديبية – كما تذكرون - :{{ من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه }} وكانت التحالفات في الجزيرة العربية معروفة ، فقد كانت القبائل القوية تعتدي على القبائل الضعيفة ، فماذا كانت تفعل القبائل الضعيفة لتحمي نفسها ؟؟

كانت تتحالف مع قبيلة قوية ، ما نسميه اليوم بلغة العصر{{ اتفاقية دفاع مشترك}} بين دولتين ، فتصبح كل قبيلة ملزمة بالدفاع عن القبيلة المتحالفة معها إذا وقع أي اعتداء .فدخلت قبيلة {{خزاعة }} في حلف النبي – عليه الصلاة و السلام - وكان أحيانا يستخدمهم كعيون له بالرغم من أنهم لايزالون على شِركهم .

ودخلت قبيلة أخرى اسمها {{ بنو بكر }} في حلف قريش، لماذا ؟؟ لأن خزاعة وبني بكر بينهم حروب وعداوات وثارات كثيرة ، فأرادت قبيلة بني بكر أن تكون في الحلف المعاكس ، لتستمد منه القوة إذا وقعت الحرب مع عدوها . وفي أثناء هدنة صلح الحديبية ، وفي السنة الثامنة من الهجرة ، وقف شاب من بني بكر يردد شعرا يهجو فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعه شاب من خزاعة ، فقام بضربه ،هنا ثار الدم في القبيلتين ؛ فماذا فعلت قريش ؟؟

أخذت قريش تحرض حليفتها بني بكر على قتال خزاعة ،وأعانت قريش بنو بكر بالسلاح والدواب، بل واشترك في القتال بعض فرسان قريش ، منهم : ((عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو الذي كتب بنود صلح الحديبية )) ، فباغتوا بني خزاعة في الليل وهم آمنون عند عين ماء لهم يقال لها {{ الوتير }}،

وقتلوا منهم بعض رجالهم ، فلما رأت خزاعة أنها ستُهزم هرب كثير من رجالهم و دخلوا إلى الحرم ، [[ وكانت العرب لا تقتل لا في الحرم ولا في الأشهر الحرم، وكان الرجل يرى قاتل أبيه داخل الحرم، فلا يستطيع أن يقترب منه حتى يخرج من الحرم ]] ، وقالوا لقائد بني بكر واسمه {{ نوفل بن معاوية }} - وقد أسلم فيما بعد - قالوا له : يا نوفل ، إنا قد دخلنا الحرم، الله الله في إلهك !! فإننا نحتمي به في البيت . فقال نوفل :

لا إله هذه الليلة !! وصاح برجاله : يا بني بكر أصيبوا ثأركم ( فقتلوا 20 رجلا من خزاعة داخل الحرم )!! ماذا يعني هذا ؟؟ نعم ، إنّه نقض واضح وصريح من قريش لصلح الحديبية التي أعانت قبيلة بني بكر بالسلاح ، وقتال خزاعة حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم- ، ولو كانت قريش لم تشترك معهم لكان اكتفى – عليه الصلاة و السلام - بعقاب بني بكر فقط ، مثلما أرسل الكثير من السرايا لعقاب القبائل التي اعتدت على بعض الصحابة سابقا .

هذا ما وقع في مكة ، ننطلق الآن بكم مباشرة إلى المدينة المنورة ، فعندما وقع هذا الاعتداء ، انطلق فورا من قبيلة خزاعة أحد شعرائها وهو {{عمرو بن سالم الخزاعي}} ،انطلق إلى المدينة المنورة يستنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده وبين أصحابه ، وكان عمرو مغبرّا أشعثاً من آثار السّفر ، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام ، ثم روى ما حدث مع قبيلته شعراً ،

وبكل بلاغة و فصاحة :

- يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا * حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
- أنّ قريشاً أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
- هم بيِّتونا بالوتير هجـــدا * وقتلونا ركــــعــا ً وسجدا
- فانصر رسول الله نصرا أبدا * وادع عباد الله يأتوا مددا


فلما انتهى من شعره، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم - في قوة وحزم : نُصِرتَ يا عمرو بن سالم ، والله لأنصرنّكم ، ولأمنعنّكم مما أمنع منه نفسي وأهلي . إذن قرر النبي -صلى الله عليه وسلم -أن ينتقم لخزاعة من بني بكر ومن قريش لاعتدائهم عليهم، ونقضهم صلح الحديبية، وقال: يا عمرو، ارجع إلى مكة، ولا تخبر أحدا أنك جئتنا، ودخل - صلى الله عليه وسلم – بيته ، ولم يحدد كيف سيكون هذا العقاب .


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
__________

عطاء دائم
04-14-21, 09:27 AM
هذا الحبيب « 231 »
السيرة النبوية العطرة (( قرار فتح مكة ))
________
بعد نقض قريش لصلح الحديبية ، قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم بغزو مكة ، وسبحان الله العظيم إذا أراد أمراً هيّأ له الأسباب ، فمكة بيت الله الحرام ، ولا يجوز أن تكون تحت حكم المشركين ، ولا يجوز أن تكون هناك أصنام حول الكعبة ،ولا يجوز أن يطوف البعض بالبيت عراة ، كما أن مكة لها مكانتها المعروفة بين العرب ، فلو فتحها المسلمون ستدخل أغلب قبائل الجزيرة العربية في الإسلام،وهذا ما حدث بالفعل كما قال تعالى : {{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا }}

أخذت قريش تبحث عن حل للمشكلة التي أوقعت نفسها فيها، فقد نقضت الصلح مع المسلمين ، وهي تعلم جيدا أنها الآن أضعف بكثير من المسلمين الذين تفوّقوا قبل مدة على اليهود في خيبر ، وعلى الرومان في مؤتة، وخضعت لهم كثير من القبائل ، وقد يدخلون مكة الآن في أي وقت ، لذلك قررت قريش أن ترسل {{ أبا سفيان بن حرب }} لتجديد العهد مع المسلمين ، وزيادة المدة ، وقالوا له : تذهب إلى المدينة متحجّجا بزيارة ابنتك رملة

{{ أم حبيبة رضي الله عنها }} ، وهي كما تعلمون زوجة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكان هذا تنازل كبير لقريش عن كرامتها وكبريائها ، فهي الآن ترسل سيد قريش لتمديد المدة !!! فهذا التنازل خير ألف مرة من مواجهة المسلمين ، لأن قريشا خائفة من قتال المسلمين .

انطلق أبو سفيان إلى المدينة، وكان عمره في ذلك الوقت {{ ٧٠ عاما }} واتجه أول الأمر إلى ابنته أم حبيبة ، وأبو سفيان له 10 من البنات و 7 من الأولاد ، و ولده الأكبر اسمه {{ حنظلة }} الذي قتل في بدر كافرا ، فأبو سفيان لقب ، أمّا كنيته الحقيقية هي {{ أبو حنظلة }} ومن أبنائه أيضا {{ معاوية }} الذي أصبح لاحقا خليفة المسلمين . وصل أبو سفيان ، ودخل حجرة ابنته أم حبيبة - رضي الله عنها - وكان هذا اللقاء بعد غياب {{ ١٦ سنة }} ،

فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه ، فاستنكر والدها ذلك وقال : " يا بنيّة ، أرغبتِ بهذا الفراش عنّي؟ ، أم رغبتِ بي عنه ؟ [[ يعني لم تجلسيني على الفراش لأني رجل عظيم لا يصح أن أجلس على هذا الفراش المتواضع، أم أنا أقل من أن أجلس على هذا الفراش؟؟ ]]

،فأجابته إجابة المعتزّ بدينه ، المفتخر بإيمانه : بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجسٌ مشرك . فقال لها : يا بنية، لقد أصابك بعدي شرٌّ كبير . قالت : بل أصابني الخير الكثير وهداني الله تعالى للإسلام .

فتركها ، وخرج متّجها إلى المبعوث رحمة للعالمين – صلى الله عليه وسلم - فدخل إلى مسجده ، وسلم ، وجلس ، ثمّ قال : يا محمد ،حين انعقد الصلح مع قريش لم أكن شاهده ، وقد تبدلت الأيام وتغيرت ، وأمْرقريش بين يدي ، فأحببت أن آتيك مؤكّدا للعهد ، وراغبا في زيادة المدة ، [[ شوفوا كيف السياسة وأهلها !!عندما يضعف العدو أول شيء يقوم به النّفاق والمفاوضة ]] .

ثم أعرض بوجهه عنه - صلى الله عليه وسلم – ولم يردّ عليه . فخرج من عنده إلى أبي بكر ، وطلب منه أن يكلم له رسول الله ، فقال أبو بكر: ما أنا بفاعل . فخرج من عنده إلى عمر بن الخطاب ، فقال له عمر: أأنا أشفع لكم... ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذّرّ لجاهدتكم به

[[ يعني إذا مات الرجال كلهم ، وما بقي رجال ؛ بغزوكم بالنمل ]]، ثم خرج إلى علي بن أبي طالب فقال له : يا علي إنّك أقرب القوم مني قرابة ؛ فاشفع لي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال :

ويحك أبا حنظلة ! و الله لقد عزم رسولنا على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ، لكنك سيد بني كنانة فقم فأجِر بين الناس ، ثم الحق بأرضك . فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس [[ يعني منع وقوع الحرب بينهم ]] ، ثم ركب بعيره فانطلق . فلما أن قدم على قريش قالوا: ما وراءك ؟ فقصّ عليهم الخبر ، فقالوا : هل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويحك ، فما يغني عنا ما قلت !! وهكذا فشل أبو سفيان في مهمّته .

وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتجهز للغزو، ولم يعلمهم بوجهته ، وحرص على السرية حتى يُفاجئ قريشا قبل أن تستعد للقتال ، و أيضا هو لا يُريد إراقة الدماء في الحرم المكي . وقد استنفر القبائل التي حول المدينة ، فمنهم من جاء إلى المدينة، ومنهم من رتّب معهم ليلقاهم في الطريق، وقد بلغ عدد جيش المسلمين عشرة آلاف مقاتل ،

و إلى الآن لا يعرف أحد وجهة هذا الجيش ؛ ما عدا بعض القادة العسكريين الذين أوكل إليهم مهمات عسكرية على امتداد الطريق إلى مكة، وحواجز تفتيش ، و مراقبة حول المدينة حتى لا يعلم أحد من الخارج بتجهيزات الجيش ، وعدده و مهامّه . ومن الصحابة الذين علموا بنيّة النبي – صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة {{حاطب بن أبي بلتعة}} - رضي الله عنه – وكان عمره عند الفتح {٤٣ عاما }} ،

وهو من المهاجرين ، ومن الذين اشتركوا في بدر وثبت مع النبي في أحد ، كما شهد الخندق والحديبية ، وهو الذي أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس حاكم مصر ، الذي قال له : أنت حكيم جئت من عند حكيم .

ولكن حدثت له لحظة من لحظات الضعف الإنساني - والصحابة ليسوا بمعصومين – فقد كان لحاطب في مكة أولادٌ ومال، فأراد أن يؤدي لأهل مكة خدمة حتى لا يؤذونه في أهل بيته ولا في تجارته ، فكتب إليهم كتابا ، وبعثه مع امرأة مغنّية من قريش اسمها ( سارة ) جاءت إلى المدينة تشكو الحاجة بعد غزوة بدر [[ ما ظل إلها عمل في مكة بسبب حزن أهل مكة الشديد على قتلاهم ]] ، ولكنها لم تدخل في الإسلام . فأعطاها حاطب مالا مقابل هذا العمل ، وطلب منها أن تُخفي الكتاب ، لأنّ الحراسة مشدّدة .

وما إن خرجت هذه المرأة من المدينة حتى نزل جبريل – عليه السلام – يُخبر نبينا – صلى الله عليه و سلم – بذلك ، فأرسل في طلبها على الفور علي بن أبي طالب والزبير والمقداد ؛ فالتقوها في منطقة الروضة . فقالوا لها : أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب . قالوا : لتخرجِنَّ الكتابَ، أو لنلقِيَنَّ الثياب! [[ يعني الموضوع ما فيه كذب ]] ، فأخرَجَتِ الكتاب من جديلة شعرها، فأخذوا الكتاب إلى رسول الله، فإذا فيه :

" من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يُخبِرُهم ببعض أمرِ رسول الله . . . " . فقال رسول الله: يا حاطبُ، ما هذا؟!! قال: لا تعجل عليَّ؛ إني كنت امرأً من قريش، ولم أكن من أنفسهم [[ يعني أصلي ليس من قريش ]] ، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحبَبْتُ إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتَّخِذَ يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضيت بالكفر بعد الإسلام .

فقال رسول الله: ((إنه صَدَقَكم))، فقال عمر: دعني أضرِبْ عنق هذا المنافق، فقال رسول الله: (( إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعلَّ اللهَ اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ))، وبعد أن سمع الصحابة الذين شهدوا غزوة بدر هذه البشرى بكوا بكاء شديدا فرحين بهذه المنزلة الكبيرة .

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عفا عن حاطب بن أبي بلتعة ، وأيضا رفع من قدره أمام المسلمين، لأن حاطب قدم تضحيات كثيرة، فليس معنى أنه أخطأ مرة أن ننسى أعماله الطيّبة في خدمة المسلمين ! ثم نزلت هذه الآيات تصف إيمان حاطب ، وتأمرنا بعدم موالاة الأعداء ، قال تعالى في أول سورة الممتحنة:


{{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }} .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-16-21, 09:47 AM
هذا الحبيب « 232 »
السيرة النبوية العطرة (( استعداد جيش المسلمين لدخول مكة ))
________
في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة يريد فتح مكة بجيش مدجج بالسلاح قوامه {{10آلاف }} مقاتل من مهاجرين و ألأنصار و بعض القبائل العربية التي دخلت في الإسلام .

الله الله ، ما أعظم دين الله!! قبل ثماني سنوات فقط هاجر – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة وهو مطارد في الطريق ، و اليوم يعود إليها فاتحا بجيش لم تشهد الجزيرة مثل عدده الكبير إلا جيش أبرهة في عام الفيل ، و في ذلك الوقت كانت قريش لا تعلم شيئا عن تحركات المسلمين، فقد أعمى الله بحكمته و قدَره الأخبار عنها ، فلم يعلموا بوصول الجيش إليهم .

وأثناء مسير الجيش الإسلامي نحو مكة كان {{العباس بن عبد المطلب}} عم النبي - صلى الله عليه وسلم- قد خرج بأهله من مكة مهاجرا إلى المدينة، وكان قد أسلم منذ ست سنوات تقريبا ، لكنه لم يُهاجر ، لأنه كان عينا في مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قابل العباس جيش المسلمين في منطقة {{ الجحفة }} ، وانضم إلى جيش المسلمين المتجه لفتح مكة ، وأرسل أهله وثقله إلى المدينة .

تابع الجيش مسيره إلى أن وصل {{ مَرُّ الظهران}} ، على بعد (( 22 كم )) عن مكة ، فعسكر الجيش هناك ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم – عناصر الجيش بأن يوقد كل منهم نارا ، فأوقدوا عشرة آلاف نار، حتى إذا رأتهم عيون قريش أصابتهم الرهبة من الجيش، وكان قائد الحرس هو {{ عمر بن الخطاب}} رضي الله عنه .

وكان العباس – رضي الله عنه - عندما رأى جيش المسلمين وكثرتهم علم أن قريشا لا قبل لها بهذا الجيش ، وإذا وقع قتال فسيتم سحق قريش تماما ، فأشفق على قريش ، وعلم أيضا أن النبي – عليه الصلاة و السلام - لا يريد سفك دماء ، فركب بغلته واتجه إلى مكة حتى يقنع قريشا بأن تستسلم ، وأن تطلب الأمان من النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفي الطريق التقى بأبي سفيان ومرافقين معه ، كانوا قد خرجوا يلتمسون أخبار هذه النيران ، فقال لهم العباس : هذا رسول الله في الناس ، على رأس عشرة آلاف مدجج بالسلاح ، واصباح قريش!!

[[ يعني خربت دياركم ، ولن يصبحكم الله بخير إذا قاتلتموه ]] ، فقال أبو سفيان: فما الحيلة يا أبا الفضل ؟ فقال العباس: أتسأل المشورة هذا الليلة يا أبا حنظلة ؟!! والله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك !! فاركب خلفي على هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك . فعاد من كان مع أبي سفيان ، وسار العباس وأبو سفيان إلى معسكر المسلمين .

دخل العباس و أبو سفيان إلى خيمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال قائد الحرس -عمر بن الخطاب -: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه [[ يعني جاء بعد أن نقض صلح الحديبية ،ولا عهد له الآن ، وقتلُه مكسب للمسلمين ، فهو قائد قريش ]] ، فقال العباس: يا رسول الله، إني قد أجرته . ثم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -للعباس : اذهب به يا عباس إلى رحلك، فاذا أصبحت فأتني به [[ النبي – عليه الصلاة و السلام – مبعوث رحمة للعالمين ، ويتمنى الهداية للجميع ، لذلك طمع في إسلام أبي سفيان ، وذلك خير من قتله ]] .


فذهب أبو سفيان مع العباس ، ونظر للصحابة : منهم من قام يصلي ، ومنهم من يقرأ القرآن ، ومنهم من يناجي ربه ، ولما أذّن بلال لصلاة الفجر رأى الصحابة يتلقّون وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتبادرون لخدمته ، فقال أبو سفيان للعباس : ما رأيت مُلكاً مثل هذه الليلة ، ولا ملك كسرى ولا ملك قيصر !! لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً . فقال له العباس : إنها النبوة يا أبا سفيان ، وليس المُلك . قال أبو سفيان : نعم هو ذاك . فلما جاء الصباح ذهب أبو سفيان إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - برفقة العباس ، وأعلن إسلامه .

[[ وقد حسن إسلامه وشارك لاحقا في غزوة حنين و حصار الطائف ، وشارك في معركة اليرموك مع خالد بن الوليد وعمره 76 عاما ، رضي الله عنه ]] ، ثم قال العباس: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا ، فقال – عليه الصلاة و السلام - : (( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن )) . لأنه – عليه الصلاة و السلام - لا يريد إراقة الدماء أصلا ، و " حظر التجول " هو المطلوب في مكة.

واستكمالا لخطة إخافة قريش ؛ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس بأن يجعل أبا سفيان في مكان يرى فيه الجيش كله ، حتى ينقل هذه الصورة لقريش . فذهب به العباس إلى مضيق الوادي الذي سيمر منه الجيش ، ومرّ الجيش كله أمام أبي سفيان

[[ مثل العروض العسكرية التي تقوم بها الدول الآن ، مع فارق المضمون ]] ، وكانت كل قبيلة تمر وهي تحمل رايتها، فكلما مرت قبيلة سأل أبو سفيان عنها قائلا : يا أبا الفضل ، من هذه ؟ فيرد عليه : هذه غفار ، وهذه سليم ، وهذه مزينة ، وهذه جهينة... إلى أن مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته الخضراء

[[ مش لابسين أخضر كما يستدل البعض ،
العرب تطلق الخضرة على السواد ، لأنهم لابسين لباس الحرب الكامل ]] ، فقال أبو سفيان مدهوشا : من هؤلاء ؟ قال العباس : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً !! فقال العباس مرة أخرى : يا أبا سفيان إنها النبوة .

ثم قال له العباس : الحق الآن بقومك وحذّرهم ، فانطلق أبو سفيان إلى مكة ، وتجمع حوله الناس ، فبدأ يحذّرهم بأعلى صوته : يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن . . . ، فدخل أغلب أهل مكة بيوتهم ، ولجأ البعض إلى المسجد ، فقامت إليه زوجته {{هند بنت عتبة}} ونادت: يا معشر قريش ، اقتلوا هذا الشيخ الأحمق – تقصد زوجها أبي سفيان - هلا قاتلتم ودافعتم عن أنفسكم وبلادكم ؟

إذن نجحت خطة المسلمين في تحطيم مقاومة قريش ، ومع ذلك رفض بعض شباب قريش الاستسلام ، وقرروا المقاومة ، وفي نفس الوقت استعد الجيش لدخول مكة ، فما الذي حدث بعد ذلك ؟؟

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-16-21, 09:50 AM
هذا الحبيب « 233»
السيرة النبوية العطرة (( يوم فتح مكة - شرّفها الله تعالى - ))
________
وصل الجيش الإسلامي إلى مشارف مكة ،والكل مشتاق إلى دخولها ، خاصة المهاجرين ، فليس أحب إلى الإنسان المهاجر من أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه . وقبل أن يدخل مكة - صلى الله عليه وسلم – كان قد قرر دخولها بأربع كتائب من أربع جهات في نفس الوقت ، وكانت هذه الخطة حتى يضيّع على قريش فرصة المقاومة ، وقد كانت العرب لا تعرف دخولاً لمكة إلا من المسفلة [[ أي الطريق السهلة الرملية ، بعيدا عن المنحدرات ]] ، فجعل على رأس أول كتيبة{{ خالد بن الوليد}} يدخل من أسفل مكة ، ثم كتيبة {{ الزبير بن العوام}} يدخل من كداء أعلى مكة

[[ تُسمّى جبل الحجون ]] مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كتيبة {{ أبي عبيد بن الجراح }} يدخل من جهة أخرى من أعلى مكة ، وأخيرا كتيبة {{ سعد بن عبادة }} زعيم الخزرج يدخل من غرب مكة .
وكان قد أمر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - قائلاً:

" لا تقاتلوا أحداً إلا إذا قاتلكم " [[ يعني الذي يقاتلنا نقاتله دفاعا عن النفس ،لأنه حريص على دخول مكة من غير سفك دماء ]] . وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأس هذه الكتائب ثلاثة من أهل مكة [[ أي من المهاجرين ]] ، وذلك تأليفاً لأهل مكة ، حتى لا يشعروا أنه غزو خارجي ، وجعل على كتيبة واحدة واحدا من الأنصار حتى ينفي عن الجيش صفة العنصرية – لا سمح الله - .

هنا لنا وقفة ، تُرى لماذا اختار النبي أن يدخل مكة مع الزبير من منطقة كداء (الحجون ) الشاهقة ، الوعرة ، صاحبة الصخور الملساء ؟ قيل إنّ الحِكمةُ مِن الدُّخولِ مِن جِهةِ العُلوِّ: لِما فيه مِن تَعظيمِ المكانِ، وقيل:

لأنَّه - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - خرَجَ من مكة مُختفيًا في الهِجرةِ، فأرادَ أنْ يَدخُلَها جاهرًا عالِيًا، وقيل: لأنَّ مَن جاء مِن تلك الجِهةِ كان مُستقبِلًا للبيتِ. ويُروى أنّ عثمان بن طلحة في بداية الدعوة و – قبل أن يُسلم - صدّ النبي - صلى الله عليه وسلم – عن دخول الكعبة ،فقال له – عليه الصلاة و السلام - : (( يا عثمان كيف ترى إذا كان هذا المفتاح يوماً في يدي أضعه أنا حيث أشاء ؟! ))

فقال عثمان باستهزاء واستخفاف : [[ إذن ذلك يوم طلعت فيه الخيل من الحجون ]] " وفي ذلك إشارة إلى استحالة حدوث ذلك " ، ويُروى أيضا أنّ العباس قال لأبي سفيان بعد الحصار في شعب أبي طالب :

يا أبا سفيان ، ألا تعلم أن محمداً صادقاً ؟ قال : نعم . قال : فما عليك لو اتبعناه ؟ فقال أبو سفيان : [[ اتبعه إذا رأيت نواصي الخيل تطلع علينا من الحجون !!]] ، فكانت الحكمة من دخوله - صلى الله عليه وسلم - بالخيل من الحجون ليؤكّد لهم صدق رسالته والله أعلم .
ودخلت هذه الكتائب من الجهات الأربعة بلا أية مقاومة باستثناء كتيبة ((خالد بن الوليد )) حيث تجمع بعض رجال قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وصفوان عند جبل اسمه {{ الخندمة }} وكان فيهم رجل اسمه {{ جماش بن قيس }} ، أعدّ سلاحه طوال مدّة لقتال المسلمين ؛ وقال لزوجته :

لأخدمنّك خادما من بعض من أستأسره!! [[ مغرور وواثق من نفسه قدّام زوجته ! ]] ، وفي صباح اليوم التالي التقت هذه القوة الضعيفة بكتيبة خالد بن الوليد ،وبدأت بمهاجمة المسلمين فقتلت أحدهم ، فانقضّت عليهم كتيبة خالد فقتلت منهم بضعا و عشرين رجلا كما تقول بعض الروايات ،و تفرّق شملهم ، وعادوا يختبئون في بيوتهم ، فقالت زوجة ( جماش ) مستهزئة به : أين الخادم ؟! فقال لها شِعرا :

وأنتِ لو أبصرتنا بالخندمة إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربا فلا تسمع إلا غمغمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

وقبل أن يدخل مكة اغتسل الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -[[ وهذه سنة ثابتة أن يغتسل الرجل قبل دخول مكة ]] ،

ونزع عنه السلاح ، ولبس لباسه ، وأعتمّ بعمامته السوداء التي لبسها ليلة الاسراء والمعراج، وقد أرخى طرفيها على كتفيه ، ثم ركب ناقته القصواء ، وتقدم نحو مكة ، فسطع النور المحمدي على أهل مكة من الحجون ، فياله من مشهد !! وياله من يوم !!

صلوات ربي وسلامه عليك يا حبيب الله ، صلوات ربي وسلامه عليك يا خير خلق الله . فلما رأى قريشا من الأعلى والناس تستشرف لرؤيته ، طأطأ رأسه - صلى الله عليه وسلم - حتى أن شعر لحيته كاد أن يمس ظهر راحلته ، وسكب الدموع تلو الدموع ، وهو يتلو قوله تعالى :

{{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا }} . فلما وصل إلى الكعبة ، استقبل الحجر الأسود بعصاه [[حتى يعلّم أمته ترك المزاحمة على الحجر ]] ، وطاف بالبيت ، وأخذ يدفع الأصنام حول الكعبة ، وهو يقول : {{ وقل جَاءَ الْحقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنّ الْبَاطِلَ كانَ زَهُوقا ً}} .


ثم جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية من المسجد وأرسل في طلب {{عثمان بن طلحة}} ليُحضر مفتاح الكعبة من عند أهله ، فلمّا دنا منه ليعطيه المفتاح قال- عليه الصلاة و السلام - لعثمان : يا عثمان أتذكر يوم قلت لك كيف بك إذا رأيت المفتاح في يدي أضعه أنا حيث أشاء ؟ أرأيت اليوم نواصي الخيل تطلع من الحجون ؟ فقال عثمان : أشهد أنك رسول الله . ثم فتح النبي - صلى الله عليه وسلم – الكعبة ، وغسلها بماء زمزم ، وصلّى وقريش واقفة قد أخذت الأمان قبلها من نبي الرحمة :

" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل بيته فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ... " وهذا كله بداية العفو من نبي الإنسانية ، الذي أسند يديه على جانبي باب الكعبة وقال مخاطبا مشركي مكّة – كما جاء في بعض كتب السيرة - :


ما ترون أنّي فاعل بكم ؟؟ يالها من عبارة تذكّرت قريش بها سجلّ أحداث زادت على 20 سنة !! هذا محمد يتيم أبي طالب الذي كان لقبه فيكم الصادق الأمين ، هذا الذي أحبه الجميع واحتكموا لديه يوم تجديد بناء الكعبة و وضع الحجر الأسود ،

هذا محمد الذي كذّبته قريش عند نزول الوحي ، ووصفته بأنّه ساحر ومجنون ، هذا محمد الذي عذّبت قريش أصحابه ، وحاصرته و أصحابه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ،ومات الكثير فيها من الجوع ، هذا محمد الذي حاولتم قتله ليلة الهجرة ، وخرج حزيناً وحيداً ، مفارقا أحب أرض إليه ، هذا هو محمد رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لكم الآن – كما جاء في بعض كتب السيرة - : يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم ؟ فقالوا مقولة الذليل المسترحم : أخٌ كريم وابن أخ كريم رحيم

[[ فهم يعلمون حِلمه ورحمته و عفوه ]] ، فقال لهم و هو مبتسم : فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فسُمّي من أسلم منهم ( الطّلقاء ) .


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-17-21, 09:13 AM
هذا الحبيب « 234»
السيرة النبوية العطرة (( أحداث متفرقة وقعت بعد فتح مكة ))
________
قرّت عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وعيون المسلمين بالفتح، وعمّت الفرحة قلوب المهاجرين الذين عادوا إلى وطنهم بعد رحلة طويلة من الألم و العناء الصبر ، فها هو عبد الله بن أم مكتوم، ينشد حين دخل مكة:

يا حبذا مــكة من وادي * أرض بها أهلي وعـوادي
أرض بها أمشي بلا هـادي * أرض بها ترسخ أوتـادي

ثمّ بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم - يستقبل بيعة من يريدون الدخول في الإسلام من أهل مكة، فقد تزاحمت قريش تبايعه على الإسلام ، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، فجلس لهم على الصفا، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يجلس أسفل من مجلسه، يأخذ على الناس، وجاء بينهم أبو قحافة

( والد أبي بكر الصديق ) وكان شيخا كبيرا، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " هلا تركتم الشيخ حتى جئت إليه أنا في بيته " ، ثم أجلسَه بين يديه ومسح صدره؛ احتراما لسنه؛ فتقدير كبار السن واحترامهم والاهتمام بهم ورعايتهم من أسمى تعاليم الإسلام؛ وذلك لأنهم أناس أفنوا حياتهم في تعمير الأرض وتربية الأولاد وخدمة المجتمع .

وكان رَأْسُ أبي قحافة وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا،[[ نبات أبيض ]] ، فَقالَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ -: (( غَيِّرُوا هذا بشيءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ )) .

وكان النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يزال يحمل مفتاح الكعبة ، فطلب العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب أن يكون لبني هاشم شرف السدانة [[ يعني الاحتفاظ بمفتاح الكعبة، والعناية بشؤونها من تنظيف وكسوة وغير ذلك ]] ، بالإضافة إلى شرف السقاية [[ سقاية الحجيج ]] ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفض ذلك ، فليس هناك في الإسلام ما نطلق عليه الآن {{ الواسطة أو المحسوبية }} وقال : لقد نزل علي قوله تعالى :

{{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }} ودعا عثمان بن طلحة ، ورد إليه مفتاح الكعبة ، ليس هذا فحسب بل قال له : خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم . وهذا درس في الأمانة و الوفاء من رسولنا و قدوتنا [[ وبسبب هذا التوجيه والتحذير النبوي الكريم، لم يجرؤ أي حاكم أو سلطان على أخذ مفتاح الكعبة من بني أبي طلحة ، ومنهم بني شيبة إلى اليوم ]] .
وعندما حانت صلاة الظهر أمر- عليه الصلاة و السلام - بلالا ، أن يصعد فوق الكعبة و يؤذّن للصلاة ،

[[ سبحان الله ، كم عانى بلال من العذاب على أرض مكة ، وها هو اليوم سيّد من سادات الإسلام ، يصدح بصوته العذب على مسمع قريش بأكملها ]] ، وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم بالمسلمين - ثم أرسل مناديا ينادي: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلّا كسره .
ثمّ قال أسامة بن زيد للرسول - صلى الله عليه وسلم - : ألا تنزل في دارك ؟

فقال النبي له : وهل أبقى عقيل لنا دارا، [[ ابن عمه باع داره ]] ، ولم يأمر برد بيوت المهاجرين تأليفا لقلوب من أسلم من أهل مكة ، ولأنهم هجروها في الله تعالى، فلا يرجعون فيما تركوه في الله تعالى ، ثم ضربت خيمة صغيرة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأبطح ، فنزل فيها وكان معه زوجتاه أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما .

وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة {{١٩يوما }} ،[[ لم يجلس فيها لاستقبال التهاني ، وإقامة الحفلات الساهرة، كما يحدث في وقتنا ]] ، إنما كان همّه نشر الإسلام ، و القضاء على مظاهر الشّرك ؛

فخلال هذه الأيام أرسل - صلى الله عليه وسلم -عددا من السرايا لتحطيم الأصنام في المناطق المحيطة بمكة، وذلك لتطهير الجزيرة العربية من رموز الشرك والوثنية، وكانت هذه السرايا إشارة إلى أن الجزيرة العربية مقبلة على مرحلة جديدة من التوحيد الاعتقادي والعملي ، وكانت هذه الأصنام لها مكانة عظيمة في قلوب المشركين ، وقد اعتبرها البعض بنات الله ، ومنها : اللات ، مناة ، العزى ، سواع ، ود ، هبل ، يعوق ، يغوث ، . . .

وبحمد الله تمّ القضاء عليها جميعا .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-18-21, 09:40 AM
هذا الحبيب « 235 »
السيرة النبوية العطرة (( الذين أَهدر النبي – صلى الله عليه وسلم – دمهم بعد فتح مكة / ج1))
________
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قد عَهِدَ إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، لكنّه في نفس الوقت كان قد أهدر دماء عدد من أهل مكّة قيل إنّهم ( 15 نفرا ) ، سمّاهم بأسمائهم ، وأمر صحابته بقتلهم وإن وُجدوا متعلقين بأستار الكعبة ، ولم يقتل منهم سوى أربعة فقط قصاصا ،وعفا عن الباقين . وهؤلاء الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم قد قاموا بجرائم شديدة ضد المسلمين .

ومنهم {{ عبد الله بن الأخطل }} ، فقد أسلم وهاجر إلى المدينة ثم بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذ الصدقة ، وكان معه مولى له مسلم ، فأمر مولاه بأن يصنع له طعاما، ثم نام ،فلما استيقظ وجد مولاه نائما ولم يصنع شيئا، فقتله، ثم خاف أن يُقام عليه الحد، فارتد مشركا وعاد إلى مكة ، وكان شاعرا فأخذ يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وكان له جاريتان تغنّيان بهذا الشعر ، فأمر بقتله قصاصا لقتل إنسان مسلم ، فقُتل عبد الله بن الأخطل وهو متعلق بستار الكعبة لأن الحد لا تهاون فيه .


ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{ عبد الله بن أبي سرح }} كان قد أسلم ، وهو من كتّاب الوحي ، فأزلَّه الشَّيطانُ ، فلحِق بالكفَّارِ ، فأمر – عليه الصلاة و السلام - أن يُقتَلَ يومَ الفتحِ ، فاختَبَأ عندَ عثمانَ بن عفّان ، فلما دعا رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - الناسَ للبيعةِ جاء به حتى أوقَفه عنده ، فقال : يا رسولَ اللهِ ، بايِعْ عبدَ اللهِ ، قال : فرفَع رأسَه ، فنظَر إليه ثلاثًا كلُّ ذلك يَأبى ، فبايَعه بعدَ الثلاثِ ، [[ يعني 3 مرات أعرض عنه نبيّنا ، فجُرمه كبير لأنه من كتّاب الوحي ]] ثم أقبَل على أصحابِه ، فقال : ما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقومُ إلى هذا حيث رآني كفَفتُ يدي عن بيعتِه فيقتُلُه ؟

قالوا : وما يُدرينا يا رسولَ اللهِ ما في نفسِكَ ؟ ألا أومَأتَ إلينا بعينِكَ ، قال : إنه لا يَنبَغي لنبيٍّ أن تكونَ له خائنةُ أعيُنٍ . وقد أسلم عبد الله وحسن إسلامه ، وقد ولاَّه عثمان - رضي الله عنه - على" مصر " ، وهو الذي قاد معركة " ذات الصواري " ، وقد غزا إفريقية ففتح كثيراً من مدنها ، واعتزل فتنة علي ومعاوية - رضي الله عنهما -

ثم خرج إلى " الرملة " في فلسطين ، وتوفي سنة تسع وخمسين للهجرة . ولم يرد أبدا في كتب السيرة أن عبد الله بن أبي سرح قد شكّك في الوحي ،إنما حدث ذلك من شخص آخر من كتّاب الوحي لم يُعرف اسمه ، كان قد أسلم وارتد وشكّك في الوحي و آيات القرآن ، ومات على نصرانيّته ، ويُقال إن الأرض لفظته مرارا عند دفنه .

ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{عكرمة بن أبي جهل }} ، فقد كان عكرمة من أشد الناس عداوة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد شرب هذه العداوة من أبيه ـ فرعون هذه الأمة ـ مما جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فتح مكة يُهدر دمه ، وقاتل مع قريش في بدر وأحد ، وهو أحد الذين اقتحموا الخندق مع {{عمرو بن ود}} قبل أن يُقتل ، ثمّ فرّ هاربا ، وهو ممن شارك بني بكر في قتال بني خزاعة ، وقتل عددا منهم فنقض صلح الحديبية ، وكان أخيرا قائد جيش المشركين الذين تصدوا للمسلمين في فتح مكة عند جبل {{ الخندمة }} ، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه .

فلما دخل المسلمون مكة هرب واتجه إلى البحر يريد اليمن، وكانت امرأته {{ أم حكيم بنت الحارث}} قد أسلمت قبل الفتح ، وانفصلت عن زوجها ؛ فالمسلمة لا تحل لكافر ، وهي أخت أم المؤمنين {{ ميمونة بنت الحارث }} التي تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عمرة القضاء ، فجاءت تطلب لعكرمة العفو من نبيّنا – عليه الصلاة و السلام - ، فرق قلب النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لها وقال : أدركِي زوجك فهو آمن ، فخرجت في طلبه ، ولحقته ، وجاء و أعلن إسلامه .

يروي المؤرخون المسلمون أنه بعد وفاة رسول الله قاتل عكرمة المرتدين ، واستعمله أبو بكرعلى جيش وسيّره إلى أهل عُمان، وكانوا قد امتنعوا عن دفع الزكاة ، وانتصر عليهم عكرمة، ثم وجهه أبو بكر أيضاً إلى اليمن ، فلما فرغ من قتال أهل الردة سار إلى الشام مجاهداً أيام أبي بكر مع جيوش المسلمين ، وفي يوم اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم شديد الحر، و أوتي لخالد بن الوليد بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه ، فجعل يمسح على وجهه ويقطر الماء في حلقه، إلى أن خرجت روحه رضي الله عنه و أرضاه .


ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{ صفوان بن أمية }} ، كان من أشد قريش عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم – وإيذاء المسلمين ،وهو ابن أمية بن خلف أحد صناديد قريش الذين قُتلوا في بدر، وشارك أيضا بنقض صلح الحديبية عندما عاون بني بكر على قتل خزاعة ، وأيضا قاتل خالد بن الوليد عند دخوله مكة ، فلما كان فتح مكة هرب صفوان باتجاه البحر يريد اليمن، وكان له ابن عم اسمه عمير بن وهب ، [[ ذكرت لكم قصته بعد بدر ، وكيف اتفق صفوان وعمير على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف أسلم ]] ،

فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هاربا منك إلى البحر ، فأمّنه ، فقال -عليه الصلاة و السلام - : هو آمن ؛ قال : يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك ؛ فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمامته ، فرجع معه ، حتى وقف به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني قال : صدق ، قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين ؟ قال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ، وأسلم في وقت غزوة حنين .
ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{ وحشي بن حرب }} :

أهدر رسول الله دمه لأنه قتل حمزة - رضي الله عنه - يوم أُحد، وكان الصحابة أحرص شيء على قتله، فلما فُتحت مكة هرب إلى الطائف ، ولما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت عليه المذاهب فخرج حتى قدم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وشهد شهادة الحق ،

فقال له – عليه الصلاة و السلام - : أما إسلامك فقد قبلناه ، ولكن غيّب وجهك عني ... وتمضي الأيّام ؛ وخرج وحشي مع مَن خرج لقتال أهل الردة في خلافة أبي بكر- رضي الله عنه - فقتل مسيلمة الكذاب بحربته التي قتل بها حمزة ، فكان يقول : أرجو أن تكون هذه بتلك [[ أي أرجو أن يكفّر قتل مسيلمة إثمي عندما قتلت حمزة ]] . فما أعظم عفو الإسلام وسماحته !!

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-18-21, 09:42 AM
هذا الحبيب « 236 »
السيرة النبوية العطرة (( الذين أَهدر النبي – صلى الله عليه وسلم – دمهم بعد فتح مكة / ج2))
________
ومن هؤلاء الذين أهدر النبي – صلى الله عليه وسلم - دمهم بعد فتح مكة {{ مقيس بن صبابة }} ،كان قد أسلم وحدث أن قام أحد الأنصار بقتل أخيه خطأ في أحد الغزوات ظنا منه أنه من العدو ، فأخذ الدية ثم قتل هذا الأنصاري، وارتد وعاد مشركا إلى قريش، فلما كان الفتح قُتل قصاصا .

و من الذين أُهدر دمهم أيضا {{ الحارث بن هشام و زهير بن أمية }} : كانا شديدي العداوة للنبي وللمسلمين ، فأهدر رسول الله – عليه الصلاة و السلام - دمهما يوم الفتح ، فهربا واختبآ في بيت[[ أم هانئ بنت أبي طالب ]] أخت عليّ - رضي الله عنه - فأجارتهما ، فأجاز النبي جوارها ، ثم جاءت بهما إليه ؛ فأسلما وحسن إسلامهما . ولم تكن أم هانئ قد أسلمت ، فأسلمت في ذلك اليوم . وزارها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ، فقال : هل عندَكِ مِن طعامٍ آكُلُه ؟ فقالت إنَّ عندي لَكِسَرًا بائتةً [[ أي خبز ]] وإنِّي لَأستحي أنْ أُقرِّبَها إليكَ . قال : هلُمِّيها . فقرَّبَتْهنَّ ،


وجاءَتْه بمِلْحٍ فقال : يا أُمَّ هانئٍ ، هل مِن إدامٍ ؟ [[ يعني الخبزة نضعها بالزيت أو المرقة يسمى هذا الوضع أدُم ، مثل الكعك نضعه بالشاي ]] ، قالت : ما عندي إلَّا شيءٌ مِن خَلٍّ . قال هلُمِّيه . فلمَّا جاءَتْ به مسَّه على طَعامِه ، و أكَل منه ، ثمَّ حمِد اللهَ و قال : نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ . . . (( وثبت في العلم الحديث فوائد كثيرة و عظيمة للخل )) .


ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{ الحويرث بن نقيد }} و {{ هبار بن الأسود }} وقد اشتهرا بعداوتهما وشدة إيذائهما للمسلمين، واشتركا في محاولة منع السيدة {{ زينب }} بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة، وأخذا ينخسان الجمل الذي كانت تركبه، حتى سقطت على صخرة، وكانت حامل فسقط جنينها، ولم تزل مريضة حتى ماتت ، فلما كان فتح مكة تمكّن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – من قتل الحويرث ، أما هبار فقد هرب و اختفى عندما علم أنه مهدور الدم ،ثمّ جاء إلى المدينة المنورة وأعلن إسلامه بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – فعفا عنه ؛ فهو نبي الرحمة و الإنسانية.


ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{ كعب بن زهير بن أبي سلمى }} و هو من أشعر شعراء العرب، وكان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - بشعره وينشره بين العرب ، ويطعن في أهل بيته ، وكان الشعر كما قلنا من قبل هو [[ الوسيلة الإعلامية الفعّالة والمؤثرة جدا عند العرب ]] ، فلما بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه، هرب من مكة ، فبدأ أخوه (( بُجير )) يبعث إليه رسائل و قصائد يدعوه فيها إلى الإسلام ، و أنّ محمدا نبي الرحمة ، وسيعفو عنك ، ومن قصيدته :

فَمَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا؟ فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي * تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلاً وَهْيَ أَحْزَمُ
إِلَى اللهِ - لاَ العُزَّى وَلاَ اللاَّتِ - وَحْدَهُ فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ

فما كان من كعب بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رَحُبت إلاَّ أن جاء إلى مسجد النبي – عليه الصلاة و السلام - في المدينة وأعلن إسلامه .

وجاء في بعض كتب السيرة أنّه أنشد قصيدة في مدح الرسول – صلى الله عليه و سلم - والمشهورة بمطلعها "بانت سعاد" وهي من طلائع ما وعَتْه الذاكرة

الأدبيَّةُ في مدح نبينا – عليه الصلاة و السلام – ومن أبياتها :
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ * مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني * وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ
إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ * مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِراً * والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ
فقام صاحب الخلق العظيم – صلى الله عليه وسلم – و أعطاه بردته

[[ أي العباءة التي يلبسها ]] . وهذه البردة غير {{ بردة البوصيري }} والتي يقول فيها البوصيري :

محمدٌّ سـيدُ الكــونينِ والثقَلَـيْنِ والفريقـين مِن عُـربٍ ومِن عَجَـمِ
نَبِيُّنَـا الآمِرُ النَّــاهِي فلا أَحَــدٌ أبَـرُّ في قَــولِ لا منـه ولا نَعَـمِ
هُو الحبيبُ الــذي تُرجَى شـفاعَتُهُ ** لكُــلِّ هَوْلٍ مِن الأهـوالِ مُقتَحَمِ

ومن الذين أُهدر دمهم أيضا {{ سارة مولاة بني المطلب }} وهي مغنّية في مكة ، وكانت تغني بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قدمت المدينة تشكو الحاجة ،

وقالت: إن قريشا تركوا الغناء منذ قتل منهم من قتل ببدر، فعرض عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام فرفضت، فأعطاها ما يكفي حاجتها ، وقبِل منها أن تظل بالمدينة على كفرها ؛ ولكنها خانت كل ذلك ؛ وحملت كتاب {{حاطب بن أبي بلتعة}} - رضي الله عنه - إلى قريش ، والذي يخبرهم فيه بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما كان فتح مكة اختفت ، ثم جاءت إليه - عليه الصلاة و السلام - واستأمنته وأسلمت ، وعاشت حتى خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-19-21, 09:21 AM
هذا الحبيب « 237»
السيرة النبوية العطرة (( إسلام هند بنت عتبة و ابنها معاوية ))
________
{{ هند بنت عتبة }} ، زوجة أبي سفيان وأم معاوية ، كانت شديدة في كفرها، و هي إحدى النساء اللاتي حاربن الإسلام طويلاً، ولها ذكريات مؤلمة عند المسلمين وعند رسول الله شخصيًّا ؛ فهي التي مثلت بجسد حمزة عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -

وكانت {{ المثلة }} سابقة لم تعرفها العرب من قبل ، فقد ابتكرت شيئاً من وحي الشيطان ، حيث أمرت وحشي أن يبقر لها بطن سيد الشهداء – حمزة رضي الله عنه - ويستخرج لها كبده ، فلاكتها ، كما أمرت بتقطيع أنوف وآذان الشهداء ، فجعلت منها قلادة تضعها في عنقها تدخل بها مكة .

واستمرت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة من فتح مكة، ورفضت هند بنت عتبة ما طلبه زوجها من أهل مكة أن يدخلوا في بيوتهم طلبًا لأمان الرسول – صلى الله عليه وسلم -، بل دَعَت أهل مكة لقتل زوجها . إنه تاريخ طويل وشرس لهند بنت عتبة مع المسلمين . فلما كان يوم الفتح ورأت بعينيها قوة و هيبة المسلمين ؛ لزمت منزلها ، فقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمها .

جلس - صلى الله عليه وسلم - على الصفا يبايع أهل مكة على الإسلام ، فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء يشهدون أمامه أن {{ لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله }} ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وما كانوا يطيقون التمعن فيه من شدة جماله وهيبته صلوات ربي وسلامه عليه . فجاءه رجل يبايعه ، فلما نظر إلى الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أخذته الرعدة ، فقال له :

" هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد " القديد : [[ هو اللحم المجفف ، الذي يأكله عامة الناس ]] .
وتروي بعض كتب السيرة في إسلام هند بنت أبي عتبة أنها كانت مع النساء اللواتي جئن يبايعن النبي - صلى الله عليه وسلم – ( طبعا لم يبايع ببسط اليد ووضع اليد ) تقول السيدة عائشة {{ ما وضع - صلى الله عليه وسلم - يده بيد امرأة إلا امرأة تحل له [[ أي زوجته ]] أو ذات محرم }}

وكانت هند بنت عتبة قد سمعت عن سماحة و عفو نبينا – عليه الصلاة و السلام – فدخلت بين النساء وهي متنقبة [[ أي تخفي وجهها ]] ، فقال النبي لهنّ : أبايعكنّ على أن " تشهدن أن لا إله إلا الله ، وأنّي أنا محمد رسول الله ". فقالت النساء : نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّك محمد رسول الله ، ثمّ أكمل وقال : "وَلاَ تَسْرِقْنَ". فوقفت هند وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال : "خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَبَنِيكِ بِالْمَعْرُوفِ".

ثم انتبه على أن هذه التي تتكلم هي هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، فقال لها : وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟ قالت: نعم، هند بنت عتبة، فاعفُ عمَّا سلف عفا الله عنك ؛ فهي تعرف تاريخها الطويل مع المسلمين ، والرسول يعفو ويصفح، فتنازل – عليه الصلاة و السلام - عن كل هذا التاريخ الطويل، وقَبِل إسلامها، وأكمل البيعة مع النساء وقال:

"وَلاَ تَزْنِينَ". فقالت هند: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟ فقال : لا والله لا تزني الحرة . "وَلاَ تَقْتُلْنَ أَوْلاَدَكُنَّ ". فقالت هند: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم كبارًا يوم بدر !! فتبسم وأخذ كلامها بشيء من الصبر

[[ فهو يعرف الألم الذي في قلبها على مقتل ذويها في بدر ، وقدَّر موقفها ]] ، ثم قال : "وَلاَ تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ". فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح .

وتمّت المبايعة ، وقالت هند للنبي - صلى الله عليه وسلم - : والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء [[ أي نساء أهل بيت ]] أحب إلي أن يذلوا من أهل خباءك !! ثم ما أصبح اليوم أهل خباء على وجه الأرض ، أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك ، لقد كنا في جاهلية يا رسول الله ؛ فاصفح الصفح الجميل . فقال صلى الله عليه وسلم : قد عفونا وصفحنا يا ابنة عتبة .

وسبحان الله! فقد حسُنَ إسلام هند بنت عتبة – رضي الله عنها -، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتحمِّسَها لحرب المسلمين، بدأت تخرج مع جيوش المسلمين لتحمسهم لحرب الكفار. ومن أشهر المواقف لها يوم اليرموك، عندما بدأت تشجِّع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد مائتي ألف رومي، فكانت من أدوات النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.

إسلام معاوية بن أبي سفيان
معاوية من كبار الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وأحد كُتَّاب الوحي، العاملين بكتاب ربهم والمحافظين على سنة نبيهم، المدافعين عن شريعته، القائمين بحدوده، المجاهدين في سبيله ،وأمه هي هند بنت عتبة بن ربيعة ، وقيل إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب أبيه، ولكن ما أظهر إسلامه إلا يوم الفتح، فيُروى عنه أنه


قال :
" لما كان عامُ الحديبية وصَدُّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن البيت، وكتبوا بينهم القضية ، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي ، فقالت : إياك أن تخالف أباك، فأخفيتُ إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم، وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا:

لكنَّ أخاك خير منك، وهو على ديني، فقلت: لم آلُ نفسي خيرًا، وأظهرتُ إسلامي يوم الفتح، فرحّب بي النبي - صلى الله عليه وسلم – " . وقد روى معاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين . وقد حذَّرَ رسولنا الكريم من الطعن في صحابته الأخيار، وأوجب على جميع المسلمين أن يعرفوا لصحابته قدرهم وحقهم، لذلك نقول ونكرر دائما :

(( إنّ ما جرى بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من فتن هي دماء طهّر الله أيدينا منها ، فيجب أن نُطهّر ألستنا منها ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة )) .
ويكفينا حكم الله فيهم يوم القيامة :

{{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }}


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-21-21, 09:50 AM
هذا الحبيب « 238 »
السيرة النبوية العطرة (( الطريق إلى حُنَين ))
________
لم تمض على فتح مكة أيام قليلة حتى وصل للحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم - أن {{ هوازن }} قد اجتمعت لحرب المسلمين ، فمن هي قبيلة هوازن ؟ ولماذا اجتمعت على حرب المسلمين ؟ قبيلة هوازن هي واحدة من أكبر وأشرس قبائل الجزيرة العربية ، وهي تضم عددا كبيرا جدا من القبائل (( بني نصر، بني سعد ، ثقيف )) ، وكانت أغلب قبائل هوازن في الشمال الشرقي من مكة، على بعد حوالي {{ ٢٠ }} كم من مكة ، بينما قبيلة ثقيف وحدها اتخذت مدينة الطائف ، في الجنوب الشرقي من مكة .

وكانت {{ ثقيف }} من أكبر وأقوى قبائل الجزيرة ، وكانت مدينة {{ الطائف}} هي المدينة الثانية في الجزيرة بعد مكة ، حتى أن الله تعالى ذكر قول الكفار : {{ وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }} ،

وكانوا يقصدون بالقريتين {{ مكة والطائف}} ، وكان في الطائف صنم اللات، وهو كما قلنا من أشهر أصنام العرب، وأحد أطراف الثالوث {{اللات والعزى ومناة }} وكانت قبائل هوازن كما هو حال العرب في كل مكان في الجزيرة العربية تعيش حياة التفرق والتنافر والاقتتال فيما بينها، ولم يحدث أبدا أن توحدت في كيان واحد سواء سياسيا أو عسكريا ؛ فلما رأت هوزان وثقيف أن مكة فتحت وأن الكثير من قريش أسلموا ، فقالوا : [[ ايش ضل بعد مكة ؟ إذن سيأتينا محمد فاتحا الطائف يوما من الأيام ، علينا أن نباغته وهو في مكة ]] .

تجمعت كل قبائل هوازن في جيش واحد، وتحت قيادة واحدة لحرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قائد هذا التحالف من قبائل هوازن هو {{ مالك بن عوف النصري }} وكان شابا لم يبلغ الثلاثين من عمره ، ولكنه كان من أشهر فرسان الجزيرة، وكان معروفا بخططه العسكرية المميزة ، وكان أيضا شاعرا وخطيبا مفوها، وله قدرة فائقة على حشد الناس والتأثير عليهم ، لذلك استطاع أن يضم قبيلة ثقيف معه بالرغم من العداوة بينهما ؛ فالخطر يداهم الجميع ؛ و أصبح جيش مالك بن عوف يُقدّر ب (( 25 ألفا )) من المقاتلين .


وقبل أن يخرج مالك بن عوف ماذا فعل ؟؟ أمر هوزان بأن يأخذوا معهم إلى أرض القتال النساء والأطفال والأنعام والأموال وكل ما يمتلكونه ، فتوضع خلف الجيش، وذلك لتحفيز الجيش على القتال، ويستميت الرجل منهم في الدفاع عن النساء والأطفال والأموال .

وخرج مع الجيش أحد شيوخ هوازن المخضرمين عسكريا وهو {{ دريد بن الصمة }} ، وكان عمره أكثر من 120 سنة ، وقيل إنه خاض مئة معركة لم يهزم في واحدة منها !! وقد خرج على راحلة في هودج صغير ليس للحرب ، ولكن ليأخذوا المشورة والرأي منه . وقالوا له : لا نخالفك في أمر تراه .

وسار الجيش حتى نزل وادي {{ أوطاس }} على بعد حوالي {{ ٥٠ كم }} من مكة ، [[ يعني مسيرة يوم تقريبا من مكة]] ،

وكان دريد الآن ضعيف البصر، فقال لمن حوله: بأي وادٍ أنتم ؟؟ قالوا: - بأوطاس ، فقال: نعم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضَرِسٌ ولا سَهْلٌ دَهِسٌ [[ يعني هذا الوادي أفضل مكان للخيل والحرب والقتال والكر والفر لأن أرضه ليست صلبة غليظة فيصعب عليها المشي ، و ليست لينة جدا فيثقل فيها المشي ]] ثم قال دريد : ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير ؟ قالوا له : لقد اصطحب مالك بن عوف مع الجيش أموالهم ونساءهم وأبناءهم و دوابّهم !!

فنادى مالكا وقال له ‏: لم ذاك ؟ قال ‏:‏ أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم !! فأخرج دريد صوتا من فمه كالصوت الذي يخرجه الرعاة للغنم !! ثم قال‏ لمالك :‏ راعي ضأن والله ‏!‏ [[ أي أنت لا تنفع إلا أن تكون راعيا للغنم، ولا تصلح للقيادة العسكرية ]] ، وهل يرد المنهزم شيء ‏؟‏ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فُضِحتَ في أهلك ومالك ، ‏فأخرج بالمقاتلة فقط [[ يعني رجّع النساء و الأطفال و الأنعام و خلي فقط المقاتلين معك ، بلاش تنهزم و تخسر كل إشي ]] .

ثم قال له أيضا دريد : إنك تقاتل رجلا كريما، قد أوطأ العرب، وخافته العجم، وأجلى اليهود [[ يعني إنت مفكر محمد - صلى الله عليه وسلم - رجل عادي ؟؟ هذا الذي قاتل العرب وانتصر عليهم ، وهابه هرقل والروم وسحق اليهود في ديارهم ]] .

ولكن مالك بن عوف أصر على رأيه وقال له : والله لا أطيعك، إنك قد كبرت وضعف رأيك !! فقام دريد يخاطب الناس: يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، إنّ هذا فاضحكم في عورتكم [[ يقصد نساءهم ]] وممكِّن منكم عدوكم، ولاحقٌ بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه . وكادت أن تتأثر هوازن برأي دريد ، ولكن مالك بن عوف - كما قلنا - كان خطيبا مفوّها، وله قدرة على التأثير على الناس، فسلّ سيفه ، وقام قائلا :

والله لتطيعُنَّني يا معشر هوازن أو لأتكِئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري [[ يعني يا تسمعوا كلامي يا بقتل نفسي ، وابحثوا لكم عن قائد غيري ]] ، فأطاعت هوازن مالك بن عوف ، ولم يلتفت أحد إلى رأي الخبير العسكري دريد بن الصمة ، (( طبعا لاحقا ندموا على ذلك )) .

وهنا نشير إلى أن كثيرا من الجيوش كان يستخدم طريقة مالك بن عوف ، و فيأخذون معهم إلى الحرب النساء و الأطفال وكل ما يملكون ، و ربّما كان مالك بن عوف يدرك تماما استماتة المسلمين و شجاعتهم في القتال وحُب الشهادة في سبيل الله ، فأراد أن يرفع من معنويات جيشه كي يستبسلوا مثل جيش المسلمين .
يتبع غزوة حُنَين . . .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-23-21, 09:19 AM
هذا الحبيب « 239 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة حُنين ))
________
وصلت هوازن كما قلنا إلى سهل {{ أوطاس }} ونظّم قائد هوازن (( مالك بن عوف )) جيشه تنظيما جيدا، فرتب الجيش في صفوف متوازية ، فماذا فعل ؟؟ وضع الخيل في المقدمة ، ثم الرَّجَّالة خلفهم [[ يعني الرجال الذين يمشون على أقدامهم ليس معهم خيل ]] ،ثم وضع النساء فوق الإبل خلف الرجال ، لكي يوهم المسلمين أن هناك أيضا من الرجال عددا كبيرا فوق الجمال ،

فتزداد الأعداد أمام المسلمين إلى الضعف ، فتضعف بذلك عزائم المسلمين ، ثم جعلوا الإبل والبقر والغنم صفوفا خلف الجيش كي لا يهرب الجيش ، ترتيب منظم حتى إن أنس بن مالك – رضي الله عنه - وصف جيش هوازن بقوله متعجبا :{{ فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت }} .

ثم ماذا فعل مالك أيضا ؟؟ استفاد من طبيعة الأرض التي اختارها للمعركة ، فهو يعرفها جيدا ، فقد وضع الكمائن في قمم الجبال [[ الفخ ]] وفي الشعاب والمضائق والمنعطفات والأشجار التي على جانبي وادي {{حنين}} وهو واد منحدر وهو الوادي الذي سيمر منه المسلمون ليصلوا إلى سهل أوطاس ، وكان وصول هوازن إلى أرض المعركة قبل المسلمين أمر في صالحها ، لأنها نشرت قواتها في الأماكن المناسبة، واحتلت المواقع الاستراتيجية في أرض المعركة ، تماما كما فعل المسلمون في غزوة بدر، و أخذ مالك بن عوف يخطب في هوازن ويحمسهم للقتال .

وفي الجانب الآخر خرج جيش المسلمين بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتال هوازن وكانوا بكامل طاقتهم العسكرية ، فقد خرج نحو{{ ١0آلاف }} مقاتل ، وهم الذين فتح بهم مكة ، وخرج معهم قرابة {{ 2000 }} مقاتل من أهل مكة ممن أسلموا ،

وقيل كان منهم بعض المشركين الذين خرجوا للدفاع عن بلدهم مكة ، وهو أكبر عدد من المقاتلين في تاريخ المسلمين حتى ذلك الوقت ،ولم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بسلاح الجيش الذي فتح به مكة ، بل ذهب بنفسه إلى أكبر تجار السلاح في مكة ، وأحضر بعض الدروع والرماح والسيوف ، وعيّ!ن - صلى الله عليه وسلم - حراسة مشددة حول مكة، وكل هذه الإجراءات تبين أنه لم يتهاون بقبيلة هوازن ، لأن المقاتل إذا تهاون بخصمه فهذا يعني أنّ هزيمة المقاتل محققة .

لكنّ كثرة جيش المسلمين هذه لم تكن في صالحهم !!! فلم يكن كل الجيش يحسب حسابا لهوازن؛ وكان المسلمون يظنون أن عددهم كبير ، وقد انتصر المسلمون بأقل من هذه الأعداد بكثير ، وبدأ المسلمون يتحدثون عن كثرة أعدادهم، وأن النصر محقق، بل قال بعضهم : لن نُهزم اليوم من قلة !! وهذا يعني أنهم اعتمدوا على الأسباب وليس على ربّ الأسباب ، وتوكلوا على أنفسهم وليس على الله تعالى !! [[ مثل الناس اليوم خايفة من كورونا ، فيعتمدون على التعقيم فقط ، وعلى الأسباب وليس على رب الأسباب ]] ،

وقد سجل القرآن العظيم هذا الموقف من بعض المسلمين يوم حنين فقال تعالى في سورة التوبة : {{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ }} .

وفي {{ 10 شوّال سنة 8 للهجرة }} وصل المسلمون إلى وادي حنين ، وهو اليوم الذي ستدور فيه أحداث الغزوة ، وكان وصولهم مع الفجر، ولا تزال هناك بقايا من ظلمة الليل ، وبينما المسلمون ينحدرون في الوادي، وعندما أصبح أكثر الجيش داخل الوادي أعطى مالك بن عوف إلى جيشه إشارة البدء، فبدؤوا بإطلاق السهام ، وأمطروا المسلمين بآلاف من السهام، والمسلمون لا يعرفون مصادر السهام لظلمة المكان واختفاء العدو، فاضطربت صفوف المسلمين، وماج بعضهم في بعض، وبدأ المسلمون في التراجع والفرار . ويصف القرآن العظيم هذا المشهد فيقول تعالى في سورة التوبة

{{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }} .

ولم يثبت حول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف العصيب إلّا القلّة القليلة ، وبينما كان المسلمون يفرون إلى الوراء ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يندفع بدابته في اتجاه المشركين ، وهو يقول بأعلى صوته : أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ، هلمّوا إلي أيها الناس ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبدالله ، وكأن المشهد يقول :

[[ بأن المسلمين مقبلون على هزيمة مريرة ،تضيّع كل ما حققه المسلمون من انتصارات في السنوات الثمانية السابقة ، منذ هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم- وتعود بهم إلى نقطة الصفر ]] .

وكان سبب هذه الهزيمة السريعة في بداية المعركة غرور فئة من الجيش بكثرة عددهم ، كذلك وجود عدد من الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم ؛ فقد جاؤوا للغنائم فقط ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم ذلك لكنّه مضطر لاصطحابهم حتى لا ينقلبوا عليه في مكة ويتآمروا مع هوازن أو غيرها ، و يخسر الفتح العظيم الذي كان قبل أيّام .

ثمّ صاح النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمّه العباس ، وكان العباس جهوري الصوت، فقال له : يا عباس ، اصرخ {{ يا أصحاب السمرة }}

[[يعني يا أصحاب الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان في صلح الحديبية ]] ، فهؤلاء بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -على الموت ،وهؤلاء الذين فتح بهم خيبر، وهؤلاء هم خير أهل الأرض في ذلك الوقت . فصاح العباس : يا أصحاب السّمرة !! يا أصحاب السّمرة !! سمع المسلمون صوت العباس فأخذوا يجيبونه :

لبيك ... لبيك ، وارتفعت أصوات الصحابة من كل مكان في أرض المعركة لبيك ... لبيك ، فأخذ الصحابة يتجمعون حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الصبح قد طلع ، وعاد الصحابة للقتال بروح معنوية عالية ،وبصفوف منظمة ، فاستقبلوا العدو، وحملوا عليه ، وبدأ يرمي عليهم – عليه الصلاة و السلام - حصيات – ويقول: " حمي الوطيس ... انهزموا و رب محمد ...

" [[ الوطيس : هي حجارة توقد العرب تحتها النار، يشوون عليها اللحم ]] ، ووقع قتال من أشرس أنواع القتال ، ونزلت الملائكة من السماء لتثبيت قلوب المسلمين- كما نزلت في بدر- فأخذ جيش هوازن بالتراجع وقد أصابهم الرعب ، ثمّ بدؤوا بالفرار تاركين خلفهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وتحولت سريعا هزيمة المسلمين في بداية المعركة إلى نصر ساحق .

يتبع ....

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-23-21, 09:22 AM
هذا الحبيب « 240 »
السيرة النبوية العطرة (( حصار الطائف ))
________
كان فرار هوازن في ثلاثة اتجاهات : جزء إلى {{أوطاس}} ؛ وهو السهل الذي بجانب وادي حنين ،وجزء إلى بلدة {{ نخلة}} ، والجزء الأكبر اتجه إلى مدينة {{ الطائف}} الحصينة ومعهم قائدهم {{ مالك بن عوف}} ،


فاندفع المسلمون خلفهم يطاردونهم حتى يمنعوهم من التجمع مرة أخرى ، فاتجه بعض الصحابة خلفهم إلى أوطاس ، والبعض إلى نخلة ، بينما توجه الجيش الرئيسي بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، وكانت نتيجة المعركة استشهاد {{ ٥ }} فقط من المسلمين مقابل مقتل أكثر من {{ 70 }} مشركا، وكانت الغنائم كثيرة جدا، لأن مالك بن عوف كما قلنا كان قد أتى بكل أموال هوازن .


إذن اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبع هوازن، حتى يقابلهم في معركة فاصلة في الطائف، وهي المدينة التي ذهب إليها في السنة العاشرة من الهجرة ومعه {{ زيد بن حارثة }} ليعرض عليهم الإسلام، ولكنهم رفضوا الإسلام ، وطردوه ، و أمروا سفهاءهم أن يُمطروه بوابل من الحجارة و الشّتائم ، وفي ذلك الوقت قال الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة : "يَا زَيْدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ " .


فسبحان الله !! مرت الأيام، وغيّر الله الأحوال ، وكما يقول الله : {{ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }} ، فقد جاء نبيّنا الكريم الآن إلى الطائف عزيزًا منتصرًا مُمَكَّنًا، رافعًا رأسه، ومحاطًا بجيش مؤمن جرّار، يزلزل الأرض من حوله ، وتحقّق ما ذكره – عليه الصلاة و السلام - لزيد بن حارثة .

ولا شك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - وهو ذاهب إلى الطائف جالت في خاطره ذكريات كثيرة ، فقد تذكّر أهل الطائف وهم يرفضون دعوته جميعًا -بلا استثناء- في تعنّت أشد من تعنّت أهل مكة. ولعله تذكر زعيم ثقيف (( عبد يا لِيل بن عمير الثقفي )) عندما وقف يسخر منه قائلا : ألم يجد الله إلا أنت يا محمد يبعثك رسولا إلى العالمين؟ وها هو الآن يفرّ فرارًا مخزيًا من أرض حُنين، وذهب يختبئ في حصون الطائف.

ولعله تذكر أيضا ((عَدَّاس النصراني )) ذلك الغلام الصغير الذي آمن عندما أحضر له العنب من بستان عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة اللذان يرقدان الآن في قَلِيب بدر يُعذَّبان مع قادة الكفر في مكة . ولعله تذكر وهو يمر على وادي نخلة (( مجموعة الجن )) التي آمنت به في رحلته إلى الطائف، وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة، ذكريات كثيرة بعضها سعيد وبعضها أليم، والأيام على أي حال تمرّ، وكل شيء يذهب، ولا يبقى إلا العمل .

وصل الجيش الإسلامي إلى الطائف، والكل يتوقع معركة هائلة بين هذين الجيشين الضخمين ؛ والذي لم تشهد الجزيرة العربية مثيلا لهما من قبل ،ولكن كانت المفاجأة أن تجمعت قبائل هوازن داخل الطائف المحصّنة جيّدا ، ورفضت الخروج لقتال المسلمين، واختاروا أن يمكثوا في حصونهم دون قتال ،بالرغم من أن أعدادهم أكثر من ضعف عدد المسلمين ، وبالرغم من أن نساءهم ، وأبناءهم وأموالهم في أيدي المسلمين ، ومع ذلك خافوا وجبُنوا من الخروج لحرب المسلمين وإنقاذ نسائهم و أموالهم ، وكان ذلك خزيا كبيرا لهوازن، وهزيمة أخرى لهم .

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم – بحصار هوازن التي بدأت بإطلاق السهام بكثافة على المسلمين ، بينما سهام المسلمين لم تكن تصل إليهم ، بل أصيب عدد كبير من المسلمين ، فقرر – عليه الصلاة و السلام - تغيير مكان الجيش مستعينا بخبرات الخبير الإستراتيجي {{ الحباب بن المنذر }} - رضي الله عنه - [[ تذكرون هذا الاسم ؟ أشار بتغيير مكان الجيش في بدر فكان ذلك سببا من أسباب النصر]] .فانطلق الحباب حتى انتهى إلى موضع (( هو الآن مكان مسجد الطائف )) ، وتحول الجيش إلى هذا المكان .

واحتاج المسلمون لتدمير الأسوار إلى المنجنيق الذي عرفوه في غزوة خيبر، واستعانوا الآن ب((سلمان الفارسي)) للإشراف على صناعته ، كما صنعوا {{ دبابة خشبية }} لأول مرة ،

[[ وهي عبارة عن غرفة صغيرة مصنوعة من الخشب الصلب لها عجلات، يختبئ عدد من الجنود تحتها، ويدفعونها وهم بداخلها، حتى يلتصقوا بالسور، ثم يعملون بواسطة آلات الحفر الحديدية على هدم حجارة السور من المكان الذي أضعفته حجارة المنجنيق، وكلما هدموا جزءا وضعوا له دعائم خشبية حتى لا ينهارالسورعليهم ، حتى إذا فرغوا من عمل فجوة متسعة، دهنوا الأخشاب بشيء من الزيوت، ثم أشعلوا النيران وانسحبوا بالدبابة، فإذا احترقت الأخشاب انهار السور مرة واحدة، تاركا فتحة كبيرة صالحة للاقتحام منها ]] .


وبالفعل بدأ المسلمون في قذف أسوار الطائف بالمنجنيق ، وسار عدد من الجنود تحت الدبابة الخشبية، واستطاع المسلمون كسر جزء من السور ، وكاد المسلمون يدخلون داخل أسوار الطائف، ولكن هوازن فاجأت المسلمين بإلقاء الحسك الشائك المُحمَّى في النار عليهم :[[ وهو عبارةعن أشواك حديدية ضخمة على هيئة صليب ، يحمى عليها في النار ثم تُلقى ]] ، فأصيب المسلمون إصابات بالغة ولم يستطيعوا التقدم باتجاه الحصن .


ثم أمر الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن ينادي أصحابه على هوزان أنّ أي عبد من العبيد يخرج إلى المسلمين فهو حر ، وكان الهدف من ذلك هو حرمان هوازن من طاقة هؤلاء العبيد ، والحصول على معلومات عسكرية من داخل الحصن ، وفعلا بدأ العبيد يفرون من الحصن وينضمون إلى المسلمين، وعلم المسلمون منهم أن داخل الطائف طعام وشراب يكفيان أهلها لمدة سنة على الأقل .


استمر حصار الطائف {{ ٤٠ يوما }} استشهد فيها عدد من الصحابة ، وجرح عدد كبير منهم ، فاستشار النبي – عليه الصلاة و السلام – أصحابه ومنهم [[ نوفل بن معاوية الذي ساعد بنو بكر على قتال خزاعة ، فكان من نتيجة ذلك فتح مكة و غزوة حنين و حصار الطائف ، فالنبي – عليه الصلاة و السلام - أرسله الله رحمة للعالمين ،وكذلك فعل مع عمرو بن العاص و خالد بن الوليد ، حيث ولّاهم مناصب استفاد منها المسلمون ، وهذه من حكمته – صلى الله عليه وسلم ]]
فقال نوفل : "يا رسول الله، هم ثعلب في جُحرٍ، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك". فكان قرار النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع الحصار عن الطائف والعودة . . .

ومرّت الأيّام وأسلمت ثقيف بعد أقل من عام واحد ، لأن كل من بقي من القبائل العربية جاء بعد ذلك إلى المدينة فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووجدت هوازن أنها لا طاقة لها بحرب كل من حولها من العرب، وحسن إسلامها بعد ذلك، وعلى الرغم أنها كانت آخر العرب إسلاما، فإنّ هوازن ثبتت على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرتدوا كما فعلت بعض القبائل العربية .


يتبع .... توزيع غنائم حنين

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-25-21, 09:53 AM
هذا الحبيب « 241 »
السيرة النبوية العطرة (( غنائم حُنين ))
________
بعد غزوة حنين وفرار هوازن إلى الطائف ؛ كان النبي - صلى الله عليه وسلم – قد أمر بتجميع الغنائم في وادي {{الجعرانة}} القريب من حُنين حتى يفرغ من حرب هوازن ، وبعد حصار الطائف الذي استمر {{٤٠ يوما }} ،

قرّر – عليه الصلاة و السلام - رفع الحصار عن الطائف، ثمّ توجه بعدها هو وجيش المسلمين إلى وادي الجعرانة حتى يقوم بتوزيع الغنائم .وكانت غنائم حنين ضخمة جدا ، بل كانت أكبر وأعظم غنائم في تاريخ العرب قاطبة ، لأن قبائل هوازن قبائل كثيرة جدا ، وكان زعيمهم {{ مالك بن عوف}} قد أمرهم بأن يصحبوا معهم نساءهم وأنعامهم وكل أموالهم ، وذلك لتحفيز الجيش على القتال حتى الموت ، ولكن [[ تأتي الرياح بما لا تشتهي السّفن ]] ، فقد هُزموا شرّ هزيمة و تركوا كل ما يملكون غنيمة للمسلمين .

وقد ورد أنّ غنائم حنين بلغت : ٢٤ ألفا من الأبل ، ٤٠ ألفا من الأغنام ، ١٥٠ كغم من الذهب والفضة ، ٦٠ ألفا من السبي !!! وجلس - صلى الله عليه وسلم -متأنياً في تقسم الغنائم ؛ لأنه كان يرجو أن تأتي هوازن مسلمة ؛ وقلنا سابقا إنّ هوازن هي مجموعة قبائل حول الطائف ، و فيها {{ بنو سعد }} الذي استرضع فيهم - صلى الله عليه وسلم – في بيت حليمة السّعديّة ،

و تربى بينهم أربع سنين، ففيهم عماته وخالاته من الرضاعة ، وكان يرجو أن يأتوا مسلمين فلا يقعون بالسبي ، وبنو سعد من كرام العرب فلم يحب أن تسبى نساؤهم وأولادهم ،ولكنهم تأخروا ؛ فأضطر أن يوزع الغنائم وهذا شرع الله .
والقاعدة الشرعية في توزيع الغنائم :

1- أربعة أخماس الغنائم توزع بالتساوي على الجيش والفارس يأخذ ثلاثة أضعاف الراجل ،لأن الفارس ينفق بنفسه على فرسه ،

2- الخمس يتصرف فيه رئيس الدولة كما يشاء، فقد يشتري به سلاحا، وقد يتم به افتداء الأسرى، وقد يعطي منها لمن كان مميزا في القتال، وقد ينفق على الفقراء والمساكين، وقد يدخل في أي مشروع من مشروعات الدولة .


فوزع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأربعة أخماس على الجيش الذي عدده يقارب ال١٢ ألفا ، أما خمس الله ورسوله الذي من حق النبي، فقد قرر- صلى الله عليه وسلم - توزيعها على زعماء القبائل المختلفة ،لأن الدولة الإسلامية اتسعت الآن اتساعا كبيرا ، فأراد أن يؤلّف قلوبهم ؛ فهم حديثو العهد بالإسلام ، و الدولة تحتاجهم ، فهم أصحاب الكلمة الأولى في القبيلة ، وعندما يجدون أن وضعهم الاجتماعي والمادي قد تحسن في ظل الإسلام ؛ فلاشك أن حبهم وانتماءهم للإسلام سيقوى ويترسخ، وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم في الإسلام {{ المؤلفة قلوبهم }} .

وجاء في كتب السّيرة أنّ توزيع الغنائم على هؤلاء المؤلفة قلوبهم و الزعماء كان توزيعًا سخيًّا ، فقد بلغ نصيب البعض مائةً من الإبل، حتى إنّ أبا سفيان قد ذُهل من هذا العطاء ، فقال : ما أعظم كرمك ! وما أحلمك ! فداك أبي وأمي ، لقد حاربتك، فنِعمَ المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت [[ انظروا أثر تأليف القلوب ]] . وكذلك فعل -عليه الصلاة و السلام – مع حكيم بن حزام وهو من أشراف مكة، وعمته هي خديجة – رضي الله عنها - ، فقد سُرّ بعطاء النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال : " والله يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أسأل أحدا بعدك شيئا " ، وفعلا مات و لم يأخذ شيئا من غنائم المسلمين بعد غزوة حُنين .

أمّا صفوان بن أمية ؛ فقد كان سيّدا في قومه، وقد اشترك في حنين وهو لا يزال مشركا ، وقلنا إنه طلب مهلة شهرين حتى يسلم ، وقد أعطاه – عليه الصلاة و السلام - مائة من الأبل كما أعطى زعماء مكة ، وزاده كثيرا من الأنعام ، فقال صفوان : إن الملوك لا تطيب نفوسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فأسلم صفوان - رضي الله عنه - وحسُن إسلامه .

وعندما وجد الأنصار عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمسه لسادة قريش عطاء ليس له حدود ؛ وجدوا في أنفسهم [[ أي تأثروا ]] ، فقال بعضهم لبعض: [[ لقد لقي النبي قومه : يعني رجع لأهله وفرح بهم ]]

غفر الله لرسول الله! يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم بالأمس !!! {{ وقد جال في خاطرهم أنّ الدولة الإسلامية قامت على أكتافهم ، فقد قاتلوا عادوا القبائل من أجل نشر الإسلام ، وكانوا كرماء النفس مع المهاجرين ، وبذلوا دماءهم في سبيل نصرة هذا الدّين ، وهم رجال الأزمات }} .

فلما بلغت هذه المقالة للنبي - صلى الله عليه وسلم – تأثر كثيرا ، وأرسل إلى {{ سعد بن عبادة زعيم الخزرج }} وهو الباقي من سادة الأنصار ، وقال له – عليه الصلاة و السلام - يا سعد ، ما مقالة بلغتني عن قومك ؟؟

قال له: أجل يا رسول الله ؛ إن هذا الحي من الأنصار قد تأثروا في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ؛ فقد قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب، ولم يكن لهذا الحي من الأنصار شيئا !!! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ [[ يعني شو موقفك أنت ؟؟ ]] فقال سعد: - ما أنا إلا رجل من قومي !! فقال له – عليه الصلاة و السلام - :

إذن فاجمع لي قومك لا يخالطكم غيركم ، فخرج سعد فجمع الأنصار{{ الأوس والخزرج }} في شعب لم يدخل فيه إلا أنصاري ، وأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده لا يصحبه إلا أبو بكر الصّدّيق ، فحياهم بتحية الإسلام ، ثم حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
(( يا معشرَ الأنصارِ،ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ ؟ وعالةً فأغناكُم اللهُ ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم ؟ قالوا : بلَى ! قالَ رسولُ اللهِ : ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصارِ ؟ قالوا : وما نقولُ يا رسولَ اللهِ ؟ وبماذا نُجيبُكَ ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ . قالَ : واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم : جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ ، وعائلًا فآسَيناكَ ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ ، ومَخذولًا فنصَرناكَ . . . فقالوا :

المَّنُ للهِ ورسولِهِ . فقال : أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا ؟ ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ ؟ ! [[ أي: هلْ حَزِنتُم في قُلوبِكم يا مَعشَرَ الأنصارِ بسَبَبِ شَيءٍ حَقيرٍ مِن أُمورِ الدُّنيا كان الهدف منها تأليف قلوب من دخل في الإسلام حديثا ؟؟ ]] أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم ؟!

فَوَالَّذي نَفسي بيدِهِ ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا وسَلَكتِ الأنصارُ شِعبًا ، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرأً مِن الأنصارِ .

[[ وكان الظّنّ قد غلبهم أن النبي سيقيم في مكة ؛ فقد أصبحت دار إسلام ، وهي مسقط رأس النبي ، وهي بلد الله الحرام ، فظنوا أن النبي لن يرجع إلى المدينة معهم ، فتفاجؤوا بهذا الخبر المفرح ]] ، ثم قال : اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ ، وأبناءَ الأنصارِ ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ . فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم . وقالوا : رَضينا باللهِ رَبًّا ، ورسولِهِ قسمًا ، ثمَّ انصرفَ ، وتفرَقوا . . . ))

فهنيئا للأنصار ، كان حظهم الأوفى من العطاء ، فقد فازوا بالحبيب الأعظم - صلى الله عليه وسلم - اللهم اجمعنا به في جنات النعيم .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-27-21, 09:24 AM
هذا الحبيب « 242 »
السيرة النبوية العطرة (( أحداث متفرقة بعد غزوة حُنين ))
________
جاء في بعض كتب السّيرة أن من الذين وقعوا في السبي يوم حُنين : حذافة بنت الحارث وهي {{ الشيماء }} أخت النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة ؛ فقد استرضع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني سعد أربعة أعوام ، والتي أرضعته هي {{ حليمة السعدية }} ،

و أخواته من الرضاعة : عبدالله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء و أبو سلمة بن عبد الأسد ، وكانت الشيماء تتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -بالسن عشر سنوات ، وكانت تقول لمن أسرها : إني أخت صاحبكم من الرضاعة !! فلم يصدقوها وجاؤوا بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت :

يا رسول الله إني لأختك من الرضاعة ، فقال لها : إن تكوني صادقة فإن بك منّي أثرا لن يبلى .

[[ يعني علامة بجسمك أنا سببها لا تنمحي ]] ، فكشفت عن عضدها ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة ، فعرفها - صلى الله عليه وسلم - فوثب وقام لها قائما و رحب بها، وبسط لها رداءه ، وأجلسها عليه ، وذرفت عيناه بالدموع وأخذ يكلمها ، ثم قال لها : إن أحببتِ فأقيمي عندي محببة مكرمة، وإن أحببت فارجعي إلى قومك ، فاختارت أن تعود إلى قومها . وعُرفت الشيماء بعد ذلك بكثرة العبادة والتنسك و الدفاع عن الإسلام رضي الله عنها و أرضاها .

وحتى نكون منصفين في فترة طفولة النبي و شبابه، فلا بدّ من الإشارة إلى الصحابية الجليلة أم علي :(( فاطمة بنت أسد الهاشمية )) ، زوجة أبي طالب عم النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وقد أسلمت بعد وفاة زوجها أبي طالب، ثم هاجرت بعد ذلك إلى المدينة المنورة مع أبنائها، وقد تميزت برواية الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يزورها بين الحين والآخر ، وورد في بعض كتب السيرة أنه لمّا ماتت – رضي الله عنها - دخَل عليها رسولُ اللهِ ، فجلَس عندَ رأسِها وقال :

" رحِمكِ اللهُ يا أُمِّي ، كُنْتِ أُمِّي بعدَ أُمِّي ؛ تجوعينَ وتُشبِعيني وتعرَيْنَ وتكسُونَني ، وتمنَعينَ نفسَكِ طيِّبَ الطَّعامِ وتُطعِميني تُريدينَ بذلكَ وجهَ اللهِ والدَّارَ الآخرةَ " .

وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الجعرانة وفد من هوزان ، فيه عدد من أشرافهم ، فأسلموا ، ثم كلموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغنائم، وقالوا: يا رسول الله ، إن في من أصبتم الأمهات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وحواضنك اللاتي كن يكفلنك وأنت خير مكفول ، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله .

فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد كنت أخّرت توزيع الغنائم بضع عشرة ليلة أملاً في إسلامكم ، وقد وقعت المقاسم مواقعها [[ أي تقاسم المسلمون أموالكم ]] ، فأي الأمرين أحب إليكم أطلب لكم السبي ؟ أم الأموال ؟؟ قالوا: يا رسول الله، فالحسب أحب إلينا ، ولا نتكلم في شاة ولا بعير ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : أما الذي لبني هاشم فهو لكم ، وسوف أكلّم لكم المسلمين وأشفع لكم ، فأعطى المسلمون كل ما بأيديهم، وطلب القليل منهم الفداء .

ونأتي إلى موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - مع (( مالك بن عوف )) قائد جيش هوزان ، فماذا كان مصير مالك بن عوف بعد هزيمة هوازن؟ فقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد هوازن عن مالك بن عوف ، ما فعل ‏؟‏ فقالوا ‏:‏ هو بالطائف مع ثقيف ،[[ وهي ليست قبيلته ، فكان عندهم ذليلا منكسرا لأنه سبب فقد نسائهم و أموالهم ]] ،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏:‏ أخبروا مالكا أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله ‏، وأعطيته مائة من الإبل ‏.‏ وعندما علم مالك بذلك خرج إليه من الطائف ، وقد كان مالك خاف على نفسه من ثقيف أن يعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له ما قال ، فيحبسوه ، فأمر براحلته ، فهيئت له ، وأمر بفرس له ، فأتى به إلى الطائف ،

فخرج ليلاً ، وجلس على فرسه ، فركضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تُحبس ، فركبها ، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركه بالجعرانة ، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل ، وأسلم فحسن إسلامه ؛ فقال مالك بن عوف حين أسلم ‏:‏

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد

[[ هل يمكن أن يتخيل ذلك أحد ؟! هل يوجد في التاريخ كله قائد منتصر يتعامل بهذا الرقي وهذه الإنسانية مع زعيم الجيش المعادي له ، والمهزوم أمامه ؟ بل على العكس ؛ لقد وجدنا في التاريخ القديم والحديث القادة المنتصرين يتلذذون بمحاكمة وعقاب وإذلال زعماء أعدائهم ]] .

ثمّ أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوظف إمكانات مالك بن عوف القيادية لمصلحة الدولة الإسلامية ،فاستعمله على من أسلم من قومه ، فكان يقاتل بهم ثقيفا ، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه ، حتى ضيق عليهم ؛ فقال الشاعر أبو محجن الثقفي ‏:‏

هابت الأعداء جانبنا *** ثم تغزونا بنو سلمة
وأتانا مالك بهم *** ناقضا للعهد والحرمة

وقبل عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة من الجعرانة ، توجه – عليه الصلاة و السلام - لأداء العمرة، وكانت هذه هي العمرة الثالثة التي يؤدّيها بعد عمرة صلح الحديبية ، وعمرة القضاء ، أما العمرة الرابعة والأخيرة فقد قرنها - صلى الله عليه وسلم مع حجته - وكانت في السنة العاشرة من الهجرة .
ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العام ، وإنما حج بالمسلمين أمير مكة {{ عَتّاب بن أسيد }} الذي عيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة أميرا عليها ، وترك معه معاذ بن جبل ، يفقّه الناس في الدين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
04-30-21, 09:04 AM
هذا الحبيب « 243 »
السيرة النبوية العطرة (( إسلام عدي بن حاتم الطائي ))
________
نحن الآن في مطلع العام التاسع للهجرة ويسمّى أيضا {{ عام الوفود }} ، ففي شهر ربيع الآخر من السنة التاسعة أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ومعه {{ ١٥٠٠ رجل }} من الأنصار إلى قبائل {{ طيء }} وسيدها هو {{ حاتم الطائي }} المعروف في التاريخ والمشهور بالكرم ، وبعد موته أصبح ابنه {{ عدي }} هو سيّد طيء ، وكان قد تنصّر [[ يعني اعتنق النصرانية ولم يلتزمها ، بل كان يخلط بين النصرانية والصابئة ، يعني عامل دينه كوكتيل ]] ، وكان هدف السرية هو {{ هدم صنم طيء}} وكان من الأصنام المشهورة باسم {{ الفلس }} في الجزيرة .

وقد شنّ عليهم المسلون الغارة مع الفجر، وهدموا صنمهم ، واصطحبوا معهم أنعاما كثيرة وسبي، وفرّ قائدهم عدي إلى حلفائه من ملوك الشام ، وأخذ زوجته وولده ، تاركاً {{ أخته سفّانة }} [[ ومعنى سفانة اللؤلؤة ؛ وبها كان يُكنّى أبوها حاتم الطائي لا بولده ، كان يُقال له : أبا سفانة وليس أبا عدي ]] ، فلمّا رأت سفّانة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قامت إليه وقالت :

يا رسول الله ، هلك الوالد، وغاب الوافد {{ تقصد أخاها }} ، فامنن علي من الله عليك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك، ثم أخبريني، فأقامت حتى قدم ركب من قضاعة (( قومها )) قالت: فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ، وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، قالت: فكساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمَّلني، وأعطاني نفقة ، وقد عاملوني خير معاملة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام .

فلما وصلت إلى أخي أخبرته بما لقيت من رسول الله من كرم وحسن معاملة، وكيف أنه معجبٌ بمكارم أخلاق أبي ؛ وقلت له : أرى أن تلحق به سريعاً، فإن يكن نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فأنت أنت .

ويروي لنا عدي بن حاتم الطائي – بعد أن أسلم – ما حدث بعد ذلك ،فقال : بُعِث رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - حيثُ بُعِث فكرِهْتُه أكثَرَ ما كرِهْتُ شيئًا قطُّ (( فقد شعر عدي أن الإسلام سحب السيادة من بين يديه )) ،فانطلَقْتُ حتَّى كُنْتُ في أقصى الأرضِ ممَّا يلي الرُّومَ فقُلْتُ : لو أتَيْتُ هذا الرَّجُلَ [[ يقصد محمّدا ]]، فإنْ كان كاذبًا لم يَخْفَ علَيَّ وإنْ كان صادقًا اتَّبَعْتُه.

فأقبَلْتُ فلمَّا قدِمْتُ المدينةَ استشرَف لي النَّاسُ وقالوا : جاء عَديُّ بنُ حاتمٍ جاء عَديُّ بنُ حاتمٍ ، فقال النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لي : يا عَديُّ بنَ حاتمٍ أسلِمْ تسلَمْ . قال : قُلْتُ : إنَّ لي دِينًا ، قال : أنا أعلَمُ بدِينِكَ منكَ - مرَّتينِ أو ثلاثًا - ، ألستَ ترأَسُ قومَك ؟ قُلْتُ : بلى . قال : ألستَ تأكُلُ المِرباعَ ؟[[ أي يحل لنفسه أن يأخذ ربع غنائم الحرب ، فيشرع لنفسه مالا يشرع لغيره ]] قُلْتُ : بلى . قال : فإنَّ ذلك لا يحِلُّ لك في دِينِك . قال : فتضعضَعْتُ لذلك، [[ ارتبكت ]] ،

ثمَّ قال : يا عَديُّ بنَ حاتمٍ ، أسلِمْ تسلَمْ ؛ فإنِّي قد أظُنُّ - أو قد أرى أو كما قال رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - أنَّه ما يمنَعُك أنْ تُسلِمَ خَصاصةٌ تراها مِن حولي ، [[ يعني ما بدّك تسلم عشان اللي حولي صحابة بعضهم فقراء ومحتاجين ومن العامة!!]]

ثمّ أكمل – عليه الصلاة و السّلام – قائلا : والذي نفسي بيده لتوشِكُ الظَّعينةُ أنْ ترحَلَ مِن الحِيرةِ بغيرِ جِوارٍ حتَّى تطوفَ بالبيتِ ، [[ أي المرأة على البعير في الهودج تسير في أمان للحج ]] ولَتُفتَحَنَّ علينا كنوزُ كِسرى بنِ هُرْمُزَ[[ أي سينتشر الإسلام ، وهؤلاء الصحابة سيغنمون كنوز الفرس ]]

ولَيَفيضَنَّ المالُ - أو لَيفيضُ - حتَّى يُهِمَّ الرَّجُلَ مَن يقبَلُ منه مالَه صدقةً [[ أي : تَعُمَّ الثَّروةُ في أيدي النَّاسِ جميعًا، فلا يَحتاج أحدٌ إلى الزَّكاةِ، حتَّى يَحزَنَ صاحب المالِ؛ لأنَّه لم يجِدْ مَن يَقبَلُ صدَقتَه ]] ، قال عَديُّ بنُ حاتمٍ : فقد رأَيْتُ الظَّعينةَ ترحَلُ مِن الحِيرةِ بغيرِ جِوارٍ حتَّى تطوفَ بالبيتِ ، وكُنْتُ في أوَّلِ خيلٍ أغارَتْ على المدائنِ على كنوزِ كِسرى بنِ هُرْمُزَ ، وأحلِفُ باللهِ لَتَجيئَنَّ الثَّالثةُ إنَّه لَقولُ رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – لي .

نعم، فقد أسلم عدي بن حاتم الطّائي لما رأى من سماحة الإسلام ، و علوّ شأن محمد – عليه الصلاة و السلام – و أصحابه ، وقد شهد التاريخ حدوث النبوءة الثالثة في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه .

ودائما نقول : إنّ السيرة للتأسّي وليس للتّسلّي ، فما ورد بين عدي و رسولنا – صلى الله عليه وسلم - عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه ،وها نحن اليوم نعيش نبوءة من نبوءات النبي – صلى الله عليه وسلّم - : (( يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها . فقال قائلٌ :
ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ ؟ قال : بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم ، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ . فقال قائلٌ : يا رسولَ اللهِ ! وما الوهْنُ ؟ قال : حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ )) .

يا الله !! يا رب العرش !! الطف بحالنا ، يا رب اهدِ شبابنا و بناتنا وابعد عنهم الفتن ‘ يا رب الأمل فيك أن تردّنا إلى دينك ردّا جميلا ، يا رب لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا ، يا رب لا تجعل مصيبتنا في ديننا ، يا رب أرنا عجائب قدرتك في اليهود وأعداء الإسلام و من عاونهم ، يا رب أعِد للأمة الإسلامية مجدها و عزّها ، اللهم عجّل بنبوءة نبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – في هلاك اليهود ليعود المسجد الأقصى شامخا عزيزا إلى عرين الإسلام ؛ فقد قال نبينا :

" لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُقاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ المُسْلِمُونَ حتَّى يَخْتَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وراءِ الحَجَرِ والشَّجَرِ، فيَقولُ الحَجَرُ أوِ الشَّجَرُ: يا مُسْلِمُ يا عَبْدَ اللهِ هذا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعالَ فاقْتُلْهُ، إلَّا الغَرْقَدَ، فإنَّه مِن شَجَرِ اليَهُودِ " .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-01-21, 08:57 AM
هذا الحبيب « 244 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة تبوك / ج1 " التجهيز للغزوة " ))
________
نحن الآن في بداية العام التاسع للهجرة، ويُطلق عليه أيضا {{عام الوفود }} فقد كان فيه مجيء القبائل العربية لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام ، [[ طبعا الوفود لم تنحصر في عام واحد ، فمنذ فتح مكة إلى حجة الوداع والوفود تأتي إلى المدينة تعلن إسلامها ]] ، ومع مجيء هذه الوفود - خاصة التي تسكن على أطراف بلاد الشام - حملت هذه القبائل للنبي – عليه الصلاة و السلام -

أخبارا تفيد بأنّ {{ الإمبراطورية الرومانية }} تحشد جيوشها من الروم و العرب و الغساسنة لغزو الجزيرة ، وهي أخبار في غاية الخطورة، وقد وصلت هذه الجيوش إلى منطقة {{ البلقاء }} وهي المنطقة الموجودة الآن في شمال غرب الأردن [[ ملاصقة للضفة الغربية الفلسطينية]] ، وكان سبب حشد هذه الجيوش هو خوف الإمبراطورية الرومانية من التصاعد السريع لقوة الدولة الإسلامية والرغبة في كسر شوكة المسلمين قبل أن يستفحل خطرها ، خاصة بعد مواجهة {{غزوة مؤتة }} التي أذلّت جيشهم و أوقعت بهم خسائر فادحة ، فأرادت أن تقضي عليها في عقر دارها .


اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرار السريع والحاسم بالخروج لقتال الروم في الشام قبل أن يتحركوا هم في اتجاه المدينة ،مع أن الجيش الذي سيظل في مكانه سيتمتع بميزة هامة، وهو أن الجيش الآخر سيصل إليه مرهقا ،لأن المسافة بين المدينة وبين الشام طويلة جدا، تزيد عن {{ 100 كم }} في صحراء قاحلة، وطرق وعرة، وحرارة شديدة ، ومع ذلك اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرار بالزحف في اتجاه الشام ، ومع علمه أن الجنود الرومان والغساسنة لا يتحملون التوغل في الصحراء هذه المسافة الطويلة وفي هذه الحرارة العالية .

وكان السبب في زحف النبي إليهم أيضا هو أن عددا كبيرا من القبائل بين المدينة وبين الشام قد دخلت في الإسلام ، فلو بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وترك هذه القبائل في مواجهة الجيوش الرومانية فهذا معناه التدمير الكامل لهذه القبائل ،و النبي – عليه الصلاة و السلام – مسؤول أيضا عن أمن هذه القبائل ، وليس فقط المدينة المنورة ، كذلك تحرك الجيش باتجاه الروم هو قوة و إظهار هيبة للمسلمين .

إذن أمر النبي – عليه الصلاة و السلام - الصحابة بالتجهز للقتال، وقد بلغ حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - من العمر الآن {{ ٦٢ عاما }} وهذه الغزوة ستكون آخر غزوة له ، وكان الأمر الإلهي قد نزل بقتال الكفار الأقرب فالأقرب ،

قال تعالى : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً }} ، ومعنى {{ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ }} يعني أقرب الكفار من دياركم، والروم في الشام هم الآن أقرب الكفار إلى المسلمين بعد أن فتح الله على المسلمين مكة و الطائف و خيبر و غيرها من المناطق ، كما أرسل – عليه الصلاة و السلام - إلى القبائل العربية التي دخلت في الإسلام، وبعث إلى مكة وقبائل العرب ليستنفرهم للقتال .

ولأول مرة يعلن - صلى الله عليه وسلم – عن وجهة الجيش ، فقد كان من عادته أن يخفي وجهة الجيش حتى يفاجئ أعداءه، ولكن في هذه الغزوة لم يخفِ وجهة الجيش لعدة أسباب ؛ أهمّها :

أن المسافة بعيدة جدا والطرق وعرة والحر شديد، فينبغي أن يستعد المسلمون لذلك بتجهيز المؤن وغيرها، لدرجة أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أمر أن يصحب كل رجل معه نعلين ، كذلك فإن الجيش به عدد كبير من الأعراب الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، فكان لابد من الإعلان حتى لا تحدث معارضة من هذه الإعداد الكبيرة بعد الخروج ،أيضا إن إخفاء الجيش في هذه الغزوة أمر صعب جدا نظرا لضخامة الجيش وبُعد المسافة . وقد تسارع الصحابة في الصدقة لتجهيز جيش تبوك

(( جيش العسرة )) ، وكانت لأغنياء الصحابة نفقات عظيمة ،كالعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي وغيرهم الكثير، وتصدق {{ عبد الرحمن بن عوف}} بنصف ماله، وكانت حوالي {{ ٢٤ كيلو }} من الفضة . وهنا لي وقفة ،،للأسف الكثير من المسلمين يتصورون أن الصحابة كانوا كلهم فقراء ، و محتاجين !! حتى قالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم – مات وهو يعاني الفقر !! كيف ذلك و قد قال لعائشة – رضي الله عنها – في أيام وجعه الذي مات فيه :

" ما فَعلَتِ الذَّهَبُ؟ قُلتُ: ها هو ذِهْ عِندِي يا رَسولَ اللهِ. قال: ائْتِيني بها. وهي بَينَ التِّسعةِ والخَمسةِ، فجَعَلَها في كَفِّه، ثم قال: ما ظَنُّ مُحمدٍ باللهِ لو لَقيَ اللهَ وهذه عِندَه؟ أنفِقيها " . إذن كان عنده ما يكفي حاجته وحاجة أهل بيته ، ولا حاجة لأن يطلب دَينا من أحد .

وقد تصدق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - بنصف ماله كذلك، وكانت ثلاثة آلاف درهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك ؟ فقال عمر: مثله .

ثم أتى أبو بكر، وتصدق بأربعة آلاف درهم ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك ؟ فقال أبو بكر: أبقيت لهم الله ورسوله . فقال عمر: لا أسابقك إلى شيء أبدا . وتصدق فقراء المسلمين بما يقدرون عليه، حتى أن بعضهم تصدق ببعض التمر . وبعثت النساء بحليهنّ ليشاركن بتجهيز هذا الجيش .

أما أكبر من أنفق في هذا اليوم فهو {{عثمان بن عفان}} ، وكان عثمان ذا مال كثير والسبب أنه ورث من أبيه المال الكثير، تذكرون جيش أبرهة أصحاب الفيل ؟ كانت أموالهم بعد أن هزمهم الله بالطير الأبابيل غنيمة لأهل مكة ، فكان أبوه ممن جمع من هذا الجيش الغنائم الكثيرة ،فلما مات ورثها عثمان رضي الله عنه.

ويُروى أنّ عثمانُ – رضي الله عنه – جاء إلى النَّبيِّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - بألفِ دينارٍ ذهبيّة في كمِّهِ حينَ جَهَّزَ جيشَ العُسرةِ فنثرها في حجر النبي – صلى الله عليه وسلم - حتى يسد حاجة الجيش ، وحاجة من أتى راغبا في الجهاد ولا يجد ما يُحمل عليه ، فقالَ عبدُ الرَّحمنِ بن سمرة : فرأيتُ النَّبيَّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - يقلِّبُها في حجرِهِ ويقولُ : ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ ، وكررها مرتين .

ومع كل هذه النفقة فلم تكفِ الأموال لتجهيز كل من أراد الخروج للجهاد في هذا الجيش ، فلم يكن عند المسلمين ما يكفيهم من الجمال و النوق و البعران ، فكان يأتي البعض إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون : يا رسول الله ، احملنا ! فيقول لهم : والذي نفسي بيده لا أجد ما أحملكم عليه ؛

فيبكون من شدة الحزن ، [[ مش ببكوا على خسارة فريقهم بكرة القدم !! ولا على مسلسل تركي مات فيه العشيق !! ولا على واحد فاز في مسابقة غناء أمام لجنة كلها فسق و عري!! كانوا يبكون لأنهم لا يجدون ما يحملهم للذهاب إلى الجهاد في سبيل الله و قتال الأعداء ، ورفع راية الإسلام ، مش رفع راية فريق أجنبي على ظهر السيارة ، و إطلاق الزامور وإزعاج الناس !! لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم اهدِ شباب المسلمين و بناتهم إلى الخير واتّباع طريق الحق ]] .


وقد سجل القرآن الكريم لأولئك الصحابة هذا الحزن ، وذلك البكاء ، قال تعالى يصف حالهم : {{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }} .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-07-21, 09:11 AM
هذا الحبيب « 245 »
السيرة النبوية العطرة (( غزوة تبوك ج/2 " موقف المنافقين " ))
________
رأينا موقف الصحابة المؤمنين الصادقين في التبرع لتجهيز الجيش، ولنأخذ الآن في المقابل حال المنافقين ؛ فقد قام {{ عبدالله بن سلول رأس المنافقين }} وجمع من هم على شاكلته في النفاق في فناء داره ، وجلس يحدثهم : [[ بلُغتنا اليوم :جلس يعطيهم تحليله السياسي لهذه المرحلة ]] فقال لهم : يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد ؟؟!!

يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب ؟؟ [[ مفكر قتالهم لعبة ]] والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الحبال ، ولا أرى محمدا ينقلب إلى المدينة أبدا ، إنا لنخشى بني الأصفر ونحن في ديارنا أنذهب إلى ديارهم ؟! {{ بنو الأصفر يقصد الروم : لأن أغلبهم لون بشرتهم وشعرهم أشقر قريب للصفار، كذلك يتعاملون بالذهب في التجارة و اللباس و صناعة الأواني بشكل كبير }}،

وكان يقول ذلك الكلام ليحبط الناس حتى يتخلفوا عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ولقد أورث ابن سلول هذا المعتقد في المنافقين إلى أيامنا هذه ، فالمنافقون و أصحاب القلوب المأجورة في زماننا يُصوّرون جيوش الغرب بأنها عظيمة لا تُقهر، ويبثّون الرّعب و الجُبن في نفوس الناس حتى تبقى أوطاننا و مقدّساتنا تحت سيطرة اليهود !! ونسوا بأن الله ناصرٌ عباده أصحاب القلوب المؤمنة الصادقة المتوكّلة على ربها حق التوكل ، بغض النظر عن العدد و العدّة وهذا ما رأيناه في غزوات النبي – صلى الله عليه وسلم - .

وقد سجّل القرآن الكريم في سورة (( التوبة )) كل أقوال عبد الله بن سلول مع المنافقين ، كذلك أقوال المنافقين مع بعضهم ،وكل ما قالوه من أعذار للنبي – صلى الله عليه وسلم – حتى لا يذهبوا لقتال الروم ، وكان هذا بالتفصيل الذي لا يتوقعه حتى المنافقين أنفسهم ، فقد كشفت السورة كل ألاعيبهم و كذبهم ، وفضحت أمرهم ، وبعثرت خططهم في قرآن يُتلى إلى يوم القيامة ، لذلك من أسماء سورة التوبة : [[ الكاشفة ، الفاضحة ، المبعثرة ، . . . ]] .

ومن الذين طلبوا الإذن من النبي – صلى الله عليه وسلم - وتعلّلوا بعلل واهية و ضعيفة حتى لا يخرجوا للقتال مع جيش العسرة {{ الجد بن قيس }} ، وله ابن صادق مؤمن اسمه عبد الله ، وتقول بعض كتب السيرة : إنّه جاء إلى النبي – عليه الصلاة و السلام – وهو في مسجده وقال له : أتأذن لي يا رسول الله هذه المرة أن أجلس في المدينة ولا أذهب للقتال ؟

فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبتسم : إنك موسر يا جد فتجهز ، تجهز في سبيل الله [[ أي لست فقيرا ، معك مال ، و ليس لك عذر ، تجهّز تجهّز ]] فقال الجد : يا رسول الله إني ذو ضبعة [[ الضبعة هي شدة الشهوة اتجاه النساء ]] ، وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبرعنهن فأُفتتن !! هل رأيتم تفاهته ؟؟ يقول ذلك للنبي في مسجده وبين أصحابه !! يقول الصحابة : فأعرض عنه – عليه الصلاة و السلام - بوجهه وهو مغضب وقال له : قد أذنت لك فلا تخرج .

فلما خرج الجد بن قيس من المسجد ، لحقه ابنه وعاتبه على ذلك بأدب قائلا : يا أبي!! لِمَ تعتذر لرسول الله وقد أكد عليك وقال لك مرتين تجهز تجهز ؟؟ فكيف تخالف رسول الله وتعتذر له بما ليس فيك ؟؟

[[ يعني الولد بيعرف إنه أبوه مش نافع ، وقاعد بيكذب على رسول الله ]] فصرخ أبوه في وجهه وقال : اسكت ، لأنت أشد عليّ من محمد ، فأنا أعلم منك بالدوائر ، ولن يصمد محمد ومن معه أمام جيش الروم ، ولن يعودوا إلى المدينة أبدا . فأنزل الله تعالى فيه قوله : {{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }}

[[ لا تفتني يعني لا تبتليني برؤية نساء بني الأصفر ]] . إذن ، فإنّ من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب السلامة من فتنة لم تقع بعد، فقد وقع في فتنة كبرى، ألا وهي ترك ما أوجبه الله تعالى عليه من الاحتساب. وقيل في رواية أخرى إن الجد بن قيس لما امتنع و اعتذر قال للنبي: أعينك بمالي، فأنزل الله تعالى : {{ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم }} .

وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يأذن لهؤلاء المنافقين لأنه لا يريدهم في الجيش، فهم يثبطون الجيش؛ ولكن الله تعالى عاتب الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -

لأنه أعطى الإذن لهؤلاء فقال تعالى : {{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }} ، هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذه ؟؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة ، لكي لا يؤلم قلب حبيبه - صلى الله عليه وسلم .

ليس هذا فحسب ؛ بل كان المنافقون يحاولون تثبيط المسلمين عن النفقة فعندما يجدون أحد أغنياء المسلمين يتصدق بالأموال الكثيرة يقولون : ما فعل هذا إلا رياء !! وعندما يتصدق بعض الفقراء بالأموال القليلة يقولون : إن الله لغني عن هذه الصدقة!!

فنزل قول الله تعالى في سورة التوبة : {{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }} . [[ يلمزون يعني يعيبون ]] . كذلك كان المنافقون يثبطون الناس عن الخروج والغزو ويتعللون بقوّة العدو، والحر الشديد في الصحراء ، فقال الله تعالى مخبرا عنهم : {{ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ }} .

تجهز جيش المسلمين وبلغ تعداد الجيش {{٣٠ ألف }} مقاتل ، وأطلق على هذا الجيش {{جيش العسرة}} لأن الخروج في هذا الجيش كان أمرا عسيرا وشاقا ، والجزاء دائما على قدر المشقة ، ومن أسباب الصعوبة الشديدة في الخروج إلى تبوك ، قوة العدو وشدته، وتفوقه في العدد والعدة فكان عددهم {{١٠٠ ألف }} ، كذلك بُعد المسافة ؛ فهي أكثر من {{ 1000 كم }}، كذلك قلة المؤن من الطعام والشراب ، أيضا قلة المطايا و الدواب التي سيمتطيها المقاتلون ، أضف إلى ذلك شدة الحر، فالوقت الذي خرج فيه الجيش هو فصل الصيف ووقت جني الثمار، والمدينة بلد زراعي، وأغلب أهلها يعملون بالزراعة

خرج النبي على رأس الجيش، في يوم الخميس ،غرّة رجب من السنة التاسعة للهجرة ، وكان عمره كما قلنا ٦٢عاما ، واستعمل على المدينة الصحابي {{ محمد بن مسلمة}} ، وخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهله {{علي بن أبي طالب}} رضي الله عنهما و أرضاهما .

وانطلق الجيش باتّجاه الروم ، وأخذ المنافقون ينسحبون واحداً تلو الآخر فكانوا يتخلفون عن الجيش، ويعودون إلى المدينة، فكان كلما تخلف واحد قال الصحابة : يا رسول الله ، تخلف فلان [[ يعني رجع ]]

فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " دعوه ، إن يك فيه خير فسيُلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . وكان أن بقي بعض المنافقين في الجيش رغبة في الغنائم ، ورهبة في أن يكشف القرآن نفاقهم ، وقد وقع ما كانوا يخشونه ! فحدث أن قال بعضهم لبعض : أيظن محمّدٌ أن يفتح قصور الروم وحصونها ؟؟!! هيهات هيهات . فأطلَع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالوا ، فقال : علي بهؤلاء النفر . فدعاهم ، فقال : قلتم كذا وكذا . فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب . فنزل قوله تعالى : (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب )) .
ومن المواقف التي أظهرت هؤلاء المنافقين أيضا ، الموقف الذي كان عندما ضلت ناقة الرسول – صلى الله عليه وسلم - أثناء الطريق ، خرج بعض الصحابة في طلبها ، فقال أحد المنافقين وهو (( زيد بن اللصيت )) :

[[ واللصيت معناها عند العرب تصغير واحتقار لوصف اللص ]] ، أليس محمد يزعم أنه نبي يخبركم خبر السماء وهو لا يدري أمر ناقته ؟! فلما علم النبي ذلك عن طريق الوحي قال: " إني والله ما أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها وهي في الوادي قد حبستها الشجرة بزمامها " ،

فانطلقوا و جاءوا بها . وكان هذا المنافق في خيمة الصحابي (( عمارة بن حزم رضي الله عنه )) ، فقام عمارة بإخراجه من الخيمة عندما عرف نفاقه ؛ لأن المرء على دين خليله ، و الصّاحب ساحب ، ومن جالس جانس .
يتبع ....
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-15-21, 09:22 AM
هذا الحبيب « 246»
السيرة النبوية العطرة (( غزوة تبوك ج/3 " معاناة وصَبْر " ))
________
عانى الصحابة كثيرا وهم في طريقهم إلى تبوك ؛ فقد دخلوا في جوع وعطش شديدين ، حتى كان الرجلان يقسمان التمرة بينهما ، فقال أبو بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه : يا رسولَ اللهِ ، إن اللهَ قد عوَّدَك في الدعاءِ خيرًا فادعُ لنا . قال: أتحبُّ ذلك ؟ قال : نعم ، فرفع يديْه – صلى الله عليه وسلم - فلم يرجعْهما حتى أظلّت السماءُ ثم سكَبَتْ ، فملؤوا ما معهم .

ومن مواقف المعاناة نذكر موقفا ل [[ أبي ذر الغفاري ]] رضي الله عنه ، فبعد مسيرة ثلاثة أيام من المدينة ، ضعف بعير أبي ذر الغفاري ، فتأخر – رضي الله عنه – عن الجيش مدة لعلاجه ، فلمّا يئس منه ، تركه، وحمل متاعه على ظهره ولحق بالجيش ماشيا بقدميه على رمال الصحراء الملتهبة ، [[ وإنتوا عارفين صحراء السعودية ، اللي لما بعض الناس بيروحوا للعمرة : بكون باص موديل سنته ، ومُكيّف ، وبشربوا ماء مثلج وبتذمروا !! وكل الطريق ساعات معدودة !! وبوقفوا مرات ومرات عند الاستراحات عشان يستريحوا ويوكلوا !!! ]] .

أبو ذر قطع أياما و أياما حتى لحق بالجيش وهو يستريح على مقربة من تبوك !! ففرح النبي – عليه الصلاة و السلام – بقدومه ، وفرح كذلك الصحابة ، فأبو ذر من المستحيل أن يتخلف مثلما فعل غيره ، فهو دائما يطلب الفوز بالجنة ، كيف لا ونبينا – صلى الله عليه وسلم يقول فيه : (( من سرَّه أن ينظر إلى تواضعِ عيسى بن مريم ، فلْينظرْ إلى أبي ذرٍّ )) ، فقد تميز أبو ذَرّ ٍبمَزيدٍ من التَّواضُعِ، ولِينِ الجانِبِ، وخَفضِ الجَناحِ،وكَفِّ النَّفْسِ عن الشَّهَواتِ

ومر الجيش في سيره على منازل {{ثمود}} قوم نبي الله صالح - عليه السلام - وهذه المنطقة في شمال السعودية ، وهي منطقة سياحية يأتي إليها السياح ، فقال رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – لأصحابه : لا تَدْخُلُوا علَى هَؤُلَاءِ المُعَذَّبِينَ إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فلا تَدْخُلُوا عليهم، لا يُصِيبُكُمْ ما أصَابَهُمْ.

[[ يعني البكاء شفقة عليهم و خوفا من أن يحل بكم العذاب مثلهم ]] ، وهذا الكلام ينطبق على كل آثار باقية لقوم أهلكهم الله بسبب معصيتهم، فالمسلم لا يسعى لدخول هذه الأماكن إلا باكيا شفقة عليهم ، وآخذا العبرة من مصيرهم ، [[ واحنا اليوم ما بحلالنا التنزه و الشوي و الطّبل و الزّمر إلا عند هذه الأماكن ، مخالفين التحذير النبوي !! ]] .

وبعد أن أنهى الجيش استراحته قريبا من تبوك ، تجهز النبي - صلى الله عليه وسلم - للرحيل إلى تبوك – أرض المعركة – في اليوم التالي ، وقد سمّيت تبوك بهذا الاسم لأنّ فيها عين ماء ضعيفة {{ تبكّ الماءَ بكّاً }} ، ويروي معاذ بن جبل في صحيح مسلم أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم - قال :

(( إنَّكم ستأتونَ غَدًا إنْ شاء اللهُ عَيْنَ تبوكَ فإنَّكم لنْ تأتوها حتَّى يَضْحى النَّهارُ ، فمَن جاءها فلا يمَسَّ مِن مائِها شيئًا حتَّى آتيَ . قال : فجِئْناها وقد سبَق إليها رجُلانِ والعَيْنُ مِثلُ الشِّراكِ تبِضُّ بشيءٍ مِن ماءٍ [[ يعني ضعيفة ]] ، فسأَلهما رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - : هل مسَسْتُما مِن مائِها شيئًا ؟ فقالا : نَعم . فسبَّهما [[ يعني وبّخهما تأديبا لأنه يعلم أنهما منافقَين ]] ،

وقال لهما ما شاء اللهُ أنْ يقولَ . ثمَّ غرَفوا مِن العَيْنِ بأيديهم قليلًا حتَّى اجتَمَع في شيءٍ ، ثمَّ غسَل رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فيه وجهَه ويدَيْه ثمَّ أعادها فيها ، فجرَتِ العَيْنُ بماءٍ كثيرٍ، فاستقى النَّاسُ . ثمَّ قال رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - : يوشِكُ يا معاذُ إنْ طالتْ بك الحياةُ أنْ ترى ما ها هنا قد مُلِئ جِنانًا [[ يعني بساتين نخيل و غيره ]] )) .

وتبوك لم تكن مدينة ، بل كانت منطقة صحراوية قاحلة ، أمّا الآن فقد تحققت نبوءة نبينا – عليه الصلاة و السلام - ، فتبوك أرض بساتين نخيل وارفة وجميلة .
وفي الطريق إلى غزوة تبوك توفّي أحد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه {{ ذو البجادين }} ،

و سُمّي ذو البجادين لأنه كان يريد الإسلام فمنعه قومه ، وضيقوا عليه ، حتى خرج من بينهم وليس عليه إلا بجاد [[ وهو الكساء الغليظ ]] ، فشقه باثنين واتزر بواحدة وارتدى الأخرى ، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – معلنا إسلامه . وقد قال – عليه الصلاة و السلام – في حقّ ذي البجادين : " اللَّهمَّ إنِّي أمسَيتُ عنهُ راضيًا فارضَ عنهُ " .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-15-21, 09:24 AM
هذا الحبيب « 247 »
السيرة النبوية العطرة ((غزوة تبوك ج/3 " انسحاب الروم و تحقّق النّصر" ))
________
وصل المسلمون أخيراً إلى تبوك، فكانت المفاجأة !! إن الجيوش الرومانية العملاقة التي تحكم وتسيطر على نصف العالم القديم تقريبا قد فرّت إلى داخل بلادها عندما علمت بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم – وقد قطع بجيشه الذي يبلغ قرابة الثلاثين ألفا من المقاتلين الأشاوس كل هذه المسافات الطويلة !!! فرّ الروم ، وانسحبوا انسحابا مخزيا بالرغم من تفوقهم الكبير على المسلمين في العدد والعدة والتاريخ والخبرات القتالية وتدريب الجنود . إنه قوله تعالى : {{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا }} ،

وبالتأكيد إنّ الرومان قد قارنوا هذه الوضع بالمواجهة التي كانت في {{مؤتة}} منذ عام واحد ، وكيف كان التفوق لصالح المسلمين، حيث أوقعوا في الروم عددا كبيرا من القتلى مع أنّ عدد جيش المسلمين في مؤتة لم يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل ، بينما عدد الروم وصل إلى مئتي ألف مع القبائل المتحالفة !!

إذن فرّ الرومان فرارا مخزيا ، وتركوا القبائل المحالفة لهم مثل قبيلتي {{ لخم وجذام }} دون أدنى حماية ، لكنّ النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يعتد على أية قبيلة ، ولم يقتل طفلا أو امرأة أو رجلا ، فالكل أصبح آمنا في وجود الجيش الإسلامي ، [[ هذا هو دين التسامح ، وزمن الصحابة و العِزّة الإسلامية ، وللأسف الآن نعيش مرحلة الوحشيّة في الحروب – فنرى قتل الأطفال و النساء والشيوخ ، والتّمثيل بجثثهم على مرآى من كل كاميرات العالم - وندّعي الحضارة و التقدّم !! ]] .

ثمّ أخذ - صلى الله عليه وسلم - يبث العيون حتى يتأكد أنه لا يوجد للعدو خطة انسحاب ثم عودة ، فلما اطمئن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يوجد لهم تجمع ، وأنه قد دخل قلوبهم الرعب ، قال - صلى الله عليه وسلم - : {{ نصرت بالرعب مسيرة شهر}} [[ يعني قبل أن أصل للعدو مسيرة شهر، ويعلم العدو خروج الجيش الإسلامي ، فيقذف الله الرعب في قلوبهم من النبي قبل شهر ]] .

ثم أراد الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن يوجه رسالة للروم وحلفائها من العرب ، [[ فالعرب قديماً كحالهم تماماً مثل هذه الأيام دويلات وموالاة للغرب ]] ، فكان من هؤلاء الشّرذمة الموالين للرومان ملك عربي يسمى {{ أكيدر بن عبدالملك }} ، قد نصّبه سيّده هرقل ملكا على {{ دومة الجندل }} ، أضخم المناطق العربية في شمال الجزيرة ، قريبة من تبوك ، وتدين بالنصرانية ، [[ حتى إذا ما خالف أمر هرقل أي شرذمة من العرب ، يسلطهم على بعضهم البعض ،

ويبقى الروم متفرجين !! وما أشبه اليوم بالأمس !! ]] ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوجه للروم وحلفائها من العرب رسالة من خلال تأديب أحد ملوكها ؛ وهو (( أكيدر الكندي )) ، فأرسل – عليه الصلاة و السلام - سرية قوامها {{420}} مقاتلا بقيادة (( خالد بن الوليد )) رضي الله عنه .


وجاء في بعض كتب السيرة أنّ أكيدر سمع بخيلٍ لرسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – تريده ، فانطَلَق إلى النبي – عليه الصلاة و السلام - فقال : يا رسولَ اللهِ ، بلَغني أنَّ خَيلَكَ انطلَقَتْ ، وإني خِفتُ على أرضي ، ومالي ، فاكتُبْ لي كتابًا لا يتعرَّض لشيءٍ هو لي ، فإني مُقِرٌّ بالذي عليَّ منَ الحقِّ ، فكتَب له رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – كتابا بالأمان ، ثم إنَّ أُكَيدِرَ أخرَج قباءً من حرير منسوجًا بالذهبِ [[ ما يسمّى المعطف أو الجاكيت ]] ،

فقال النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - : ارجِعْ بقبائِكَ ، فإنه ليس أحدٌ يَلبَسُ هذا في الدنيا إلا حُرِمه في الآخرةِ ، فرجَع به الرجلُ ، حتى إذا أتى منزِلَه ، وجَد في نفسِه أن تُرَدَّ عليه هديتُه [[ يعني حزن ]] ،

فرجَع إلى رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -، فقال : يا رسولَ اللهِ ، إنا أهلُ بيتٍ شَقَّ علينا أن تُرَدَّ هديتُنا ، فاقبَلْ مني هديَّتي ، فقال له : انطَلِقْ فادفَعْه إلى عُمرَ ، وقد كان عُمرُ سمِع ما قال رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فقال : أحدَث فيَّ أمرٌ ؟! قلتَ في هذا القباءِ ما سمِعتُ ، ثم بعَثتَ به إليَّ ؟ [[ قصده حُرمة لبسه ]] ، فضحِك رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - حتى وضَع يدَه على فيه ، ثم قال : ما بعَثتُ إليكَ لتَلبَسَه ، ولكن تَبيعَه فتَستَعينَ بثمَنِه .

ويُروى أيضا أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استنكر تعجب الصحابة من ديباج الأكيدر فقال :" لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" ، [[ المناديل نسميها محارم اليوم ، يعني المناديل التي يقدمها خدم الجنة لسعد بن معاذ يمسح بها يديه أحسن من هذا !! فما بالكم بالباقي !! اللهم إنا نسألك رفقتك مع أصحابك في جنات النعيم ]]


وفي رواية أخرى عن سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخالد : إنك ستجده يصيد البقر ،


وتأتيني به ، فخرج خالد حتى إذا كان من حصن أكيدر بمنظر العين ، وفي ليلة مقمرة صافية و أكيدر على سطح له ومعه امرأته ، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر ، فقالت له امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا والله ، قالت : فمن يترك هذه ؟ قال : لا أحد ، فنزل فأمر بفرسه فأسرج له ، وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان ، فركب وخرجوا معه بمطاردهم ،

فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بقيادة خالد بن الوليد ، فأسِر أكيدر وقُتل أخوه حسان في المواجهة ، وفتح خالد قصر دومة الجندل ، وغنم ما غنم ، ثم قدم بأكيدر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد أُكَيْدر للنبي – كما يفعل للملوك - فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم- بيده: «لا، لا» ، وصالحه على الجزية، وحقن دمه، وخلَّى سبيله بعد أن كتب له كتاب أمان ، وقد أهدى أكيدر ديباجا حريريا منسوجا من الذهب للنبي – صلى الله عليه وسلم - ، فأعطاه النبي لعمر بن الخطاب ليبيعه و يستفيد من ثمنه .


ولما سمع ملوك وأمراء الشام بما حدث مع الملك أكيدر ، أتى ملوك وأمراء مدن الشام الذين يجاورون الجزيرة العربية، والموالين للإمبراطورية الرومانية لمصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجزية، بعد أن أدركوا أن أسيادهم القدماء قد ولّت أيامهم ، وكان من الذين جاؤوا،{{ يوحنّا بن رؤبة }} وهو صاحب مدينة {{ أيلة }} ، وهي منطقة العقبة الآن من جهة فلسطين التي يحتلها اليوم إخوة القردة والخنازير، وكذلك جاء أهل {{ جرباء }} وأهل {{ أذرح }} ، وهكذا أحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - سيطرته على كامل شمال الجزيرة العربية ، وأصبحت حدود الدولة الإسلامية ملامسة لحدود الإمبراطورية الرومانية ، وفقدت الإمبراطورية الرومانية حلفائها في شمال الجزيرة العربية ، ومهد هذا للفتوحات الإسلامية في بلاد الشام .

رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك في مضان من السنة التاسعة للهجرة ، وعند طريق العودة لنا أيضا مواقف ،فكما قلنا الطريق من تبوك للمدينة ،أرض صحراء وحرارة الشمس شديدة ، فأصابهم العطش والتعب والهوان [[ فلا طعام ولا ماء ، و رمال الصحراء تعسف بهم ]] ، وأخذ المنافقون يستغلون هذه الظروف ، ويسخرون من هذا الجيش ، ومن الصحابة الذين أنفقوا أموالهم لهذه الغزوة يقولون لهم : أنفقتم أموالكم ، فلا أنتم قاتلتم ، ولا أنتم غنمتم ؟؟
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكشف النقاب عن المنافق لأسباب أهمها : رجاء أن يحسن إسلامه ، فالله يقول :

{{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }} ،كذلك من أجل أن لا يؤذي أقاربهم من الصحابة من ذوي الإيمان ؛ حتى لا يخرجوا من صفوف المسلمين علانية وينضموا إلى العدو فيكثر الأعداء .

وفي غزوة تبوك تدخّل القرآن مباشرة ، وفضح هؤلاء المنافقين بما قاموا به ، وبما سيقع منهم ، وكانت أغلب آيات سورة التوبة تتحدث عنهم ، وتصف أفعالهم ونواياهم الخبيثة ، و أنا أدعوكم إلى قراءتها و التّمعّن في آياتها ، ومن هذه الآيات :
{{ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }} .ومنها أيضا :

{{ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }} .
يتبع ....

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-17-21, 08:02 AM
هذا الحبيب « 248 »
السيرة النبوية العطرة (( المُخلَّفون عن غزوة تبوك / ))
________

لا زلنا مع قصة الثلاثة الذين خُلّفوا {{ كعب وهلال ومرارة }} - رضي الله عنهم – ونتابع كلام ( كعب ) الذي ورد في صحيح البخاري :

ثُمَّ قال كعب لمن حوله : هلْ لَقِيَ هذا مَعِي أحَدٌ؟ [[ يعني هل هناك أحد من الصحابة لقي من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك السخط لتخلفهم عنه ؟؟ ]] قالوا: نَعَمْ، رَجُلَانِ، قَالَا مِثْلَ ما قُلْتَ، فقِيلَ لهما مِثْلُ ما قيلَ لَكَ، فَقُلتُ: مَن هُمَا؟ قالوا: " مُرَارَةُ بنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ، وهِلَالُ بنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ " ، فَذَكَرُوا لي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قدْ شَهِدَا بَدْرًا، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي، [[ يعني هانت عليه مصيبتو يوم شاف ناس عملوا مثله ، وصار عليهم نفس الكلام ]] ،

ثمّ يتابع كعب قائلا : ونَهَى رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - المُسْلِمِينَ عن كَلَامِنَا نحن الثَّلَاثَةُ مِن بَيْنِ مَن تَخَلَّفَ عنْه،(( هنا بدأت مرحلة الابتلاء الثانية وهي مقاطعة الناس لهم )) ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتَغَيَّرُوا لَنَا حتَّى تَنَكَّرَتْ في نَفْسِي الأرْضُ ، فَما هي الَّتي أعْرِفُ،

فَلَبِثْنَا علَى ذلكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فأمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وقَعَدَا في بُيُوتِهِما يَبْكِيَانِ، وأَمَّا أنَا، فَكُنْتُ أَجْلَدَ منهما ؛ فَكُنْتُ أخْرُجُ فأشْهَدُ الصَّلَاةَ مع المُسْلِمِينَ، وأَطُوفُ في الأسْوَاقِ ولَا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ، وآتي رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فَأُسَلِّمُ عليه وهو في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فأقُولُ في نَفْسِي: هلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ برَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أمْ لَا ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا منه، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، وكنت إذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي .

حتَّى إذَا طَالَ عَلَيَّ ذلكَ مِن جَفْوَةِ النَّاسِ، مَشيتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبِي قَتَادَةَ، وهو ابنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عليه، فَوَاللَّهِ ما رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلتُ: يا أبَا قَتَادَةَ، أنْشُدُكَ باللَّهِ هلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ له فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ له فَنَشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وتَوَلَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ .

[[ يعني حتى ابن عمّه قاطعه امتثالا لأوامر النبي – عليه الصلاة و السلام - ]] ، قَالَ: فَبيْنَا أنَا أمْشِي بسُوقِ المَدِينَةِ، إذَا نَبَطِيٌّ مِن أنْبَاطِ أهْلِ الشَّأْمِ، مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بالمَدِينَةِ، يقولُ: مَن يَدُلُّ علَى كَعْبِ بنِ مَالِكٍ ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ له، حتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا مِن مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أمَّا بَعْدُ، فإنَّه قدْ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قدْ جَفَاكَ ولَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ، ولَا مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بنَا نُوَاسِكَ،[[ يعني رحّب به لاجئا عنده ليبعده عن دين محمد ويحاول شق صفوف المسلمين ]]، فَقُلتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وهذا أيضًا مِنَ البَلَاءِ،

[[ يعني هذا هو الابتلاء الثالث ]] ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بهَا، [[ يعني أحرقها في النار ورفض عرض ملك غسّان ،وهذا يدل على قوّة إيمان كعب ]] .

حتَّى إذَا مَضَتْ أرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ، إذَا رَسولُ رَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - يَأْتِينِي، فَقَالَ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - يَأْمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلتُ: أُطَلِّقُهَا؟ أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا ولَا تَقْرَبْهَا. وأَرْسَلَ إلى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذلكَ، [[ يعني إلى هلال ومرارة ]] ، فَقُلتُ لِامْرَأَتِي: الحَقِي بأَهْلِكِ، فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ، حتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ في هذا الأمْرِ . قَالَ كَعْبٌ:

فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ: إنَّ هِلَالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضَائِعٌ، ليسَ له خَادِمٌ، فَهلْ تَكْرَهُ أنْ أخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا، ولَكِنْ لا يَقْرَبْكِ. قَالَتْ: إنَّه واللَّهِ ما به حَرَكَةٌ إلى شيءٍ، واللَّهِ ما زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كانَ مِن أمْرِهِ، ما كانَ إلى يَومِهِ هذا .

ويتابع كعب كلامه : فَقَالَ لي بَعْضُ أهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - في امْرَأَتِكَ كما أذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ أنْ تَخْدُمَهُ؟ فَقُلتُ: واللَّهِ لا أسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ، وما يُدْرِينِي ما يقولُ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -

إذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟! فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذلكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِن حِينَ نَهَى رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - عن كَلَامِنَا (( يعني مقاطعتنا )) .
فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وأَنَا علَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِن بُيُوتِنَا، فَبيْنَا أنَا جَالِسٌ علَى الحَالِ الَّتي ذَكَرَ اللَّهُ، قدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بما رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ علَى جَبَلِ سَلْعٍ بأَعْلَى صَوْتِهِ: يا كَعْبُ بنَ مَالِكٍ ؛أبْشِرْ، قَالَ : فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وعَرَفْتُ أنْ قدْ جَاءَ فَرَجٌ، وآذَنَ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - بتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ،

[[ يعني إلى هلال ومرارة ]] ، فَلَمَّا جَاءَنِي الذي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نَزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إيَّاهُمَا، ببُشْرَاهُ واللَّهِ ما أمْلِكُ غَيْرَهُما يَومَئذٍ، واسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وانْطَلَقْتُ إلى رَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي بالتَّوْبَةِ، يقولونَ:

لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبٌ: حتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صَافَحَنِي وهَنَّانِي، واللَّهِ ما قَامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، ولَا أنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ علَى رَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – قَالَ لي وهو يَبْرُقُ وجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: أبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ، قَالَ: قُلتُ: أمِنْ عِندِكَ يا رَسولَ اللَّهِ، أمْ مِن عِندِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِن عِندِ اللَّهِ.

فَلَمَّا جَلَسْتُ بيْنَ يَدَيْهِ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أنْخَلِعَ مِن مَالِي صَدَقَةً إلى اللَّهِ وإلَى رَسولِ اللَّهِ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -: أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهو خَيْرٌ لَكَ. قُلتُ: فإنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذي بخَيْبَرَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ إنَّما نَجَّانِي بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبَتي أنْ لا أُحَدِّثَ إلَّا صِدْقًا، ما بَقِيتُ. ،

فَوَاللَّهِ ما تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلكَ لِرَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - إلى يَومِي هذا كَذِبًا، وإنِّي لَأَرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيما بَقِيتُ، ووَاللَّهِ ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِن نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، أعْظَمَ في نَفْسِي مِن صِدْقِي لِرَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - أنْ لا أكُونَ كَذَبْتُهُ، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا. [[ فكان يُعرف كعب بأنه الصادق والصديق ، اللهم اجعلنا من الصادقين ، فالصدق في أقوالنا أقوى لنا ، والكذب في أفعالنا أفعى لنا ]] .

ويُنهي كعب كلامه قائلا : وكُنَّا تَخَلَّفْنَا الثَّلَاثَة [[ كعب وهلال و مرارة ]] عن أمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ منهمْ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - حِينَ حَلَفُوا له، فَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لهمْ، وأَرْجَأَ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - أمْرَنَا حتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذلكَ قَالَ اللَّهُ:

{{ لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }} . وليسَ الذي ذَكَرَ اللَّهُ ممَّا خُلِّفْنَا عَنِ الغَزْوِ، إنَّما هو تَخْلِيفُهُ إيَّانَا، وإرْجَاؤُهُ أمْرَنَا، عَمَّنْ حَلَفَ له واعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ منه.


وهُنا ملاحظتان هامّتان جدا:
1- {{ لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ }} ، فمن أي شيء يتوب الله على النبي والمهاجرين والأنصار؟؟ فليس لهم ذنب في من تخلّفوا !! هُنا نقول : إنّ التوبة رمز رفعة و تكريم ، وليس من ذنب اقترفوه – حاشاهم - فالتوبة لها عند الله مكانة ورتبة رفيعة ، وبما أنها منزلة عظيمة عند الله فبدأ بها لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لأنه أولى خلق الله بهذه المنزلة .


2- انتهبوا بفهم للآية ، قال تعالى الذين {{ خُلّفُوا }} ولم يقل الذين {{ تخَلفوا }} ، ليس خُلّفوا معناها أنهم تخلّفوا عن رسول الله في الخروج للغزوة !! هذا القول ليس هو المقصود أبدا في الآية، وهذا خطأ شائع ، فمعنى " خُلّفوا " في الآية أي تأجل الحكم عليهم ، حتى يحكم الله فيهم من بين الذين تخلفوا جميعاً وحضروا بين يدي النبي – عليه الصلاة و السلام – لبيان الأعذار و الحلف عليها؛ وهذا ما يقوله كعب في كلامه، فالمنافقون عرفهم النبي – عليه الصلاة و السلام – وانتهى أمرهم في نفس الجلسة، بينما [[ كعب وهلال ومرارة ]] مؤمنون صادقون خُلفَّ أمرهم وتأجل حتى يحكم الله فيهم .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-17-21, 08:04 AM
هذا الحبيب « 249»
السيرة النبوية العطرة (( نتائج ودروس مستفادة من غزوة تبوك ))
________
إنّ حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم، وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين وخونة يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون: {{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوهِهِمْ وَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ }} . والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك ، وصدق فيهم قول الشّاعر :

كل العدا قد جنـدوا طاقاتهـم * ضـد الـهدى والنور ضـد الرفعة
إسـلامنا هو درعنـا وسلاحنا * ومنـارنا عبـر الدجى في الظلمـة


ويوم يُقلّب المرء صفحات الماضي المجيد لأمتنا الإسلامية ،ويتدبر القرآن الكريم، وما فيه من بطولات و أمجاد لنا، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي، يشعر بالحسرة و الألم لأنّ الفرق عظيم ؛ يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة قد أصبحت الآن تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها !! فعودًا والعود أحمد، عودًا سريعًا إلى الماضي المجيد،

عودًا لسيرة من لم يُطلق العالم دعوة كدعوته، ولم يؤرّخ التاريخ عن مُصلح أعظم منه، ومن لم تسمع أذن عن داعية أكرم و أرحم منه – صلوات الله وسلامه عليه - ، لذلك نعود معكم للنتائج و الدروس و العِبر من غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذل فيها الكافرون، وعزَّ فيها الصادقون .

لقد كان من أهم نتائج غزوة تبوك إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا - مسلمهم وكافرهم على السواء - لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تُغلب، وهم القوّة التي لا تُقهر!! فكان لا بد من هذا النفير العام لإزاحة هذا الخوف نهائيا من نفوس العرب .

كذلك كان من نتائج هذه الغزوة إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة ، قادرة على تحدي القوى العظمى عالميًا – حينذاك - ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع شخصيّة، وإنما بدافع نشر الدين ؛ وتحرير الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا، فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال ؛ فقد أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية، وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمُت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (على خليج العقبة)، وكتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بينه وبينهم كتابا يحدد ما لهم وما عليهم .


أيضا أصبحت القبائل العربية الشامية الأخرى التي لم تخضع للسيطرة الإسلامية في تبوك تتعرض بشدة للتأثير الإسلامي، وبدأ الكثير من هذه القبائل يراجع موقفه ، ويقارن بين جدوى الاستمرار في الولاء للدولة الرومانية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، ويُعد ما حدث في غزوة تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام، والتي واصلها خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده، ومما يؤكد هذا أن الرسول قبل موته جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة ليكون رأس حربة موجهة صوب الروم، وطليعة لجيش الفتح، ضم هذا الجيش جُلَّ صحابة رسول الله، ولكنه لم يقم بمهمته إلا بعد وفاته.

ويُعتبر توحيد الجزيرة العربية تحت حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أقوى نتائج غزوة تبوك ؛ حيث تأثر موقف القبائل العربية من الرسول والدعوة الإسلامية بمؤثرات متداخلة كفتح مكة، وخيبر، وغزوة تبوك، فبادر كل قوم بإسلامهم بعد أن امتد سلطان المسلمين إلى خطوط التماس مع الروم ثم مصالحة نجران في الأطراف الجنوبية ، فلم يعد أمام القبائل العربية إلا المبادرة الشاملة إلى اعتناق الإسلام والالتحاق بركب النبوة بالسمع والطاعة؛

ونظرا لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة النبي – عليه الصلاة و السلام - من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها، فقد سمي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية [[عام الوفود ]] .

أمّا بالنسبة للدروس و العِبر من غزوة تبوك ؛ فأوّل الدروس أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، حتى إذا ما تركت الجهاد ضُربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي جهادًا في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم .

و ثاني هذه الدّروس أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه دولة الروم الكافرة صاحبة القوة المادية فتهزمها وتنتصر عليها: {{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ }} فمواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة، ثم يكفي المؤمنين أن يُعِدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ، ثم يتقوا الله ويتعلقوا به ويصبروا، وعندها يُنصرون، فها هو عبد الله بن رواحة في مؤتة يقول : " والله مانقاتل الناس بعدد ولا عدة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ".


وثالث هذه الدروس أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء: {{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـاعُونَ لَهُمْ }}، فيجب الحذر منهم ؛ فهُم كُثر في زماننا .

ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة: أنّ تمكُّن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعتاد، وهذا ما رأيناه من الصحابة الذين صبروا و تحملوا العطش و الجوع و المسير في الحر لنصرة هذا الدّين ، وقضى الله أن الأمة متى ما حادت عن عقيدتها وتعلَّقت بغيرها، إلا تقلَّبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها .
هذه تبوك غزوة العسرة، وهذه بعض دروسها، فاعتبروا بها - عباد الله - وتدبروها.

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-18-21, 07:23 AM
هذا الحبيب « 250»
السيرة النبوية العطرة (( حَجّة أبي بكر- رضي الله عنه - بالمسلمين ونزول الآيات أوّل سورة التوبة ))
________
في العام التاسع من الهجرة النبوية بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {{ أبا بكر}} - رضي الله عنه - أميراً على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك، ولم يخرج معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج أبو بكر من المدينة المنورة مولّيا وجهه شطر المسجد الحرام مع مئات من المسلمين، ونزل الوحي ببدايات سورة براءة (التوبة) بعد انصرافهم من المدينة ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم -{{ علي بن أبي طالب }} - رضي الله عنه - وأرضاه ليقرأ تلك الآيات على الناس يوم الحج الأكبر (( يوم النحر بمنى ))

[[ لأن الحجيج لا يجتمعون كلهم إلا في منى بعد عرفة ، ويعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قريشا لا تقف في عرفة ، فإذا كان يوم النحر يستأذن {{ علي }} من أمير الحج - أبي بكر - ويقرأ على الناس ]] ، وقال له – عليه الصلاة و السلام - : (( اخرُجْ بهذه القصَّة مِنْ صَدْرِ بَراءَة وَأَذِّنْ في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بِمِنىً : أنه لا يدخل الجنَةَ كافر، ولا يَحُجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريانٌ، ومَنْ كان له عند رسول الله عهدٌ فهو إلى مُدَّته )) .

والحج إلى بيت الله الحرام مما ورثه العرب عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهو من بقايا الحنيفية التي ما زالوا محافظين عليها، إلا أن كثيراً من أدران الجاهلية وأباطيل الشرك قد تسلل إليه، حتى أصبح مظهراً من مظاهر الشرك أكثر من أن يكون عبادة قائمة على عقيدة التوحيد، ولم يذهب النبي - صلى الله عليه وسلم – إلى الحج لأسباب كثيرة منها :

إنّ المشركين يرفعون أصواتهم بمعتقداتهم وأقوالهم الشركيّة في الحج ؛ فهم يعارضون بتلبيتهم تلبية المسلمين، فإن قال المسلمون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، قال المشركون: إلا شريكاً هو لك، كما أنّ المشركين يطوفون بالبيت عرايا ، معتقدين بذلك أن الله لا يقبل طوافهم بثياب عصوا الله فيها !! ، ولا يقفون بعرفة ؛

بل عند المشعر الحرام !! وفي نفس الوقت ليس هناك ما يمنعهم من حج بيت الله لما كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من عهد ، وقيل في بعض كتب السيرة إن سبب عدم خروج النبي للحج في السنة التاسعة هو انشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - باستقبال الوفود التي تأتي للمدينة لتعلّم الإسلام والقرآن ومبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولذا كان من الحكمة أن لا يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الحجة حتى لا يشارك غير المسلمين عاداتهم و تقاليدهم، لذلك استعمل عَلَىَ هذا الحج أبا بكر الصديق - رضي الله عنه – ولم يأمره بتغيير شيء في الحج من عادات الناس إلى أن يأمر الله له بذلك .

إذن خرج عَلِيٌّ – رضي الله عنه - يَمْتطي ناقة رسول الله حتى أدرك أبا بكرٍ بالطريق، فلما رآه أبو بكر، سأله: أَأَميرٌ أَمْ مأمور؟ قال: بل مأمورٌ، ثم مَضَيَا . وعن زيد قال: سألْنا علياً: بأيّ شيء بُعِثْتَ في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدّته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر . وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب بعد هذا العام .


وقد بلّغ علي - رضي الله عنه - للناس ذلك مرة ومرتين ، وأمر أبو بكر- رضي الله عنه - رجالا من الصحابة لهم صوت جهوري يبلغون عن لسان علي حتى تصل الرسالة و الشروط الأربعة للقاصي والداني . وكُلف أمير مكة أن ينفذ هذه الأحكام بعد موسم الحج ، وبذلك أصبحت مكة مهيّأة لاستقبال رسولنا الكريم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في العام القادم حاجاًّ .


وكانت حجّة أبي بكر بالمسلمين هي أول حجة في الإسلام من مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها {{عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية }} من مكة سنة ثمان أيام فتح مكة، وكان عتاب قد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل مكة، ثم أَمَّرَ أبا بكر سنة تسع للحج بالمسلمين وذلك بعد رجوعه من غزوة تبوك، وَلَمْ يُؤَمِّرِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غير أبي بكر على مثل هذه الولاية، ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر، وكَان عَلِيٌّ مِنْ رَعِيَّة أبي بكر في هذه الحجّة ؛ فإنه لحقه فقال له (أبو بكر): أَأَميرٌ أَمْ مأمور؟

فقال عليّ : بل مأمور، وكان عليّ يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، وَنَادَى عَلِيٌّ مع الناس في هذه الْحِجَّةِ بِأَمْرِ أبي بكر ، [[ وكل هذا دليل قاطع على كل من ادّعى زورا و بهتانا أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عزل أبا بكر و عيّن مكانه عليّا – رضي الله عنهما ]].

وقد يسأل أحدهم قائلا : لماذا أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا بن أبي طالب ليكون هو المبلغ للآيات بداية سورة التوبة ؟ لماذا لم يقم أبو بكر – أمير المسلمين في الحج – بهذه المهمّة ؟

السبب الرئيس هو ما يسمى {{ العرف والعادة }} ، وما دامت هذه العادات والتقاليد لا تناقض {{ نصاً شرعياً }} فقد أقرها الإسلام ، وفي عادة العرب : لا ينوب عن العرب في الأمور العامة ؛ كالاتفاق على صلح أو أخذ دية أو مطالبة بدم إلا من كان من عصبته من {{ أولي الخمس }} ، والخمس في لغة العشائر هو الجد الخامس ، فالذي عليه دفع الدية عند العرب كان يقبض خنجره على أصابعه الخمس ، ويقول : أنا فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان ، فيسقط خنجره من يده بعد الإصبع الخامس ، فيقولون له : لا دفع عليك في الدم بعد الجد الخامس ، وعلي بن أبي طالب يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجد الأول [[ عبد المطلب شيبة الحمد ]] ، وأما أبو بكر فلا يلتقي بالنبي من الجد الخامس ؛ فهناك خوف أن لا تقبل قريش بكلام أبي بكر والله أعلم .


لقد كانت حجة أبي بكر- رضي الله عنه - إعلاناً على أن عهد الشرك قدْ تولى وانتهى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يُسلموا، ويستجيبوا لنداء التوحيد، ومن ثم فبعد هذا الإعلان الواضح والقوي الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة العربية، أيقنت القبائل العربية أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى بالفعل ، فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد،

ثم كانت حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام الذي بعده ـ العام العاشر ـ ومعه أكثر من مائة ألف من المسلمين، والتي عُرِفت ب [[ حجة الوداع ]] لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج غيرها، فقد ودَّع الناس فيها ولم يحج بعدها ، وعُرِفت كذلك بحجة الإسلام و حجة البلاغ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلّغ الناس شرع الله في الحج قولا وعملا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه صلوات الله وسلامه عليه .

قال تعالى : {{ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ * }} .
وقال أيضا :

{{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * }} .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-19-21, 07:44 AM
هذا الحبيب « 251»
السيرة النبوية العطرة (( أحداث وقعت في العام التاسع من الهجرة ))
________

(( وفاة [ النجاشي ] )) ملك الحبشة :
تحدثنا في أجزاء العهد المكي كيف وقف النجاشي إلى جانب المسلمين الذين هاجروا إليه بعد اشتداد العذاب الذي لَقِيَه المسلمون من المشركين في قريش، حيث أمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم- أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ،ولقوا ما لقوا من الكرم والأمن والأمان وحفاوة الاستقبال في تلك البلاد من ملكها النجاشي إلى أن عادوا إلى ديارهم. وقلنا إنَّ النجاشي هو لقب ملك الحبشة ، أمّا اسمه فهو [[ أصحمة بن أبجر ]] .

و كان النجاشي قد أسلم لكنّه كتم إسلامه عن قومه ، وهو الشخص الوحيد الذي صلَّى عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلاة الغائب بعد موته، وهذا ما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه – قال : " إنَّ النبيَّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ - قال لأصحابِه : اخرجوا فصلُّوا على أخٍ لكم قد ماتَ، قال: فصلَّى بنا فكبَّر أربعَ تكبيراتٍ، ثمَّ قال : هذا أصحَمَةُ النجاشيُّ " .

(( وفاة [ أم كلثوم ] بنت النبي - صلى الله عليه وسلم – رضي الله عنها )) :
هي أم كلثوم بنت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأمها خديجة بنت خويلد، تزوجها عتيبة بن أبي لهب قبل البعثة، فلما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وقف في وجهه عمّه أبو لهب و زوجته ، فأنزل الله {{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وتب . . . }}

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي قد زوج ابنته رقية لعتبة ، وزوّج أم كلثوم لعتيبة ؛ فجاء أبو لهب و زوجته أم جميل وحرّضا ابنيهما فطلّقا بنتي النبي وكان ذلك قبل الدخول . وكان عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قد تزوّج من رقية أخت أم كلثوم ، ولما توفيت رقية زوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان، لذلك يسمّى عثمان (( ذو النّورين )) ؛ لأنه تزوج ابنتي الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبقيت عنده أم كلثوم إلى أن توفّاها الله في السنة التاسعة للهجرة ، ولم تلد له شيئاً .

(( وفاة [عبد الله بن أُبَيّ بن سلول ] رأس المنافقين )) :
في شهر شوال من السنة التاسعة للهجرة ، وبعد غزوة تبوك وارى الترابُ جثمانَ رجلٍ كان من أشدّ الناس خصومةً للإسلام وأهله ، وشخصيّةٍ كانت مصدر قلقٍ ومنبع شرٍّ للمجتمع الإسلامي بأسره ، ذلك هو زعيم النفاق ورافع لوائه {{ عبدالله بن أُبَيّ بن سلول }} .

هذه الشخصية هي صاحبة الامتياز في إخراج ظاهرة النفاق إلى الوجود ، فلم يكن الناس قبل ذلك إلا مؤمناً صادق الإيمان ، أو كافراً مجاهراً بجحوده ، فأضاف ابن سلول طريقاً ثالثاً أخطر من الشرك الصريح وهو (( الكفر الخفي ، أو ما يُسمّى بالنّفاق )) ؛ ليعمل على هدم الإسلام من داخله ، ويقضي على تلاحم أبنائه ، وتماسك أفراده .

وجذور النفاق عميقةٌ في نفس ابن سلول ، وكانت البداية قبل هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، يوم كانت المدينة تعيش قتالاً شرساً بين الأوس والخزرج ، فما إن تهدأ ثائرتها قليلاً حتى تعود للاشتعال مرّة أخرى ، وانتهى الصراع على اتفاقٍ بين الفريقين يقضي بنبذ الخلاف وتنصيب ابن سلول حاكماً على المدينة . ولكن ؛

وعندما دخل الإسلام إلى أرض يثرب ، وتوحد الناس حول راية النبي – صلى الله عليه وسلم - ، صارت نظرة ابن سلول لهذا الدين تقوم على أساس أنه قد حرمه من الملك والسلطان ،ومنذ ذلك اليوم نصب ابن سلول العداوة الخفيّة للمسلمين ، مدفوعاً بالحقد والخبث الذي طُبعت عليه نفسه ، فكرّس حياته لهدم دعائم الإسلام ودولته ، وانطلق ينفث سمومه للتفريق بين المسلمين ، وقد تفنّن في صنع الافتراءات واختلاق الفتن .

وهذه إطلالة سريعة على بعض المواقف و المؤامرات التي حاكها ابن سلول خلال سنينه السبع التي قضاها في الإسلام : فيوم أحد انسحب هذا المنافق بثلاثمائة من أصحابه قبيل اللقاء بالعدو ليخذل المسلمين، وبعد انتصار المسلمين على يهود بني قينقاع سارع ابن سلول في الشفاعة لحلفائه كي لا يقتلهم رسول الله - عليه الصلاة والسلام- فجاء إليه وقال : " يا محمد ، أحسن في مواليّ " .

وفي غزوة بني النضير قام عبدالله بن أبي بن سلول بتحريض حلفائه من اليهود على قتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعدم الاستسلام له ، ووعَدهم بالنصرة والمساعدة ، فأعلنوا الحرب ، وانتهى بهم الأمر إلى الجلاء من المدينة .
وفي غزوة بني المصطلق ، استطاع ابن سلول - بدهاء ومكر شديدين - أن يحيك مؤامرة دنيئة للطعن في عرض خير نساء النبي – صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - وظل المسلمون يكتوون بنار هذه الفتنة شهراً كاملاً حتى نزلت الآيات من سورة النور وبرّأت عائشة و كشفت مكر ابن سلول .
ويوم تبوك كان ابن سلول العقل المدبّر لفكرة " مسجد الضرار " ، وهو مسجد أسّسه المنافقون ليكون مقرّهم السرّي الذي تصدر منه الفتن وتصنع فيه المؤامرات لإثارة البلبلة بين المسلمين .

وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي حاول فيها ابن سلول كتمان غيظه وبغضه للنبي – عليه الصلاة و السلام – ومن حوله من المؤمنين ، إلا أنّ [[ فلتات لسانه ]] كانت تفضحه ،كقوله : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ " ، ومع كلّ فتنة كان يثيرها ، ونارٍ كان يشعلها ، كانت الآيات تنزل تباعاً تفضح مسلكه وتبيّن حقيقته هو ومن معه من المنافقين ، كقوله تعالى : {{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }} .

وقد يتساءل البعض عن موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – من ابن سلول ، كيف تحمّله طيلة هذه السنوات ولم يأمر بقتله ؟ والجواب أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – خشي أن يُشاع بين القبائل أن محمدا يقتل أصحابه ، حيث إنّ العرب في أنحاء الجزيرة لم يكونوا يدركون تفاصيل المؤامرات التي تحدث في المدينة ، ولن يتمكّنوا من استيعاب مبرّرات العقوبات التي سيتّخذها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حقّ ذلك المنافق ،

والصورة التي ستصلهم حتماً صورة مشوّهة ، كذلك فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – حريصاً على وحدة الصف الداخلي ، خصوصاً في المراحل الأولى من قدومه إلى المدينة ، في وقتٍ كانت بذرة الإسلام في نفوس الأنصار لا تزال غضّةً طريّة ، فاختار النبي – صلى الله عليه وسلم – أسلوب المداراة والصبر على أذى ابن سلول لتظهر حقيقته من خلال تصرّفاته ومواقفه .

وقد أثمر هذا الأسلوب بالفعل ، حيث وجد ابن سلول العتاب والبغض في كلّ موقفٍ من مواقفه ، وكان ذلك على يد من كانوا يرغبون في تتويجه ملكاً عليهم في السابق ، فنبذه أهله وأقرب الناس إليه ، ولا أدلّ على ذلك من موقف ولده [[عبدالله بن عبدالله بن أبي سلول ]] رضي الله عنه ، والذي كان من خيرة الصحابة ، وقد قال يوماً للنبي – صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، والذي أكرمك ، لئن شئت لأتيتك برأسه ، فقال له نبي الرحمة والإنسانية: لا، ولكن برّ أباك وأحسن صحبته .

وتدور عجلة الأيام ، ويسقط عبد الله بن أبي بن سلول على فراشه وهو يقاسي آلام المرض وشدّة الموت ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يكفّ عن زيارته والسؤال عن حاله بالرغم من عداوته له ، ولعل النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد بذلك أن يتألف قلب هذا المنافق ، لعلّه يلين إلى ذكر الله ، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء ، إضافةً إلى كون ذلك فرصةً فاعلة لدعوة أتباعه وأوليائه . ويروي لنا عمر بن الخطاب في صحيح البخاري قائلا :

(( لَمَّا مَاتَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ، دُعِيَ له رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - لِيُصَلِّيَ عليه، فَلَمَّا قَامَ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - وثَبْتُ إلَيْهِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أتُصَلِّي علَى ابْنِ أُبَيٍّ وقدْ قَالَ يَومَ كَذَا وكَذَا: كَذَا وكَذَا؟ أُعَدِّدُ عليه قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – وقَالَ : أخِّرْ عَنِّي يا عُمَرُ فَلَمَّا أكْثَرْتُ عليه، قَالَ: إنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لو أعْلَمُ أنِّي إنْ زِدْتُ علَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ له لَزِدْتُ عَلَيْهَا . قَالَ: فَصَلَّى عليه رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إلَّا يَسِيرًا، حتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِن بَرَاءَةٌ: {{ ولَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ }} )) .

وبموت عبدالله بن أبي بن سلول انحسرت حركة النفاق بشكل كبير ، وتراجع بعض أفرادها عن ضلالهم ، في حين اختار البعض الآخر البقاء على الكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه ، لا يعرفهم سوى حذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-21-21, 07:20 AM
هذا الحبيب « 252 »
السيرة النبوية العطرة (( إسلام ثقيف ))
________
قلنا إن العام التاسع للهجرة هو [[ عام الوفود ]] حيث شهدت المدينة المنورة حضورا مكثفا للوفود من كل أنحاء الجزيرة العربية ، وقيل في بعض كتب السيرة إنّ هذه الوفود وصلت إلى مئة وفد ، وقد بدأت هذه الوفود في القدوم إلى المدينة بعد فتح مكة وحرب هوازن في السنة الثامنة للهجرة،

ثم ازدادت كثافة بعد غزوة {{ تبوك }} في السنة التاسعة للهجرة بعد أن شاهدت القبائل العربية الجيش الرومي العملاق ينسحب انسحابا مخزيا قبل وصول الجيش الإسلامي ، فعلمت هذه القبائل أن لا قِبَل لها بالدولة الإسلامية الناشئة ، فجاءت إلى المدينة لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعض هذه القبائل جاء إلى المدينة مقتنعا بالإسلام ، والبعض جاء خوفا على مصالحه التي قد تزول أمام قوة الدولة الإسلامية .

وكان أول هذه الوفود قدوماً بعد تبوك، وأهم هذه الوفود من ناحية الأثر هو وفد {{ ثقيف }} ؛ فمن هي ثقيف ؟ وما قصة إسلامهم ؟

ثقيف هي أكبر بطون قبيلة {{ هوازن }} وقد قلنا إن هوازن واحدة من أكبر قبائل الجزيرة العربية، تضم عددا كبيرا من البطون ، وكانت ثقيف شبه مستقلة عن هوازن ، وتسكن مدينة الطائف على بعد حوالى {{ ١٠٠ كم }} جنوب شرق مكة، والطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة .

وذكرنا في بداية السيرة رحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى {{ الطائف }} في السنة العاشرة من البعثة ، حيث جلس مع ثلاثة من زعماء الطائف على رأسهم ابن عبد ياليل ، ولكنهم رفضوا الإسلام ، ووبّخوه ، ليس هذا فحسب بل أرسلوا خلفه - صلى الله عليه وسلم - أولادهم وسفهاءهم وأخذوا يسبونه ويقذفونه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين - صلى الله عليه وسلم - .


وذكرنا كذلك بعد فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة كيف تجمعت كل قبائل هوازن لأول مرة في تاريخها في جيش ضخم لحرب المسلمين في {{ غزوة حنين }} ، وكيف انسحبت هوازن إلى مدينة الطائف تاركة كل ما تملك غنيمة للمسلمين ،وكيف قام المسلمون بحصار الطائف شهرا كاملا، ولم ينجحوا في اقتحام الطائف ، ولكن ؛ وبعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - {{عروة بن مسعود الثقفي }} وهو أكبر زعماء الطائف، وأسلم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم عاد عروة إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام، ولكنهم رفضوا الإسلام وسبوه وأغلظوا له القول ، وقتلوه !!

وبالرغم من أن ثقيفا قد قتلت عروة بن مسعود ، إلا أنها لاحقا فكّرت في الدخول في الإسلام ،وذلك لأسباب كثيرة أهمها هزيمتهم المدوّية أمام المسلمين في غزوة حنين ، فقد أصبح المسلمون قوة لا تضاهيها قوة ، كذلك فقد أسلمت تقريبا جميع قبائل الجزيرة العربية، حتى بطون هوازن نفسها، ولا تستطيع ثقيف أن تقف أمام كل العرب ،

كذلك إسلام {{ مالك بن عوف }} أضعف شوكتهم ، فقد كان قائد جيش هوازن في غزوة حنين ضد المسلمين ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – قد كلفه بحصار الطائف، فضيّق ذلك عليهم بشدة، وأخذ الوضع الاقتصادي لثقيف بالتردي نتيجة هذا الحصار، وفقدت الطائف مكانتها التجارية ، كل هذه الأسباب جعلت ثقيف تفكر في الإسلام .

ولذلك ، وبعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك من السنة التاسعة من الهجرة جاء إلى المدينة وفد من ثقيف فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبالاً طيباً يليق بنبي كريم ، ولم يُذكّرهم بشيء من ذلك التاريخ الطويل من العداء ،ولكنهم أرادوا الإسلام بشروط معينة، فتحدث زعيمهم {{ كنانة بن عبد ياليل }} وقال: أفرأيت الزنى ؟

فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :هو عليكم حرام ، وتلا :{{ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا }} قال كنانة : أفرأيت الربا ؟ فإنه أموالنا كلها ؟ فقال – عليه الصلاة و السلام - :_لكم رؤوس أموالكم ،

وتلا :{{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }} .فقال كنانة : أفرأيت الخمر؟ فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد حرمها ، وقرأ عليه : {{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }} .

ثم طلبوا طلبا أخيرا وهو أن يتم إعفاؤهم من الصلاة !! فرفض النبي - صلى الله عليه وسلم - طلبهم ؛ فالصلاة هي عمود الدين .

ثم قال كنانة : أرأيت الربة يا محمد، ماذا نصنع فيها ؟ [[ والربة هي صنم اللات وقد ذكرنا أنها كانت من أعظم أصنام العرب، وكان يُقسم بها ويُهدى إليها ويُذبح عندها ]] فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنتهى الحزم وقال: اهدموها . ففزع الوفد وقال كنانة : هيهات ، لو تعلم الربة أنك تريد هدمها ، لقتلت أهلها !! تول أنت هدمها ، فأما نحن ، فإنا لا نهدمها أبدا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها .

وبعد أن أسلموا أمّر عليهم {{عثمان بن أبي العاص}} مع أنه كان أصغرهم سنا ، وهذا يدل على اقتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمكانات الهائلة للشباب[[ واليوم أصبحت إمكانات بعض شبابنا أمام شاشات ماجنة وحفلات خليعة إلا من رحم ربي ]] .

انطلق الوفد عائدا إلى ثقيف ، وما زالوا يحدثونهم عن قوة وعظمة جيش المسلمين إن أصرّت ثقيف على موقفها ، فأسلموا ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بعث سرية لهدم صنم [[ اللات ]] في ثقيف وأمّر عليها القائد الفذ {{ خالد بن الوليد }} - رضي الله عنه - ،

وجعل مع هذه السرية {{ المغيرة بن شعبة }} وهو من ثقيف ، كما أرسل معهم أيضا {{ أبا سفيان بن حرب }} وهذه إشارة هامة إلى أن زعيم الوثنية السابق هو الذي يذهب بنفسه لهدم أشهر أصنام العرب . هذه كانت قصة اسلام قبيلة ثقيف ، ومن حُسن إسلامها أنها لم تكن من ضمن القبائل التي ارتدت عن الإسلام بعد وفاة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-22-21, 06:48 AM
هذا الحبيب « 253»
السيرة النبوية العطرة (( ضمام بن ثعلبة ممثّل وفد بني سعد بن بكر ))
________
من الوفود المباركة التي قدمت المدينة وفد {{ بني سعد بن بكر }} أحد بطون هوازن، وكان هذا الوفد مكونا من رجل واحد فقط وهو {{ ضمام بن ثعلبة }} ، و لم يكن ضمام سيد قومه ، ولكن كان من عقلاء القوم وحكمائهم فوقع الخيار عليه وذلك لثقتهم فيه وفي رأيه ، فكان خير وفد وخير وافد ، وكفى قومه هذه المهمة . بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ثمّ عقله، ثمّ دخل المسجد والنبيُّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - مُتَّكِئٌ بيْنَ أصحابه [[ يعني " مكوّع " بلغة اليوم ]]،

وكلمة " مكوّع " تعبير خاطئ قياسا للمعنى الحقيقي للكلمة في اللغة العربية ؛ فالكوع الذي يعرفه الناس اليوم لا يُسمّى في اللغة بالكوع ، بل هو مرفق بنص القرآن الكريم : {{ . . . وأيديكم إلى المرافق }} ، و نرى إذا أراد الناس أن يذموا شخصا في سوء الفهم قالوا : (( فلان لا يعرف كوعه من بوعه )) أتعرفون أين الكوع ؟؟ الكوع هو العظم الذي يلي أبهام اليد ، والبوع عظم يلي إبهام القدم ، ومعنى المثل : [[ فلان ما بيعرف ايده من رجله ، ويتخبط بقراراته تخبط عشوائي مثل البعض اليوم ]] .

وكان ضمام رجلاً جلدًا أشعر ذا غريرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله: " أنا ابن عبد المطلب". قال: محمد؟ قال: "نعم". [[ ودائما الشخصيات المشهورة تحاول أن تبتعد عن الناس، لأنها تعلم أنها اذا خالطت الناس فسيرون عيوبهم وستسقط الهالة التي حولهم،

أما الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فنتعلم منه التواضع و الألفة ؛ فهو شديد الاختلاط بأصحابه، وكلما خالط أصحابه كلما ازدادوا له حبا، وكلما ازداد هيبة في قلوبهم، وإجلالا في أعينهم ]] فقال ضمام : يا ابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ في المسألة، فلا تجدن في نفسك ،[[ يعني لا تغضب مني وتحزن لقولي ]] . فقال – عليه الصلاة و السلام - : " لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك".

فقالَ ضمام : أسْأَلُكَ برَبِّكَ ورَبِّ مَن قَبْلَكَ، آللَّهُ أرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فقالَ : اللَّهُمَّ نَعَمْ . قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في اليَومِ واللَّيْلَةِ؟ قالَ:

اللَّهُمَّ نَعَمْ . قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ تَأْخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها علَى فُقَرائِنا؟ فقالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - : اللَّهُمَّ نَعَمْ. فقالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بما جِئْتَ به، وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، وأنا ضِمامُ بنُ ثَعْلَبَةَ أخُو بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ. فقال رسول الله حين ولّى ضمام : " إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة " ، أي إن طبّق تعاليم الإسلام هذا الرجل صاحب الخصلتين الملتويتين من الشعر فهو من أهل الجنة ، وهذه بشارة لكل من طبق أركان الإسلام بصدق و طمأنينة اعتقادٍ بالله تعالى .

بعدها أتى ضمام إلى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه ، فكان أوَّل ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى! قالوا: مه يا ضمام، [[ يعني على مهلك لا تستعجل ]] ،

اتَّقِ البرص والجذام ، اتَّقِ الجنون . [[ يعني احذر أن تصاب بهذه الأمراض لأنك تشتم الآلهة ،هكذا كانوا يعتقدون أن من شتم الآلهة ابتلي بالجذام والبرص والجنون ، هم على جاهلية واليوم بعض المسلمين تراهم إذا غضبوا يسبون الذات الإلهية في الطرقات وعلى مسمع الناس !! ]] قال: ويلكم! إنَّهما والله لا يضرَّان ولا ينفعان،

إنَّ الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مَّما كنتم فيه، وإنِّي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا. وهذا درس لنا نتعلم فيه أنّ العبرة ليست في الكثرة ، فشخص واحد غيّر واقع قبيلة لأنه صادق في نيّته ، كذلك نتعلم القوة في قول الحق وأنّ ديننا دعوة إلى الله وليس فقط عبادة .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-25-21, 07:40 AM
هذا الحبيب « 254»
السيرة النبوية العطرة (( وفد بني عامر، و محاولة قتل النبي – صلى الله عليه وسلم - ))
________
اجتمع بنو عامر وقالوا لزعيمهم {{ عامر بن الطفيل }} : يا عامر، ألا ترى العرب تدخل في دين محمد أفواجاً ؟؟ فإنا نخشى أن يظهر أمره على الجزيرة ، فلنأخذ من أمرنا من الآن ،[[ يعني ندبر حالنا و نشوف وضعنا ]] ،

فنرى أن تفد إليه ، واختر من تشاء من الرجال معك ، فاختار رجلا واحدا يقال له {{ أربد بن قيس }} ، فقال عامر لأربد : يا أربد ، إني لا أخشى على نفسي رجلا في قومي غيرك ، [[ يعني كان بينهما منافسة مين يكون زعيم في قومه ]] ،

وإني كنت والله آليت على نفسي حتى تتبع العرب كلها عقبي [[ أي جاهدت نفسي أن أصير ملكا على العرب ، و كلهم تحت أمري !! أرأيتم منطق الشر؟ ]] ، فاليوم أتبع أنا عقب هذا اليتيم من قريش؟!! [[ يعني مش عاجبه أبدا يكون نبينا محمد سيّدا عليه وعلى قومه ]] ،

لذلك رأينا عامر بن الطفيل كثيرا ما يفتخر بنفسه في شعره أنه سيّد قومه بكل تكبّر و اختيال :

إنّي وَإِنْ كنت ابن سيّدِ عامرٍ وفِي السرّ منها والصميم المهذّبِ
فما سوّدتني عامرٌ عن وراثة أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أبِ

ثمّ قال : قم يا أربد معي ، ولنا في الطريق حديث وشأن ؛ فقدِما المدينةَ على رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فانتَهَيا إليه وهو جالسٌ ، فجلَسا بَيْنَ يدَيْهِ - عليه الصلاة و السلام - ، فقال عامرُ بنُ الطُّفَيْلِ : يا مُحمَّدُ ما تجعَلُ لي إنْ أسلَمْتُ ؟ [[ يعني يريد منصبا ]] ،

فقال رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لكَ ما للمُسلِمينَ وعليكَ ما عليهم . قال عامرٌ أتجعَلُ ليَ الأمرَ إنْ أسلَمْتُ مِن بعدِكَ ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لكَ ما للمُسلِمينَ وعليكَ ما عليهم . قال عامرٌ : أتجعَلُ ليَ الأمرَ إنْ أسلَمْتُ مِن بعدِكَ ؟ قال رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ليس ذلكَ لكَ ولا لقومِكَ ، ولكنْ لكَ أعِنَّةُ الخَيلِ . فقال عامر : أنا الآنَ لي أعِنَّةُ الخيلِ تُجَرُّ!! اجعَلْ ليَ الوَبَرَ ولكَ المَدَرَ.

[[ يعني أكون أنا ملكا على البادية و أنت يا محمد تكون ملكا على المدينة ]] . فرفض رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – ذلك .

فلمَّا خرَج أَرْبَدُ وعامرٌ، قال عامرٌ : يا أَرْبَدُ ، إنِّي أشغَلُ عنكَ مُحمَّدًا بالحديثِ فاضرِبْه بالسَّيفِ ؛ فإنَّ النَّاسَ إذا قتَلْتَ مُحمَّدًا لَمْ يَزيدوا على أنْ يرضَوْا بالدِّيَةِ ويكرَهوا الحربَ ، فسنُعطيهم الدِّيَةَ . قال أَرْبَدُ : أفعَلُ .

[[ طبعا عامر بن الطفيل خبيث ، يريد أن يقضي على محمد ، وفي نفس الوقت أصحاب محمد سيقتلون أربد ، فتخلو السيادة له كما يُخطّط لها !! ]] ، قال : فأقبَلا راجِعَيْنِ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . فقال عامرٌ : يا مُحمَّدُ ، قُمْ معي أُكلِّمْكَ . فقام معه رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - مُخلِّقًا إلى الجِدارِ، ووقَف معه يُكلِّمُه ، وسَلَّ أَرْبَدُ السَّيفَ ، فلمَّا وضَع يدَه على السَّيفِ يبِسَتْ على قائمةِ السَّيفِ!! فلَمْ يستطِعْ سَلَّ السَّيفِ ، وأبطَأ أَرْبَدُ على عامرٍ بالضَّربِ ، فالتَفَت رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فرأى عامرًا وما يصنَعُ فانصرَف عنهما .

فلمَّا خرَج عامرٌ وأَرْبَدُ مِن عندِ رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - مضَيَا حتَّى إذا كانا بالرَّقْمِ أرسَل اللهُ على أَرْبَدَ صاعقةً فقتَلَتْه ، وخرَج عامرٌ حتَّى إذا كان بالخُرَيمِ أرسَل اللهُ قُرحةً فأخَذَتْه ،

[[ أصيب بتقرّحات في حلقه ]] فأدرَكه اللَّيلُ في بيتِ امرأةٍ مِن بني سَلُولٍ ، فجعَل يمَسُّ القُرحةَ في حَلقِه ويقولُ : غُدَّةٌ كغُدَّةِ الجمَلِ في بيتِ سَلُوليَّةٍ يرغَبُ أنْ يموتَ في بيتِها !!! [[ لقد بعث الله على عامر بن الطفيل القرحة في عنقه، فقد انتفخت عنقه فأصبحت غدة كغدة البعير]] ، ثمَّ ركِب فرسَه حتَّى مات عليه راجعًا . وقيل في بعض كتب التفسير:

أنزل الله آيات من سورة الرعد في هذه القصة: {{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ من أمر الله}} (( المعقّبات )) : قيل هي ملائكة حفظت النبي – عليه الصلاة و السلام – من غدر بن الطفيل . {{ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء }} قيل إنها في مقتل أربد بن قيس . اللهم اجعل كيد أعداء الإسلام في نحورهم .
__________
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-25-21, 07:43 AM
هذا الحبيب « 255»
السيرة النبوية العطرة (( وفد نصارى نجران ج/1))
________
ما زلنا نتحدث عن الوفود التي جاءت إلى المدينة في السنة التاسعة والسنة العاشرة من الهجرة ،ومن هذه الوفود وفد {{ نصارى نجران }} ، ونجران .. هي بلدة كبيرة جنوب مكة باتجاه اليمن ، وكانت تدين بالنصرانية ، فكان معظم أهلها – وليس الكل - من النصارى ، وكان ولاؤهم للروم ، فكانت ولاية رومانية في اليمن .

وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى الإسلام، فإن رفضوا فيدفعون الجزية ؛ فلما وصلهم الكتاب قرروا أن يرسلوا وفدا رسميا إلى المدينة ، ليس لإعلان الإسلام ؛ ولكن لمجادلة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت عنوان ما يعرف اليوم بالحوار السياسي . وكان عدد هذا الوفد {{ ٦٠ }} رجلا ، وفيهم بضع نساء وصبية ، وكان الوفد برئاسة ثلاثة من رجال الدين تحت أسماء كانوا يقدسونها : العاقب ( هو أميرهم وصاحب الرتبة الأعلى واسمه عبد المسيح ) ، السيّد ، الأسقف .


وقد جاء الوفد في هيئة منظمة، وفي صورة منمقة بشدة لدرجة المبالغة ؛ حيث لبسوا الثياب الحريرية، وتحلوا بالخواتم الذهبية، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم - يحرّم هذه الأمورعلى الرجال، وتوشحوا بالصلبان

[[ أي علقوا في صدورهم الصليب من الذهب ]] ولذلك كره الكلام معهم، وهم بهذه الصورة، وأَجّل الحديث معهم إلى اليوم التالي، حيث جاؤوا يلبسون ثياب الرهبان، ومن ثَمَّ بدأ الكلام معهم . وكانوا يحملون الهدايا للنبي - صلى الله عليه وسلم – فقبل منهم كل شيء إلا ما فيه نقش الصليب [[ أي شي فيه رسم للصليب رده لهم بكل لطف وأدب ، معتذرا منهم ؛ لأنّ هذا لا يتّفق مع سلامة العقيدة الإسلامية ]] .

ولم يكن من همِّ وفد نصارى نجران ولا من نيّته أن يُسلم ، ولا حتّى فكّروا في الإسلام، وإنما أتى الوفد ليناظر الرسول – عليه الصلاة و السلام - ولذلك كان الحوار معهم على صورة تختلف كثيرًا عن الحوار مع الوفود الأخرى. فلما رأى الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جدلهم عقيماً لا يريدون به معرفة الحقيقة

[[ مجرد وفد شكلي غير مقنع مثل ما بنشوف بأيامنا هذه ]] عرض نبينا الكريم الإسلام عليهم ، فرفضوا وقال أميرهم الملقّب بالعاقب: كنا مسلمين قبلكم . [[ يعني ما صار الك يا محمد عشرين سنة مبعوث ، واحنا اتباع المسيح ، ومسلمين قبل ما تنولد ب ٦٠٠ سنة !! ]]

و عبارة [[ كنا مسلمين قبلكم ]] صحيحة لو كانوا فعلاً متبعين لكتبهم الأصلية دون تبديل أو تحريف، حيث قال الله في أهل الكتاب الذين يتبعون الكتاب الصحيح غير المحرف: {{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِين }} .

ولكن يشترط لصدق هذه الكلمة أن يتبعوا كتابهم غير المحرف اتباعًا كاملاً، وفي هذا الكتاب غير المحرف بشارة برسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة و أتمّ التّسليم - وعلامات واضحة لنبوته، وأدلة على صدقه، لذلك فعلماء اليهودية والنصرانية يعرفون الرسول حقّ المعرفة

{{ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ }} ، ويعرفون علاماته، ويوقنون بصدقه، وبوجوب اتباعه، لكن يمنعهم الكبر والمصالح، والدنيا والهوى والحسد، وأشياء كثيرة، ولذلك فهم يخفون هذه الآيات والدلائل مع علمهم بها، ويتبعون كتبهم المحرفة بدلاً من اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - .


لذلك أنكر- عليه الصلاة و السلام - مقولتهم هذه، وذكر لهم أنهم يحرفون دينهم في أمور كثيرة، وهذا التحريف يتنافى مع الإسلام؛ لأن الإسلام معناه أن يُسلم الإنسان نفسه تمامًا لله ، ولتشريعاته وقوانينه، ولا يسلم نفسه لأهوائه الشخصية، أو مصالحه الخاصة. ثمّ قال لهم - صلى الله عليه وسلم - :


"يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإِسْلامِ ثَلاثٌ: عِبَادَتُكُمُ الصَّلِيبَ، وَأَكْلِكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَزَعْمُكُمْ أَنَّ لِلِّهِ وَلَدًا". فهذه أمور ثلاثة حرفتموها في الإنجيل، ولم تسلموا فيها لله رب العالمين، ولا يستقيم أن تطلقوا على أنفسكم مسلمين قبل أن تتركوا هذا الاعتقاد الفاسد، وللأسف فهذا اعتقاد جازم عند معظم النصارى، وهو يمنعهم من التفكير في الإسلام، ولذلك عند نزول المسيح قبل يوم القيامة ، يجعل من مهمته أن يصحح هذه الأمور التي أُلصقت بدينه، ولم تكن فيه، حيث يكسر الصليب.

وقد روى أحمد وابن حبان عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال:
" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلُهُ أَحَدٌ".
ومن الواضح أن هذه الأمور تغلغلت في قلوب كل النصارى، وليس فقط وفد نصارى نجران ،

حتى اعتبروها جزءًا من الدين، لا يمكن التنازل عنه بأي حال من الأحوال، ومن ثَمَّ فإنهم - بسبب هذه الأمور- يرفضون التفكير أصلاً في مبدأ الإسلام، فكانت هذه الأمور كالغشاوة على أعينهم، والتي تحجب الرؤية تمامًا، ومن هنا جاء حرص المسيح على إلغاء هذه الأمور بمجرد نزوله.

إذن وفد نجران لم يكن يريد الإسلام، ولذلك كثر الجدال بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان مما قالوه: ما لك تشتم صاحبنا [[ يقصدون عيسى - عليه السلام - ]] وتقول إنه عبد الله؟ فقال – صلى الله عليه وسلم - :

"أَجَلْ، إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ". وهذا ليس انتقاصًا أبدًا من سيدنا عيسى -عليه السلام - بل العبودية لله تشريف، وهو رسول من أولي العزم من الرسل، وهو كلمه الله ألقاها إلى مريم - عليها السلام - والتي نُكرمها أيضًا ونجلَّها،

وننفي عنها أي شبهة سوء، فنقول: إنها مريم العذراء البتول .لكن النصارى يبالغون في تكريم المسيح حتى خرجوا به عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، فقالوا: هو الله. وقالوا: هو ابن الله. وقالوا: ثالث ثلاثة.

وكلها مبالغات غير مقبولة، وعقيدة فاسدة، دفعهم إليها الحب الزائد، والتقديس الزائد عن الحد المطلوب، لذلك كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حريصًا عند موته على إبراز هذا المعنى، حتى لا يتجاوز المسلمون الحب المفروض له إلى الحب الذي يقود إلى ضلال وكفر، فيخرجون بطبيعة الرسول إلى غيرها، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه:


" لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ". ولكون النصارى في وفد نجران لا يتنازلون عن هذا الاعتقاد، فإنهم غضبوا من وصف عيسى بالبشرية والعبودية، وقالوا: هل رأيت إنسانًا قَطُّ من غير أب، فإن كنت صادقًا فأرنا مثله؟
فأنزل الله جبريل – عليه السلام - بالحجة الدافعة، حيث ضرب لهم مثلاً يوضح حقيقة عيسى – عليه السلام - فقال الله تعالى :

{{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }} . النصارى لا ينكرون أن آدم خُلق من غير أب ولا أم، وهذا في كتبهم، فإن كان الله قادرًا على خلق آدم بدون أب أو أم، فهل يعجز أن يخلق عيسى بأم بلا أب؟! [[ يعني آدم في وجهة نظركم لازم يكون رب في المرتبة الأولى ، وعيسى مرتبة ثانية !! ]] .

كذلك فإنّ الذي لا يقبله العقل أن يكون الإله بشرًا يأكل ويشرب وينام ويخرج ويُصاب بالألم ويجرح، بل - في عرف النصارى- يُقتل ويصلب، ونحنُ المسلمون نؤمن أنه لم يُقتل ولم يُصلب ، بل رفعه الله إليه :

{{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بل رفعه الله إليه . . . }} .

ليس من المعقول أن يكون الإله بهذه الصورة التي يعتريها الضعف البشري، ولكن المعقول والمقبول أن يكون البشر كذلك، وليس هذا تقليلاً لقيمة عيسى - عليه السلام - فهو من أولي العزم من الرسل، ومن أعظم الخلق، وآية الله وكلمته، فَرْضٌ على المسلمين أن يؤمنوا به، وبنبوته، وبعظمته، ونبله. ولكن هذا الكلام المقنع لم يقنع النصارى، أو قل: لم يعجب النصارى، ووصلت المحاورة إلى طريق مسدود.

فلما سمعوا كلام الله أُحبِطوا ، وظلوا يتجادلون بين بعضهم : نُسلم أو لا نُسلم؟!!
يتبع إن شاء الله . . .
__________
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-26-21, 07:22 AM
هذا الحبيب « 256 »
السيرة النبوية العطرة (( وفد نصارى نجران ج/2 ))
________
أخذ وفد نصارى نجران يجادل النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعات طويلة بل عدة أيام ، ثم لجأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى طريقة فريدة لإقامة الحجة عليهم، فطلب منهم أن يقوموا بالمباهلة [[ أي الملاعنة ]] ،

وذلك تنفيذًا لأمر الله الذي نزل في سورة آل عمران :{{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}} . وهذه طريقة فيها ثقة شديدة بالله ،

ويقين كامل بالحق الذي مع رسولنا – صلى الله عليه وسلم - ، والمباهلة تعني : (( أن يجمع كل طرف أهله ؛ أطفالا و نساء و رجالا ويقف مع الطرف الآخر وجهًا لوجه، يبتهل كل منهما أن ينزل الله لعنته على الذي يكذب وينكر الحق، فلو كانوا يعتقدون اعتقادًا جازمًا أن الحق معهم، أو أن هذا ليس برسول، فلا يجب أن يخافوا من هذه المباهلة أو الملاعنة )) .

وافق نصارى نجران على المباهلة ، فاستعجلوا وقالوا للنبي – عليه الصلاة و السلام - : نعم نباهلك !! ولكن متى ؟؟ فقال لهم :غداً إذا ارتفعت الشمس . وبالفعل جاء – صلى الله عليه وسلم - في اليوم التالي و معه أهله ، وقال لهم :

" إِذَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا ". ولما رأى قادة وفد النصارى جدية الرسول – صلى الله عليه وسلم - خافوا من هذه الملاعنة، وقالوا لقومهم : مَا بَاهَلَ قَوْمٌ نَبِيًّا إِلاَّ هَلَكُوا، وربِ موسى وعيسى لو باهلنا محمدا اليوم ودعا علينا بمن معه ، فلن يبقى لنا مالٌ ولا ولد ، [[ يعني بينقطع أثرنا من الأرض ، وقد تذكروا غضب الله على اليهود حين اعتدوا في سبتهم فمسخهم الله قردة وخنازير ]] ،

وهذا يُثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أنهم يؤمنون بنبوته وصدقه، ولكنهم يجحدون ذلك لهوىً في نفوسهم، واتباعًا لشهواتهم ، وهذا حال دول الكُفر اليوم ، {{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ }} ثمّ قالوا لنبينا الكريم : نعتذر عن المباهلة ، ولكن احكم علينا بما أحببت . فقال لهم – صلى الله عليه وسلم - : إمّا أن تدخلوا في الإسلام ، وإما أن تعطوا الجزية ، وإما الحرب بيننا وبينكم ، فاختاروا دفع الجزية .

ثمّ قال وفد نصارى نجران : ابعث معنا رجلا من أصحابك يا محمّداً يكون أمينا حقّا ليستوف منا الجزية ، ويقض فينا فيما يقع من أمرها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قم يا أبا عبيدة ،فوقف أبو عبيدة {{ عامر بن الجراح}} - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا أمين هذه الأمة ، امض معهم يا أبا عبيدة واستلم منهم الجزية في كل عام ،ثم أمرأن يُكتب بالتفصيل البنود المادية لهذه الجزية ، وأن يُكتب في آخر الكلام {{ هذه ذمة الله ، وذمة محمد رسول الله لنصارى نجران }} .

وللأسف بعض الناس في وقتنا الحاضر يعترضون على كلمة (( ذِمّي )) !! يظنون أن كلمة " ذمي " تحقير!! لا ، لا يا أخي ؛ ذمّي يعني صاحب عهد وذمة من الله ورسوله، ولا يجوز لمسلم أن يعتدي عليه . و أيضا يعترضون على كلمة (( نصارى )) !! ويريدون أن نقول : " مسيحييّن " !! ألا تعلم يا أخي أن كلمة نصارى {{ مدحٌ وليس ذم }} ،

قال تعالى : {{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }} ، وكلمة المسيح اسم فقط لسيدنا {{ عيسى عليه السلام }}، والله الذي أعطاه هذا الاسم في القرآن الكريم : {{ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }} .

إذن رجع وفد نصارى نجران إلى قومهم راضين بدفع الجزية لأبي عبيدة ،ثم ما إن وصلوا وأخبروا قومهم بما حدث معهم ؛ قال لهم قومهم : بئس ما رجعتم به إلينا !! علمتم أن محمداً على الحق ولم تتبعوه ولم تصدقوه ؟؟!!

فضاج القوم على قادتهم ، ثم رجعوا جميعاً إلى الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مسلمين {{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }}

اللهم عجل لنا بيوم يُعَزّ فيه أولياؤك ، ويُذلّ به أعداؤك
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-29-21, 08:10 AM
هذا الحبيب « 257»
السيرة النبوية العطرة (( وفد عبد القيس وإسلامهم ))
________
ومن ضمن الوفود التي أتت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد قبيلة عبد القيس، من الأحساء وكانت تسمى [[ البحرين ]] - طبعا ليست البحرين الموجودة الآن - وكانت لهذه القبيلة وفادتان: الأولى في العام الخامس من الهجرة النبوية، والثانية في العام التاسع بعد فتح مكة.

وتذكر كتب السيرة عن الوفادة الأولى : كان رجل من قبيلة عبد القيس يقال له: (( منقذ بن حيان )) يأتي إلى المدينة المنورة للتجارة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، فلما جاء بتجارته بعد مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم بالإسلام، أسلم ، وتعلم أشياء كثيرة عن الإسلام ،

وذهب بكتابٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه ، وعندما رأوا أثر الإسلام في حياته أسلموا . وفي العام الخامس للهجرة جمعوا منهم وفداً في ثلاثة أو أربعة عشر رجلا، [[ هم مؤمنون ومسلمون ولكن أرادوا أن يروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمعوا منه عن الإسلام ]] وذهبوا إلى المدينة للقاء النبي – صلى الله عليه وسلم - .

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قَدِمَ وفدُ عبدِ القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال ((مرحباً بالقومِ، غير خزايا ولا الندامى.[[ والمرادُ أنَّه لم يكُنْ منهم تَأخُّرٌ عن الإسلامِ ولا عِنادٌ، ولا أصابَهم أسْرٌ ولا سبْيٌ، ولا ما أشبَهَ ذلك ممَّا يَستحيُون بسَببِه أو يَندَمون، فهذا إظهارٌ لشَرَفِهم؛ حيث دَخَلوا في الإسلامِ طائعين مِن غَيرِ خِزيٍ ]] ، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مُضَرَ، [[ لا يستطيعون الوصول إلى المدينة بسبب خوفهم من قبيلة مضر ]] ،

وإنَّا لا نَصِلُ إليك إلا في أشهر الحرم (( ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب))، حدثنا بجُمَلٍ من الأمرِ: إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو به مَن وراءنا . قال - عليه الصلاة و السلام - : آمرُكم بأربعٍ وأنهاكم عن أربعٍ، الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة ،وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعطوا من المغانِمِ الخُمُس {{ لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج لأنه لم يكن قد فُرِض عندما وفدوا إليه }}.وأنهاكم عن أربعٍ: ما انتُبِذَ في الدُّبَّاءِ والنَّقيرِ والحنتَمِ والمُزَفَّت )) .

[[ الدُّبَّاءِ، والنقير، والحنتم، والمُزَفَّت: هذه الأسماء الأربعة لأنواع من الأوعية والآنية التي كانوا يضعون فيها النبيذ. والدباء: القرع اليابس يفرغ ويجعل إناء، والحنتم: آنية كبيرة مدهونة خضر كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة، والنقير: جذع النخل ينقرونه ثم يضعون فيه الخمر، والمزفت: الوعاء المطلي بالزفت ]] . والنَّهيُ عن استِخدامِ هذه الأوعيةِ بخُصوصِها؛ لأنهم يجوّفونها ويَستَخدِمونها كسِقاءٍ، ويَحتَفِظون فيه ببَعضِ الأشربةِ، فتَشتدُّ وتُصبِحُ خَمرًا، فربَّما شَرِبَ منها مَن لم يَشعُرْ بتَغيُّرِها .

ثمَّ نُسخ هذا الحديث ، ورَخَّص - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - بعْدَ ذلك في استخدامِ كلِّ وِعاءٍ، مع النَّهيِ عن شُرْبِ كلِّ مُسكِرٍ؛ كما ورَدَ في صَحيحِ مسلمٍ:
(( كنتُ نَهيتُكم عن الانتباذِ إلَّا في الأسقيةِ "وهي الآنيةُ الَّتي تُصنَعُ مِن الجِلدِ المدبوغِ " فانتبِذوا في كلِّ وِعاءٍ، ولا تَشرَبوا مُسكِرًا )) . " الانتباذِ وهو أن يُجعَلَ في الماءِ حبَّاتٌ مِن تمرٍ، أو زبيبٍ، أو نحوِهما؛ ليحلُوَ، ويُشرَب " .
ويروي زَارعُ بنُ عامرِ بنِ عبدِ القيسِ أولى لحظات لقاء وفد عبد القيس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - :

(( لَمَّا قَدِمْنا المدينةَ، ووصَلْنا عِنْدَ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - جعَلْنا نَتبادَرُ مِنْ رَواحِلِنا [[ أي: نَتسارَعُ في النُّزولِ عن الإبلِ ]] ليَسْبِقَ بعضُنا بعضًا، فنُقبِّلُ يَدَ النَّبيِّ – عليه الصلاة و السلام – ويتابع زَارِعُ بنُ عامِرٍ: وانْتَظَرَ [[ المُنْذِرُ الأَشَجُّ ]] أي: لَمْ يُسارِعْ هذا الرجل كالَّذين سارَعوا إلى النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وكان على رأسِ وَفْدِ عبدِ قيسٍ ومُقدِّمتِهم، ثمّ أتى مُستودَعَ ثيابِه، فلَبِس أحسنها - وقيل: كانتْ بِيضًا - ثُمَّ أتى النَّبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -

فقال له نبيّنا : إنَّ فيكَ خُلَّتَينِ [[ أي: خَصْلتَينَ ]] يُحِبُّهما اللهُ، الحِلْمُ والأَناةُ [[ والحِلْمُ: العَقْلُ، والأناةُ: التَّرفُّقُ وعَدَمُ التَّعجُّلِ ]] ، فقال المُنْذِرُ: يا رسولَ اللهِ، أنا أَتخلَّقُ بِهما أَمِ اللهُ جَبَلني علَيهِما؟ [[ أي: هل اكتسبتهما في حياتي أم جَعَلَهُما اللهُ فِيَّ دونَ اكْتِسابٍ لهما وتَعوُّدٍ عليهِما ]] ؟؟ فقال النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - : بَلِ اللهُ جَبَلَك عليهِما ،فقال المُنْذِرُ: الحمدُ للهِ الَّذي جَبَلَني على خُلَّتينِ يُحِبُّهما اللهُ ورسولُه )) .

وتذكر كتب السيرة عن الوفادة الثانية :
كانت هذه الوفادة في العام التاسع للهجرة (( عام الوفود )) ، وكان عدد " وفد عبد القيس" أربعين رجلا، وكان فيهم [[ الجارود بشر بن المعلّى العبدي ]] وكان نصرانياً على دين المسيح عليه السلام [[ صحب القوم ليرى النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً ، ويسمع منه ثانياً ، كي يقارن ما يرى ويسمع بما عنده من علم الكتاب ]] ، فقال له النبي – عليه الصلاة و السلام - :

يا جارود إني أدعوك إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله . فقال الجارود : يا محمد ، إني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟ فقال رسول الله : إن الدين عند الله الاسلام ، فهو دين عيسى وموسى ومحمد والناس أجمعين . فقال الجارود : والذي بعثك بالحق [[ هنا دخل الايمان قلبه ]] لقد وجدت صفتك التي أرى الآن ونطقك الذي أسمع الآن في الإنجيل كما بشر به المسيح عيسى - عليه السلام - ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد خاتم النبيين رسول الله .

وكان الجارود سيد قومه في البحرين ، فلما عاد أسلم قومه كلهم ، وكان له أثر طيبٌ بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ تسللت الردة إلى بعض الأقوام فوقف خطيبا في قومه في البحرين محذّرا إياهم من الردة، فقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإن مات محمد فإن الموت حق ، الله الحي الذي لا يموت ، أما والله الذي بعث محمداً بالحق ، ما ارتدّ أحد منكم عن دينه إلا ضربت عنقه ، فمنع الردة في البحرين . هل رأيتم صدقه مع الله ؟؟

وأخيرا نقول : لقد تركت لنا تلك الوفود عامة، ووفد عبد القيس خاصة، منهجاً نبويَّا كريماً في طريقة تعامله - صلى الله عليه وسلم - معهم، وأظهرت لنا مدى اهتمامه بهم ودعوتهم للإسلام، وحرصه على تعليمهم أمور دينهم، وحكمته في تعامله ودعوته لهم مع اختلاف معتقداتهم وأفكارهم، فرجعت تلك الوفود دعاة هداة، يُعلّمون أقوامهم مما تعلموا ، وبذلك انتشر الإسلام .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-29-21, 08:13 AM
هذا الحبيب « 258 »
السيرة النبوية العطرة (( وفد بني حنيفة و ظهور مسيلمة الكذاب في اليمامة ))
________
في العام التاسع للهجرة الذي عمّ فيه الإسلام ربوع الجزيرة العربية ، أقبل وفد بني حنيفة من {{ اليمامة }} جهة اليمن في بضعة عشر رجلًا برئاسة [[ سلمى بن حنظلة ]] و معهم [[الرجَّال بن عنفوة ]] أحد وجهاء القبيلة، لإجراء مباحثات مع النبي - صلى الله عليه وسلم- وإعلان إسلامهم، ويبدو أنهم طمعوا مقابل دخلوهم في الإسلام، أن يحصلوا على موافقة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لخلافته.

وكان مع هذا الوفد صاحب الكلمة فيهم {{ مسيلمة بن حبيب الحنفي }} ولم يكن يُعرف بالكذاب حتى هذا الوقت الذي حضر فيه ، أما فيما بعد فهو المعروف لدينا كمسلمين في كتب السيرة والتاريخ باسم {{ مسيلمة الكذاب }} بعد أن وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكذاب بنبوءة صادقة .

ومسيلمة هو أشهر المتنبئين وأخطرهم في الجزيرة العربية، فقد ادّعى النبوة زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستفحل أمره زمن أبي بكر الصديق، وشكلت حركته تهديدا واضحًا لدولة الإسلام الناشئة .

وتذكُرالأخبارأن مسيلمة كان قصيًرا ، شديد الصفرة ،أخنس الأنف أفطس ، وكان أكبرعمرًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قد تكهّن و ادّعى النبوة باليمامة ، وهو نصراني ، حيث أقام في القدس عامين يتعلم الدين النصراني ، ووجد له أتباعًا قبل نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ،

ويذكر أهل الأخبار أنّ مسيلمة كان ابن مائة وخمسين سنة حين قُتل في اليمامة .
ويبدو أن مسيلمة الكذاب كان على قدر من قوة البيان والشخصية ، إذ ترك تأثيرًا ملموسًا في أوساط بني حنيفة، والقبائل المجاورة، فقد كان على علم أيضا بصناعة الشعوذة، والألاعيب التي كان يتقنها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، وكان يسمّى عندهم ب (( رحمان اليمامة ))

[[ ولا تستغربوا من ذلك ؛ فاليوم ونحن في القرن الحادي و العشرين بعض المسلمين و المسلمات يصدّقون العرّافين و المشعوذين ، ويتأثرون بكلامهم فيدخلون في الشرك و العياذ بالله ]] وكان مسيلمة يبعث بأناس إلى مكة ليسمعوا القرآن، ويقرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله ، أو يُسمعه هو نفسه للناس زاعمًا أنّه كلامه ، ومن كلامه :

وَاللَّيْلُ الدَّامِسْ، وَالذِّئْبُ الْهَامِسْ، مَا قَطَعَتْ أَسَدٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسْ.
وَالْفِيلْ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلْ، لَهُ زَلُّومٌ طَوِيلْ.

وقد جاء أنّ [[ عمرو بن العاص - قبل إسلامه - ]] قابل مسيلمة الكذاب فسأله مسيلمة: ماذا أُنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ قال: أنزل عليه: {{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }} . قال: ففكر مسيلمة ساعة، ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليَّ مثلها. فقال له عمرو: وما أُنزل؟

قال مسيلمة: " يَا وَبَرُ يَا وَبَرُ، إِنَّمَا أَنْتِ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ، وَسَائِرُكِ حَقْرٌ نَقْرٌ". ثم قال مسيلمة: كيف ترى يا عمرو؟ فقال عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم إنك لتكذب !!! [[ طبعا كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن أخسّ من أن ننشغل به أو نفكر فيه، ولكن عشان نعرف إنه كلام سخيف ومع ذلك أضل ناس كثير دلالة على انتشار الجهل ، و اليوم في ناس بتلعب دور مسيلمة و في ناس كثير بتصدقهم !!! فالجهل ليس له حدود زمنية !! ]]

ومع أنّ مسيلمة الكذاب ادَّعى النبوة كذبًا، إلّا أنّ كثيرا مِن الناس ناصروه حمية وجاهلية، مع علمهم بأنه كذاب ، ويُروى أنّ {{ طلحة النميري }} قدم إلى اليمامة للاجتماع بمسيلمة، والوقوف على حقيقة دعوته، واختبار نبوته، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نورأو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك لكذاب وأن محمدًا صادق؛ ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضر . [[ يعني عنصرية واضحة لقبيلة ربيعة التي منها مسيلمة !! ]] .

إذن قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ مع وفد بني حنيفة من منطقة اليمامة جهة اليمن ، وكانوا يحيطون به يمينا و يسارا تعظيما له وقد وضع على صدره الصّليب !! وعندما وصلوا أقْبَلَ إلَيْهِم رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ومعهُ ثَابِتُ بنُ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ وفي يَدِ رَسولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - قِطْعَةُ جَرِيدٍ [[ غُصْنٌ مِن غُصونِ النَّخْلِ ]]، حتَّى وقَفَ أمام مسيلمة و أصْحَابِهِ، فَقالَ لمسيلمة كما جاء في الحديث :

(( لو سَأَلْتَنِي هذِه القِطْعَةَ ما أعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللَّهِ فِيكَ، ولَئِنْ أدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وإنِّي لَأَرَاكَ الذي أُرِيتُ فِيكَ ما رَأَيْتُ )) ثم صرف – عليه الصلاة و السلام – وجهه عن مسيلمة .


وهذه نبوءة من رسولنا الكريم – عليه الصلاة والسلام – حيث أخبره الله ما في نفس مسيلمة من نيّة الخلافة و النبوة من بعده ، لذلك – وعلى غير عادته مع الوفود - بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث قبل أن يتكلموا : لو سأَلتَني يا مسيلمة هذه القِطْعَةَ من جريد النَّخْلِ لن أعطيك إياها ، ولن تَتجاوَزَ القَدْرَ الَّذي قَدَّرهُ اللهُ تَعالَى فيكَ؛ وهو عدَمُ بُلوغِكَ ما تُرِيدُ، وإن امتنَعْتَ عنِ اتِّباعي، لَيُهلِكَنَّكَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - ويَقتُلَنَّك بمِثْلِ الرُّؤيا الَّتي رَأَيتُها في مآلِكَ ونِهايَتِك. فما هي هذه الرؤيا ؟؟

عن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أنَّ رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - قالَ: (( بيْنَما أنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ في يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِن ذَهَبٍ، فأهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إلَيَّ في المَنَامِ: أنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُما فَطَارَا، فأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ، يَخْرُجَانِ بَعْدِي فَكانَ أحَدُهُما العَنْسِيَّ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابَ، صَاحِبَ اليَمَامَةِ )).

[[ يعني تفسير الرؤيا أن مسيلمة سيموت مقتولا ، وهذا ما حدث فعلا حيث قتله وحشي بن حرب في معركة اليمامة بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه ]] .

فلما سمع وفد بني حنيفة كلام النبي - صلى الله عليه وسلم – جلسوا معه وأسلموا ،فخاف مسيلمة على ضياع الزعامة منه فأسلم نفاقاً، وبقي يكتم ما يريد في قلبه !! ومهما يكن من أمر، فقد أدرك – عليه الصلاة و السلام - من خلال ما جرى مع وفد بني حنيفة، أن هؤلاء القوم سوف يغدرون به، ويرتدون عن الإسلام، وأن صاحبهم سيقودهم إلى شر عاقبة يهلكهم بها .ومع ذلك فقد دعا صحابته إلى تفقيههم في الدين ، وتعريفهم بالإسلام ،

واستغل [[ الرّجال بن عنفوة ]] وجوده في المدينة، فتعلم القرآن وتفقه في الدين، ووقف على تعاليم الإسلام أكثر من قومه، وكان هذا الرجل ذا بصيرة وذكاء، فعينه النبي – عليه الصلاة و السلام - معلمًا لأهل اليمامة ؛ يفقههم في الدين، ويشد من عزائم المسلمين. لكنّ " الرّجال بن عنفوة " كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، وما كان تفقّهه إلا رياء، حيث أنّه لاحقا انضم إلى مسيلمة، وأقرّ بنبوّته، وشهد بأن محمدًا أشركه معه في الرسالة، فالتف بنو حنيفة حوله !!


وبعد أن عاد مسيلمة الكذاب إلى قومه، وأظهر دعوته، كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يدّعي فيه مشاركته في الرسالة، ويساومه في اقتسام الملك والسيادة في جزيرة العرب، فقال: [[ مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ ]]

وأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يترك الفرصة لمثل هؤلاء الكذابين للتشكيك في أمر الدين، فكتب رسالة وأعطاها إلى حبيب بن زيد - رضي الله عنه - أحد الصحابة الشباب، وفيها:

[[ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ للَّه يُورَثُهَا مَنْ يُشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ]] . وكان ذلك في آخر سنة عشر من الهجرة. فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أسر حبيب بن زيد وقيده، فكان مسلمة إذا قال له: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، وإِذا قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع، ففعل ذلك مرارًا، فقطّعه مسيلمة عضوا عضوا، فمات شهيدا رضي الله عنه .


وكان قوم بني حنيفة في قسمين ؛ قسم على إيمانهم وإسلامهم ، وقسم مع مسيلمة الكذاب لأنه أعطاهم ما تهوى أنفسهم حتى يستميلهم إليه [[ يعني عمل تنزيلات وعروض : بكفي منكم صلاتين وقت ما بدكو ، شرب الخمر عادي في المناسبات ، ما في داعي للزكاة !! تماما مثل البعض اليوم اللي بضيعوا وقت الصلاة عشان حضور مباراة ، و اللي بتحايلوا على الدين عشان ما يصوموا! ]]

وكان مسيلمة أيضا يدّعي الكرامات، فأظهر الله كذبه ولصق به لقب [[ الكذاب ]] فقد أراد إظهار كرامات تشبه معجزات النبي – عليه الصلاة و السلام - فأظهر الله كذبه فيها : سقى بوضوئه نخلا فيبست !! وأُتي بوَلدان يباركهما فمسح على رأسيهما ؛أحدهما أصبح أقرع و الآخر لثغ لسانه ، ومسح على عيني رجل أصابهما الوجع فعمي !! [[ اللهم خلّص أمتنا من كل مسيلمة ]]

.
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
05-30-21, 06:54 AM
هذا الحبيب « 259 »
السيرة النبوية العطرة (( قصة دخول الإسلام إلى اليمن ))
__________
إنّ قصة الإسلام في اليمن قديمة، فقد دخله الإسلام في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - ومن ثَمَّ صار اليمن إقليمًا إسلاميًّا مهمًّا في الدولة الإسلامية، وظل كذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك في عهد الخلافة الأموية، وصدر الخلافة العباسية ، ولقد شهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - شهادة عظيمة لأهل اليمن ، هي خير لهم من الدنيا وما فيها، وذلك عندما جاء وفد اليمن إلى المدينة المنورة، فقال فيهم – عليه الصلاة و السلام - : (( أَتاكُمْ أهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أرَقُّ أفْئِدَةً وأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ، والفَخْرُ والخُيَلاءُ في أصْحابِ الإبِلِ، والسَّكِينَةُ والوَقارُ في أهْلِ الغَنَمِ )) .

لم تدخل {{ اليمن }} كاملة في الإسلام دفعة واحدة ،إنما كان إسلامها تدريجيا وعلى مراحل ؛ فبعضها دخل سلميّاً وبعضها عن طريق السرايا و البعوث ، فلم تكن اليمن قبل الإسلام دولة لها قيادة موحدة ، وإنما كان شأنها شأن الجزيرة العربية كلها، مجموعة من القبائل في قتال وتناحر مع بعضهم البعض، فكانت تضم قبائل كبيرة مثل حِمْيَر وكندة وهمدان ، وكانت صنعاء وعدن وما حولهما تابعة للحكم {{ الفارسي }} ، وكانت نصارى نجران تابعة للحكم {{ الروماني }}

المرحلة الأولى : إسلام أفراد من قبائل مختلفة مثل أبي موسى الأشعري
من قبيلة {{ الأشاعرة }}، الطفيل بن عمرو من قبيلة {{ دوس}} ، قيس بن نمط من {{ همدان }} ، وقد نشط هؤلاء للدعوة إلى الإسلام في قبائلهم .

المرحلة الثانية : إسلام " باذان " حاكم اليمن الذي وضعه الفرس، و كان
يحكم صنعاء وعدن وما حولهما ، أتذكرون هذا الاسم ؟؟ قلنا في أجزاء " الرسائل " إنّ كسرى مزّق الرسالة ، وطلب من " باذان " حاكم اليمن أن يأتيه بالنبي محمد، وأرسل باذان رجلين فقال لهما – صلى الله عليه وسلم - : " إنّ ربي قتل ربكم الليلة ، وتأكد باذان من نبوءة نبيّنا ، وأن كسرى قُتل على يد ابنه شيرويه في نفس الليلة ؛ فأسلم و أسلم كل الفرس تقريبا في اليمن، وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة . ومات باذان بعد ذلك، وتولى الأمر بعده ابنه المسلم الفارسي الأصل {{ شهر بن باذان}}

الذي في عهده ظهر {{ الأسود العنسي }} فمن هو الأسود العنسي ؟؟ قلنا في الجزء السابق إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أصحابه أنه رأى في الرؤيا أنه يلبس سوارين من ذهب فاغتمّ لذلك ، ونفخهما فطارا ،وكان تأويل الرؤيا مقتل مسيلمة والأسود العنسي .
والأسود العنسي، اسمه {{ عبهلة بن كعب}} وقد سمي بالأسود لأنه كان أسود اللون ،والعنسي نسبة إلى قبيلة {{عنس }} باليمن ،وكان سيدا على بعض قبائل اليمن، وكان قوي البنية، حلو اللسان، وكان ساحرا مشعوذاً يستخدم السحر لإقناع أتباعه ،

فأعلن العصيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك في محرم من السنة الحادية عشرة من الهجرة ، وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين فقط، ويبدو أنَّ معارضي الوجود الإسلامي من مختلف القبائل أيَّدوا حركته ؛ بعضهم تعصّبا ، والبعض الآخر رأى فيه ممثِّلًا لمصالحهم [[ فقد قالوا إنّ الزكاة التي يرسلونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في لغتنا اليوم هي ( أتاوة ) ترسلها اليمن إلى قريش ]] ، كذلك ادّعى أنه نبي يوحى إليه ، فارتدّ خلق كثير من اليمن ، واتبعوا تعاليمه .


سار (( الأسود العنسي )) إلى نجران ، واستولى عليها ، بعدها اتّجه إلى صنعاء ومعه {{٧٠٠ }} مقاتل ،فخرج إليه {{ شهر بن باذان}} ملك اليمن المسلم الفارسي الأصل ، وتقاتلا ، فغلبه الأسود العنسي وقتله ، ثمّ تزوج من امرأته الفارسية {{ آزاد}} ، فأصبحت أغلب مناطق اليمن تحت حكم الأسود العنسي لمدة أقل من شهر ، فلم يركن النبيُّ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلى الهدوء وهو يرى جهوده الرَّامية إلى نشر الإسلام في اليمن وتوحيد قبائله تتعرَّض للنكسة على يد " العنسي " فاعتمد على القوى المحليَّة ، وأرسل إلى عمَّاله في تلك الجهات يحثُّهم على الاستعانة بالثابتين على الإسلام، والصمود أمام المنشقِّين، والقضاء على " العنسي " ، فاجتمع عدد من زعماء القبائل وقرروا اغتيال الأسود العنسي ، ومن بينهم عامل الفرس [[ فيروز الديلمي ]] وهو ابن عم " آزاد " زوجة الملك " شهر بن باذان " الذي قتله الأسود العنسي ، فهي حاقدة عليه لأنه قتل زوجها ، فسقته الخمر حتى نام، ودخل فيروز وقتل الأسود العنسي ، وتروي كتب السيرة أنّ الراجح هو مقتل الأسود العنسي قبل وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بيومٍ أو بليلة، وورد الخبر من السماء بذلك، وأعلم – عليه الصلاة و السلام - أصحابه به، ولكنَّ الرُّسل وصلت في خلافة أبي بكرٍ و أتت ببقية الأخبار .

المرحلة الثالثة : إسلام قبيلة {{ حِمْيَر}} ، وهي أعظم القوى القَبَلية في
اليمن وأعرقها، فقد أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من رسول، حتى أسلم أهل حمير وملوكها، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة بعد غزوة تبوك .

المرحلة الرابعة : إسلام {{ نصارى نجران }} ، وتحدثنا عنهم في جزأين
وقلنا إنهم أكثروا الجدال مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمور الإسلام و خلق عيسى – عليه السلام – ثم اتّبع معهم نبينا الكريم أسلوب المباهلة ، و أخيرا أقروا بدفع الجزية ، ثم عادوا بعدها مسلمين .

المرحلة الخامسة : إسلام قبيلة {{ همدان }} ،أرسل إليهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - {{ علي بن أبي طالب}} وعقد له لواء ، وأعطاه كتابا يقرؤه عليهم ، و بشّره أنّ الناس سيتقاضون إليه ؛ فإن أتاك الخصمان فلا تقضي لأحدهما حتى تسمع كلام الآخر، فإنه أجدر أن تعلم لمن الحق ، فلمّا وصل إليهم لم يسل سيفاً ولم يحمل ترساً ، بل أخرج الرسالة وقرأها عليهم ؛ فعندما أتم القراءة أعلن الجميع إسلامهم ،

ثم استقبلوا عليا - رضي الله عنه – ومن معه خير استقبال ، وأخذ عليّ – رضي الله عنه - يعلمهم الدين ويقرأ عليهم القرآن ، وجاء وفد منهم إلى المدينة ليبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة من الهجرة ، وبعث بعدها - عليه الصلاة و السلام – (( معاذ بن جبل و أبا موسى الأشعري )) ليتولّيا قيادة اليمن، بعد نجاح السرايا وإسلام أهل اليمن .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-03-21, 07:02 AM
هذا الحبيب « 260 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج1 - مقدّمة - ))
__________
كثيرًا ما ينتهي عمر إنسان دون أن يرى حلمه يتحقق، ودون أن يشاهد خطته تنجح، ولكن من سعادة الإنسان حقًّا أن يطيل الله تعالى في عمره حتى يرى ثمار عمله، ونتيجة جهده، فيسعد بذلك أيَّما سعادة، ويشعر أن تعب السنين لم يذهب هباءً منثورًا، ولا يشترط للإنسان المخلص أن يرى نتيجة كَدِّه وتعبه، لكن لا شك أنها نعمة من الله تعالى، ومِنّة عظيمة لا تقدّر بثمن .

وحيث إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبّ الخلق إلى الله تعالى، فإنه شاء سبحانه ألا يموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تقرّ عينه برؤية ثمار جهده الطويل، وتعبه المضني، وجهاده الذي لم ينقطع .

لقد عاش - صلى الله عليه وسلم - حتى رأى الجزيرة العربية بكاملها تقريبًا تدخل في الإسلام، وتُقِرُّ به بعد حرب ضروس، ومقاومة عنيفة. ها قد دخل الناس في دين الله أفواجًا، وها قد وصلت الدعوة إلى معظم أماكن المعمورة، ها قد مُكِّن للإسلام، وارتفعت رايات التوحيد في كل مكان، ها قد عادت الكعبة المشرفة إلى حقيقتها،

رجعت كما كانت أيام إبراهيم تعالى بيتًا يُوحَّد فيه الله، ولا يُشرك به أحدًا ، ولا أستطيع وصف سعادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكل هذا الخير، لقد كان يسعد - صلى الله عليه وسلم - إذا آمن رجل واحد، وكان يقول: «لأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» ، فكيف بهداية أغلب الجزيرة العربيّة وما حولها ؟ .

فها هو الآن، لا يرى رجلاً ولا رجالاً يؤمنون فقط، بل يرى الجموع الغفيرة، والقبائل العظيمة، والبلاد الكثيرة تدخل في دين الله أفواجًا، سعادة لا تدانيها سعادة في الدنيا، أن تجد الأفراد والشعوب يختارون طريق الهدى، ويَنْعَمون باتباع شرع الله رب العالمين .

لكن في الوقت نفسه، فإن رؤية كل هذا التمكين، وكل هذا الفتح المبين كان يحمل معنى آخر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعموم المسلمين، وهو أن مهمَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كرسول قد أشرفت على الانتهاء. . .
إن مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت البلاغ، وها قد تحققت مهمته على الوجه الأكمل، فوصلت الرسالة بيضاء نقية إلى كل أهل الجزيرة العربية، بل تجاوزت ذلك إلى ممالك العالم القديم، فوصلت الدعوة إلى فارس والروم ومصر واليمن والبحرين وعُمان وغيرها، واكتملت كل -أو معظم - بنود الشرع الحكيم.

وإذا كان قد حدث ذلك، فمعناه أن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قاربت هي الأخرى على الانتهاء. جاء في مسند الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أنه بعثه إلى اليمن وقال له: «يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَوْ لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا أَوْ قَبْرِي».

وفي شهر ذي القعدة من السنة العاشرة بدأ - صلى الله عليه وسلم - في الاستعداد للقيام بالحج للمرة الأولى في حياته ، والتي عُرفت في التاريخ ب :
[[ حجة الوداع ]] ، ودعا إليها القبائل المختلفة من كل أنحاء الجزيرة العربية،

وتوافدت فعلاً القوافل متجهة إلى المدينة لصحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طريقه من المدينة إلى مكة، ومنهم من التقى معهم على الطريق، ومنهم من انتظره عند مكة ، وقد تجاوز المسلمون الذين حضروا هذه الحجة مائة ألف مسلم، وذكر بعض الرواة أن عددهم كان يزيد على مائة ألف وأربعة وأربعين ألفًا من المسلمين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
___________

عطاء دائم
06-05-21, 06:19 AM
هذا الحبيب « 261»
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج2 - إعلان الحج - ))
__________
أقبل رمضان من السنة العاشرة للهجرة ، فصام - صلى الله عليه وسلم - رمضان للمرة العاشرة في دار الهجرة ، واعتكف (20 ) يوماً ، وقرأ له جبريل ما نزل من القرآن مرتين، وليس مرة واحدة كما كان في أشهررمضان السابقة ، وقد كان يعتكف في كل عام عشرة أيام، وهي العشر الأواخر من رمضان ،

وقد لاحظ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- تكثيفه للوعظ و الإرشاد ، ومداومة جلوسه معهم ، فشعروا كأّنه يودّعهم ، وكان هو – صلى الله عليه وسلم – قد شعر بذلك قبلهم فقال لأصحابه : كان أخي جبريل يراجعني القرآن في كل عام مرة [[ أي في رمضان ]] أما هذه السنة فقد راجعنيه مرتين [[ أي من باب التأكيد ]] ، فعلم الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم – أن أيام بقائه في الدنيا أوشكت على نهايتها .

فلما مضى رمضان ، ومضت أيام عيد الفطر ، أعلن - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أنه سيخرج للحج في هذا العام ، وأرسل إلى جميع المسلمين في كافة البلاد أنّ من أراد أن يشهد الحج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليأت إلى المدينة المنورة [[ كي يأخذوا عنه مناسكهم ]] .

وكما سبق وقلنا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حج البيت بعد أن فرض الله الحج إلا مرة واحدة وهي هذه الحجة - حجة الوداع - في السنة العاشرة للهجرة ، أمّا العمرة فقلنا إنه اعتمر ( 4 ) مرات [[ عمرة الحديبية ،

وعمرة القضاء ،عمرة بعد رجوعه من غزوة حنين ،عمرة مقرونة مع الحج التي هي موضوع حديثنا ]] ، وكانت عمراته في {{ ذي القعدة }} ليعلن خلاف عقيدته مع قريش ، لأن قريش كانت تقول للعرب : عمرة في الأشهر الحرم فسوق [[ وذي القعدة من الأشهر الحرم ]] و كانت تقول أيضا : العمرة في سائر السنة إلا أشهر الحج ؛ وذلك حتى يجبروا العرب أن يأتوا في موسم الحج وفي غير أشهر الحج من أجل مكاسبهم المادية .

فلما أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيخرج للحج في هذا العام
بدأت الوفود تصل إلى المدينة المنورة ، فقدم المدينة بشر كثير من كل أنحاء الجزيرة يريدون أن يحجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وضُربت لهم الخيام في أرض المدينة وبساتينها ، حتى بلغ عدد من وصلوا إلى المدينة أكثر من ( ١٢٠ ألفا ) ، ولحق به في الطريق خلق كثير تجاوز ال ( 40 ألفا ) ، والكل يرجو لقاءه و شرف صحبته ، وكما تعلمون أنّه من شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة في حياته

[[ أي رآه مرة وهو مسلم ومات على ذلك ولم تقع له ردة ]] يُعدّ في الصحابة و المرأة تعد في الصحابيات . ولنا أن نتخيل هذا المشهد ، فالكثير ممن أسلم من القبائل العربية خارج المدينة لم يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ، وكان شوقهم له كشوقنا نحن له ، فالكل يرجو صحبته ،(( اللهم اجمعنا به في جنّات النعيم )) .

فلما كان {{ ٢٥ من ذي القعدة }} وكان يوم جمعة ، صعد - صلى الله عليه وسلم - منبره وخطب بأصحابه الجمعة ، طبعا لم يتسع المسجد لهذه الأعداد الهائلة ، فأي مسجد يسعهم ؟!! ولكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالا خارج المسجد أن يبلغوا الناس عنه ، ويرددوا كلماته في الخطبة كلمة كلمة حتى يعم خطابه جميع للناس ، فحثهم على تقوى الله ، وأن يعقدوا النية للحج ، فقال لهم : (( منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ )) ،

أي أنّ الإنسان إذا حج واجتنب ما حرم الله عليه من الرفث [[ وهو الفحش في القول وإتيان النساء ]] ، والفسوق [[ وهو مخالفة الطاعة ، فالطاعة هي أن لا يترك الإنسان ما أوجب الله عليه ، ولا يفعل ما حرم الله عليه ، فإن خالف هذا فهو فاسق ]] ، فإذا حج الإنسان ولم يفسق ولم يرفث فإنه يخرج من ذلك نقياً من الذنوب ، كما أن الإنسان إذا خرج من بطن أمه فإنه لا ذنب عليه .
واستعد الناس للحج ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه أن يُجهّزن أنفسهنَّ جميعا للحج . . . يتبع

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-07-21, 06:44 AM
هذا الحبيب « 262 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج3 - نيّة الإحرام - ))
__________
نحن الآن في السنة العاشرة للهجرة ، ففي {{ ٢٥ من ذي القعدة }} من هذه السنة ( وكان يوم جمعة ) صعد - صلى الله عليه وسلم - منبره وخطب بأصحابه الجمعة ، واستعد الناس للحج ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه أن يُجهّزن أنفسهنَّ جميعا للحج ، فلما كان يوم السبت صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر في مسجده ،

ثم دخل إلى حجرة السيدة {{ عائشة - رضي الله عنها وأرضاها -}} ، فاغتسل ، وأسقط ما يجب إسقاطه من شعور

[[ أي حلق شعر الإبط وشعر الوسط ]] ، وقص الأظافر استعداداً للإحرام ، ولبس إحرامه - صلى الله عليه وسلم - في حجرة السيدة عائشة [[ وللتنبيه لمن أراد الحج والعمرة : الاغتسال ولبس الإحرام لا يعد أنه أحرم ، بل هو الاستعداد للإحرام ، أمّا الإحرام فهو صلاة ركعتين في الميقات وإعلان التلبية ]] .


وتطيّب - صلى الله عليه وسلم – في بدنِه، ولبَّد شعره [[ وتلبيد الشعر أي دهنه بالزيت ]] تقول السيدة عائشة : (( فأتيته بالغالية فتطيّب " وليست الغالية سعرها غالٍ! لا .هو اسم لنوع من العطر يكون مزيجا بين المسك والعنبر" وأكثر – عليه الصلاة و السلام - من الطّيب حتى وكأني أنظر الى وبيص المسك في مفرقه " الوبيص : هو بريق المسك ولمعانه في مفرقه أي في شعره )) . ويجوز للمحرم الحاج أو المعتمر قبل الإحرام أن يتطيب في بدنه - وهذه سُنّة - ولكن لا يطيّب ثياب الإحرام .

ثمّ لبس – صلى الله عليه وسلم - ثياب الإحرام ( ثوبين أبيضين ) ، وخرج وقد جُهزت له ناقته على باب حجرة السيدة عائشة - رضي الله عنها - وخرج من حجرتها ، وأطل على أصحابه - صلى الله عليه وسلم - بطلعته النّورانية ؛ أجلّ وأكمل وأجمل من البدر ليلة الكمال ، وأكثر الوفود التي أتت للمدينة لم تكن رأته من قبل ، وكثير من أصحابه لم يره قبل اليوم محرماً ؛

فلما أطل عليهم الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ضجّت المدينة كلها بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فحيّاهم ، وسلّم عليهم ، ثم ركب ناقته .

خرج - صلى الله عليه وسلم - حاجاً من المدينة المنورة ؛ والناس مدّ البصر حوله وعن يمينه وشماله ومن خلفه وبين يديه ، وسار بهم إلى (ذي الحليفة ) ما نعرفه اليوم ب ( آبار علي ) ، وخرج بهم يوم السبت قبل أذان العصر بقليل ، فصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين قصراً [[ وهنا بدأ القصر لأننا في سفر ]] ، وأمر أن تنصب الخيام ، ويبيت الناس في ذلك المكان ،

وقد نتساءل : بين المدينة و ذي الحليفة ستة أميال [[ يعني ١٣ دقيقة سفر ]]، فهل يحتاج هذا السفر إلى المبيت ؟؟؟

كان من الممكن أن يصلي ركعتين ويلبي وينطلق !! ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما لا يعلمه غيره ، وذلك بفضل ما علمه الله، قال تعالى : {{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }} فقد بات تلك الليلة {{ ليبيّن لهم الأحكام }} ، ثم صلى بهم المغرب ( 3 ركعات ) وصلى العشاء ركعتين .

وفي تلك الليلة جاء المخاض أسماء بنت عميس [[ تكون زوجة أبي بكر، تزوجها بالمدينة ]] ،وما هي إلا لحظات حتى جاء الخبر إلى أبي بكر: لقد ولدت لك ذكراً ؛ فسماه أبو بكر {{ محمدا }} . ثمّ ذهب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه – إلى رسول الله – عليه الصلاة و السلام - وقال : يا رسول الله ، ماذا تصنع أسماء الآن ؟؟

فقال له : تغتسل ثم تستذفر بثوبٍ سميك [[ تستذفر : ما تفعله المرأة لتحفظ جسدها من سيل الدماء ؛لأنها نفساء ]] ، وتُحرم معنا، وتفعل كل ما يفعله الحاج إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تَطهر .

وحدث هذا الموقف أيضا مع السيدة عائشة – رضي الله عنها - في الطريق بعد ذلك ، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمتها فوجدها تبكي ، قال : ما بكِ ؟ أنفستي ؟؟ [[ هي ليست حامل ، ولكن يقال للحيض نفاس وللولادة نفاس لأن الرحم تخلص مما فيه وتنفس ]] . قالت : أجل يا رسول الله . قال : وما عليكِ ؟؟ اصنعي كل ما يصنع الحاج ، غير أنك لا تطوفين بالبيت .

فبات بهم – صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة ثم صلى بهم الفجر، ثم أذن لمن لم يغتسل من الناس أن يغتسل ويستعد ، فاغتسلوا ، وأسقطوا شعورهم ، ولبسوا ملابس الإحرام .

وما أجمل هديك يا سيدي يا رسول الله !! لو أنه لم يغتسل ويلبس إلا بذي الحليفة لكانت سُنة مؤكدة لا يجوز للمعتمر أو الحاج أن يستعد في بيته ، والآن استغرب من مفهوم الناس للإحرام !! لا يغتسلون ولا يستعدون إلا في {{ آبار علي }} !! والنساء و الرجال يدخلون في زحام مع الآخرين حتى يغتسلوا !! فالغسل في البيت هو ما قام به – صلى الله عليه وسلم - ،

وهذا تيسير على النّاس ، لذلك ممكن أن تُسقطوا الشّعر و تقلّموا الأظافر و تغتسلوا وتتطيّبوا في بيوتكم أو في مكان إقامتكم ، ثم تذهبون للميقات ، وتصلون ركعتين ، و وتعقدون بعدها النية . وتشرعون بالتلبية معلنين نيّتكم بالإحرام ، وهذا هو هدي محمد – صلى الله عليه وسلّم - .

إذن استعد الناس للحج ، ثمّ أمرهم – صلى الله عليه وسلم - بصلاة ركعتين ، كل بمفرده [[ يعني ليست جماعة ]] ،وكان عمه {{ العباس - رضي الله عنه -}} جهوري الصوت ، وأيضا رجل آخر من الأنصار يقفون ويبلغون الناس عنه ما يسمعون، حتى يسمع الجميع؛

لأن عدد الناس كبير . ثمّ بدأ - عليه الصلاة و السلام – بالتلبية من مُصلّاه ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، والجميع يُردّد معه .

يقول جابر - رضي الله عنه - : خرجنا معه نيف عن مائة ألف لا نعرف إلا الحج ، ما معنى لا نعرف إلا الحج ؟؟ أي أنهم خرجوا للحج فقط ، ولا يعلمون أنه ستكون هناك عمرة مع الحج ، [[ و سنوضّح هذا الأمر في سياق السيرة لاحقا ، لأننا نعلم أنّ النبي في حجة الوداع حج و اعتمر ]] .

وكان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق هديه معه من المدينة ، أي الإبل التي تُهدى إلى الكعبة ، وتُنحر ليأكل منها الفقراء والمساكين ، فأشعرها [[ أن نأتي إلى سنام الجمل ذكراً كان أو أنثى، يُجرح بشيء حاد قليلاً بسنامه حتى يسيل الدم ويُمسح سنامه بالدم ]] ، وقلّدها [[ علّق على رقبة الإبل شيئا من جلد أو متاع ، ليعرف الناس أن هذه الإبل هي هديا سينحر عند الكعبة للفقراء و المساكين ، وليس للبيع أو الشراء ]] .

وانطلق - صلى الله عليه وسلم - بين مئة ألف ونيف من الألوف المؤلفة من أصحابه ،[[ المؤلفة لست أعني هنا كما تظنون العدد الكبير، بل ألّف بين قلوبها الإسلام و الإيمان ]] ،

وشهد الكون كله حدثاً إيمانياً لم يشهده من قبل ، ولن يشهده من بعد ؛ رسول الله وحبيبه - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من حوله يحفون به من كل جانب ، أصواتهم ملأت الأفق بالتلبية ، ليسوا بحاجة للسلاح ، ولا للدروع ، ولا لفئة تحرس ، ولا من يشق لنا الطريق، فالجزيرة العربية كلها تدين بالتوحيد، تدين بدين {{ الله }} عزوجل .

وفي حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – ، وفي كل لحظة عشناها معه نجد الدروس و العِبر ، وفي حجة الوداع لنا الكثير من الوقفات و الدروس ، فالسيرة النبوية العطرة {{ للتأسي لا للتسلي }} ، رزقني الله وإياكم كمال محبته ، وحسن الاقتداء به بالقول والعمل .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-09-21, 06:47 AM
هذا الحبيب « 263 »
السيرة النبوية العطرة ((حجة الوداع / ج4 - مقاطعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب بنت جحش رضي الله عنها - ))
__________
مضى الموكب الجليل الجميل باتجاه مكة ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين عشرات الآلاف من أصحابه ، رافعين جميعا أصواتهم بالتلبية ، منيبين إلى الله بقلوب صافية بيضاء كبياض ملابس إحرامهم ، والكل يدعو الله أن يغفر الذنوب ، و يصفح عن الزلات ، وكما قلنا هناك الكثير الكثير من الأحداث و الدروس في هذه الحجة ، ومن هذه الأحداث مقاطعة النبي – صلى الله عليه وسلم – لزوجته زينب بنت جحش - رضي الله عنها - فما الذي حصل ؟

بعد أن مضى - صلى الله عليه وسلم - في الطريق قيل له : يا رسول الله لقد برك جمل صفية ،ولم يعد يقو على المسير!! أتذكرون من هي صفية ؟؟

[[ صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر ]] فبكَتْ بكاء شديدا، فجاء رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فجعَلَ يَمسَحُ دُموعَها بيَدِه، وهي تَبكي، وهو يَنهاها.

[[ بكت صفية لأنها ستؤخّر الركب ، و تؤخر خير خلق الله عن السفر لأنه لا يمكن أن يسير الصحابة و يتركوها ، وهي تشعر الآن أنها ستتسبب في مشكلة للنبي و لصحبه الكرام ، وقد ينظر الناس إليها نظرة تشاؤم ، وهكذا طبائع النساء وتفكيرهن في بعض الأحداث ]] ، فنزَلَ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – بالنَّاسِ ، أي أنه{{ أقام مدّة خلال الطريق }}

، فلما كان عندَ الرَّواحِ، قال لزَينَبَ بِنتِ جَحشٍ : أفْقِري أُختَكِ جَملًا {{ أعطيها جملا }} ، [[ أتذكرون قصّة زينب بنت جحش؟ هي التي زوجه الله إياها في القرآن الكريم ، من فوق سبع سماوات ، قال تعالى : {{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا }} وكانت تفخر على أمهات المؤمنين قائلة : ما منكم امرأة إلا زوجها أبوها أو أخوها ، إلا أنا زوجني الله من فوق سبع سماوات . وكانتْ زينب مِن أكثَرِهنَّ ظَهرًا {{ عندها كثير من الإبل }} ، فقالتْ: أنا أُفقِرُ يَهوديَّتَكَ!!

[[ يعني ما رح أعطي صفية اليهودية جملا لتركبه ]] ، فغضِبَ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - فلمْ يُكلّمْها حتى رجَعَ إلى المدينةِ، ومُحرَّمَ، وصَفَرَ؛ فلمْ يَأتِها، ولم يَقسِمْ لها، . . .

ويبدو أنّ زينب - رضي الله عنها – قد غلبتها نفسها ، فهي بشر والبشر غير معصومين ، فقد تعجلت - رضي الله عنها - بالرد وغاب عنها جلال الموقف!! فالذي يخاطبها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لكنها نظرت إليه في تلك اللحظة أنه محمد {{ الزوج }} وليس {{ النّبي }} !! فقالت : أنا أعطي يهوديتك هذه ؟؟ فنسبتها لليهود، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -غضبا شديدا ،

وكان يُعرف أنّه إذا غضب تربد وجهه كأنه فُقئ به حب الرمان ، وترك السيدة زينب لا يتحدث إليها ولا يكلمها طوال حجة الوداع ، وبعد أن عاد إلى المدينة هجرها إلى أن مرض وثقل عليه المرض وعلم أنه مقبوض؛ ذهب لحجرتها ، فقامت زينب لما رأته فرحة لم تسعها الأرض من فرحتها ، وقام – صلى الله عليه وسلم – و أحضر الفراش بنفسه وفرشه ، ونام تلك الليلة عندها .

ومما لا شكّ فيه أن سبب مقاطعة النبي – صلى الله عليه وسلم – لزينب بنت جحش هو محاربته للعصبية: (( دعوها إنها منتنة )) ، و(( ليس منا من دعا إلى عصبية ))، فزينب وصفت صفية باليهودية ، والإسلام يجبّ ما قبله ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمها و يعلمنا أنّ هذه العصبية فتنة ، وما أكثرها الآن !! وما أعظم أثرها السيء على وحدة المجتمع وصلاحه !! فمعرفة الشخص لنسبه نعمة خالصة من الله ، فهو- سبحانه - شاء لك أن تولد ابن فلان ومن العشيرة الفلانية ، ومن البلد الفلاني، فالنسب نعمة تستحق الشكرلا الفخر، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة حيث قال:

((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ))، وقبل ذلك قول الله تعالى: {{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }} ،

فليس عيبًا أن يعرف الإنسان نسبه حتى يتحقق التعارف بين الناس شعوبهم وقبائلهم، ولكن العيب أن يكون ذلك مدعاة للعصبيّة وللتعاظم والتعالي ، واستحقار أصول الآخرين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-09-21, 06:48 AM
هذا الحبيب « 264»
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج5 - قُبَيل وصول النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى مكة ))
__________
مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام في طريقهم للحج، وفي الطريق نزل جبريل -عليه السلام – بقوله تعالى : {{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }} ، فماذا يعني ذلك ؟ معناه يا رسول الله ، إن الله يأمرك أن تُدخل عمرة في حجة ، وقلنا من قبل إن النبي - صلى الله عليه وسلم – أحرم هو وكل أصحابه للحج ، وما كانت العمرة في النية ، فعقد النية على ذلك ، فأصبح - صلى الله عليه وسلم - قارناً ولم يعلن لأصحابه ، بل تركهم يُلبّون ويُكبّرون ويُهللون كما هم حتى لا يُربكهم .

وعندما وصلوا إلى موقع قبل مكة بقليل يقال له {{ سرف }} ، دخل على خيمة عائشة ، فوجدها تبكي ، قال لها : ما بكِ ، أنفستي ؟؟ قالت : أجل يا رسول الله ، قال : ما عليكِ ، [[ يعني لماذا تبكين ؟ هذا الأمر ليس بيدك ]] ثم قال لها : اصنعي كل ما يفعل الحاج غير أنك لا تطوفين بالبيت . إذن المرأة صاحبة ( العذر الشرعي ) تُحرِم ، وتقف على عرفة ، وتسعى بين الصفا والمروة ، ولكنها لا تطوف بالبيت . وكثير من الناس يسألون : وهل هناك فرق بين السعي والطواف؟؟ نعم هناك فرق كبير، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ،

إلَّا أنَّكم تتكلَّمونَ فيه، فمن تكلَّمَ فيه فلا يتكَلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ)) . والعجيب الغريب أننا نرى البعض من الناس لا يلقون بالاً للطواف!! فبدلا من الدعاء و الذّكر وتلاوة القرآن و خشوع القلب نراهم منشغلين بأمور الدنيا ؛

[[ بطوف و بحكي تلفون يطّمن على تجارته !! أو بتابع الواتس و الفيس و بتبادل النكت مع أصحابه !! ونسمع ضحك من الآخر خلال الطواف !! يا بني آدم خلّصَت أشواط الطواف و انت ماسك التلفون و بتضحك !! ]]

لا يا أخي !!! أباح الله لنا الكلام كأن تقول لشخص :أفسح ، تقدم ، . . . وليس الانشغال بالدنيا ومتاعها . إذن الطواف صلاة وشرطه {{ كمال الطهارة }} ، فلو انتقض وضوؤك وأنت تطوف ، تقطع الطواف وتخرج ، وتجدد الوضوء ثم ترجع تتم طوافك بادئا من عند الحجر الأسود .

أما السعي بين {{ الصفا والمروة }} فيجوز لك أن تسعى من غير وضوء ، فالمسعى لم يكن سابقا داخل بناء المسجد كما ترونه الآن .

ولما وصل - صلى الله عليه وسلم - قريبا من التنعيم {{ مسجد السيدة عائشة }} أمر أن تُضرَب الخيام في مكان اسمه {{ ذي طوى }}، ومكة على مقربة منه ، و لأنه وصل مع مغيب الشمس فكان من سنته - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة نهارا ،

[[ ولا نُقيد الناس بهذه السنة في أيامنا هذه ،فالدين يسر ، وأعداد هائلة تأتي لمكة ، فمتى ما وصلت الحافلة تدخل ]] ضرب خيامه - صلى الله عليه وسلم - وبات تلك الليلة ،حتى إذا أصبح أخذ ماء واغتسل ، وقلّده من الصحابة من استطاع ذلك . وقد يسأل أحدهم مستغربا :

كيف اغتسل – صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرِم ؟!! نعم اغتسل - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم حتى يسنّ لنا {{ سنّة النظافة }} ، فيزول عرق الجسم ، وغبار الطريق ، فهو يريد أن يدخل مكة بما يليق بها ، فهي {{ بيت الله }} ، فيجوز أن يغتسل المحرم ، ولكن لا يستعمل الصابون المعطر، ولا يزيل شعراً قاصدا ذلك ، أما ما ينزل من الجسم من تلقاء نفسه فلا حرج في ذلك أبدا .

وهنا لي وقفة ، فمع كل موسم حج تتكرر نفس المقولات من الناس والتي تصل لحد الوسوسة !! [[ ما بدي أغتسل حتى ما ينزل مني شعر!! إيّاك تحك راسك يا أبو فلان ؛ إذا حكّيت راسك و نزل شعر لازم فداء وهدي ، !!]] ، فمن أخبركم بذلك ؟؟

يا خير أمة استحلفكم بالله تفقّهوا في دينكم ، واسألوا ، فنحن - و الحمد لله - في زمن العلم و المعرفة ، فيجوز لك في الحج أن تغتسل و تبدل ثياب الإحرام إن اتّسخت ، وكم هو مؤلم رؤية البعض من الحجيج و المعتمرين وملابس إحرامهم متسخة جدا ، بل ورائحتها تؤذي كل من حولها !! والسبب أنهم يقولون – جهلا - : لا يجوز الغُسل أو تبديل الملابس !! لا يا أخي ، نظف جسمك و بدّل ملابس الإحرام ؛ فأنت في أشرف بقاع الأرض .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-12-21, 06:05 AM
هذا الحبيب « 265 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج6 - طواف النبي – عليه الصلاة و السلام - ))
__________
وفي الصباح ركب - صلى الله عليه وسلم – ناقته القصواء ودخل مكة نهارا في الرابع من ذي الحجة ، [[ قلنا إنه خرج من مدينته - صلى الله عليه وسلم - في ٢٥ من ذي القعدة ودخل مكة ٤ من ذي الحجة ، بمعنى أنه مكث في الطريق 9 أيام ]] ،

دخل مكة ملبّياً مكبّراً ومعه هذا الجمع الذي زاد عن مئة و أربعين ألفا ، كلهم يُكبّرون ويهللون ، واستقبله أهل مكة بفرح وسرور ،فما زال يسير - صلى الله عليه وسلم – باتجاه الكعبة ويدعو [[ لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح حول تخصيص دعاء معين عند رؤية الكعبة، فللمؤمن أن يدعو بما شاء ]] .


ثم نزل من على راحلته ، وكان (مضطبعا )( أن يُدخل الرجل رداءه الذي يلبسه تحت منكبه الأيمن، فيلقيه على عاتقه الأيسر، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة )) ، وأتى إلى {{ الحجر الأسود }} فاستلمه بيديه وقبَّلهُ وهو يبكي ، ثم بدأ (( طوافه من عند الحجر الأسود )) ماشياً على قدميه - صلى الله عليه وسلم - في الشوط الأول ، وعندما وصل إلى (( الركن اليماني )) استلمه وقال : {{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }}


فلما وصل - صلى الله عليه وسلم – إلى الحجر الأسود مرة أخرى ، لم يصنع كما صنع أول مرة ، فلم يُقبّله و إنما أشار إليه

[[ وفي هذا رخصة لنا خاصة وقت الازدحام ، وحدّث ولا حرج عن مزاحمة الرجال و النساء لتقبيل الحجر الأسود ، فمن أجل تطبيق السنة يُضيّعون دينهم فتُكشف عوراتهم مع الزحام !! ويُلامس بعضهم بعضا !! حسبي الله ونعم الوكيل ، يا أخي هذا لا يجوز أبدا ]]

وكان يرمل – صلى الله عليه وسلم - في الأشواط الثلاثة الأولى [[ أي يُهرول ]] ثم ركب - صلى الله عليه وسلم - ناقته القصواء وطاف ، وأتم أربعة أشواط على الناقة بعيداً عن جدار الكعبة ، ليفتح الطريق للناس ويراه الجميع ؛
فالكل يريد أن يأخذ المناسك عنه ، وكان يطوف مع عامة الناس ، ولم يطلب من أحد أن يفتح أن يخلي له الطريق ،فهو معلم الناس التواضع – عليه الصلاة و السلام - .

وأذكّركم أحبّتي ببعض المصطلحات في الحج :
الاضطباع : أن يُدخل الرجل رداءه الذي يلبسه تحت منكبه الأيمن، فيلقيه على عاتقه الأيسر، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة، ويطلق عليه: التأبط، والتوشح.
والرمَل : هو الهرولة ، وهو سنة من سنن الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى وهو خاص بالرجال دون النساء .

العج: هو رفع الصوت بالتلبية باعتدال، وهو مستحب للرجال .
الثج : إسالة دماء الهدايا في الحج ، وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا .
اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم
___________

عطاء دائم
06-12-21, 06:07 AM
هذا الحبيب « 266 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج7 - السعي ، التحلل ، أوجه الحج ))
__________
لما أتمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طوافه حول الكعبة {{ ٧ }} أشواط ، أتى (( مقام إبراهيم )) عليه السلام ،وهو يقرأ قول الله تعالى: {{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }} ، فوقف وراء المقام و(( صلى ركعتين )) قرأ فيهما بعد الفاتحة في الركعة الأولى :

{{ قل يا أيها الكافرون . . . }} ، وفي الركعة الثانية : {{ قل هو الله أحد . . . }} ، ثم دعا ما شاء الله له أن يدعو ،ثم توجه - صلى الله عليه وسلم - إلى (( زمزم )) وقال لأصحابه : اشربوا منها وتضلعوا ، [[ تضلعوا : يعني اشربوا كثيرا وارتووا حتى يدخل الماء ضلوعكم ]] ، وقال أيضا : ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ له [[ يعني أحسن طب في الحاضر والماضي والمستقبل ، لذلك يُستحب الدعاء و استحضار النية عند شرب ماء زمزم للشفاء أو طلب الرزق ... وغير ذلك ]] .

ثم اتجه – صلى الله عليه وسلم - إلى (( الصفا )) وقال وهو يصعدها : {{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }} ، ثمّ استقبل البيت وقال : بسم الله الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا ما شاء الله له أن يدعو وكرر التكبير و الدعاء 3 مرات .

ثم اتجه نحو (( المروة )) وبدأ سعيه - صلى الله عليه وسلم – ماشياً ، والمسافة بين الصفا والمروة حوالي {{ ٣٩٥ مترا }} ، فما زال - صلى الله عليه وسلم - ينحدر نزولاً من الصفا حتى استقر في بطن الوادي، [[ حيث كان وادي بين الصفا والمروة قبل البناء و البلاط ]] ، حتى إذا استقرت قدماه في بطن الوادي بدأ بالجري الخفيف (( الهرولة )) أين موقع هذه الهرولة ؟؟

[[ بين الميلين الأخضرين ]] ، والهرولة للرجال فقط وليست للنساء .

وعندما وصل المروة ، صعد وقال مثلما قال وهو على الصفا ، وعلّمنا - صلى الله عليه وسلم - أنّ السعي من الصفا للمروة ذهاباً يعتبر شوطاً أول ، والرجوع من المروة للصفا شوطاً ثانيا وهكذا . وينتهي الشوط السابع عند المروة لأنها أشواط مفردة {{ ٧ }} .

وكان أصحابه بين يديه - صلى الله عليه وسلم - قد ملؤوا المسعى ، فقال بأعلى صوته : من كان قد ساق معه الهدي فليبق على إحرامه ، ومن لم يكن قد ساق هديه فليتحلل من الإحرام وليجعلها عمرة ، هل رأيتم متى أخبرهم ؟؟ بعد أن أتم الطواف والسعي ، وقلنا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الطريق أوحى الله له عن طريق جبريل :

{{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }}، يعني حجة و عمرة ، والصحابة ما كان في نيتهم عمرة ، نيتهم حج فقط ، وقلنا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد ساق هديه معه ؛ إذن لن يتحلل من الإحرام معهم ثم قال لهم - صلى الله عليه وسلم - : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقت هدياً ولجعلتها عمرة ، ولكن سقت الهدي ، والله تعالى يقول :

{{ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }} ، وإن محل الهدي يوم النحر وفي أرض منى ؛ [[ إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجّ مقرنا ، ولم يتحلل لأنه قد ساق هديه معه ، وقال : لو كان هذا التشريع نزل قبل أن أخرج من المدينة ما سقت معي الهدي ولجعلها عمرة وذلك ليخفف عن أمته ]] .

فتحلل أصحابه ؛ فمنهم من حلق ومنهم من قصّر ، فقال – عليه الصلاة و السلام - : (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قالَ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ )) . ثم قرأ قوله تعالى :

{{ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ }} ، لاحظوا : قدّم التحليق على التقصير . فحلق أصحابه وتحولت حجتهم إلى عمرة . فسأله أحد الصحابة : يا رسول الله ! أي الحل ؟ [[ يعني الآن نحن لم نعد محرمين ، تحللنا من الإحرام ، ولكن التحلل ماذا يبيح لنا ؟ هل يوجد شروط ؟ ]] فقال - صلى الله عليه وسلم - : الحل كله ،فتحللوا من إحرامهم ، واغتسلوا ، ولبسوا ثيابهم ، وامتشطت النساء وتزينت لرجالها ،لأن النبي قال {{ الحل كله }} .

إذا هي حجة واحدة لنبينا خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وهي حجة الوداع ، وشريعته هي الماضية إلى قيام الساعة ، فجمع الله له الخير كله في هذه الحجة (( وكانت حجّته -عليه الصلاة و السلام – حجة قارن )) فما معنى ذلك ؟ هناك أوجه ثلاثة للحج علّمنا إياها نبينا في حجة الوداع :


حج مفرد [[ أن ينوي الحج فقط بدون عمرة ]] كما حدث مع السيدة عائشة - رضي الله عنها - ، فقد جاءها الحيض قبل أن يدخل الحجاج مكة ، ولم تطف بالبيت،فلم تكتب لها عمرة ،فلما انتهى الحج قالت : يا رسول الله ، أيرجع الناس كلهم بحجة وعمرة وأرجع بحجة فقط ؟ فأمر- صلى الله عليه وسلم - أن تقف الرحال في أطراف مكة ، وأرسلها مع أخيها {{ عبدالرحمن بن أبي بكر }} ، وأمره أن يخرج بها إلى الحل [[ أي خارج حدود الحرم ]]

فخرجا إلى التنعيم : {{ ما يعرفه الحجاج والمعتمرون بمسجد عائشة نسبة لهذا الموقف }} ، فأهلّت من هناك بعمرة مع أخيها ، وطافت وسعت وتحللت ، وهذا معنى الحج المفرد .

حج مقرن [[ أن تنوي عمرة وحجة في نسك واحد ]] : كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد تحلل أصحابه وبقي محرما للحج .

حج متمتع [[ وهي أن تُقدم العمرة على الحج ، ثمّ تتحلل من العمرة – الحل كله - فتلبس الثياب وتغتسل وتتطيب ، فإذا كان اليوم {{ ٨ }} من ذي الحجة ، يلبس ملابس الإحرام ، ويُحرم الحاج من مكان سكنه وينوي الحج ]] ، وهذا ما فعله الصحابة الذين لم يسوقوا هديهم من المدينة في حجة الوداع . وهكذا علّمنا نبينا – عليه الصلاة و السلام - ثلاثة أوجه للحج في حجة الوداع .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-14-21, 06:44 AM
هذا الحبيب « 267 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج8 - الوصول إلى عرفة - ))

بقي - صلى الله عليه وسلم - على إحرامه ، وتحلل أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي ، ورجع إلى مكان إقامته في مكة عند {{ الحجون }} ، وأقام بها أربعة أيام ، وفي {{ ٨ ذي الحجة}} - المعروف بيوم التروية - أمر الناس المتحلّلين أن يستعدوا لإحرام الحج ، وعند الضحى ، توجه - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المسلمين إلى {{ منىً }} ونزل بها ،

[[ سمّيت منى لأنَّه تُمْنَى الدِّماءُ في أيَّامِها ]] وصلَّى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. وهذه هي السُّنة ، فهي ليست ركنا من أركان الحج ، ولكنها سُنة لا تأثم على تركها ، فلا نضيق على الناس .

ويوم التروية هو أحد الأيّام الفضيلة؛ فهو من أيّام العَشر من ذي الحجّة، والتي أقسمَ الله -سبحانه وتعالى- بها في القرآن الكريم؛ لفَضلها، وعَظمتها؛ فقال: {{ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ}}،وهو من الأيّام التي يكثر فيها ذِكر الله تعالى ، ويشمل ذِكر الله تعالى التكبيرَ، والتهليلَ، والتحميدَ، والتسبيحَ، كما أنّ العمل الصالح في هذه الأيّام أفضل أجراً من الجهاد في سبيل الله ؛ قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( ما مِن أيَّامٍ العمَلُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللَّهِ مِن هذهِ الأيَّامِ العَشر، فقالوا : يا رسولَ اللَّهِ ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ ؟

فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ - : ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ ، إلَّا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ )) . وقيل إنّه سمي بيوم التروية لأنّ الحجاج كانوا يتروّون من الماء فيه ، يُعدّونه ليوم عرفة .

ثمّ صلّى - عليه الصلاة و السلام – فجر عرفة في منىً ، ومكث قليلاً حتى طلعت الشمس، ثم سار - صلى الله عليه وسلم - ملبياً مكبراً حتى أتى ( نَمِرة ) ، فنزل بها، ثم جلس في خيمته بنمرة حتى إذا زاغت الشمس [[ أي وقت الظهر ]] ، أمر بالقصواء، فرُحِلت له [[ أي جُهّزت له ]] ،

ثم ركبها و أتى بطن الوادي ، وأمر أن يجتمع الناس حوله ووقف بهم خطيباً ، وكانت خطبة الوداع في يوم {{ الجمعة }} ، فخطب فيهم [[ خطبة عرفة ]] ، لا خطبة الجمعة ، ولكن مشيئة الله أن صادف يوم عرفة يوم جمعة ، وتسمى أيضا: خطبة الوداع ، خطبة الحج ، خطبة الإسلام ، خطبة الأشهاد ، خطبة البلاغ . وفيها من البيان و المواعظ الكثير الكثير ، ونحن نحتاجها جدا خاصة في هذا الزمان الذي تاه فيه المسلمون ، وسنقف عندها كثيرا .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-14-21, 06:46 AM
هذا الحبيب « 268»
السيرة النبوية العطرة (( خطبة الوداع 1 ))
__________
في (( يوم عرفة )) وقف – صلى الله عليه وسلم – بالناس خطيبا ، و كانت خطبته جليلة عظيمة ، فيها أحكام نحن بحاجة إليها في كل يوم ، وفي كل ساعة ، وفي أية أرض كنا ، وفي أي زمان عشنا إلى أن نلقى الله تعالى ، ففيها من البيان و المواعظ الكثير الكثير خاصة في هذا الزمان الذي تاه فيه
المسلمون، وانغمس فيه الكثير في القتل و السّلب و الظلم حتى لأهل بيتهم ، ((وقد وردت هذه الخطبة في كتب السيرة بطرق منوّعة أجازها أهل العلم ))، و سنُجمل في حديثنا عنها أغلب عباراتها - بإذن الله – واقفين على توجيهاته – صلى الله عليه وسلم – نأخذ منها الدروس و العبر ، نستفيد منها نحن ، ونعلمها لأبنائنا و للأجيال القادمة ، لتكون عونا لهم في السّير على طريق الهداية ، ومواجهة أعداء الإسلام و ظلمهم .

" الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير.

[[ التقوى هي سفينة النجاة يوم القيامة وهي التزام طاعة الله وطاعة رسوله، وتكون بالتزام ما فرض الله واجتناب ما حرم الله سبحانه وتعالى ]].
أما بعد؛ أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا .

[[ أول ما نلحظ استخدامه – صلى الله عليه وسلم – أداة نداء القريب " أي " وذلك لإزالة الهوة بينه وبين النّاس ، وزيادة في قرب نفسه منهم ، فهو المعلم و الهادي لهم ، ثم يبدأ بمعنى مجازي للأمر " اسمعوا " بهدف التلطف و الرقة و لفت الأنظار وتوجيه النفوس إلى ما يعرضه عليهم من توجيهات ، ثمّ أراد – عليه الصلاة و السلام - أن يقرر حقيقة رحلة الإنسان من حياته الدنيا، بتقريره أنه – وإن كان رسولاً يوحى إليه – فهو لا يدري متى سيكون رحيله ]] .

أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا – ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. [[ أي: إنَّ سَفْكَ دمائِكم وأَخْذَ أموالِكم بغيرِ حقٍّ، حرامٌ عليكم حرمة شديدة، كحُرمةِ يوم عرَفةَ، في هذا الشهر - ذي الحِجَّةِ - في بلدِكم مكَّةَ . . . فماذا نقول عن هذه الدماء التي تُسفك في بلاد المسلمين اليوم ؟! أجيبوني بالله عليكم !!

وبعد ذلك يوجهنا – عليه الصلاة و السلام – إلى أهمية الأمانة وحفظ حقوق الناس و البعد عن الخيانة التي - كما نرى – دمّرت العائلات ، و انهارت بسببها اقتصادات الدول ، فازداد الفقر والشقاء ]] .

وإن ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون، ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا. وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب. [[ الربا هو المال الزائدُ على رأسِ المالِ؛ فهومردودٌ، وأوَّلُ ربًا أضَعُ مِن رِبَانا رِبَا العبَّاسِ بنِ عبد المُطَّلبِ، فإنَّه مردود كلُّه. هل رأينا كيف يوضع الدستور ؟؟

مش حلال لعمي و حرام على النّاس مثل ما بصير عند البعض اليوم !!]] .

وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، [[ أي أنّه لا قِصاص ولا دِيَةَ ولا كفَّارةَ لكل دم كان قبل الإسلام، وإنَّ أوَّلَ دمٍ أترُكُه مِن دِمائِنا دمُ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ حيث قتلته قبيلة هذيل ، يعني ما في ثأر ]] .

وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والّسقاية ،[[ السدانة : خدمة الكعبة ، السقاية : سقاية الحجيج ، و المقصود من هذا التوجيه النبوي أنّ مفاخر الجاهلية أسقطها الإسلام ، وكل شيء من عاداتهم و تقاليدهم، ولكنه استثنى بعضها ومنها السدانة والسقاية لأن هذه أمور حميدة ، و يريد الإسلام أن يحث الناس ويدفعهم لخدمة الكعبة الشريفة وزوارها الذين يأتون لإكمال شعائر الدين ]] .

والعمد قود ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية ، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

[[ "العَمْدُ": وهو القَتْلُ عن قَصدٍ، وتَبْييتِ نِيَّةٍ مِنَ القاتِلِ، "قَوَدٌ": وهو القِصاصُ، فيَقتَصُّ وليُّ دَمِ المَقْتولِ مِنَ القاتِلِ إلَّا أْن يَعْفوَ وليُّ الدَّمِ كما جاءَ في الأحاديثِ، بينما جزاء القتل الخطأ هو الدية المقدرة فقط بمائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية ]] .

أما بعد؛ أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تُحقّرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم،[[ هنا يحذّرنا – عليه الصلاة و السلام - من غواية الشيطان، فالشيطان أيس من أن ينتصر الشرك على الإسلام في مكة وما حولها من جزيرة العرب، ولكن ستكون له طاعة فيما تحقرون من أعمالكم ،يعني انت مسلم مش كافر ؛ لكن مش مشكلة :

غش ، اكذب ، اظلم الناس ، اطلعي بدون حجاب ، لازم يكونلك صديق تطلعي معاه !! هاي الأمور مش مشكلة ، شغلات بسيطة ، المهم انت مسلم مش كافر!! لا يا أخي ، لا يا أختي ، هذه الأمور هي مفاتيح النار وضعها الشيطان بين أيديكم مما تصتصغرون من الآثام و الأعمال ، فاحذروا الوقوع بها ، فلا تنظر إلى صغير ذنبك ، وانظر إلى عظيم من عصيت ؛ فأنت تعصي الله تعالى سواء أعصيته بصغير ذنب أو بكبير ذنب ]] .

أيها الناس، إنما النسئ زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا ، يُحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيُحِلوا ، ما حرم الله ويُحرّموا ما أحل الله [[ فقد أقر الإسلام تعظيم أهل الجاهلية للأشهر الحرم، وبين أنها حرام منذ أن خلق الله السموات والأرض، وبين أن أهل الجاهلية كانوا يقعون في "النسيء" وهو تأجيل الأشهر الحرم، أو أحدها ليكملوا قتالهم وسفك الدماء، وهذا من وساوس الشيطان أو من النفس الإمارة بالسوء، فدعا الإسلام لتعظيم حرمات الله وترك النسيء ]] .

وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، ألا هل بلغت ؟

اللهم فاشهد. [[ هنا يبيّن النبي – عليه الصلاة و السلام - أن السّنة التي حج فيها حجة الوداع هي السَّنة التي وصل فيها ذو الحجة إلى موضعه، يعني أمر الله تعالى أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت فاحفظوه ، واجعلوا الحج في هذا الوقت ، ولا تبدلوا شهراً بشهر كعادة أهل الجاهلية ]] .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-14-21, 06:46 AM
هذا الحبيب « 269»
السيرة النبوية العطرة (( خطبة الوداع 2 ))
__________
أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق؛ لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يُدخِلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، [[ أوصانا الله بإعطاء الزوجة حقّها؛ و إنصافها في جميع أوجه التعامل معها ؛وحُسن معاملتها ، كذلك عليهنَّ واجبات :

فلا يجوز لهن أن يُدخلن أحدا البيت ممّن نكره، ولا يأتين بفاحشة مبينة كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف، فإن فعَلْنَ ذلك بدونِ رِضاكم فاضرِبوهنَّ ضربًا لا يترك أثرا ولا يسيل دما ولا يُسبّب كسرا، وذلك بعد الوعظ و الهجر في المضاجع كما جاء في الآية :

{{ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا }} ، ونبينا قال لعائشة يوما : والله يا عائشة لولا أن أخشى القصاص يوم القيامة لأوجعتك ضربا بهذا المسواك !! فالمقصود بالضرب التأديب وليس التعذيب كما يفعل البعض !! ]].

فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف،[[ أي النَّفقةُ مِن المأكولِ والمشروبِ، والسُّكْنى والمَلْبَسِ على قدْرِ كفايتِهنَّ، مِن غيرِ سرَفٍ ولا بخل، أو باعتبارِ حالِكم فقرًا وغنًى ]] .

واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً [[ وتكون التقوى بإنصافِهنَّ ومراعاةِ حقِّهنَّ؛ فقد تم الإيجاب و القبول واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بعهد الله]] – ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد.

لنا وقفة هنا ؛ فالغرب وأعداء الإسلام – خاصة الذين يظهرون على الإعلام - يتمسكون ب (( وَاضْرِبُوهُنَّ }} فيقولون : أليس إسلامكم كما تقولون دين الرحمة ؟؟!! ما هذا التعصب للرجل ؟؟ ولماذا يُهين دينكم المرأة ؟!! فأقول لهم : أنتم جهلة ولا تفهمون كلام الله ،

فإن الله يقول {{ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا }}، فالناشز هي التي امتنعت عن أداء حق الزوج ، أو عصته ،أو أساءت العشرة معه، فتعالت على شرع الله ، وخرجت عن الطريق المستقيم ، فلم يقل لكم اضربوهن مباشرة ،

بل قال : {{ فَعِظُوهُنَّ }} [[ يعني احكي معها ، وانصحها بينك وبينها ، حتى مش قدام أولادك وبناتك ، وللأسف البعض بجمعوا العيلة وبقعدوا يكشفوا في أسرار البيت و بتصير قصة على كل لسان !! ]]

فإذا استجابت الزوجة ‘ تستقيم الحياة ، و إذا لم تستجب ؛ فما الحل ؟؟ لقد أعطاك الله طريقا آخر وحلّا آخر لإصلاحها : {{ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ }} ، إذن بعد الموعظة هناك أسلوب أشد ، و هو الهجر في المضاجع ،

[[ مش تحرد حضرة جنابك وتطلع تنام عند أهلك أو في الفندق ؛ لأنو للأسف اليوم بعض الرجال هم اللي بيحردوا مش الزوجات !! ]] ، فالمقصود هجرها في نفس فراش النوم ، وهذا أشد عليها من أن تخرج من الغرفة ، فإن لم ينفع معها هذا الأسلوب ،

عندها تلجأ إلى الخيار الثالث وهو (( واضربوهنّ )) الذي ورد في الآية و في خطبة الوداع . وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الضرب في الخطبة : ضرب غير مبرح ؛ بمعنى لا يترك أثرا ولا يسيل دما ولا يُسبب كسرا

[[ مش بالعصاية و حزام البنطلون وتقول : ربنا قال اضربوهن !!]] ، لا يا أخي ، لا تفتر على الله و رسوله ، فالنبيّ – عليه الصلاة و السلام – قال لعائشة مرة عندما أخطأت : والله يا عائشة لولا أن أخشى القصاص يوم القيامة لأوجعتك ضربا بهذا السّواك . يا حبيبي يا رسول الله ، وهل السواك يوجع ؟؟ لا ، فالمقصود فيه التأديب لا التعذيب .

وكل هذه الخطوات في تأديب المرأة العاصية لزوجها من أجل البقاء على بناء الأسرة ، و عدم ضياع الأبناء ، فالطلاق سيهدم هذا البناء ، ويضيع الأبناء في أغلب الحالات ، واذهبوا إلى المحاكم وانظروا المآسي فيها !! لذلك على الأهل و أصحاب العقول الراجحة من الناس أن يبذلوا جهدهم في الإصلاح بين الزوجين ، [[ مش إذا أجت المرأة تبكي لأهلها ، ولمّت العمارة بصوتها ، أو الزوج راح يشكي لأهله معناه انهم على حق ، ومش على طول نروح للمحكمة ونبدأ في هدم الأسرة ]] لا ، فالكل خاسر ، و سيدفع الأبناء الثمن .

ولكن إذا لم تنفع كل هذه الوسائل ، ولا حتى مساعي أهل الخير، عندها نلجأ إلى الطلاق ،{{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }} ، يعني حتى بعد الطلاق أعطى الله الزوج فرصتين ، وكل ذلك حفاظا على الأسرة ، و عدم كسر خاطر الزوجة ؛ فالإسلام يقدّر مكانتها ، و يوصي دائما بالرفق بها ، ليس كما يدّعي – زورا و بهتانا - الغرب وأعداء الإسلام و أبواق الإعلام المتأسلمين أنّ الإسلام حطّ من مكانتها !!

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-15-21, 06:27 AM
هذا الحبيب « 270 »
السيرة النبوية العطرة (( خطبة الوداع 3 ))
__________
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة [[ ركز الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - على رابط الأخوّة ليتلاحم المؤمنون، ويرتبطوا برباط العقيدة، ويقدموه على غيره من روابط النسب والدم، وكان هذا الرابط من أهم دعائم قيام الدولة الإسلامية في المدينة بعد الهجرة، وقد اهتم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد بناء المسجد، وأرشدهم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن يتعاملوا بروح الأخوة، وبالأخلاق المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ]] .

ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه - ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد. [[ لماذا يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العبارة بالمال ؟؟ لأن أغلب القضايا التي تُفرق بين الناس اليوم سببها المال ، فإذا ما دخلت المادة بين الأب وابنه أفسدت علاقتهما ، وإذا دخلت بين الأخوة أفسدت علاقتهم ،وكما يقال {{ الفلوس تغير النفوس }} ،

لذلك يجب أن تُدار الأموال بين الناس وفق أحكام الشريعة ، فلا اعتداء على أموال الناس ، ولا هضم لحقوقهم المادية ، وقد حث الإسلام على مساعدة الفقراء و المحتاجين ، وفرض الزكاة على أموال الناس وفق شروط معينة حتى تعيش الأمة الإسلامية بتكاتف و محبة و أخوّة ]] .

فلا تَرجعنّ بعدى كافراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنّة نبيّه ، [[ وقد ترَكْتُ فيما بينكم، ما لن تَضِلُّوا بعده بعد التَّمسُّكِ به والعمَلِ بما فيه، إنّه القُرْآنَ العظيم، وفي رواية أخرى أنه لم يذكُرِ السُّنَّةَ؛ لأنَّ القُرْآنَ مُشتملٌ على العملِ بها، فيلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ ]] .

وأنتم تُسألون ( وفي لفظٍ مسؤولونَ ) عني ، فما أنتم قائلون ؟
[[ بمعنى ستُسألون عن تبليغي لكم رسالة الإسلام ،فبأيِّ شيءٍ تُجيبون؟ ]] ، قالوا : نشهدُ أنك قد بلَّغْتَ رسالاتِ ربكَ ، وأدَّيْتَ ، ونصحتَ لأُمَّتِكَ ، وقضيتَ الذي عليك . فقال بأصبعِه السبابةِ يرفعُها إلى السماءِ ويُنْكِتُها إلى الناسِ :

اللهمَّ اشهد ، اللهمَّ اشهدْ . [[ أي أشار بالسَّبَّابةِ يرفَعُها إلى السَّماءِ ويُنزلها إلى الأرضِ ويقولُ: اللَّهمَّ اشهَدْ على عبادِك بأنَّهم أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغْتُ الرسالة و نصحتهم ]] .

أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم ؛وآدم من تراب ، وإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى

[[ هنا رفع شعار المساواة بين الناس: إن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، وأنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، فالتقوى هي معيار القبول عند الله ، وسفينة النجاة يوم القيامة هي التزام طاعة الله وطاعة رسوله، هذه القاعدة السامية التي أقرها الإسلام قبل خمسة عشر قرنًا،

فهل يوجد نظام في العالم يطبق هذه القاعدة؟ فماذا نشاهد في هذه الأيام؟ نشاهد التمييز العنصري، ونرى القوانين الأرضية والابتعاد المتعمد عن القوانين الربانية، نشاهد التفرقة والتمييز على أساس غير التقوى، لقد ألغى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كل ألوان التمييز العنصري، وداس عليه بقدميه، وذلك قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، في حين أن بعض الدول التي تزعم أنها متقدمة لا زالت تفرق بين مواطنيها بحسب اللون أو الجنس، كما نرى الغطرسة والتجبر والتكبر من الدول الكبرى ضد الشعوب المستضعفة ]] .

ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ، قالوا نعم – قال فليبلغ الشاهد الغائب.
أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادّعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل.

[[ لم ينس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوصي المسلمين بالتخلص من عادات الجاهلية في توزيع التركة، ودعاهم إلى احترام أحكام المواريث، وتقسيم الإرث بما شرع الله تعالى في كتابه للحفاظ على العلاقات الأخوية، وللبعد عن الظلم ، فلا يَجوزُ أن يُوصيَ أحَدٌ بجُزءٍ مِن الميراثِ لوارثٍ له حظٌّ ونصيبٌ في الميراثِ ،

كذلك إنَّ المولودَ يُنسَبُ لصاحبِ الفراشِ وهو أبوه ، و" للعاهِرِ الحجَرُ"، أي للزَّاني الرَّجمُ بالحجَرِ، وقيل: المقصودُ بالحجَرِ الخيبةُ والخُسرانُ، "وحِسابُهم على اللهِ تعالى" ، ومَن ادَّعى أبًا ليس بأبيه، ومَن انتَمى إلى قومٍ وهو ليس مِنهم، فجَزاؤُه أنَّ اللهَ يَلعَنُه لعنًا مُتواصِلًا إلى يومِ القيامةِ، واللَّعنُ هو الطَّردُ مِن رحمةِ اللهِ.]]
ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ، قالوا نعم .

قال فليبلغ الشاهد الغائب ؛ فرب مُبلّغٍ أوعى من سامع " . وبذلك يكون - صلى الله عليه وسلم – قد وضع كلامه أمانة في أعناق من سمعوا ، وفي أعناق جميع الأجيال ، فكل جيل عليه أن يبلغ من بعده . ونحن نشهد يا رسول الله أنّك بلّغت الرسالة و أدّيت الأمانة ، ونصحت الأمّة و كشفت الغمة - صلوات ربي وسلامه عليك - .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-16-21, 06:28 AM
هذا الحبيب « 271 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج9 - الإفاضة من عرفات - ))
__________
انتهت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي خطبها في عرفة و المعروفة {{ بخطبة الوادع }} ، ثم أذّن بلال لصلاة الظهر وأقيمت الصلاة فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين سراً ، [[ أي لم يجهر بالقراءة ،أي ليست صلاة جمعة – وقلنا سابقا إنّ يوم عرفة صادف يوم جمعة ]] ، ثم أمر بلالا أن يقيم الصلاة ، فصلى بهم أيضا ركعتين صلاة العصر قصراً وجمعاً

[[ جمع تقديم ]] ، ثمّ تلا – صلى الله عليه وسلم -على أصحابه قوله تعالى : {{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً }} ، حيث نزل بها جبريل لتوّه، وبعض الناس يعتقدون أن هذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن !! لا يا أحبة ، نزل بعدها آيات كثيرة ، وآخر ما نزل كان قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأيام ، وهو قوله تعالى : {{ وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ }} .

ثم أمر الناس أن يأخذوا راحتهم حتى تذهب حدة الشمس ،لأن الوقت ظهر ، ثم ركب - صلى الله عليه وسلم - ناقته القصواء واتجه بها إلى وسط عرفة المعروف {{ جبل الرحمة }} ،حتى أتى الصخرات العظام الكبار، فأسند صدر ناقته إلى الصخرات و يمم وجهه إلى الكعبة ، وأخذ يدعو ربه، ويستغفر، ويبكي ويدعو لأمته ، فمازال يدعو حتى سقط القرص ، [[ يعني غابت الشمس ]] ،

مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، لكنه يدرك تماما فضل يوم عرفة وقبول الدعاء فيه ؛ فأراد أن يعلمنا معنى العبودية لله ،(( وللأسف في أيامنا هذه يكون الناس على عرفة في الخيام وهي مكيفة ، وفيها ما لذ وطاب من الطعام و الحلوى و العصائر الباردة ؛ والخدمة خمس نجوم ؛ خاصة {{ الحج المميز }}

وما أدراك ما الحج المميز؟! بالآخر بيقولوا بعض الناس : ازهقنا !! متى رح ننزل عن عرفة !! مطولين !! ونحن بأمس الحاجة ليغفر الله ذنوبنا )) .


فما زال - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويستغفر لأمته ويبكي وهو مستقبل الكعبة ، ولم يصعد جبل الرحمة كما يفعل البعض اليوم ، ويؤذون الناس حيث تسقط الحجارة عليهم!! وبعضهم لا بد أن يكتب اسمه على العامود الأبيض !!لا يا أخي ؛ هذا ليس من السّنّة أبدا .


وعندما سقط القرص تماماً ، لم يأذن – عليه الصلاة و السلام - بصلاة المغرب، وعندما بدت العتمة أخذ طريقه وهو يقول للناس : أفيضوا عباد الله مغفوراً لكم لقد غُفر لكم ما مضى فاحرصوا على ما بقي [[ أي احرص على بقية عمرك ، فالحاج يرجع بإذن الله كيوم ولدته أمّه ، أي لا ذنوب عليه ]] .

فلما أفاض - صلى الله عليه وسلم - أبطأ ناقته ، وأخذ يرفع كلتا يديه للناس و يحثهم على السكينة وعدم الإسراع في طريقهم للمبيت بمزدلفة [[ مثل ما كنا نشوف حوادث الإفاضة من عرفة، بسبب سرعة الناس و التزاحم ، وبختنقوا وبموتوا لأنه كلّ همهم أصير حاج فقط !! دون التفقه بأعمال الحج ومعانيها!! ]] فلما وصل – عليه الصلاة و السلام – إلى {{ مزدلفة }} ،

أمر أن ينزل الناس ، ولم يأمر أن ينصبوا الخيام ؛ فنزل وصلى بهم المغرب والعشاء جمعا وقصرا .
ثم اضطجع - صلى الله عليه وسلم - قليلاً ، لم ينم ، ولم يأمر الناس بالنوم ، ولم ينههم ،فمن نام فهو خير ، ومن لم ينم أيضا فهو خير، وأذن - صلى الله عليه وسلم - للضعاف وللنساء ولمن له واجب في مكة كبني عبدالمطلب [[ كانت مهمتهم سقيا الحجيج ]] ،

فرخص لهم أن يغادروا مزدلفة بعد منتصف الليل - قبل الفجر- رفعاً للمشقة عنهم . وبقي - صلى الله عليه وسلم - فيها إلى أن طلع الفجر، فصلى بالناس ، ثم وقف عند المشعر الحرام يدعو الله ويستغفر ، ثمّ أفاض من مزدلفة إلى منىً قبل شروق الشمس .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-16-21, 06:30 AM
هذا الحبيب « 272 »
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج10 - الجمرة الكبرى ، النحر - ))
__________
أفاض – صلى الله عليه وسلم - من مزدلفة إلى منىً قبل شروق الشمس ، وعندما وصل إلى منى قال ل (( عبد الله بن عباس )) : (( القِطْ لي حصًى ، فلَقطتُ لَه سبعَ حصَياتٍ هنَّ حصَى الخَذفِ ،[[ أي حجم حبة الحمص ]]

فجَعلَ ينفضُهُنَّ في كفِّهِ ويقولُ : أمثالَ هؤلاءِ فَارْموا . ثمَّ قالَ : يا أيُّها النَّاسُ إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ ،فإنَّهُ أهْلَكَ من كانَ قبلَكُمُ الغلوُّ في الدِّينِ )) ، لأنّ ما يميز الأمة الإسلامية عن باقي الأمم هو طاعتهم المطلقة لله -عزوجل - فلا نعظم الأشياء لذاتها ، لكنها معظمة لدينا لأن الله أمر بتعظيمها فقط ؛

و طاعة الله المطلقة هي أكبر امتحان من الله لعباده: فنطوف حول الكعبة بأمر الله ، و نبتعد عن الربا بأمر الله ، ونصوم بأمر الله ، و سيدنا إبراهيم – عليه السلام - أراد أن يذبح ابنه بأمر الله. . . ورمي الجمرات بأمر الله ؛ وهو شيء معنوي وليس حسيا [[ يعني الشيطان مش قاعد في الحوض الآن حتى نرجمه و نقتله ، و البعض بسب عليه بكلمات نابية !! ]] ، فلا داعي للغلو ورمي أحجار كبيرة أو التلفظ بألفاظ غير لائقة ، فالغلو أهلك الأمم السابقة .

إذن توجه الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى الجمرة الكبرى، وهناك رمى سبع حصيات ، وكان يقول : " الله أكبر" مع رميه لكل حصاة ، ثم استقبل البيت ودعا الله ما شاء الله له أن يدعو .


ثم توجه إلى المنحر ، ومنى كلها منحر ، وقد أعُدت له الإبل ، وكان الذي تطوع أن يرعى الإبل هو {{ سهيل بن عمرو - رضي الله عنه - }} أتذكرون هذا الاسم ؟؟ في صلح الحديبية رفض أن يكتب (( بسم الله الرحمن الرحيم ))،

ورفض أن يكتب (( محمد رسول ))، وقال للنبي : لو نعلم أنك نبي ما حاربناك ،[[ أسلم يوم حنين رضي الله عنه ، وها هو اليوم يتطوع أن يرعى إبل النبي – عليه الصلاة و السلام - ويُنصّب نفسه خادماً له ]] ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا سهيل، قدمها واحدة واحدة ، لا تجعل واحدة ترى منحر أختها ، ثم يقول لأصحابه : من كان له بدنة ينحرها فليسقها الماء قبل أن ينحرها

[[ ما بيصير تذبحها عطشانة ] ، وليحدّ خنجره بعيداً عن عينها ، [[ حتى لا تعذّبها قبل الذّبح ]] ، ليسمع أعداء الإسلام ويعلموا ما هو الإسلام : [[ لقد وضع لنا الإسلام - قواعد الرفق بالحيوان قبل 1400 عام ، فأين أنتم يا من تنادون بالرفق بالحيوان ؟

ارفقوا بحقوق الإنسان أولاً ، ولا تميزوا بين البشر، فالإسلام كرّم الإنسان ، ورفق بالحيوان ، فيجب أن تعلموا أن الإسلام حضارة لكل زمان و مكان ]] .

فوقف - صلى الله عليه وسلم - وأخذ حربة بيده ، وأخذ سهيل يقدمها واحدة واحدة "معقولة ":[[ أي يدها الشمال إلى فوق مربوطة ، وواقفة على رجليها ويدها اليمين ]] ، ثم يضرب بالحربة في منحرها وهو يقول : بسم الله ، الله أكبر .
قال تعالى : {{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ }} ،

[[ سميت الناقة "بدنة" لأنها أكبر الأنعام من البقر والماعز والخرفان فهي الأكبر ذبيحة ]] ، {{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ}} [[صواف أي قائمة]] {{ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا }}،[[ أي بعد أن ذبحتها وهي واقفة واضجعت على الأرض ]] ،

{{ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }} ،[[من السنة أن يأكل الإنسان من أضحيته و يطعم " القانع " وهو الذي لا يسأل الناس ولو كان محتاجا ،و" المعتر" وهو الذي يطلب الناس لفقره ]] .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-18-21, 06:36 AM
هذا الحبيب « 273»
السيرة النبوية العطرة (( حجة الوداع / ج11 - تحلله - صلى الله عليه وسلم - من الإحرام - ))
__________
وبعد أن نحر- صلى الله عليه وسلم - دعا الحلاق ، وجلس بين يديه وكان اسمه {{ معمر بن عبدالله }} - رضي الله عنه – ويروي لنا معمر في بعض كتب السيرة قائلا : (( لمَّا نحرَ رَسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - هَديَه بمنًى أمرني أن أحلِقَه، قال: فأخذتُ الموسى فقمتُ على رأسه، قال: فنظر رسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في وجهي، فقال لي : يا مَعمَرُ، أمكَنَك رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - من شَحمةِ أذُنِه، وفي يدك الموسى، فقلت:

واللهِ يا رسولَ اللهِ، إن ذلك لَمِن نِعَمِه عليَّ ومِنَّتِه، قال: أجل ، إذَن أقِرَّ لك، قال: ثم حلقت شعر رأسه - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - )) . إنها ثقة وأمانة ، " معمر " مسلم جديد ، أسلم يوم فتح مكة ، وهومن الذين قال لهم النبي: " اذهبوا فأنتم الطلقاء "، فمن يدري أيغدر بالنبي أم لا يغدر ؟! ولكنها فراسة النبي ، ولم يأمر أحداً من المهاجرين والأنصار أن يحلق له شعر رأسه مع أن فيهم من يحلق

ويروي أنس بن مالك – كما ورد في صحيح مسلم – : (( لَمَّا رَمَى رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - الجَمْرَةَ ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ ، نَاوَلَ الحَالِقَ شِقَّهُ الأيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأنْصَارِيَّ فأعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأيْسَرَ، فَقالَ: احْلِقْ فَحَلَقَهُ، فأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقالَ: اقْسِمْهُ بيْنَ النَّاسِ )) .

فقد طلب النبي - صلى الله عليه وسلم – من أبي طلحة (( أن يقسم شَعره بين الصحابة )) ، إذن التبرك بآثار النبي- عليه الصلاة و السّلام - سُنّة لا غبار عليها ، وقد رأينا كيف كان الصحابة يتبركون بماء وضوئه – صلى الله عليه وسلم - وهذه واردة عند البخاري ومسلم وغيرهم من علماء الحديث ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس اجمعين )) .

وحب النبي – عليه الصلاة و السلام – ليس فيه مغالاة ، فنحن نرى في زماننا هذا كيف تكالبت الأمم على معاداته و الإساءة إليه ؛ فنحن بحاجة إلى أن نحث الناس على زيادة محبتهم لله ورسوله ، لذلك عكفنا على كتابة دروس السيرة [[ هذا الحبيب - السيرة النبوية العطرة - ]] و أمضينا في ذلك قرابة العام حتى تعرف أجيالنا والأجيال القادمة أكثر و أكثر عن هذا النبي العظيم – صلوات الله وسلامه عليه – و تقتدي بأخلاقه في كل أفعالهم ، فإذا لم يعرف الناس سيرة رسولهم؛ فكيف لهم أن يعيشوا بسعادة؟؟ وكيف لهم أن يواجهوا أعداء الإسلام ؟! وكيف لهم أن يزدادوا حبا له و يجعلونه أحب من أهلهم و أموالهم و الناس أجمعين ؟!


إذن فالتبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - كشعره وعرقه وسؤره جائز باتفاق أهل العلم ؛ لما ثبت من الأحاديث الصحيحة في ذلك ، وهذه الفضيلة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وليست لأحد غيره ، فلا يقاس غيره عليه . وقد جعل الله تعالى في آثاره - صلى الله عليه وسلم - البركة ، وما يرجى به الخير والنفع في الدنيا والآخرة ، وأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - التماس البركة في آثاره ، وليس ذلك من الشرك - والعياذ بالله - لأنه من الأخذ بالأسباب الشرعية ، ولأن الذي أجازه هو الذي حارب الشرك ومنع كل الطرق المؤدية إليه ، بخلاف التبرك بآثار غيره ، فإنه بدعة مخالفة لهدي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ذريعة إلى التعلق الشركي بغير الله تعالى .


وبعد أن حلق - صلى الله عليه وسلم - وتحلل من إحرامه ، وقف الناس يسألونه ، ويستفسرون منه عن أشياء قاموا بها في الحج و أشياء لم يقوموا بها وذلك ليتفقّهوا في دينهم ، ويعرفوا أحكام حجّهم أكثر و أكثر، ثمّ انطلق – صلى الله عليه وسلم - إلى بيت الله الحرام، فطاف فيه طواف الإفاضة راكباً بعيره، وبعدها اتجه إلى مِنى، فصلى فيها الظهر والعصر، وبات هناك ليلة الحادي عشر، وانتظر حتى إذا غابت الشمس بدأ بالجمرة الصغرى فرمى بسبع حصيات ، ثم اتجه إلى جهة الوادي ودعا ، ثم رمى الجمرة الوسطى بسبع حصيات واتجه مرةً أخرى جهة الوادي ودعا ، ثمّ رمى الجمرة الكبرى من بطن الوادي فأتم بذلك الرمي بالجمرات، وبات ليلة الثاني عشر في منى أيضا، ولم يتعجل، وبعدها أمر الناس بطواف الوداع.

ثم عاد إلى المدينة المنورة ، وانتهت بذلك حجة الوداع .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-19-21, 07:54 AM
هذا الحبيب « 274»
السيرة النبوية العطرة (( غدير خم ))
__________
قلنا إن علي - رضي الله عنه - أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وذكرنا ذلك في الجزء " ٢٦١ " وبداية القصة باختصار عن حديث غدير خم الذي جعل من المسلمين مذاهب وفرقا للأسف :

قلنا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لحجة الوداع ، وأرسل لعلي أن يلحق به إلى مكة ومعه أموال الصدقة التي جمعها ، فخرج علي - رضي الله عنه - مع أهل اليمن ، وفي الطريق قال علي لمن معه من أهل اليمن : اسبقوني وألحق بكم ، وأوصاهم أن لا يقربوا أموال الغنائم ، وأن لا يركبوا على إبل الصدقة ، ثم وضع لهم أميرا عليهم وانطلقوا ، فلما لحق بهم علي - رضي الله عنه - وجدهم في الطريق قد ركبوا الإبل، ولبسوا من ثياب أموال الصدقة ، فغضب علي - رضي الله عنه - وعنفهم ، فانزعجوا وتضايقوا وظنوا أن عليا قد بخل عليهم .

فلما وصلوا مكة؛ جاء أهل اليمن يشتكون من علي - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا له : كان علي شديد علينا ، وقابض يده!! فرضّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علي ، وأنه لا يجوز استخدام أموال الصدقة ، وانتهى الأمر .

الآن كثر بين الناس القال والقيل في هذا الموضوع [[ ولا تظنون أن القال والقيل من صفات زماننا فقط!! بل هي صفات بني البشر منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة ، بِلغتنا اليوم : بيعملوا من الحبّة قبّة ،وانتشر الخبر بين الناس وأخذت البهارات تنرش، وأبصر علي شو عامل مع أهل اليمن لحتى زعلانين منه؟!]]، انتهى حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى المدينة المنورة ، وكان - وقد انتشر وشاع الكلام بين الناس عن علي وأهل اليمن - ،

وعندما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى {{ غدير خم }} ((يبعد عن مكة حوالي 200 كم ))، وصل إلى هذا المكان بعد خمسة أيام من السّير، في هذا المكان من هم الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟؟ أهل المدينة ومن حولها من قبائل العرب فقط ؛ فأهل مكة بقوا في مكة ، و أهل الطائف ذهبوا للطائف ، الآن ما بقي معه إلا أهل المدينة والذين حول المدينة ، فكان الآن من المناسب أن يتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن موضوع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع أهل اليمن ، [[ لأن الموضوع خاص تقريبا ، فلماذا يشغل النبي العرب الحجاج الذين أتوا من القبائل البعيدة بهذا الموضوع ؟؟ ]] .

إذن لاحظنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم عن هذا الموضوع لا في عرفة ولا منى ولا مزدلفة ، [[ فلو كان الموضوع عاما ومهما ، لكان تكلم عنه في خطبة الوداع ]] !! ، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الموضوع حتى رجع ، وبعد مضي قرابة خمسة أيام أثناء السفر في طريق العودة ، وصل النبي – عليه الصلاة و السلام – بمن بقي معه من الحجّاج {{ غدير خم }} ، يروي لنا < زيد بن أرقم الذي كانت بداية الدعوة في دار أبيه > ويقول :

لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع ، ونزل غدير خُمٍّ - وقد شاعت قائلة في علي – [[ يعني سمع كلاما كثيرا عن موضوع علي – رضي الله عنه - مع أهل اليمن ]] ، فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته ، وخطب بالناس ، فبعد أن حمد الله و أثنى عليه، قال : (( إنِّي تارِكٌ فيكُم ما إن تمسَّكتُمْ بِهِ لن تضلُّوا بَعدي أحدُهُما أعظَمُ منَ الآخرِ: كتابُ اللَّهِ حَبلٌ ممدودٌ منَ السَّماءِ إلى الأرضِ. وعِترتي أَهْلُ بيتي، ولَن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوضَ " أي يمرّوا " فانظُروا كيفَ تخلُفوني فيهِما )) .

"وعِتْرتي أهلُ بيتي"، أي: أحبُّوا أهل بيتي، وتَمسَّكوا بما كانوا عليه ، واهْتَدُوا بهَديِهم وسِيرتِهم، وعِترتُه - صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم - هم أزواجُه ونِساؤُه وقرابتُه، ولد العبَّاس، وولد عليٍّ، وولد الحارث بن عبد المُطَّلب، وسائر بني أبي طالب من الَّذين ساروا على طَريقِه و اتّبعوا سُنَّته، فلهُم الحبُّ والتَّكريمُ والتَّوقيرُ والإحسانُ إليهم، وعليٌّ – رضي الله عنه - ليس هو العِترة وحده – كما تدّعي بعض الطوائف، وسيِّد العِترة هو رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - .

كما أنّ أهل بيته في الأصل: هم نِساؤه - صلَّى الله عليه وسلَّمَ - وفيهنَّ الصِّدِّيقةُ عائشةُ - رضي الله عنهن – جميعًا ؛ وتخصيص بعض الطوائف (أهل البيت) في الآية بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، دون نِسائه - صلَّى الله عليه وسلَّمَ – هذا تحريف لآياتِ الله تعالى من أجل أن ينتصروا لأهوائهم ، فكيف يهاجمون السيدة عائشة – رضي الله عنها – وهي من آل بيت النبي – عليه الصلاة و السلام - ؟! والله قد برّأها من فوق سبع سماوات ، فعلا لا يعرفون إلا الكذب ، والكذب فقط لنشر معتقداتهم الدخيلة على الإسلام .

إذن بعض الطوائف والناس الذين اتبعوهم قد اهتموا بيوم غدير خم اهتماما هائلا، وجعلوا له عيدا !! حتّى أنهم جعلوا " يوم غديرخم " أعظم من يوم عرفة، وبنوا عليه عقائدهم، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، بل وطعنوا في جناب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وافتروا عليه، ونسبوا إليه ما لم يقله، وكفّروا أصحابه ، و أوّلوا كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في غدير خم تأويلا خاطئا وكاذبا، و زادوا عليه كثيرا في رواياتهم الكاذبة ،

وقالوا إنّ هذا الحديث كان إشارة لخلافة علي - رضي الله عنه – بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، واعتبروا أن {{ أبا بكر و عمر وعثمان }} - رضي الله عنهم - جميعا قد اعتدوا على علي ، وسلبوا منه حق الخلافة بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


وقد جاء في رواية للترمذي في حديث غدير خم : [[ من كنت مولاه فعلي مولاه ]]. والمراد بذلك : المحبة والمودة وترك المعاداة ، وهذا الذي فهمه الصحابة - رضوان الله عليهم - حتى قال عمر لعلي - رضي الله عنهما - : هنيئا يا ابن أبي طالب ؛ أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . وليس المراد بذلك الخلافة، و الدّليل أنه - صلى الله عليه وسلم - أطلق ذلك في حياته ولم يقل : فعلي بعد موتي مولاه ، ومثل هذا الأمر العظيم (( الخلافة )) يجب أن يُبلّغ بلاغا مبينا لا يكفي فيه لفظ محتمل مجمل من النبي – عليه الصلاة و السلام - ؛ ولفظ (( المولى )) في لغة العرب يقع على المالك ، والناصر ،والمحب ، والحليف ، والعبد ، والمعتر ، وابن العم ، والصهر [[ يعني تقول فلان مولى فلان يعني :

سيده وأيضا تقول فلان مولى فلان يعني عبده وتقول فلان مولى فلان يعني حليفه وهكذا. . . ]] ، ثمّ ما الذي يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم – لو أراد أن يعلن أنّ عليّا خليفته ؟ أكان خائفا من الناس أن يرفضوا كلامه وهو الذي نزل فيه : {{ ما ينطق عن الهوى }} ؟! ؟

فالصحابة يصدّقونه و يؤمنون بما أنزل عليه حقّ الإيمان ؛ ولو ذكرت لكم صفات الصحابة وبالذات الخلفاء الراشدين الأربعة لَهِمتَ على وجهك إعجاباً بكل تلك الصفات ، ولقلت لي : زدني زدني ، فكلهم أعلام وشموس عظام

وكُــلُّهُم مِن رسـولِ اللهِ مُلتَمِـسٌ غَرفَا ... مِنَ البحرِ أو رَشفَاً مِنَ الدِّيَـم
ولكنّ تلك الطائفة الكاذبة التي قالت إنّ الصحابة سلبوا الخلافة من علي؛ قد حرفوا كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – كما فعلوا ذلك مرارا وتكرارا عبر تاريخهم الطويل الحافل بالكذب و الافتراء و التزوير .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-26-21, 06:13 AM
هذا الحبيب « 275 »
السيرة النبوية العطرة (( الأيام التي تسبق وفاته - صلى الله عليه وسلم - ))
__________
رجع - صلى الله عليه وسلم - من مكة بعد حجة الوداع إلى المدينة المنورة بعد أن ودع القبائل العربية التي جاءت للحج معه ، فلما وصل للمدينة ونظر لبساتينها من بعيد قال : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ،لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون، ساجدون لربنا حامدون ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .

والبعض قد يخطر في باله سؤال : مضت على غزوة الخندق سنوات ، وفُتحت مكة ، وكثير ممن كانوا مشركين يوم الأحزاب قد دخلوا بالإسلام ، ومازال النبي - صلى الله عليه وسلم - يردد في كل موقف {{ وهزم الأحزاب وحده }} ، وهناك كثير من أصحابه كانوا مع المشركين ، ومن ضمنهم مثلا (( خالد بن الوليد )) الذي حاصر المدينة مع المشركين يومها ، وغيره الكثير ممن أسلموا بعد ذلك ؛ فعندما يقول النبي {{ وهزم الأحزاب وحده }} ، أليس في ذلك تجريح ولمز لبعض الصحابة ؟ فهم كانوا من الأحزاب ؟؟

هنا نقول : يجب معرفة أن الدين فوق ذلك كله ، والإسلام لا يعرف مجاملات الأشخاص على حساب الدين ، و {{ السيرة للتأسي لا للتسلي }} ، فإن كانوا مؤمنين حقاً ، فإنهم سيدينون لله بفضله عليهم أن هزمهم من غير أن يُقتَلوا على أيدي الصحابة ، ثم هداهم للطريق المستقيم ولم يموتوا على كفرهم ، فلقد هزمهم بالريح ، وليس فيه لمز ولا عتاب ولا تجريح لأحد .

ثم دخل - صلى الله عليه وسلم - مدينته واستقبله من كان فيها ، ولما استقر بمدينته فاجأ أصحابه و زوجاته ببرنامج جديد لحياته في المدينة؛ وذلك من حيث الإكثار من تعليمهم ومجالستهم وقيام الليل والصيام ، فقد كثف عبادته - صلى الله عليه وسلم - من صيام وقيام ،

مع أن الله قسم له صلاة الليل : {{ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }} . تقول السيدة عائشة : كانَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - إذَا صَلَّى قَامَ حتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قالَتْ عَائِشَةُ: يا رَسولَ اللهِ، أَتَصْنَعُ هذا، وَقَدْ غُفِرَ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ؟ فَقالَ: يا عَائِشَةُ ، أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! .

وصام - صلى الله عليه وسلم - وصالاً [[ الوصال معناه عدم الإفطار عند أذان المغرب ، بل مواصلة الصيام إلى اليوم الذي يليه وهكذا ...]] وشاع الخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمضى صائماً ثلاثة أيام بلياليها ولم يفطر ؛ فأخذ أصحابه يواصلون ، فلما علم بحالهم قال : (( إيَّاكم والوصالَ إيَّاكم والوصالَ . قالوا : فإنَّكَ تواصِلُ يا رسولَ اللَّهِ !قالَ : إنِّي لستُ كَهَيئتِكُم ، إنِّي أبيتُ يُطعمُني ربِّي ويَسقيني )) .

كذلك أخذ - صلى الله عليه وسلم - يكثف في جلوسه مع أصحابه كالمودع لهم ويبشرهم بالجنّة ، ويحذّرهم من النّار ؛

فها هو يقول لبلال : (( يا بلَالُ، حَدِّثْنِي بأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ في الإسْلَامِ؛ فإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَدَيَّ في الجَنَّةِ. قالَ: ما عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِندِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا، في سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إلَّا صَلَّيْتُ بذلكَ الطُّهُورِ ما كُتِبَ لي أَنْ أُصَلِّيَ )) . [[ بلال الذي عُذّب على رمال مكة الملتهبة من أجل هذا الدين وهو يقول أحدٌ أحد ، ها هو الآن قد حجز له مقعدا في الجنة ، ويخبرنا بأهمية دوام طهارته ، وفي كل طهر صلاة نافلة و تعبُّد لله – ما دامت الصلاة متاحة - ]] .

طبعا هذا لا يعني أن بلالًا يدخل الجنة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :

(( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن من أنت ؟ فأقول محمد، فيقول بك أُمرت لا أفتح لأحد قبلك )) . فالجنة لا يدخلها أحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة ، اللهم اجعلنا من أهلها نحن و آبائنا و أبنائنا وأقاربنا وجيراننا و أصدقائنا و معلّمينا الخير و المسلمين أجمعين .

وفي صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر يوماً، أَمّر النبي – عليه الصلاة و السلام - {{ أسامة بن زيد }} على سرية لغزو الشام ، وكان عمر أسامة بن زيد – رضي الله عنه - [[ قيل ١٧ وقيل ٢٠ عاما ]]، وكان في الجيش عدد من كبار الصحابة من –

مهاجرين و أنصار - فكان فيهم {{ أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد}} فعلام يدل هذا ؟؟ يدل على تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن للشباب أمكانيات هائلة يجب أن تُستغل، فهم عماد الأمة ، ومصدر مؤثّر من مصادر قوّتها .

ولكن تكلم الناس في ذلك وقالوا : يستعمل غلاما على كبار الصحابة ؟؟ وعلم - صلى الله عليه وسلم - بما يتكلم به الناس ، فجاء في الحديث :
بَعَثَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - بَعْثًا، وأَمَّرَ عليهم أُسامَةَ بنَ زَيْدٍ ، فَطَعَنَ بَعْضُ الناس في إمارة زيد ، فقال – عليه الصلاة و السلام -

: (( إنْ تَطْعَنُوا في إِمَارَتِهِ [[ يُرِيدُ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ ]]، فقَدْ طَعَنْتُمْ في إِمَارَةِ أَبِيهِ مِن قَبْلِهِ، [[ فقد كان زيد بن حارثة أميرا على المسلمين في غزوة مؤتة ]] ، وَايْمُ اللهِ إنْ كانَ لَخَلِيقًا لَهَا، [[ يعني زيد جدير بالإمارة ]] ،

وَايْمُ اللهِ إنْ كانَ لأَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَايْمُ اللهِ إنَّ هذا لَهَا لَخَلِيقٌ، [[ يُرِيدُ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ أيضا جدير بالإمارة ]]، وَايْمُ اللهِ إنْ كانَ لأَحَبَّهُمْ إِلَيَّ مِن بَعْدِهِ، فَأُوصِيكُمْ به فإنَّه مِن صَالِحِيكُمْ )) .
ومن هنا لقّب الصحابة أسامة بن زيد {{ الحب بن الحب }} رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-29-21, 06:56 AM
هذا الحبيب « 276 »
السيرة النبوية العطرة (( مرض النبي - صلى الله عليه وسلم – ج1 ))
__________
وبدأ جيش (( أسامة بن زيد )) يستعد للخروج، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد أن يعسكر على باب المدينة حتى يتجمع الجيش ، وقبل أن ينطلق الجيش شاع الخبر في المدينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قد وَجِعٌ [[ أي أصابه المرض ]] ،

وقد أصبح لا يفكّ العصابة عن رأسه ، فتوقف الجيش، وبقي معسكرا على باب المدينة ، وشاءت إرادة الله أن لا يتحرك هذا الجيش في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولكنّه انطلق في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه و أرضاه .

وقبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بأيام ينزل جبريل على نبيّنا بآخر آية من القرآن ، قال تعالى : {{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }}، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نُعِيت إليّ نفسي . وفي حال المودّع الذي شعر بدنوّ أجله ؛خرج - صلى الله عليه وسلم - لزيارة شهداء أحد ومعه جمع من أصحابه ، فقال:

(((( سَلامٌ عليكم دارَ قَومٍ مُؤمنينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكم لاحِقونَ، ودِدتُ أنَّا قد رأَيْنا إخوانَنا. قالوا: أوَلسنا بإخْوانِكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الَّذين لم يَأْتوا بَعدُ، [[ وهذا تَوضيحٌ بأنَّ من لقِيَهُ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهوَ مِنْ أصحابِهِ، أما مَن لم يرَه منَ المسلمينَ فهُم إِخْوةٌ في الدِّينِ والإسلامِ ،هل اشتقتم للحبيب كما اشتاق لكم بعد أن عشتم أياما وأياما مع سيرته - صلى الله عليه وسلم - ؟؟ هل شعرتم بلذة محبته في قلوبكم ؟

الذي أحبكم ولم يركم وتمنى لو رآكم ؟؟ ]] ، وأنا فَرَطُهم على الحَوضِ [[ وأنا سابِقُهُم ومتقدِّمهم على الحوضِ يومَ القيامةِ، وهو حوضُ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي يَسقي فيه الواردينَ عليهم مِن أُمَّتِه ]] .

قالوا: وكيف تَعرِفُ مَن لم يَأْتِ بَعدُ مِن أُمَّتِكَ يا رسولَ اللهِ؟ [[ يعني ما السّمات التي جَعَلها اللهُ تعالى للمُؤمنِينَ تُميِّزُهم عن غَيرهِمْ في الآخِرةِ ؟ ]]

قال: أرأَيتَ لو أنَّ رَجُلًا له خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلةٌ بَينَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألَا يَعرِفُ خَيْلَه؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: فإنَّهم يأتون غُرًّا مُحَجَّلينَ مِن الوُضوءِ - يَقولُها ثلاثًا – [[ الغُرَّةُ : هيَ البياضَ في الوَجهِ، والتَّحْجيلُ : هو البَياضُ في الأقدامِ، والخَيلُ البُهْمُ الدُّهْمُ : أي السَّوداء، فإذا اختلَطَتْ هذه الخيولُ تَميَّزَ بعضُها عن بعضٍ بِبيَاضِ الغُرَّةِ والتَّحْجيلِ، فكذَلكَ المُسلِمونَ يومَ القيامةِ ؛ أثرِ الوُضوءِ يكونُ نورًا ظاهرًا على أعضاءِ الوُضوءِ يتميّزون به ]] .

وأنا فَرَطُهم على الحَوْضِ، ألَا ليُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضي كما يُذادُ البَعيرُ الضَّالُّ، [[ سوفَ تُبعِد الملائكةُ وتَطرُدُ عنِ الحوضِ أُناسٌ وهُم مُقبلونَ علَيه ومُتوجِّهونَ إليه، وهمْ من المسلِمينَ، كما يَمنَع ويَطرُد صاحبُ الإبلِ الجملَ الذي ليس من إبلِه ]] ، أُناديهم: ألَا هَلُمَّ . فيُقالُ: إنَّهم قد بَدَّلوا بَعدَكَ، فأقولُ: سُحْقًا سُحْقًا [[ أُنادِيهمْ لِيأتوا إلى الحوضِ، قَبل أن أعرِفَ لماذا يُطرَدونَ؟

فيُقالُ: إنَّهم قدْ حرَّفوا الدّين، وانحرفوا بعدَك عنِ الحقِّ، فيقول – عليه الصلاة و السلام - بُعْدًا لهم وهُو دُعاءٌ علَيهمْ بالإِبعادِ عن حَوضِه وعن الرَّحمةِ ، اللهم لا تجعلنا من المبعدين عن حوض نبيّك المصطفى – صلى الله عليه و سلم - ]] )))) .

ثمّ رجع - صلى الله عليه وسلم – إلى بيته ، وبعدها أصبح يشعر بأعراض الحمى وارتفاع الحرارة ، فكان يرجف – صلى الله عليه وسلم – من الحمّى ،وفي حال المودّع الذي شعر بدنوّ أجله ؛ قال أيضا لأحد أصحابه : انطلق بنا إلى البقيع [[ وهي مقبرة المدينة ]] ، ودخل البقيع فوقف على أوله ثم قال :

(( السَّلامُ عَلَيكُمْ أَهْلَ الدِّيارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّه لَنَا وَلَكُمُ العافِيَةَ )) ، ثم استغفر لهم ، وعاد إلى حجرة عائشة وهو يشعر بصداع شديد في رأسه ، وعندما وصل وجدها تقول: وارَأْسَاه !! قال : بل أنا يا عائشةُ وارَأْسَاه ،

[[ يعني لو تعلمين الألم الذي نزل في رأسي - ولم يكن من عادة النبي أن يشتكي من أي ألم في مرض - ولكن كان الألم هذه المرة شديدا جداً ]] ثمَّ قال : وما ضرَّكِ لو مِتِّ قبْلي فغسَلْتُكِ وكفَّنْتُكِ وصلَّيْتُ عليكِ ثمَّ دفَنْتُكِ ؟ فقالت عائشة : لَكأنِّي بكَ أنْ لو فعَلْتَ ذلك قد رجَعْتَ إلى بيتي فأعرَسْتَ فيه ببعضِ نسائِك !!

[[وكانت عائشة من دون أزواجه جميعاً تُعرف بشدة الغيرة ؛ فلما سمعت هذه المقولة نسيت ألم رأسها وطار الوجع وقالت : أكيد رح تتزوج وحدة جديدة ]] فتبسَّم رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ،

فانظروا أحبتي ؛ حتى مع شدة مرضه – صلى الله عليه وسلم – يمازح زوجته و يُسلّيها ليبعد عنها الألم ناسيا ألمه و الحمّى التي أصابته . ((هذا هو الحب الحقيقي ، مش اللي بتشوفوه في المسلسلات والأفلام !! حسبي الله ونعم الوكيل)) .

واشتد الألم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فالتفت إلى عائشة وقال : يا عائشة ، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر [[ تذكرون الشاة المسمومة التي أعدها اليهود في خيبر لقتله - عليه الصلاة و السلام -؟؟ هم أخوة القردة والخنازير و قتلة الأنبياء ، لعنهم الله ولعن كل من والاهم ]] ، وقد بقي أثر السم في جسده أكثر من ثلاث سنوات، حتى يعطي الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع درجة النبوة درجة الشهادة، وذلك لإرادة الله تكميل مراتب الفضل كلها له - صلى الله عليه وسلم - .

وكان مع شدة ألمه - صلى الله عليه وسلم - يخرج للصلاة بالناس في المسجد، ويبيت كل يوم في بيت زوجة من زوجاته ، وعندما رأى - صلى الله عليه وسلم - اشتداد الحمّى عليه واشتداد الألم ، جمع زوجاته ، واستأذن أن يُمرّض في بيت عائشة – رضي الله عنها - فهي أقرب حجرة إلى المصلى . [[هذه أخلاق الحبيب - المصطفى صلى الله عليه وسلم - ]] ،

فقلن: أذنّا لك يا رسول الله ، ، فلما أراد أن يقوم للذهاب لحجرة عائشة ما استطاع أن يقف على قدميه ، فجاء علي بن أبي طالب ، والعباس فاتكأ عليهما، وخرجوا به من حجرة السيدة ميمونة إلى حجرة السيدة عائشة ، وكانت رجلاه تخطان الأرض ،[[ يعني لا يستطيع أن يرفع رجليه عن الأرض ]] ،

وأصبح - صلى الله عليه وسلم - يخرج للصلاة متكأً على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب ، حتى ثقل المرض عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وأصبح لا يقوى على الخروج إلى المسجد من شدة الحرارة التي أصابته .

وأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج لصلاة العشاء ، ولكن شدة الحرارة أتعبته فقال لأزواجه : أفيضوا عليَّ من سبع قرب من ماء بئر ، لعلي أستطيع أن أخرج إلى الناس ، [[ فأحضروا له طست واسع من حجرة حفصة ]] ، وجلس - صلى الله عليه وسلم - فيه ، وصبوا عليه الماء البارد حتى تخف الحرارة ، فلما خفت الحرارة قام - صلى الله عليه وسلم - ليلبس ثيابه ويخرج ؛ فما استطاع ! لقد غلبته الحرارة فأغمي عليه ، وتلقّته أيدي أمهات المؤمنين حتى لا يسقط على الأرض ، فلما أفاق قال : أصلّى الناس ؟؟

قالوا : لا ، هم في انتظارك يا رسول الله . فقال : أعيدوا علي الماء ، فأُجلس في المخضب [[ طست ]] وأعادوا عليه سكب الماء حتى خفّت الحرارة ، فقام ليلبس ثيابه يريد أن يخرج للناس ليصلي بهم ؛ فلما بدأ في لبس ثيابه أغمي عليه مرة أخرى من شدة الحرارة ، فلما أفاق قال : أصلى الناس ؟؟ قالوا : لا ، هم في انتظارك يا رسول الله .فقال - صلى الله عليه وسلم - :

(( مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ . فقالَتْ عائشة: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ ، إذَا قَرَأَ القُرْآنَ لا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ، فلوْ أمَرْتَ غيرَ أبِي بَكْرٍ، قالَتْ: واللَّهِ، ما بي إلَّا كَرَاهيةُ أنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ، بأَوَّلِ مَن يَقُومُ في مَقَامِ رَسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ -، قالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ، أوْ ثَلَاثًا، فَقالَ: لِيُصَلِّ بالنَّاسِ أبو بَكْرٍ)) ، فأصبح أبو بكر يصلي بالناس .

[[ وعلى هذا، فالذي كان يصلي بالناس في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر، ولكن عمر صلى بهم مرة في أول الأمر وفي غياب أبي بكر - رضي الله عنهما – كما جاء في رواية أخرى ، وقد فهم الصحابة - رضوان الله عليهم - من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر خاصة وإصراره على ذلك أحقيته بالخلافة من بعده، ولذلك اختاروا لسياستهم من اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بهم، فبايعوه بالخلافة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم – مباشرة ]] .

يتبع إن شاء الله .....

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
06-30-21, 06:45 AM
هذا الحبيب« 277 / الجزء قبل الأخيرمن دروس السّيرة النبوية العطرة »
(( مرض النبي - صلى الله عليه وسلم – ج2))


ويثقل المرض ويشتد على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يوم الخميس{{ ٨ ربيع الأول }} [[ يعني قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ب ٤ أيام ]] ، ورأى الصحابة حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشق ذلك عليهم ، وأصبحوا في قلق، وخافوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - خوفاً شديداً ، وأخذ الأنصار يبكون ، فلما علم بذلك - صلى الله عليه وسلم - وكانت صلاة الظهر ، تقدم أبو بكر ليصلي بالناس ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي والفضل بن عباس خذا بي إلى المحراب .

فاتكأ على الفضل وعلى علي بن أبي طالب ، ولم تلامس قدماه الأرض فقد رفعاه [[ شبه الحمل رجلاه تجران على الأرض ]]،

وهو معصوب الرأس من شدة الحرارة ، فلما رآه أبو بكر همَّ أن يرجع من الصف ليدع الإمامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأشار إليه أن مكانك ، وجلس على يمين أبي بكر وصلى الظهر بصلاة أبي بكر ، حتى إذا انتهت الصلاة - وكانت آخر صلاة صلاها مع أصحابه صلى الله عليه وسلم - أشار إليهم أن يحملوه إلى المنبر ، ثم جلس على أول درجة من المنبر لأن رجلاه لم تحملاه للصعود على المنبر، والتف الصحابة شوقاً حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخطب فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نفسه - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ دعا واستغفر لشهداء أحد ،

[[ كَأنّه مُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ والأمْوَاتِ ]] ، فتَوْدِيعُه للأمواتِ هو أنَّه صلَّى عليهم واستَغْفَر لهم، وهَنَّأَهم بما هُم فيه مِن سَبْقِهم للفِتَنِ، وتوديعُه للأحياءِ هو نَصيحتُهم وتحذيرُهم مِن الاغْتِرَارِ بالدُّنيا و التنازع على أمورها ، وإشارتُه إلى أنَّه مُنتقِلٌ عنهم إلى الآخِرة، وأنَّه سابِقٌ لهم إلى الحَوْضِ؛ فهو مَوْعِدُهم حيث قال – عليه الصلاة و السلام - :

أيها الناس :[[ إنِّي بيْنَ أيْدِيكُمْ فَرَطٌ ]] ، يعنى شفيع، والشفيع دائما يتقدم على المشفوع ، ويهيئ له الشفاعة ، وهنا يريد أن يمهد للصحابة أمر موته، لأنه يعلم أنه أمر شاق عليهم . [[ وأَنَا علَيْكُم شَهِيدٌ، وإنَّ مَوْعِدَكُمُ الحَوْضُ، وإنِّي لَأَنْظُرُ إلَيْهِ مِن مَقَامِي هذا، وإنِّي لَسْتُ أخْشَى علَيْكُم أنْ تُشْرِكُوا، ولَكِنِّي أخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أنْ تَنَافَسُوهَا ]] .

ثمّ تابع حديثه – صلى الله عليه وسلم – قائلا : أيها الناس ، إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أنْ يُؤْتِيَهُ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيا ما شاءَ وبين ما عند الله فاختار ما عند الله ، فبكى أبو بكر وارتفع صوته بالبكاء، وقال: بأبي أنت وأمي ! فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأموالنا، فديناك بأنفسنا !


فضج الصحابة من أبي بكر[[ لأن الصحابة لم يكونوا يقاطعون النبي - صلى الله عليه وسلم - أبدا ، ولكن أبا بكر فهم مقصود النبي – عليه الصلاة و السلام - وعلم أن هذا العبد الذي خيره الله هو النبي ]] ،

فتعجب الصحابة من أبي بكر لماذا يبكي ؟ وقالوا: عجبا لهذا الشيخ ، وضج المسجد بالكلام لماذا يبكي ؟ وأبو بكر قد علا نحيبه بالبكاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :على رسلك يا أبا بكر[[ يعني انتظر قليلًا يا أبا بكر لا تبكِ]] ،

ثم أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدافع عن أبي بكر، ويبيّن فضله ، فقال: أيها الناس : إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كُنت مُتَّخذًا خليلًا من أُمَّتي لاتَّخذتُ أبا بكر ،ولكن أُخُوَّةُ الإِسـلام ومودته ،[[ فالعلاقة بينهما هي الأخوة و المحبة في الإسلام ]] ، وما منكم من أحد كان له عندنا يد إلا كافأناه بها، إلا الصديق فإنا قد تركنا مكافأته لله - عز وجل - ألا كل خوخة في المسجد تسد إلا خوخة أبي بكر ،

[[ الخوخة أي الباب ، حيث كان لكل صحابي باب من بيته للمسجد يسمى خوخة ، وباب أبو بكر لليوم لا يغلق ، تغلق جميع أبواب المسجد النبوي إلا باب أبي بكر يبقى مفتوحا ]] .

كذلك فقد أوصى – عليه الصلاة و السلام – في أيامه الأخيرة بالصلاة و حسن الظنّ بالله ، وتسيير جيش أسامة بن زيد، وإخراج المشركين من جزيرة العرب، وإكرام الوفود ، وحذّر من بناء المساجد على القبور مثلما فعل اليهود و النصارى مع أنبيائهم ، {{ وللأسف يحدث أيضا في بلاد المسلمين }}، وقد أوصى - عليه الصلاة و السلام - بالأنصار خيرا فقال :

(( أُوصيكُمْ بِالأنْصارِ فإنَّهمْ كَرِشِي ( بطني ) و عيْبَتِي ( مستودع الثياب )

[[ المراد إنَّهم بِطانتي وخاصَّتي ومَوضِعُ سِرِّي وأمانتي ]]، وقدْ قَضَوا الذي عليْهِمْ ، و بَقِيَ الذي لَهُمْ ، فاقْبَلُوا من مُحسِنِهِمْ ، و تَجاوَزُوا عن مُسيئِهِمْ )) . وتبقى الوصية الأولى و الأخيرة ، وعماد هذا الدين قوله تعالى : {{ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}} .

ويشتد الألم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يُغشى عليه

ويفيق ، وكان إذا مرض نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح على جسده ، فلما مرض هذا المرض، لم يستطع أن يفعل هذا ، فأخذت السيدة عائشة تنفث في يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تمسح بيده الشريفة على جسده، رجاء بركة يد الحبيب – عليه الصلاة و السلام - . ثم أفاق من إغمائه وقال : يا عائشة إن عندي في تلك الخانة [[ أي الرف ]] دنانير من ذهب ، ماذا صنعتم بها ؟؟

قالت : هي عندي . فقال - صلى الله عليه وسلم - : وماذا يقول محمد لربه إذا لقيه وفي حجرته سبعة دنانير ذهبية ؟! أحضريها يا عائشة ، قالت : فأحضرتها ، فوضعها في كفه ، ونظر إليها ثم قال : يا علي بن أبي طالب ، خذ هذه الدنانير فأنفقها في سبيل الله ، فلن يلقى محمد ربه وفي بيته دنانير من ذهب .

تقول السيدة عائشة : فلما خرج علي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يُغمى عليه ويفيق ، وكلما أفاق يسأل : أرجع علي ؟؟ نقول: ليس بعد ،

[[ وهكذا ساعتين أو ثلاث حتى بقية الليل وهو يسأل كلما أفاق ]] ، فلما رجع علي قال له : أنفقتها ؟؟ قال علي : أجل يا رسول الله ، كما تحب وترضى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحمد لله يلقى محمد ربه وهو بريء الذمة ، يا حبيب قلوبنا يا سيدي يا رسول الله ، بريء الذمة من مال تملكه ؟؟!! فكيف بنا نحن وقد غرقنا في متاع الدنيا ؟؟!! أسأل الله لنا ولكم العافية .

فلما كان السبت وهو يفيق ويغيب من شدة الحمى ، أقبلت إليه ابنته السيدة ((فاطمة - رضي الله عنها وأرضاها - )) فلما رآها - صلى الله عليه وسلم - قال : مرحباً بابنتي ، وكانت فاطمة - رضي الله عنها - أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،

فكانت إذا دخل عليها في بيتها قامت إليه وقبَّلت يده ثم قبَّلها بين عينيها ، وإذا دخلت فاطمة عليه ، وكان في أي حجرة من حجرات أزواجه قام إليها فاستقبلها من عند الباب ، وأخذها من يدها وقبَّلَ بين عينيها ، وقبلت يده وأجلسها على فراشه جنباً إلى جنب ، ولكن اليوم حاول أن يقوم إليها ليقبلها في رأسها كما كان يفعل حين رآها فلم يستطع ، فبكت السيدة فاطمة وقالت : وااا كرب أباه !!

فقال لها الأب الحنون - صلى الله عليه وسلم- : ليس على أبيك كرب بعد اليوم ، أدني مني يا بنيتي، فدنت منه ، وأجلسها - صلى الله عليه وسلم - على يمينه عند فراشه ، ثم اقترب من أذنها وتحدث إليها حديثاً لم يسمعه أحد، فبكت بكاءاً شديداً ، فلما رأى حزنها تحدث إليها مرة أخرى ، فتوقفت عن البكاء وابتسمت وضحكت . وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - سألتها السيدة عائشة عن ذلك فقالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرها أن جبريل قد قرأ عليه القرآن مرتين هذا العام، ثم قال لي :

{{ لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري}} ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنها أسرّ لها أنها ستكون أول أهل بيته موتا بعده، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، فضحكت .


وكان الصحابة يدخلون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - يعودونه ، يقول أبي سعيد الخدري : (( جئنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا عليه صالب من الحمى [[ يعني حراة شديدة جدًا ]] يقول : وضعت يدي على صدره فلسعتني شدة حرارته - صلى الله عليه وسلم – ثمّ سألته : يا رسولَ اللهِ ! مَنْ أَشَدُّ الناسِ بَلاءً ؟ قال : الأنْبياءُ . قال : ثُمَّ مَنْ ؟ قال : العلماءُ . قال : ثُمَّ مَنْ ؟ قال :الصَّالِحُونَ ، وكان أحدُهُمْ يُبْتَلَى بِالقَمْلِ حتى يَقْتُلهُ ، ويُبْتَلَى أحدُهُمْ بِالفَقْرِ حتى ما يَجِدُ إلَّا العَباءَةَ يَلْبَسُها ، ولأحدُهُمْ كان أَشَدَّ فَرَحًا بِالبلاءِ من أَحَدِكُمْ بِالعَطَاءِ )) .


وفي يوم الأحد {{ ١١ ربيع الأول }} - أي قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوم واحد ، دخل أسامة بن زيد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اشتد بنبيّنا الألم ؛ فطأطأ أسامة ، فقبّله ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع الكلام ، وجعل - صلى الله عليه وسلم - يرفع يده إلى السماء ويضعها على أسامة، يقول أسامة : فعرفت أنه يدعو لي . وتصف أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: (( ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع (المرض) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) .
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:

(( دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يوعك فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكا شديدًا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أجل . ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما مِن مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها )) .

سيدي يا رسول الله ، جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته ، ونسأل الله أن يجمعنا بك في الجنة ، وأن يحشرنا تحت لوائك وعلى حوضك، وأن يسقينا من يدك الكريمة شربةّ لا نظمأ بعدها ، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد صلاة ترحمنا بها والمذنبين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم

عطاء دائم
07-01-21, 07:22 AM
هذا الحبيب « 278 / الجزء الأخير من دروس السيرة النبوية العطرة »
(( وفاة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فصل1+ فصل2))



يا خير من دُفِنت في التّرب أعظمُـه ... فطاب من طيبهـنّ القـاع والأكـم
نفسي الفـداء لقبـرٍ أنـت ساكنـه ... فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
أنت الحبيب الذي تُرجـى شفاعتـه ... عند الصراط إذا مـا زلّـت القـدم


هذا الحبيب الذي ترجى شفاعته ،هذا الحبيب الذي حدثتكم عن ولادته ،هذا الحبيب الذي حدثتكم عن صفاته ، هذا الحبيب الذي حدثتكم عن أخلاقه وصبره ، ((هذا الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ))

فو الله لا أدري اليوم ، كيف أحدثكم عن وفاته؟! وصدقاً فقد كتبت هذا الجزء وما جفت لي دمعة وكأني مع الصحابة - رضوان الله عليهم - أعيش معهم تلك اللحظات الصعبة ، فموته - صلى الله عليه وسلم - أكبر مصيبة حلت على المسلمين ، وفي ذلك يقول – عليه الصلاة و السلام - :

(( أيُّها النَّاسُ أيُّما أحدٍ أصيبَ بمصيبةٍ فليتعَزَّ بمصيبتِهِ بي عنِ المصيبةِ الَّتي تصيبُهُ بغَيري فإنَّ أحدًا مِن أمَّتي لن يُصابَ بمصيبةٍ بَعدي أشدَّ علَيهِ من مُصيبَتي )) . و لا أعتقد أن رجلاً في التاريخ منذ نزول آدم إلى هذه الأرض، وإلى يوم القيامة، نال أو سينال حبًّا وتقديرًا وإجلالاً، مثلما نال رسولنا الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم – فهو رسول من ؟ رسول (( الله )) ،

الله الذي خلق الكون ، الله الذي صَنعه على عينه ؛ خلقه، وربّاه، وعلّمه، وأدبه، وحسّن خلقه، وقوّى حجته، وزكّى سريرته، وطهّر قلبه، وجمّل صورته، وحبّبه في خلقه، هذا النبي الذي مع علو قدره، وسمو منزلته ، يعيش وسط أصحابه ، يخالطهم، يُوَجّههم ، يعلّمهم، كان يتحمل الأذى معهم، يجوع مع جوعهم أو أكثر، ويتعب مع تعبهم أو أشد، يهاجر كما يهاجرون، ويُقاتل كما يقاتلون، ويحفر الخندق كما يحفرون، يأكل مما يأكل منه الناس، ويشرب مما يشربون، لم تزده كثرة الأذى إلا صبرًا، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلمًا .


لقد اعتاد الصحابة على وجوده، يرونه في كل صلاة، وفي كل لقاء، يعود مريضهم ، ويعطف على صغيرهم ، ويزور الصحابة في بيوتهم، ويزورونه في بيته، فقد أحبه الصحابة حبًّا فاق الولد والوالد ، والزوج والعشيرة ، والمال و الديار، بل قدموه على حب النفس، حتى تمنّى الصحابي أن يموت ولا يُشاك رسول الله – صلى الله عليه وسلم - شوكة في قدمه ، وما كان الصحابة يصبرون على فراقه، فإذا رجعوا إلى بيوتهم أسرعوا بالعودة إلى المسجد حتى يروا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فعاش الصحابة في هذه السعادة التي لم تُعرف، ولن تُعرف في التاريخ، سعادة مصاحبته، ورؤيته، والسماع منه، والانصياع له .


لكنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – بشر؛ والبشر يموتون ، قال تعالى : {{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}} ، و السعادة التي عاشها الصحابة في وجوده - عليه الصلاة و السلام - لن تدوم ، ففي يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم –

(( وكان يوم الإثنين 12ربيع الأول)) وقف أبو بكر- رضي الله عنه - يصلي بالناس صلاة الفجر، وكان الصحابة يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج إلى صلاته بسبب ثقل مرضه ، وكانت تقوم على وضوئه أمّنا عائشة - رضي الله عنها – حيث كان يصلي على فراشه - صلى الله عليه وسلم -، و لا يستطيع أن يجلس . فلما كان اليوم الأخير من حياته - صلى الله عليه وسلم - كان أبو بكر يصلي بالناس صلاة الفجر، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت قراءته من حجرته، فوجد في نفسه - صلى الله عليه وسلم - خفةً ونشاطاً ،

فقام ووقف على قدميه دون أن يتكئ على أحد ، ثم كشف الستارة التي على حجرة عائشة ، [[ وكان بابها يفتح على الروضة محاذياً للصف الأول في الروضة ، فإذا خرج يكون وجهه لأصحابه وهم في الصلاة ]] ،

يقول أصحابه : وكانت صلاة الفجر، والمسجد يُضاء بالسراج لا يكاد الرجل يبصر أمامه ، فلما كشف الستار - صلى الله عليه وسلم - نظر إليهم ، ثم تبسم يضحك كأن وجهه القمر إذا اكتمل بدره ، يقول أصحابه : كأنّ المسجد قد أّنير بنوره –

صلى الله عليه وسلم - ، فرفعنا رؤوسنا ننظر إليه ، فهممنا أن نُفتن من الفرح برؤيته - صلى الله عليه وسلم - [[ يعني كادوا يخرجون من الصلاة بسبب فرحتهم برؤية الرسول – صلى الله عليه وسلم -]] .

قالوا : فأشار إلينا أن أتمّوا الصلاة ، ورفع إصبعه للسماء وهو يدعو ، ثم أرخى الستارة ، وصلى الفجر في حجرته - صلى الله عليه وسلم - . يقول أصحابه : فكانت هذه آخرة مرة رأينا فيها وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وتفاءل الصحابة، واطمأنت نفوسهم ، وسكنت قلوبهم ، فقد ظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاد إلى صحته وتشافى من مرضه ، ولكنهم كانوا لا يعلمون أن هذه النظرة هي النظرة الأخير للطلعة المحمدية ، نظرة الوداع ، وأنه لن يخرج من هذه الحجرة عليهم أبدا . وانطلق الصحابة بعد صلاة الفجر ، يتدبرون شؤونهم وقد اطمأنت نفوسهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - .


حتى إذا طلعت الشمس (( صبيحة يوم الإثنين )) واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته - صلى الله عليه وسلم - جعل – عليه الصلاة و السلام - يُدخل يده في إناء من جلد به ماء، ويمسح بها وجهه وهو يقول : لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات ، اللهم أعني على سكرات الموت . [[ هذا حال نبيّنا – صلى الله عليه وسلم – وهو يعاني سكرات الموت فكيف بنا نحن ؟! اللهم هوّن علينا سكرات الموت ]] ،
تقول السيدة عائشة : جلس - صلى الله عليه وسلم -على فراشه ،

ورفع رأسه فأتيته، وأسندت ظهره إلى صدري ، فوضع رأسه بين سحري ونحري [[ السحر هو أول التقاء قصبات الصدر من الأعلى ، والنحر هو الحلق ]] ، وأشرق وجهه كأنه البدر ، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر [[ أي أخوها ]] ليرى النبي – عليه الصلاة و السلام - وفي يده سواك ليّن أخضر، فظل النبي - صلى الله عليه و سلم - ينظر إلى السواك ، ولا يستطيع أن يطلبه من شدة مرضه ، فقالت السيدة عائشة: يا رسول الله ، بأبي وأمي أنت ، آخذ لك السواك ؟

فأشار برأسه : نعم ، فأخذت السواك من عبد الرحمن ، ثم ليّنته بالماء حتى طاب ، ثم دفعته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاك به جيداً ، حتى إذا قضى رغبته منه ألقى به على صدره . تقول – رضي الله عنها - : فأخذته فتسوّكت به ، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم في حياته - صلى الله عليه وسلم - .
{{صلوا على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم }}
تقول عائشة – رضي الله عنها : ثمّ رفع بصره - عليه الصلاة و السلام - إلى سقف الحجرة، وهو يرفع أيضا سبابته ، وسمعته يتمتم بكلمات ، فقربت أذني إليه ، وأصغيت له فإذا هو يقول : مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني ، وألحقني بالرفيق الأعلى ، اللهم الرفيق الأعلى ، اللهم الرفيق الأعلى ، اللهم الرفيق الأعلى . . .ويكررها ، وفي نص الحديث تقول السيدة عائشة:


(( كانَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - يقولُ وهو صَحِيحٌ: إنَّه لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ فَلَمَّا نَزَلَ به، ورَأْسُهُ علَى فَخِذِي غُشِيَ عليه، ثُمَّ أفَاقَ فأشْخَصَ بَصَرَهُ إلى سَقْفِ البَيْتِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلَى. فَقُلتُ: إذًا لا يَخْتَارُنَا، وعَرَفْتُ أنَّه الحَديثُ الذي كانَ يُحَدِّثُنَا وهو صَحِيحٌ، قالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلَى )) .

تقول السيدة عائشة : واشتدت عليه سكرات الموت ، و بدأ النزع ، وحشرج صدره - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتخت يده إلى جانبه ، وأخذ يثقل جسده في حجري ، فظننت أنه قد أغمي عليه كما في السابق ، فوضعت رأسه - صلى الله عليه وسلم - على الوسادة ،وخرجت أخبر الناس أن رسول الله قد عاوده المرض .

فكان أقرب الناس إليه {{علي بن أبي طالب }}، فدخل ونظر في وجهه ، ثم جهش علي بالبكاء وقال بأعلى صوته : بأبي وأمي لقد قُبض النبي ، لقد قبض النبي ، ولم تحمله قدماه، ثمّ ارتفعت أصوات أزواج النبي بالبكاء ، وسرعان ما انتشر الخبر في أرجاء المدينة :

[[ لقد مات حبيب الرحمن ، مات رسول الهدى ، مات الشفيق الرحيم بأمته ، مات شمس الحياة وبدرها ، مات سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد - صلى الله عليه وسلم - ]] ، وكان خبر وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كالصاعقة على جميع الصحابة ، فكان الصحابة في دهشة عظيمة لا يعلمها إلا الله ، وهم بين مصدقٍ ومكذب للخبر ، وضجت المدينة كلها بالأصوات والبكاء .


ورفع {{عمر بن الخطاب}} سيفه وهو يقول : والله ما مات رسول الله، لقد ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى إلى لقاء الله أربعين يوماً وعاد مرة ثانية،[[ لم يتحمل عقله - رضي الله عنه - خبر وفاة النبي ]] ، وكان {{عثمان بن عفّان }} قد صُدم بالخبر، فلم يتكلم ولا بكلمة مدة أيام من هول الموقف .ثمّ انطلق رجل في طلب {{ أبي بكر }} فوجده على راحلته قريبا من مزرعته ، فقال له :

يا أبا بكر ، يا أبا بكر قد قُبض رسول الله !! فجاء أبو بكر مسرعاً ، ودخل المسجد، فوجد الناس تبكي وعمر يهدد ويتوعد والسيف في يده ، فلم يلتفت إليه ولم يكلمه ، ودخل إلى بيت ابنته عائشة ، فوجد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حوله يبكين ، و{{ أم سلمة }} تنادي وتقول : وااا نبياه !! لقد انقطع عنا خبر السماء ، فعلى من ينزل جبريل ؟؟ و {{ فاطمة }} تنادي وتقول : وااا أبتاه !! من ربه ما أدناه !! وااا أبتاه !! إلى جبريل ننعاه !! وااا أبتاه !! جنة الفردوس ننعاه .


فلما دخل الصديق افسحوا له المكان ، فأتى جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مسجىً ببرد يماني ، فأماط البرد عن وجهه وجثا على ركبتيه أمام الحبيب، ثم نظر إليه ، ووضع يده على صدغيه، وقبَّلهُ بين عينيه وخديه وهو يبكي . . . وقال: بأبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً يا حبيبي !!

[[ بأبي وأمي ما أطيبه حياً وميتاً إلى يومنا هذا، تطيب قلوبنا بذكره والصلاة عليه صلوات ربي وسلامه عليك يا رسول الله]] ، ثم قال : أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فها أنت قد مِتّها ، ولا أنت أكرم على الله من أن يميتك مرتين ، ثم أجهش بالبكاء وهو يقول: واااخليلاه!!! وااانبياه!


ثم غطى وجهه ببرده وخرج إلى الناس ، ومشى إلى المنبر ورقى منه درجة ثم قال بأعلى صوته : الحمد لله ،أيها الناس، أيها الناس [[ فتجمع الناس حوله]] : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد {{ الله }} فإن الله حيٌ لا يموت ، ثم تلا قول الله - جل وعلا - : {{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }} .

ما أروعك يا حبيبي يا أبا بكر!! فالصّدّيق رجل يعيش مع القرآن - رضي الله عنه وأرضاه - و إنا لله وإنا إليه راجعون، وثَبّت الله الأمة بثبات أبي بكر . يقول الصحابة بعدما سمعوا الآية : والذي بعث نبيّنا بالحق وكأننا أول مرة نسمع هذه الآية ، وغابت عنا أنها من القرآن[[ مع أنها نزلت قبل هذا التاريخ بسبع سنوات ]] ،

فأخذنا نتلوها والبكاء يغلبنا . ثم نظرنا إلى عمر بن الخطاب بعد أن سمعها ، فإذا بالسيف يسقط من يده إلى الأرض ، ثم وقف وكأنّ الأرض تدور به ؛ لا يدري أين يوجّه وجهه !؟؟ ثم سقط على الأرض وقد أغمي عليه ، فأخذنا نرش عليه الماء حتى أفاق ، فلما أفاق قال : والله الذي لا إله إلا هو ، لقد غابت عني هذه الآية .
يقول أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله :


لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ * عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
فَقَدْنَا الْوَحَيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَـا * يَرُوحُ بِهِ وَيَغْـدُو جِبْرَائِيـلُ
نَبِيٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَ عَنَّا *** بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَـا يَقُـولُ


جلس الناس في المسجد وعلا بكاؤهم ، وكانت المدينة قد امتلأت بالناس عندما علموا بمرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر : أرسلوا لإخوانكم خارج المدينة أن قد قُبض رسول الله ؛ فليحضروا لدفنه والصلاة عليه. وأُرسل أيضا إلى جيش {{ أسامة بن زيد }} ليشارك في الدفن، و كان يعسكر بالجرف على حدود المدينة ، فرجع الجيش كله ، وكان عددهم قرابة ثلاثة آلاف مقاتل ، وأخذت الوفود تفد إلى المدينة للمشاركة في صلاة الجنازة على النبي، والدعاء له ، والمشاركة في دفنه، حتى ملأت أرجاء المدينة، فلم يعد هناك متّسع لقدم ، وقد ارتفعت أصواتهم جميعا بالبكاء .


ثم أخذ الصحابة يتشاورون في أمر تغسيل النبي - صلى الله عليه وسلم – و تكفينه والصلاة عليه ومكان دفنه :


فأين ندفن رسول الله ؟ بجوار المنبر ؟ أم في الروضة ؟ أم في البقيع ؟ وهل نغسّله بثيابه ؟ أم نجرّده منها كما نجرّد موتانا ؟ وعندما شرعوا في هذا التشاور، كان قد مضى النهار، أمّا عن مكان دفنه فقال لهم أبو بَكرٍ كما جاء في الحديث : سمِعتُ مِن رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - شَيئًا ما نَسيتُه، قال:


(( ما قبَضَ اللهُ نَبيًّا إلَّا في المَوضِعِ الذي يُحِبُّ أنْ يُدفَنَ فيه ، ادفِنوه في مَوضِعِ فِراشِه )) . وبذلك تمّ حسم هذا الأمر .


وأمّا عن تغسيله فتقول عائشة رضي الله عنها : (( لمَّا أرادوا غسلَ النَّبيِّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - قالوا : واللَّهِ ما ندري أنُجرِّدُ رسولَ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ من ثيابِهِ - كما نجرِّدُ مَوتانا ، أم نَغسلُهُ وعلَيهِ ثيابُهُ ؟

فلمَّا اختَلفوا ألقى اللَّهُ عليهمُ النَّومَ حتَّى ما منهم رجلٌ إلَّا وذقنُهُ في صَدرِهِ ، ثمَّ كلَّمَهُم مُكَلِّمٌ من ناحيةِ البيتِ لا يَدرونَ من هوَ : أن اغسِلوا النَّبيَّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - وعلَيهِ ثيابُهُ ،[[ قيل إنه جبريل ]] ،

فقاموا إلى رسولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - فغسَلوهُ وعلَيهِ قميصُهُ ، يصبُّونَ الماءَ فوقَ القميصِ ويدلِّكونَهُ بالقَميصِ دونَ أيديهم ، وَكانت عائشةُ تقولُ : لو استَقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ، ما غسَلَهُ إلَّا نساؤُهُ )) أي: لو عَلِمتُ وظَهَر لي ما كان مِن تغسيلِ رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - "ما غسَّلَه إلَّا نِساؤهُ" .


وجاء الغد الحزين ، وحانت لحظات فراق أشرف الخلق – صلى الله عليه وسلم – فدخل عليه في - أغلب الروايات - أربعة يغسلونه : علي بن أبي طالب، والعباس، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد ، فجهزوا له الماء، و وضعوا به نباتا يقال له السّدر[[ نبات له ريحٌ طيب ]] ،

وشرعوا في غسله - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه ، يصبُّونَ الماءَ فوقَ الثوب ويدلِّكونَهُ به دونَ أيديهم ، وريح المسك يفوح منه - صلى الله عليه وسلم - ، ثمّ كُفّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ بيضٍ يمانيةٍ كُرسُفٍ [[ منسوجة من القطن ]]، ليسَ فيها قَميصٌ ،[[ ما يُلْبَسُ على هيئةِ البدنِ ]] ، ولاعمامةٌ [[ ما يُلْبَسُ على الرَّأسِ ]] . إذن كفن - صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أثواب فوق ثوبه الذي مات فيه .


وبعد أن انتهى الصحابة من غسله و تكفينه – صلى الله عليه وسلم – وضعوه على سريره ، ثمّ بدأت صلاة الجنازة عليه ، فأخذوا يصلون عليه فرادى ولا يؤمّهم أحد، زوجاته و آل بيته و الأنصار و المهاجرين و الصبيان . . . وجميع المسلمين ، وكل مجموعة تصلي وتدعو وتخرج ، ثمّ يدخل عليه غيرهم، حتى صلى عليه المسلمون جميعاً ،

وقد غمرهم الحزن و الألم بعد أن ألقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة وهو في كفنه – صلى الله عليه وسلم - . وقد يقول البعض لقد حصل تأخير في دفن جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - الطاهر وهذه مخالفة لإكرام الميت ، فنقول : إنّ جسده الطاهر ليس كأجساد بقية البشر ؛ بل هو محفوظ بحفظ الله -عز وجل – كذلك حلّت بالصحابة مسألة مهمة بعد انتشار خبر وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي تعيين خليفة للمسلمين حتى لا يفتحوا مجالا لارتداد ضعاف الناس عن الإسلام، و حتى تبقى كلمة المسلمين واحدة كما دعا إليها – صلى الله عليه وسلم - ، بالإضافة إلى الوقت الطويل الذي أخذه الناس لأداء صلاة الجنازة فرادى على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - .


فلما هموا بحفر القبر [[ ولم يحفروه أولا ، لأنه قبض - صلى الله عليه وسلم - في حجرته مكان دفنه ، ليتمكنوا من غسله وتجهيزه ]] وقفوا وقالوا : أنلحد لرسول الله أم نشق له شقاً ؟؟ وهنا يجيبنا أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بالمدينة رجل يلحد [[ أبو طلحة الأنصاري ]] وآخر يضرح [[ يشق القبر ]] ، فقالوا نستخير ربنا ونبعث إليهما ؛ فأيهما سبق تركناه ، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.


ثم أخذوا يهيلون التراب عليه وهم يبكون ، وقد زاد بكاؤهم عندما سمعوا ابنته فاطمة وهي تقول : يا أصحاب النبي ، أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله بأيدكم ؟؟!!


أَفَاطِمُ إِنْ جَزَعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ * وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي ذَاكَ السَّبِيلُ
فَقَبْرُ أَبِيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ * وَفِيهِ سِيِّـدُ النَّـاسِ الرَّسُـولُ


فلما انتهوا من الدفن ، يقول أنس – رضي الله عنه - : ما رأيتُ يومًا قطُّ كان أحسَنَ ولا أضوَأ مِن يومٍ دخَلَ علينا فيه رَسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -، وما رأيتُ يومًا كان أقبَحَ ولا أظلَمَ مِن يومٍ مات فيه رَسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وحان وقت أول صلاة بعد دفن حبيبنا – صلى الله عليه وسلم - فأذن بلال - رضي الله عنه - فلما جاء عند قوله: (( أشهد أن محمداً رسول الله )) ،

بكى وضجت المدينة كلها بالبكاء، وأصبح الناس في حال كئيبة ، فكيف الحياة بدونه؟ وراء من يُصلّون؟ وإلى نُصح من ينصتون؟ من يعلمهم؟ من يربيهم؟ من يبتسم في وجوههم؟ من يرفق بهم؟ من يأخذ بأيديهم؟

لقد أظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم كل شيء فيها، كل شيء، ليس الصحابة فقط، بل نخيل المدينة، وديار المدينة، وطرق المدينة، ودواب المدينة، فإذا كان جذع نخلة قد حنّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فارقه إلى منبر يبعد خطوات ، فكيف بفراق لا رجعة فيه إلى يوم القيامة ؟!! لقد تقطّعت قلوب الصحابة، وتمزقت نفوسهم، وتحطمت مشاعرهم بفقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .

فلقد تغيرت عليهم الدنيا وأظلمت ، كانوا ينظرون إلى آثاره ، إلى حجراته ، إلى منبره ، إلى مصلاه ، وممشاه ، إلى ذكريات كلامه ، فلم يعودوا يروا ذلك المربي والمعلم - صلى الله عليه وسلم - ؛ لم يعودوا يروا ابتسامات وجهه الذي كان كأنه قطعة القمر. . . وغداً اللقاء يا حبيبي يا رسول الله ، فإن كان الموت هو اللقاء ، فوالله لا نهاب الموت ، يا مرحباً بالموت ولقاء الأحبة - محمد وصحبه - جزاهم الله خير الجزاء على ما قدموه و ما بذلوه من أجل هذا الدّين ، و من أجل أن نكون مسلمين ودعاة خير للناس أجمعين .


وهكذا قد أتممنا وبفضل الله وكرمه {{ السيرة النبوية العطرة }} على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التّسليم ، وأرجو من الله أن تكون قد أنارت قلوبكم، وملأتها بحب الله ورسوله ، وحب هذا الدين الحنيف ، فالسيرة هي زاد كل مؤمن ومؤمنة ، وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو رزق من الله لا يضعه الله إلا في قلوب من أحبهم .


وهذه السيرة أمانة في أعناقكم ،عشنا في رحابها قُرابة عام ،علّموها لأبنائكم ، لأهلكم ، لجميع الناس، فقد رأينا فيها منهاج حياة ، فلا تجعلوها تقف عندكم ، انشروها دائما و اجتهدوا في نشرها ، وأخلصوا النية حتى تكون في ميزان حسناتنا جميعا ، اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم ، واكتب لنا أجره، واجعله صدقة جارية عنا وعن آبائنا وأمهاتنا و اخوتنا وأهلنا وجيراننا و أصدقائنا و معلّمينا الخير وأحبابنا و الناس أجمعين ، وسامحوني إن قصّرت أو أخطأت ، فقد اجتهدت في جمع هذه المعلومات من كتب السيرة ، وتحرّيت في ذلك صحة المعلومات ما أمكن، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ، وجزى الله خيرا كاتبها و قارئها وناشرها .. وإلى اللقاء مع عملٍ خيريٍّ آخر .

منقولة عن كاتبها


اللهم اجمعنا به - صلى الله عليه وسلم - في جنّات النّعيم


SEO by vBSEO 3.6.1